تفسير سفر أعمال الرسل أصحاح 4 الأب متى المسكين
سفر الأعمال شرح وتفسير – ﺍﻷﺻﺤﺎﺡ ﺍﻟﺮﺍﺑﻊ
بطرس الرسول يشهد للمسيح أمام أكبر مجمع يحتشد في الهيكل منذ أن صُلِبَ المسيح!
«وحدث في الغد أن رؤساءهم وشيوخهم وكتبتهم اجتمعوا
إلى أُورشليم مع حنَّان رئيس الكهنة وقيافا ويوحنَّا والإسكندر
وجميع الذين كانوا من عشيرة رؤساء الكهنة.» (أع ٦,٥:٤)
والكنيسة تجتمع في أكبر اجتماع لها وتقيم صلاة تستعرض
أمام االله تهديدات اليهود وتطلب منه رسمياً أن يؤازرها بقوة
جديدة للمجاهرة ومنح قدرة على إتيان الآيات والمعجزات.
١:٤و٢ «وبينما هُمَا يُخَاطِبانِ الشَّعبَ أَقبَلَ عليهِما الكهنةُ وقائِدُ جُندِ الهيكلِ والصَّدُّوقيُّونَ مُتضَجِّرِينَ من تَعليمهما الشعبَ ونِدائِهما في يَسُوعَ بالقيامةِ مِنَ الأَمواتِ .»
أن يذهب المسيحيون إلى الهيكل علناً ويقفوا في رواق إسرائيل ويصلُّوا الصلوات الرسمية وهي البيراخوت الثماني عشرة صلاة، فلا مانع . وأن يجتمعوا في رواق سليمان ويتعزَّوا معاً بالحديث والمجاملة وجمع الم ال والإنفاق على الفقراء منهم، فلا مانع . ولكن أن يُنادي منادٍ منهم عن “قيامة المسيح” فهذا اتهام علني أن رؤساء الكهنة وكل مَنْ آزرهم يُحسبون قتلة وسافكي دمٍ بريءٍ وأن هذا الذي صلبوه هو حقاً النبي الآتي الذي أتى والمسيَّا الذي أنكروه ورفضوه، وهذا لا سكوت عليه، وعليه فلتجتمع الأُمة كلها بهيئة رؤسائها جميعاً لبحث الخطر!
أمَّا البعثة التي تشكَّلت للقبض على ق . بطرس فهي على أعلى مستوى، فهي تتكون من الكهنة بأنفسهم ويعاونهم قائد جند الهيكل وجنوده. وهذه التشكيلة تُنْبئُ بأن الاتهام هو على مستوى مقاومة الأُمة كلها في اتهامها بالخروج عن رسالتها.
«الكهنة»:
وقد جاءت في بعض المخطوطات رؤساء الكهنة وهم المسئولون عن كل ما يختص بالعبادة الرسمية داخل الهيكل ويتحركون بأسرع ما يمكن فيما هو من اختصاصهم.
«وقائد جند الهيكل :»
ويُسمَّى بالعبرية Sagan ساجان، وجمعها Seganim وهو في الإدارة والدرجة يلي رئيس الكهنة مباشرة فيما يختص بأمور أمن ونظام الهيكل في الداخل والخارج وحفظ النظام العام في الصلوات
.
«والصَّدُّوقِيُّون :»
وهم جماعة المناصرين لرؤساء الكهنة، منحدرون من صادوق المذكور في سفر حزقيال النبي : «أمَّا الكهنة اللاويون أبناء صادوق الذين حرسوا حراسة مَقْدِسي حين ضلَّ عني بنو إسرائيل فهم يتقدمون إليَّ ليخدموني ويقفون أمامي ليقربوا لي الشحم والدم، يقول السيد الرب، هم يدخلون مَقْدِسي ويتقدمون إلى مائدتي ليخدموني ويحرسوا حراستي » (حز ١٥:٤٤و١٦). ومن اسمهم صارت صفاتهم أي أنهم الصادقون في خدمتهم والمحافظون على ترتيب الخدمة وحراسة كل مقادس العلي بحسب أصولها الداخلية، أي هم المسئولون عن الولاء الديني والأخلاقي في خدمة الهيكل أمام الرسميين وأمام الشعب، لذلك كانت لهم سلطة وهيبة وإدارة . وعائلات الكهنة عموماً ورؤساء الكهنة كانت تنتسب لهذه الجماعة، بل وكانت لهم علاقة حسنة مع السلطات الرومانية، فكانوا وسطاء في استلام الأوامر وتنفيذها في حدود النظام ضد عمليات المقاومة التي كان يقوم بها الغيورون من الفئات المتعصبة ضد الحكَّام الأجانب . فكانوا يواجهون الفوضويين بقسوة وصلابة ويخمدون روح العصبية المشاغبة التي كانت تسبب هياج السلطات الحاكمة . ومن هنا زاد سلطانهم بالأكثر على كل الهيئات الأخرى في الأُمة وكان يُعمل لهم ألف حساب . وكانت لهم معتقدات خاصة ضد الملائكة ومبدأ رئاساتهم وكذلك الشياطين، وضد قيامة الأموات أو حتى الحياة بعد الموت جملة. فكانوا بالطبع أول مَنْ يتحرك ضد مَنْ ينادي بالقيامة من الأموات.
وهذه الفئة تعتبر أقل محافظة من الفريسيين، فكان الصدوقيون يتحررون كثيراً في أفكارهم كما كانوا يعتبرون الأنبياء والنبوات أقل أهمية وسلطاناً من التوراة (أي خمسة أسفار موسى) وهذا ما دعا الرب عندما ناقشهم في موضوع قيامة الأموات (مر ١٨:١٢)، (مت ٢٣:٢٢)، (لو ٢٧:٢٠) أن يراجعهم على أساس ما جاء في سفر الخروج (٦:٣) وليس على أساس ما جاء في الأنبياء كإشعياء (١٩:٢٦) أو حزقيال (١:٣٧) أو دانيال مثلاً (٢:١٢).
وهؤلاء هم الذين رتَّبوا حراسة قبر الر ب بعد استئذان بيلاطس (مت ٦٥:٢٧). كذلك سوف نسمع عن هذه الحملة نفسها عندما اجتمعت أيضاً على عَجل وباضطراب لمَّا أتتهم الأخبار المخيفة، أن الرسل الذين سجنوهم وُجِدوا أحراراً خارج السجن بل وفي الهيكل يعلِّمون، بعد ما فتح ملاك الرب في الليل أبواب السجن وأطلقهم وأمرهم أن يذهبوا ويشهدوا في ذات الهيكل (أع١٧:٥-٢٧).
وهكذا فكل مَنْ لم ينتفع بموت الرب يتضجَّر من قيامته، وعوض بهجة القيامة تمتلئ قلوبهم بانقباض النقمة.
٣:٤ «فأَلْقَوْا عليهما الأيادي ووضعُوهُمَا في حَبْسٍ إلى الغَدِ لأنه كان قد صارَ المساءُ».
وهذه هي أول مرَّة وأول ليلة يقضي فيها تلميذا المسيح وقتهما في السجن. وهكذا ابتدأت سلسلة آلام الكنيسة المتغرِّبة على الأرض التي ابتدأت بالسجن وانتهت تحت السيف، فأثبتت أنها ليست من هذا العالم، ولكنها عاشت من أجل هذا العالم مصلوبة لتكمِّل خلاصها بفِدْيتها. وصدق عليها قول ق. بولس الرسول: «صُلب العالم لي وأنا للعالم.» (غل ١٤:٦)
تحية لباكورة الختان
٤:٤ «وكثيرونَ مِنَ الَّذينَ سَمِعُوا الكلمةَ آمنوا وصَارَ عَدَدُ الرجالِ نحوَ خَمسةِ آلافٍ .»
هذه هي باكورة كنيسة أهل الختان (اليهود)، وهؤلاء هم أبناء إبراهيم بالحق وليس بالختان، بالروح والإيمان وليس بالجسد لأن الجسد لا يفيد شيئاً ولكن إيمان الروح هو الذي يُحيي . هؤلاء هم آباؤنا بالحق وبالدرجة الأُولى، الذين عنهم ورثنا موسى والأنبياء والمزامير وكل الشهادات الجليلة عن يسوع الجليل وربيب الناصرة ورب الهيكل وذبيحة الفصح الأبدي وتاريخ الأبطال الذين عاشوا بالإيمان سابقاً ولو لم يروه . والآن ها هم ينالون القيامة الأفضل، وقد أكملوا الإيمان الأقل بالإيمان الأعظم، وأضافوا إلى أمجاد تاريخهم أمجاد الكنيسة، التي لا تزال تعبر بحر هذا العالم إلى أن تلقى مراسيها على شاطيء الأبدية . فسلاماً لأرواح هؤلاء الخمسة الآلاف في السماء، فقد صدق وعد االله لإبراهيم، إذ قد صاروا نجوماً تلمع في السماء وتغطي بلمعانها كل ما عداها.
تحفُّز مجمع السنهدريم وكل أعضاء الهيكل ينتهي بالخذلان
ودفاع الكنيسة يتحدَّى ويجاهر ويكسب الرهان
٥:٤-٧ «وحدثَ في الغَدِ أَنَّ رُؤَساءَهُمْ وشيُوخَهُم وكَتَبَتَهُم اجتمعوا إلى أُورشليم مع حنَّان رئيس الكهنةِ وقَيَافَا ويُوحنَّا والإسكندرِ وجميعِ الذين كانوا مِنْ عَشيرةِ رُؤساءِ الكهنة. ولمَّا أقاموهما في الوسطِ جعلوا يسألونَهما بأيَّةِ قوَّةٍ وبأيِّ اسمٍ صنعتُمَا أَنتُمَا هذا .»
هذا الجمع المجتمع من خارج وداخل أُورشليم هو هيئة السنهدريم بأكملها.
السنهدريم:
كلمة «سنهدريم» أرامية وعبرية مشتقة من الكلمة اليونانية الأصلية drionڑsun، وتعني مجلس مشورة أو إدارة؛ وهو أعلى محكمة في إسرائيل . وهو ما يقابل مجلس الشيوخ ولكن بسلطة حاكمة . ويسمَّى أيضاً في العهد الجديد باسم المشيخة كما سيجيء في (أع ٥:٢٢): «كما يشهد لي أيضاً رئيس الكهنة وجميع المشيخة الذين إذ أخذتُ أيضاً منهم رسائل للإخوة إلى دمشق ». وكما جاء في (لو ٦٦:٢٢)، وكذلك يُطلق عليه باليونانية gerous…a وهي تُترجم جماعة
الشيوخ أو العجائز ( أع ٢١:٥) ويطلق كتاب “المشناه” عليه اسم السنهدرين .
ويُسمَّى سنهدرين “الواحد والسبعين” و“المحكمة العليا”. ويضم رئيس الكهنة ومعه السبعين فيكون عددهم القانوني برئيس الكهنة ٧١. وهذه الهيئة الحاكمة أو هذه المحكمة عقدت أول اجتماع تاريخي لها سنة ٢٠٠ ق.م كهيئة تنظيمية تنظم شئون الأُمة. وبقيت تباشر سلطانها حتى سنة ٦٦م أي في بداية قيام الحرب السبعينية.
وكان اجتماعهم في دار غرب الأروقة عند نهاية القنطرة شرق الهيكل عبر وادي تيروبيون وكانت تُدعى دار الجازيت. ولم يكن قد مضى على اجتماعهم السابق في الحكم بالصلب على الم سيح سوى أسابيع قليلة. وكانوا قد ظنوا أنهم قد تخلَّصوا منه. ولكن هوذا الأيام تذيقهم مرارة ما اقترفوه، وأن ما ورثوه من جريمتهم سوف يقضُّ مضجعهم الليل والنهار وفي الحياة والموت.
«ولمَّا أقاموهما في الوسط جعلوا يسألونهما»:
استُحضر من السجن بطرس ويوحنا وأُوقفا في الوسط، ووقف الحق متَّهَماً من الباطل، والحياة يحيط بها الموت، وأسئلة الاستهزاء تستفسر عن النور من أين أتى، والقاتلون وكأنهم لم يَقتِلوا.
«بأيَّة قوة وبأي اسم صنعتما أنتما هذا»:
إذاً، فقد أقروا بالمعجزة، لأنها أمامهم واقفة تشهد دون كلام الإنسان، فالمولود أعرج يَصطبح به ويتمسَّى رؤساء الكهنة وأعوانهم وكتبتهم والناموسيون والفريسيون وكل مَنْ يأكل خبزاً حراماً من الهيكل . وكان الإنسان ابن أربعين سنة، وربما بدأ يستعطي منذ كان صبياً ! البيِّنة واضحة كما شهدوا بعضهم لبعض: «لأنه ظاهر لجميع سكان أُورشليم أن آية معلومة قد جرت بأيديهما ولا نقدر أن ننكر .» (أع١٦:٤).
إذاً، فالسؤال يتَّجه مباشرة عن القوة التي صنعوا بها هذه الآية هل هي سحرية؟ أم ببعلزبول أو ربما خفة يد؟ ثم بأي اسم أي بأي دعاء، باسم أي نبي من أنبياء العهد؟ وهكذا يحاولون أن يحرِّفوا الإجابة عن صحتها والقوة ع ن صاحبها والاسم عن جلال صاحبه !! ولكن إن كانوا لم ينجحوا مع المسيح لكي يخيفوه أو يردعوه فأُعيوا وضلَّ شيبهم وخاب المشيب، ولمَّا وصلوا إلى حافة الإفلاس أو دخلوها، أحضروا شهود الزور واستعانوا بالكذب والتهديد، إذاً فليكرروا الأمر . ولكن كان الضيق قد أخذ بهم كل مأخذ، وغصة الإخفاق صعدت إلى أعلى حلقهم، كما خاطبوا الأعمى الذي شفاه الرب – تبارك اسمه – يوم شفاه وشتموه : «فشتموه وقالوا أنت تلميذ ذاك. وأمَّا نحن فإننا تلاميذ موسى» (يو ٢٨:٩) أي أنهم أصحاب السلطان، أما
هو فقد قُطع من أن يكون يهودياً!!
فهنا أيضاً نفس عبارة الاستهزاء ولكن فات على المترجم العربي التقاطها فهي تأتي باليونانية «أو بأي اسم صنعتما أنتما هذا؟»: حيث في اللغة اليونانية إذا أتت كلمة طme‹j في آخر
الجملة تكون في موضع الاستهزاء وتُترجم كما نقول في اللغة العربية : «بأية قوة صنع أمثالكم هذا؟» بمعنى أن لا أنتم تمتُّون إلى الكهنة ولا إلى الفريسيين ولا أنتم أنبياء ولا حتى تظهر عليكم مسحة القديسين، نعم فكيف يصنع أمثالكم هذه المعجزة؟
فالآن لسان حال ق . بطرس وق. يوحنا ليس كلسان حال أليشع النبي : «أين هو الرب إله إيليا »؟ (٢مل ١٤:٢) بل أين أنت يا يسوع؟ ولكن يسوع كان قد سبق وأعطاهم الوصية والعلامة: «فضعوا في قلوبكم أن لا تهتموا من قبل لكي تحتجوا .
لأني أنا أعطيكم فماً وحكمةً لا يقدر جميع معانديكم أن يقاوموها أو يناقضوها» (لو ١٤ :٢١و١٥). إذاً، فلننظر، يا إخوة، كيف يحقِّق الرب قوله ويَصدُق في وعده أيما صدق!!
«حينئذٍ امتلأَ بطرس مِنَ الروح القدس وقال لهم :»
المجد لك يا صاحب المجد، وتعاظمتَ جداً يا صاحب الوعد، فليس كلام أعطيتهم
بل روحك القدوس:
«ويحلُّ عليه روح الرب: روح الحكمة والفهم
(أعطيكم فماً وحكمةً)، روح المشورة والقوة (لا
يقدر معانديكم)، روح المعرفة ( ولا يناقضوها)
ومخافة الرب (بلا عظمة ولا افتخار).» (إش ٢:١١)
ولكن هنا لا يفوتنا أن نلفت نظر القارئ أن يدرك الفارق بين “امتلأ” وبين “وهو ممتلئ” التي جاءت وصفاً لاستفانوس الشهيد القديس (أع ٥٥:٧). فالأخيرة تفيد أنه في حالة ملء وهو يتكلم ويرى ويشهد . أما في حالة ق . بطرس فقد جاءت “وامتلأ” وهي تسمَّى باليونانية حالة أي ماضي مبني للمجهول لا يوجد له باللغة العربية موازٍ . فكل ما يمكن أن يُقال : «وامتلأ بطرس من الروح القدس ». فهنا جاءت أيضاً في الماضي ولكن اليوناني قدير أن يجعلها في صيغة مبني للمجهول؛ في حين نجد أن في حالة ق . استفانوس يقول النص: «وأمَّا هو فشخص إلى السماء وهو ممتلىء » (أع٥٥:٧) أي وهو في حالة امتلاء Being full. وهذا الفارق كبير ويهمنا جداً، لأن كثيرين يخطئون ويحسبون أنه يمكن أن يمتلئ الإنسان من الروح القدس أكثر من مرة وهذا محال . لأن الملء الأول من الروح القدس يصاحبه مكوث : «وهو ماكث معكم ويكون فيكم» (يو ١٧:١٤). هنا إقامة واستدامة واتحاد بقبول طبيعة جديدة لا يفارق الروح القدس فيها الإنسان إلاَّ بفقدان طبيعته الجديدة أي «الارتداد للهلاك»
(عب ٣٩:١٠). ولكن يمكن أن يحزن الروح القدس بسبب تعديات على القداسة والطهارة، ويمكن أن ينطفئ بسبب تعديات على المعرفة الصحيحة والإيمان الصحيح، وبسبب كلام السفاهة والمجون وفقدان الوقار والإحساس بوجود االله . أمَّا في حالة الامتلاء بعد الامتلاء فهذا يعني حدوث إلهام جديد لحالة طارئة يتدخل فيها الروح القدس سريعاً ليعطي الفهم والمشورة والحكمة السريعة للرد القوي المقنع . ولكن هذا الإلهام لا يدوم لأن لكل حالة إلهامها ومشورتها . وهذا للعلم فنرجو الانتباه.
٨:٤-١٠ «وقال لهم يا رؤساءَ الشعبِ وشيوخَ إسرائيلَ، إن كنَّا نُ فحصُ اليومَ عن إحسانٍ إلى إنسانٍ سقيمٍ بماذا شُفِيَ هذا . فليكن معلوماً عند جميعكم وجميعِ شعبِ إسرائيلَ أَنه باسمِ يسوعَ المسيحِ الناصري .»
الكلام هنا سهل ومسترسل . فمن جهة الفحص الذي تحققونه الآن قضائياً أمام محكمتكم بكل هيئاتها وأعضائها فيما يخص عملاً إنسانياً عُمِل لمريض أعرج كسيح يُحمل على الكتف، بماذا شُفي أي بأية قوة وبأي اسم شُفي، فيلزم – ليس أنتم فقط بصفتكم الهيئة القضائية الحاكمة في أُورشليم أن تعرفوا بماذا شُفي وبأية قوة وبأي اسم شُفي – ولكن يتحتم أن يعلم هذا كل شعب إسرائيل بالدرجة الأُولى، لأن الأمر يخص الشعب أولاً، إذ أنتم بكل هيئتكم القضائية تحت الاتهام الخطير، فقد ضيَّعتم على الأُمة معرفة حقيقة الذي حكمتم عليه بالموت وصلبتموه وهو يسوع المسيح، الذي هو باسمه وبقوته جُعل هذا سليماً، والمريض واقف يشهد أمامكم!
أنتم تحاكموننا عن إحسان عُمل لمريض، وهذا الإحسان هو بالدرجة الأُولى معمول للشعب ممثَّلاً في هذا المريض. فالذي صلبتموه، هو هو الذي جاء ليشفي كل كساح الأُمة وأمراضها، جاء ليشفيها ويعطيها الصحة، وهذا الإنسان أمامكم هو نموذج حي لقدرة المسيح وقوة عمله.
أنتم تحاكموننا الآن عن إحسان عُمل، والأمر لا يهمنا إن كنَّا سنُبرَّأ أم لا . ولكن يلزم أولاً أن يعلم الشعب ما عملتموه أنتم بصاحب هذا الاسم وصاحب هذه القوة.
ق. بطرس ينتقل من الدفاع إلى الهجوم العنيف فلا يترك لهم فرصة حتى للدفاع عن أنفسهم!!
والقصد أن يُعلن للشعب وعلى رؤوس الأشهاد شهادته للمسيح
١٠:٤ «يسوعَ المسيحِ النَّاصريِّ الذي صلبتُمُوهُ أنتُم الذي أقامهُ االله من الأَمواتِ، بذاكَ وقَفَ هذا أمامكم صحيحاً .»
مَنْ كان يصدِّق أن بطرس الذي أنكر المسيح أمام جارية يقف هذه الوقفة أمام أكبر محكمة في إسرائيل ليهاجم شرفها القضائي وصلاحيتها الإسرائيلية وسقوط الحق من تحقيقها وحكمها، ليحمِّلها أكبر وزر في التاريخ القضائي بالحكم على بريء بسَفْك دمه بأشنع ميتة ثم يتضح أنه ملكهم وإلههم ومخلِّصهم الذي أحسن إليهم ألفي سنة!!
+ «لأنهم لم يعرفوا الآب ولا عرفوني.» (يو ٣:١٦)
+ «لأنهم أبغضوني بلا سبب.» (مز ١٩:٣٥، مز ٤:٦٩، يو ٢٥:١٥)
والآن ق . بطرس الرسول وبحكمة رجل قضاء بالدرجة الأُولى يطرح أمام المحكمة حكمين، حكماً صدر من محكمتهم العاجلة بكامل هيئتها بصلب المسيح عن استحقاق الموت وتحت مسئوليتهم، وحكماً حكمه االله من السماء !! «الذي صلبتموه أنتم؛ الذي أقامه االله من الأموات » (أع ١٠:٤)، وبماذا تفسِّر أية هيئة قضائية هذا الحكم؟ إلاَّ أن الحكم الثاني قد نقض الحكم الأول نقضاً مبيناً مهيناً، إذ أقام من الموت الذي قتلوه، فظهر أنهم قتلة، وبذلك يتحتم أن يتنحَّوا . فلما لم يتنحَّوا نحَّاهم االله بنفسه!!
ثم يستطرد ق. بطرس: «بذاك وقف هذا أمامكم صحيحاً » ( أع ١٠:٤). القرينة هنا صارخة، لا من جهة صحة هذا الذي كان سقيماً، ولكن من جهة الذي رفع عنه السقم وأقامه من كساحه . فالقرينة تنطق لحساب المسيح كبرهان يصفع وجوههم صفعاً أن خطيتهم لا شفاء منها. ثم مزيد من الملاحقة والاتهام مع استشهاد بالأنبياء.
١١:٤ «هذا هو الحَجَرُ الذي احتَقرتُمُوهُ أَيُّها البنَّاؤُونَ الذي صارَ رأسَ الزاويةِ».
النبوَّة من (المزمور ٢٢:١١٨ السبعينية). وقد استُخدمت كتعبير ماسياني قوي : «الحجر الذي رفضه البنَّاؤون قد صار رأساً للزاوية ومن قِبَل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا». هذا الاستشهاد مشهور للغاية وقد تناقله في العصر الرسولي كل المفسرين والكارزين، وقد قال به الرب نفسه وهو يهاجم بهذه النبوة هؤلاء القتلة:
+ «ولكن أولئك الكرَّامين قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث . هلمُّوا نقتله فيكون لنا الميراث (ولا يأتي الرومان ويأخذون أمتنا ). فأخذوه وقتلوه وأخرجوه خارج الكرم (خارج أُورشليم ). فماذا يفعل صاحب الكرم؟ يأتي ويُهلِك الكرَّامين ويعطي الكرم إلى آخرين (الأمم). أما قرأتم هذا المكتوب: الحجر الذي رفضه البنَّاؤون هو قد صار رأس الزاوية . من قِبَل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا»(مر٧:١٢-١١).
ويُلاحَظ أن الرب هنا إذ يقرر بالأسى أنه مرفوض، إلاَّ أنه بآنٍ واحد يقول إنه صار رأس الزاوية، كاشفاً عن نصرته فوق خبث البنَّائين وجهلهم، فالرب يعلم موته ويعلم قيامته . يعلم كيف يضع نفسه حتى التراب، وكيف يأخذها ليصعد بها فوق أعلى السموات.
ولا يمكن أن نعبر على هذا التعبير أن الرب هو “حجر”. فبنفس الكلمة وصف نفسه أنه الحجر الذي إذا اصطدم به البنَّاؤون فيترضضون وقد ترضَّضوا، أمَّا إذا وقع هو عليهم وقد وقع بالفعل بعد أن احتقروه وصلبوه، فهو يسحقهم، وقد سحقهم!! فقد جمع المسيح بنفسه بين هذه النبوَّة وهذه القوة في نفسه بقوله:
+ «قال لهم يسوع أما قرأتم قط في الكتب، الحجر الذي رفضه البنَّاؤون هو قد صار رأس الزاوية. مِنْ قِبَل الرب كان هذا وهو عجيب في أعيننا . لذلك أقول لكم إن ملكوت االله يُنزع منكم ويُعطى لأمة تعمل أثماره . ومَنْ سقط على هذا الجحر يترضَّض ومَنْ سقط هو عليه يسحقه.» (مت٤٢:٢١-٤٤).
والمسيح من عمق النبوات يتكلَّم ولكن الأمر يحتاج إلى مَنْ يفحص ويفهم، فإشعياء هو من ألمح إليها أول من ألمح:
+ «ويكون مَقْدِساً وحجر صدمة وصخرةَ عثرةٍ لبيتي إسرائيل … فيعثرُ بها كثيرون ويسقطون فينكسرون … صُرَّ الشهادة اختم الشريعة بتلاميذي.» (إش ١٤:٨-١٦).
وكان يلذ لبطرس الرسول أن يكرر هذه النبوة فقد كتبها في رسالته الأُولى (١بط٣:٢-٥)، وقد بنى عليها كبنَّاء ماهر هيكل كنيسته بحذق روحي وبحجارة حية.
وهذا أول تعبير إبداعي عن المؤمنين الذين يقوم بهم وعليهم هيكل المسيح الذي يملأ السماء والأرض. وكذلك فإن ق. بطرس الرسول إنما يبني على ما بنى عليه إشعياء أيضاً في القديم بنفس المعنى والألفاظ، فهو يستقي صدقه من النبوات لذلك يقرّ ويعترف بقوله: «وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم (المسيح).» (٢بط ١٩:١)
فهو يأخذ عن إشعياء النبي قوله:
+ «لذلك هكذا يقول السيد الرب هاأنذا أُؤسس في صهيون حجراً حجرَ امتحانٍ حجرَ زاويةٍ كريماً أساساً مؤسَّساً مَنْ آمن لا يهرب.» (إش ١٦:٢٨)
ويستخدمها ق. بولس الرسول برجاحة وفكر جديد مع تطبيق عملي:
+ «فإنهم اصطدموا بحجر الصدمة كما هو مكتوب : ها أنا أضع في صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة وكل مَنْ يؤمن به لا يخزى.» (رو ٣٢:٩و٣٣)
ويقول ق. بطرس:
+ «إن كنتم قد ذُقْتم أن الرب صالح . الذي إذ تأتون إليه حجراً حيَّا مرفوضاً من الناس ولكن مختارٌ من االله كريم . كونوا أنتم أيضاً مبنيين كحجارة حية بيتاً روحياً كهنوتاً مقدَّساً لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند االله بيسوع المسيح .» (١بط٣:٢-٥)
وبقوله «حجارة حية » أعاد الذكرى العطرة لقول الرب للكهنة والفريسيين الحاقدين لما سمعوا الأطفال يصرخون لملك إسرائيل و المسيح داخل مدينته بمهابة مُلْكِه الذي لا تراه إلاَّ عيون الملائكة والأطفال، فلما احتجوا وطلبوا من المسيح أن يُسكِّت الصارخين حذَّرهم أن هؤلاء لو سكتوا لصرخت الحجارة . وقد صرخت، وتصرخ كل يوم: «مباركٌ الآتي باسم الرب» في كل قدَّاس وفي كل كنيسة ومن كل فم على وجه الأرض.
وق. بولس الرسول يُرسي حجر الزاوية كأساس أول للإيمان نبنى عليه إيماننا:
+ «مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية الذي فيه كل البناء مركباً معاً ينمو هيكلاً مقدَّساً في الرب . الذي فيه أنتم أيضاً مبنيون معاً مسكناً الله في الروح.» (أف ٢٠:٢-٢٣)
وبهذا يلزمنا هنا أن نوضح أن تعليم الكنيسة منذ الرسل وإلى الآن قد تركَّز بشدة وبمعرفة ونور وإلهام على المبدأ الذي جاء في النبوات أن المسيح حجر زاوية رُفض ولكنه صار رأساً للزاوية، وهذه تُعتبر من أقدم وأهم النبوات.
«احتقرتموه»:
ويُلاحَظ أن كلمة “احتقرتموه” أو “رفضتموه” هي أصلاً من منطوق المسيح نفسه بتعبير الرذل قالها في إنجيل مرقس : «وكيف هو مكتوب عن ابن الإنسان أن يتألم كثيراً ويُرذل» (مر ١٢:٩)
والكلمة شديدة الوقع على المسيح، يقولها ولها أصداء مُرَّة في نفسه منذ أجيال ودهور سالفة. فقد قالها كما وقعت في حياته على أيدي الصالبين، قالها على فم صموئيل كنبوَّة مُسْبقة بأكثر من ألف سنة، لمَّا طلب الشعب من صموئيل أن يرسم لهم ملكاً مثل باقي الشعوب مع أن االله كان بالفعل هو ملكهم العظيم : «فقال الرب لصموئيل اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا حتى لا أملك عليهم » (١صم ٧:٨). وعلى القارئ أن يستخدم تأملاته ويتعمَّق في أحاسيس الرب ورؤيته النافذة الصادقة لهذا الشعب، وكيف كان يتألم
منهم ويُرفض حتى قبل أن يُصلب؛ بل لقد رفعها سفر العبرانيين إلى ما هو أسبق من النبوات والتاريخ كله إذ يقول: «فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم، ولكنه الآن قد أُظهر مرة عند انقضاء الدهور ليُبْطل الخطية بذبيحة (آلام) نفسه» (عب ٢٦:٩). ألا ترى معي، يا قارئي العزيز، أن آلام الرب سرٌّ رهيب حمل به همَّ العالم منذ أن تأسس، وحفظه بآلامه من الفناء مرات ومرات ومرات!!
القديس بطرس يُصدر قراره الأخير
كحُكم لتحتكم به المحكمة رغماً عن أنفها
١٢:٤ «وليسَ بأحدٍ غَيرهِ الخلاصُ، لأن ليسَ اسمٌ آخرُ تحتَ السماءِ قَدْ أُعطيَ بين الناسِ بهِ ينبغي أن نَخْلُصَ .»
إذاً، أَخرجوا من أفكاركم وقلوبكم أنه يوجد أي اسم آخر أو أية قوة أخرى بين كافة الأسماء التي عرفتموها سواء موسى أو قبل موسى أو بعد موسى، من عظماء الأنبياء أو الأتقياء أو الأبرار في كل العصور، يمكن أن يتم به الخلاص الذي بحث عنه كافة الأنبياء وفتشوا، الذي كان هو بعينه روح المسيح الذي فيهم . فالأعرج الذي شُفي، إن كنتم رأيتموه قد شُفي جسداً، قد صار صحيحاً بالجسد والروح معاً . فالكلمة التي استخدمها ق . بطرس سابقاً بقوله : «عن إحسان إلى إنسان سقيم قد شُفي» (أع ٩:٤)، “شُفي” = هي بعينها بحسب تحليل العالِم بروس تصلح لشفاء الجسد وشفاء الروح. فهي مشتقة من sèzw أي “يخلص”. وبالفعل قد حوَّلها ق. بطرس إلى فعل خلاص بقوله : «وليس بأحد غيره الخلاص» (أع ١٢:٤) التي تحوي في مبدئها شفاء الكساح الذي كان يعاني منه المريض . بمعنى أن الذي شفى الجسد هو بعينه شافي الروح وهو إن شفى الجسد فلكي تنفتح أعينكم لتعلموا أنه هو هو شافي الأرواح ومخلِّصها من الفساد والموت، بل
ومخلِّصها من القضاء وحكم الموت كقضائكم وكحكمكم . وهو نفس التعبير عن الخلاص من القضاء الذي أنهى به بطرس آياته ودفاعه المجيد بقوله : «لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص.» (أع ١٢:٤ ).
إن اسم المسيح هذا الذي احتقرتموه أيها البنَّاؤون ويا حكَّام إسرائيل هو اسم الخلاص الوحيد، ليس لإسرائيل وحسب، بل ولكل العالم بكل أممه وشعوبه، رضيتم أو لم ترضوا.
خذلان في صورة قوة وتهديد من وراء قلب مرتعب
لقد سحقهم اسم الخلاص، فرفعوا الجلسة، إلى غير رجعة
١٣:٤ «فلمَّا رأَوا مُجاهرةَ بُطرُسَ ويوحنَّا ووجدوا أَنَّهُما إِنسانانِ عديما العِلمِ وعاميَّان تعجَّبوا فعرفُوهُما أَنَّهُما كانَا مع يَسُوعَ .»
«مجاهرة بطرس»:
وتعني باليونانية “حرية الكلام” كإنسان يشعر بحقوقه الديمقراطية. وقد جاءت لتُعبِّر عن مقدار الثقة التي كان يتكلَّم بها ق . بطرس مع عدم الاضطراب، وطبعاً كان ذلك بسبب سلطة الروح القدس الذي يضبط الفكر واللسان والمنطق والصوت معاً، مما أدهش المحققين . لأن بطرس لم يردّ عن نفسه كأنه مخطئ في شيء بل بالعكس كمتَّهِم يلقي ذات التهم واللوم على هيئة المحكمة بدون أي حذر.
«عديما العِلم وعاميَّان»:
والقصد أنهما لم يتهذبا في مدارس الربِّيين وكذلك أنهما من الشعب العادي الذي كانوا يسمونهم بشعب الأرض الذين لا حول لهم ولا قوة في معرفة أو دراية بأصول المحاكم. وفي الوقت نفسه كان نقاشهما ومحاجتهما على مستوى أعاظم الربِّيين لاستخدامهما منطق النبوات . وهذا الأمر أدهشهم كما سبق وأن أدهشهم الرب نفسه: «فتعجب اليهود قائلين كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلَّم » (يو ١٥:٧). هنا يلزمنا أن نتذكر معنى القول: «حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا المكتوب»
(لو ٤٥:٢٤). فالموضوع أكثر من الذهن وأكثر من الفهم . فالحقيقة أنهم لم يدرسوا الكتب أصلاً، ولكن الروح القدس أكمل لهم من العلم ما كان ينقصهم فأصبحوا عالمين بما في الكتب، وهذا هو العجب ليس لدى رؤساء الكهنة فقط بل ولنا نحن، لأن مستوى محاجا ة ق. بطرس هو على مستوى دكتوراه في اللاهوت والقانون معاً، وهذا أمر يجعلنا نتحسر على أنفسنا لأننا ونحن قد تعلمنا وقد تسلمنا الكتب مشروحة، لا زالت مداركنا أقل بكثير من أن ترقى إلى مستوى هؤلاء الرسل الأماجد. إن الإنجيل يحتاج إلى الروح القدس فوق كل علم ودراسة وفهم، فالروح القدس هو صاحب الكلمة وهو وحده الذي يستعلن حقها ومعناها.
«فعرفوهما أنهما كانا مع يسوع »:
هنا «عرفوهما» ليست مجرد معرفة ولا اكتشاف أمر كان غامضاً عليهم، لأن المسألة التي لم تكن مقبولة ولا مفهومة على الإطلاق أن رجلين على مستوى الشارع يقارعان محكمة مجتمعة بالحجة وراء الحجة، تم باتهام للمحكمة بلا خوف .
هنا أدركوا أن المسألة ليست المعرفة وحدها بل الهالة التي كانت تحيط ببطرس ويوحنا، هالة مستمدة من المسيح رأساً جعلتهم يدركون في الحال أنهم أمام المسيح مرة أخرى «كانا مع يسوع ». هنا ابتدأت شخصية المسيح المسيطرة على بطرس ويوحنا تمارس تأثيرها الخفي عليهم، لذلك نجد سرعة في التنازل عن القضية ورغبة شديدة لقفل الموضوع برمته . هذا روح المسيح المسيطر على الجلسة والمؤتمرين.
١٣:٤ «ولكن إِذ نظروا الإِنسانَ الذي شُفيَ واقِفاً معهُما لم يكُنْ لَهُم شيءٌ يُناقِضُونَ به .»
والذي أوقف قدرتهم نهائياً على المضي في مناقشة الموضوع، أن حيثيات براءتهما عينية وملموسة. فالرجل الذي شُفي على يديهما، وهو موضوع المناقضة، واقف أمامهم. لذلك أصبحت حجتهم بأن هذا شُفي باسم يسوع المسيح وقوته غير قابلة للمناقضة ولا حتى المناقشة، وهنا تظهر حالة إفلاس المحكمة إذ أوقفت المضي في الجلسة. وهذا يعني أن كل القصة صحيحة وأنها سابقة خطيرة بالنسبة للمحكمة لأنها ستواجه هذه الحقيقة بعد ذلك باستمرار، فالاسم الذي يصنع المعجزات موجود وتلاميذه موجودون. وهذا كله يناقض فكرهم وعملهم وربما وجودهم لو كانوا يحسنون الرؤيا.
١٥:٤و١٦ «فأَمرُوهُمَا أَنْ يَخْرُجَا إلى خارج المجمعِ وتآمَرُوا فيما بينهُم قائلينَ ماذا نفعَلُ بهذَينِ الرجُلينِ لأَنـَّه ظاهرٌ لجميعِ سكَّانِ أُورشليمَ أَنَّ آيةً معلومةً قد جَرَتْ بأيديهِمَا ولا نَقدِرُ أَن نُنكِرَ .»
« المجمع»:
وهي المنطوقة بالعبري “سنهدرين” المعتبر المحكمة العليا . وقولنا “سنهدريم” هو الأصح عبرياً لأنها جمع . والاسم المتداول عبرياً هو المحكمة العليا للقانون وتُنطق “beth din hagadol” أو Sanhedrin gedolah أو محكمة الواحد والسبعين Sanhedrin shel shibim waehad هذا معناه أن الجلسة رُفِعَتْ للمداولة دون أن تبلغ مع المتهمين إلى أية نتيجة ضدهم.
«وتآمروا فيما بينهم قائلين»:
هذه الجملة خطيرة، إذ مَنْ هو المصدر الذي سرَّب ما قيل وما تآمروا عليه، مع أن بطرس ويوحنا كانا خارجاً؟ هنا يعتقد أكثر الثقاة أن شاول المدعو بولس كان داخل هذا المجمع وأنه هو الذي أعطى ق . لوقا أدق المعلومات الخاصة بهذا الموضوع وكل المواضيع الأخرى التي جرت بين الرسل والمحكمة بعد ذلك بل وكل الإجراءات التي دُبِّرَتْ ضد الرسل في تلك الحقبة بل وكل ما سبق هذه المحاكمة أيضاً، لأن علاقة ق . بولس بغمالائيل كانت قوية، وكان هو تلميذه، بل وربما كان
يشترك حتى ولو عن طريق غير مباشر، فبولس كان رجلاً شديداً عنيداً وسنداً قوياً لرؤساء الكهنة.
فلو وضعنا في الحسبان موضوع “الشعب”، نجد كالعادة أن الخوف بدأ يدب في قلوب رؤساء المجمع، لأن الآية (شفاء الأعرج) فريدة من نوعها وذات أثر كبير جداً على أحاسيس الشعب ونفوسهم، فهي دائماً تزكي آمالهم في االله وتجعلهم يتهافتون على معرفة مصدر العمل لأن الشعب البسيط كان أكثر صدقاً مع نفسه في عبادة االله ومخافته. فهنا أصبح المجمع مهدداً بكارثة لو هو أساء لبطرس ويوحنا إذ قد صارا في أعين الشعب كسفراء عن االله وأبطال إنقاذ للشعب.
ولكن كيف يواجهون الموقف؟ لأنهم لو تركوا بطرس ويوحنا دون أية مؤاخذة فيكون هذا معناه موافقة المجمع علنياً على أن اسم يسوع المسيح يعمل المعجزات بواسطة تلاميذه. وهكذا وقفوا أمام باب مسدود . وأخيراً توصلوا إلى حلٍّ صوري مَحْض لا قيمة له على أي وجه وهو أن يكتفوا بتهديدهم.
استعادة الجلسة
وبطرس ينطق بالحكم على المجمع أنه خارج عن إرادة االله
١٧:٤و١٨ «ولكن لئلاَّ تَشِيع أَكثرَ في الشَّعبِ لِنُهدِّدهما تهديداً أَنْ لا يُكلِّما أَحداً مِنَ الناسِ فيما بَعدُ بهذا الاسمِ. فدعوهُما وأوصَوْهُما أَنْ لا يَنْطِقَا البتَّةَ ولا يعلِّما باسم يسوعَ .»
إجراء وقائي لأنفسهم وليس فيه أية قيمة. والانطباع الواضح الذي خرجوا به من مجمعهم أن مسألة قيامة الرب يسوع من الأموات وقوته الفعَّالة أمر لا جدال فيه . وهذا في الحقيقة يذهلنا كيف يتحملون الاستمرار في سلوكهم المنافي للحق. إنها قدرة ليست من أنفسهم قط، فالدفع السلبي الذي اكتسحهم به الشيطان ليصلبوا الرب لا يزال بقصوره الذاتي حتى اليوم: «هذه ساعتكم وسلطان الظلمة » (لو ٥٣:٢٢). ولا تزال هذه الساعة حتى هذه الساعة.
وعلى أي أساس هدَّدوهما؟ وهل تهديدهما يمنعهما أو يمنع القوة الفعَّالة الشافية أن تمارس عملها الإحساني وإجراء الشفاء للناس؟ ثم كيف لا ينطقون بالاسم، والاسم هو الذي ينطق فيهم؟ ثم كيف لا يعلِّمون أحداً باسم يسوع، واسم يسوع له قوة بهذا القدر أن يشفي كسيحاً من بطن أمه له أربعون سنة؟ فالعمل نفسه هو الذي يعلِّم ويخبِّر ويبشِّر.
١٩:٤و٢٠ «فأجابهم بُطرُسُ ويوحنَّا وقالا إن كانَ حقَّا أَمامَ االله أَنْ نَسمَعَ لكُمْ أكثرَ مِنَ االله فاحكُمُوا. لأَننا نحنُ لا يُمكِنُنَا أنْ لا نتكلَّم بما رأَينا وسَمِعنَا».
هنا انتهى بهم الأمر من محاكمة، إلى تهديد، ثم إلى توصية، إنه أ مر مخجل للمحكمة.
وليُلاحِظْ القارئ أنهم تحاشوا ذكر اسم يسوع فأشاروا إليه بمجرد اسم الإشارة «هذا الاسم»! لا كَرَهاً له فقط بل رُعباً منه . الاسم الحلو الذي ليس بغيره خلاص صار مُرَّا في حلقهم، لأنهم كرهوا الخلاص إذ أحبوا مجد الناس . وقد أصبح متداولاً عندهم أنهم أعطوا اسم يسوع المسيح رمزاً خاصاً ينطقونه وهو كلمة بيلوني Peloni ويعني (فلان الفلاني). وهكذا حوَّلوا الاسم الذي يُشتقُّ منه ويتولَّد كل اسم للحياة والمجد والقوة والبركة والنعيم الأبدي إلى نكرة، فماذا بقي لهم؟
«إن كان حقاً أمام االله أن نسمع لكم أكثر من االله فاحكموا»:
التفسير:
– أنتم لا تحكمون بالحق!
– نحن عملنا الحق كما رأيناه وسمعناه منه
– والآن نرجو من المحكمة أن تعطي حكمها . هل نسمع لكم أم الله؟ وأَيُّ منكما على حق؟
الشرح:
– أنتم حكمتم على المسيح البار بالموت وصلبتموه بأيديكم
-واالله أقامه من الأموات ونحن رأينا وسمعنا : رأينا قيامته وسمعنا صوته وأعطانا وصية أن نبشِّر بقيامته.
والآن هو أعطى صحة لهذا الأعرج ليعلن أنه هو الطبيب والمخلِّص ليثبت أنه حي بعد قيامته ويعمل.
فالآن احكموا هل هو ميت أم حي؟ هل قام حقاً أم لم يقم؟
مع ضرورة الالتفات إلى هذا الأعرج الذي شُفي أمامكم.
كل هذا المضمون الذي في كلمة ق. بطرس كان واضحاً أمامهم.
٢٠:٤ «لأنَّنا نحن لا يُمكِنُنا أن لا نتكلَّمَ بما رأَينا وسَمِعْنَا .»
وليكن في علمكم في نهاية الجلسة، أنه إن حكمتم أو لم تحكموا، إن اقتنعتم أو لم تقتنعوا، فنحن لا يمكن أن نسمع لكم، ولابد أن نسمع الله، ولا يمكن أن نخفي القيامة التي رأيناها إرضاءً لحكم الصلب الذي اقترفتموه.
٢١:٤و٢٢ «وبعدما هدَّدوهُما أيضاً أَطلقُوهُما إذ لم يجدُوا البتَّةَ كيف يُعاقِبُونهُما بسببِ الشَّعبِ. لأَنَ الجميعَ كانوا يمجِّدونَ االله على ما جَرَى، لأَنَ الإنسانَ الذي صارت فيهِ آيةُ الشفاءِ هذهِ كان له أَكثرُ مِنْ أربعينَ سنةً .»
كان لا بد أن تنهي المحكمة أعمالها بأية صورة حتى ولو لم تكن بذات قيمة، تماماً كما عملوا إذ هددوهما أيضاً، أي ثانية، ثم أطلقوهما . بمعنى أن المحكمة أخذت قراراً أخيراً ولكن سريَّا أنه في حالة تكرارهم للمناداة باسم المسيح مرة أخرى بالقيامة من الأموات يلزم اتخاذ إجراءٍ تعسفيٍّ بالقتل للتخلُّص منهما دون أية محاكمة بعد ذلك، حتى يتجاوزوا ملاحقة الشعب الذي انحاز انحيازاً واضحاً لعمل االله الذي تمَّ بواسطة الرسولين، باعتبار أنه يمجد االله علناً . المحكمة تتخبَّط وتسير
في نفس مخطط الصليب وشهود الزور فلا سبيل لديهم لمقاومة الحق إلاَّ بسفك الدم.
ثم في آخر الرواية يسرد ق . لوقا حالة المريض الذي شُفي، معطياً تلميحاً أنه يتبع نفس أسلوب القديس يوحنا وهو انتقاء المعجزات الفائقة التصوُّر . فكما أن ق. يوحنا اختار معجزة الخمس الخبزات والسمكتين والخمسة الآلاف الذين شبعوا ومعجزة ستة أجران الماء المملوءة ماءاً الذي تحوَّل إلى خمر، ومعجزة الأعمى منذ ولادته ومعجزة المشلول ذي الثماني والثلاثين سنة، ومعجزة الميت القائم بعد أن أنتن في القبر، هكذا هذا الأعرج ذو الأربعين سنة. فكما أن الميت لا يقوم بعد أن أمضى في القبر أربعة أيام، إذ هنا استحالة طبيعية؛ هكذا الأعرج الذي له بعد ولادته أكثر من أربعين سنة وهو أعرج، يستحيل في هذا السن أن يحدث له شفاء طبيعي بأي حال. هنا قوة الاسم الفائقة للطبيعة لصاحبها القائم من الأموات، والذي ارتفع إلى أعلى السموات، حتى يقطع الشك باليقين ويُظهر الذراع العالية التي للمسيح في تعامله مع ضعف الإنسان !! وما يهمنا جداً بالطبع في هذه الآية هو ما وصلت إليه في النهاية، أن الشعب تأثر تأثُّراً شديداً وكان يمجد االله . مما يوضح أن الكنيسة كانت تسير في طريقها الصاعد رغم كل الضيقات، وأن كرازة بطرس ويوحنا وبقية الرسل كانت مُعانة بنعمة المسيح حسب الوعد، وأن أعمال الرسل بدأت بأهل الختان ونجحت نجاحاً مدهشاً على يد بطرس.
الكنيسة المهدَّدة تصلِّي!
والروح يحلّ. والمكان يتزعزع!!
٢٣:٤و٢٤ «ولمَّا أُطلِقا أتيا إلى رفقائِهِما وأَخبَراهُمْ بكلِّ ما قالهُ لهما رُؤَساءُ الكهنةِ والشيوخُ. فلمَّا سَمِعُوا رَفعُوا بنفسٍ واحدةٍ صوتاً إلى االله وقالوا أَيُّها السيدُ أَنتَ هو الإلهُ الصَّانعُ السماءَ والأَرضَ والبحرَ وكلَّ ما فيها .»
عاد الرسل والتأمت الكنيسة، ليحكي الرسولان أول خبرة للكنيسة الفتيَّة في ميدان الجهاد الموضوع أمامها والذي سيستغرق كل الزمن طالما وُجِد الزمن وحتى النهاية!
صحيح أنهما خرجا منتصرَيْن بالذي أحبهما وأعانهما، ولكن تحت التهديد باستخدام الأساليب السرية التي يعرفونها جيداً. فتحتمت الصلاة لرفع القضية برمتها الله.
«أيُّها السيد الإله»:
وتُقرأ باليونانية حرفياً: “أيها السيد أنت هو الإله”.
ذ jزQe = وتعني أنت الإله الواحد.
والسيد = spotaڑD وحدها تعني أيها السيد المالك أو الحاكم على الكل.
وعلى القارئ أن يُلاحِظ لماذا توجه الرسل هنا مباشرة إلى االله الكلي الحضور والوجود والسيادة ولم يخاطبوا المسيح . لأن تقدمة الصلاة شملت في الحقيقة قضية المسيح أولاً، لأن قضيتهم الحالية التي دخلوا بسببها السجن وقُدِّموا للمحاكمة ونالوا على أثرها التهديد، هي قضية متفرعة ومترتبة أصلاً على القضية الأساسية الأُولى والأعظم، قضية الابن الوحيد الذي أرسله الآب إلى الكرم فقتلوه خارج أسواره، فالآن يقدمون قضيتهم الله الآب على أساس قضية ابنه، كنوع من ضم الفرع إلى الأصل لينالوا اهتمام «السيد» وليؤرخوا في السماء للكنيسة سيرتها على درب الصليب.
٢٥:٤-٢٨ «القائِلُ بفمِ دَاودَ فتاكَ لماذا ارتجَّتِ الأُممُ وتفكَّرَ الشعوبُ بالباطلِ. قامت ملوكُ الأَرضِ واجتمعَ الرُّؤَساءُ معاً على الرَّبِّ وعلى مسيحهِ. لأنَّه بالحقيقةِ اجتمعَ على فتاكَ القُدُّوسِ يسوعَ الذي مسحتَهُ هيرودُسُ وبيلاطُسُ البنطي مع أمم وشعوبِ إسرائيلَ. ليفعلوا كُلَّ ما سَبَقَتْ فعيَّنت يَدُكَ ومَشُورَتُكَ أَنْ يكونَ .»
هنا المخاطبة المباشرة الله : «أيـُّها السيد» بدأت تأخذ في الآية (٢٥:٤) تكملتها «القائل». هنا توطئة حسنة وجيدة للدخول إلى االله لا بكلام من عندهم ولكن بكلام من عنده، ضماناً للقبول وتأكيداً للسماع والاستجابة . هنا ليتنا نتعلَّم من الر سل كيف ندخل إلى االله بالمخاطبة، فالحديث مع االله يحتاج إلى استعارة من لغة الروح القدس .
وها الرسل قد وجدوها في المزمور. وفي المزمور الثاني الذي اختاروه رؤية شاملة لقضية الصليب والأدوات التي استخدمها الشيطان من اليهود والرومان والرؤساء ضد الرب ومسيحه.
«فتاك القدوس يسوع الذي مسحته»:
آية بليغة عميقة ممتدة : هنا يرتفع في البداية رنين نبوَّة إشعياء في كلمة «فتاك» . هنا «فتاك» تُترجم “عبد” أو “ابن”، فأولاً “عبد” لتعطي للنبوَّة حقها، ثم «ابن» بحسب الصوت الذي جاء عالياً من السماء ومسموعاً : «هذا هو “ابني”» (مت ١٧:٣، لو ٢٢:٣). إذاً، فكلمة «فتاك القدوس» هو العبد المتألم عند إشعياء بما يجمع من اتضاع وطاعة وخضوع حتى الموت : «جعل نفسه ذبيحة
إثم»!! (إش ١٠:٥٣). ثم بقوله: «الذي مسحته» هنا، تعني أن «عبد» إشعياء (إش ١:٦١) يأخذ مجد وجلال «ابن االله» « = ابني»!! وهكذا نرى في هذه الآية نوعاً من العمق الروحي واللاهوتي غاية في الحكمة والإبداع!!
وهكذا حينما دخل الرسل إلى حضرة االله السيد خالق السماء والأرض بصوت النبوَّة المنطوق بالروح القدس، استطاع الروح القدس أن يكمِّل بفمهم الصلاة بأعمق ما يكون. فهم الآن بقولهم لله الآب: إن «الملوك والرؤساء وشعوب الأرض اجتمعوا معاً على فتاك القدوس يسوع الذي مسحته » يكونون قد أعطوا للقضية الأُولى، قضية الصليب وموت الابن، صورتها النبوية موقَّعة على التاريخ والواقع الزمني الذي يعيشونه والذي يمسُّ قلب الآب!
«ليفعلوا كل ما سَبَقَتْ فعيَّنتْ يدك ومشورتك أن يكون »
وهكذا يكملون خطابهم الله: وأن كل ما حدث هو بعينه «كل ما سَبَقتْ فعيَّنتْ يدك ومشورتك أن يكون »، أي أنك بذَلْته «كابن» برضاك وبدافع حبك الكلي الحنان ليحمل خطاياهم، ولكنهم هم ذبحوه كخاطئ كَرَهاً وبغضةً وبلا سبب!!
وإلى هنا يكونون قد بلغوا أعظم تصوير لقضية الصليب ليمهِّدوا لقضيتهم التي انبثقت منها حتماً.
والآن
٢٩:٤و٣٠ «والآنَ يا ربُّ انظُر إلى تهديداتِهِم وامنح عبيدك أن يتكلَّموا بكلامِكَ بكُلِّ مجاهرةٍ. بمدِّ يَدِكَ للشِّفاءِ ولتُجرَ آياتٌ وعجائِبُ باسمِ فتاكَ القُدُّوسِ يسوعَ .»
«والآن»:
الآن قضية كنيستك، أمَّا التهديدات فمن حيث ما يخصنا منها كأشخاص فلا اعتبار لها، فنحن قد وضعنا أنفسنا للموت لأننا نؤمن بالقيامة التي نعيشها ولكن التهديدات بأن لا ننطق بالاسم ولا نعلم بالقيامة فهذا مرفوع أمامك للنظر، فالذي قام لابد أن يبقى قائماً، والقيامة التي كا نت لابد أن تكون، والاسم الذي خَضَعتْ له كل قوة في السموات والأرض سيبقى عالياً . لهذا أَعطِ عبيدك أن يتكلَّموا حسب قولك ويعلِّموا حسب عملك، وإزاء تهديداتهم أَعطِ مجاهرة ليعلو قولنا على تهديداتهم ويسود عملك للشهادة . فكما شفيت الأعرج اشفِ كل يوم، لتكنْ شهادة من قِبَلِ روحك القدوس، كما وعدت، حينما تنطق الآيات باسمك فيمجدك كلُّ حيّ.
وهكذا صارت معجزة شفاء الأعرج أقوى منعطف في خبرة الكنيسة الأُولى لمواجهة تكتُّل الهيئات الرسمية وتهديدات ومقاومات الرياسات المهزومة . فقد ثبت لدى الرسل ضعف السنهدريم والرياسات أمام الأثر الذي نشأ في وسط الشعب من جراء فعل الآيات والمعجزات، لهذا تنبَّه قلبهم إلى الضرورة القصوى للآيات والمعجزات حتى يتحرك قلب الشعب ويؤمن بالقيامة على اسم الرب يسوع.
وكان إحساسهم بقوة الروح القدس التي نطقت في أفواههم وأعطتهم الحكمة والشجاعة والهدوء الذي ساد على أفكارهم ومشاعرهم قد جَعَلَهم في جوع حقيقي للمزيد.
٣١:٤ «ولمَّا صلُّوا تزعزعَ المكانُ الذي كانوا مُجتمعينَ فيهِ . وامتلأَ الجميعُ من الرُّوحِ القُدسِ وكانوا يتكلَّمونَ بكلامِ االله بمجاهرةٍ .»
لماذا يتزعزع المكان في وجود الروح القدس؟
هو استعلان ما فوق الطبيعة، الطبيعة متزعزعة وإلى زوال . لذلك حينما يحلّ الحق الثابت الدائم فحتماً يتزعزع الباطل والزائل . الروح القدس يمثل الخلود الأزلي، والعالم وكل مكان في العالم لا يمتُّ لا للخلود ولا للأزل !! فالعالم مكان والمكان متعاهد مع الزمان والزمان مستقبله ماضٍ وماضيه عدم ! والروح خالق الزمان والمكان من العدم . لذلك حينما يحلُّ الروح في المكان، يعلن المكان عن أصله المتزعزع والمسنود على لا شيء وينكشف مبدؤه ومنتهاه!!
«امتلأ الجميع من الروح القدس»:
أمَّا الإنسان ذلك المخلوق السعيد الذي خلقه االله على الخلود ، فهو المخلوق ذو الكيان المفتوح لاستقبال روح الخلود : (« هؤلاء) ليسوا من العالم كما أَني أنا لست من العالم» (يو ١٦:١٧). فالمكان تزعزع لمَّا حلّ الروح والإنسان امتلأ ثباتاً بل حياةً بل خلوداً.
كان ملء يوم الخمسين معمودية – لنوال طبيعة فائقة، خلقة جديدة – أمَّا هذا الملء فهو لمزيد من القوة للشهادة بالكلمة والعمل.
يا لمجد الصلاة ويا لقوة صلاة المظلومين والمهدَّدين، لقد فتحَتْ المخلوق على الخالق فملأت أفواههم بكلام االله ليتكلَّموا وكأن االله هو المتكلِّم فيهم علناً وبلا مانع.
وهكذا حولت الكنيسة مشقاتها إلى صلاة، وصلاتها تحولت لها قو ة وكرازة وشهادة.
الكنيسة ترتب حياتها من الداخل:
اقتناء الروح حتَّم بترك قنية العالم،
وحياة الشركة أوحت بتوزيع الحاجات
حينما مارس الرسل ومَنْ معهم الشهادة بقوة الروح القدس المنسكب، وضحت جسامة الخدمة المطلوبة وظهرت الحاجة للتفرُّغ، فلزم بيع الأشياء التي في العالم والتخلِّي عن هموم القنية والعناية بالأملاك والمقتنيات من حقول وبيوت وتجارة، لحمل همِّ الرسالة التي تثقلت بها أرواحهم للغاية . وابتدأ الرسل يذوقون المفاضلة الحتمية بين العالم واالله وعبَّروا عنها: «أن محبة العالم عداوة الله.» (يع ٤:٤)!!
وكان يسند قلبه : م وفكرهم وضميرهم قول إلهي لهم لا يزال يرنُّ في أسماعهم«وكل مَنْ ترك بيوتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أُماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية» (مت ٢٩:١٩). ويقولها ق. مرقس أيضاً : حيث يذكر الترك من أجل الإنجيل بوضوح«فأجاب يسوع وقال الحق أقول لكم ليس أحد ترك بيتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أُماً أو امرأة أو أولاداً أو حقولاً لأجلي ولأجل الإنجيل إلاَّ ويأخذ مئة ضعف الآن في هذا الزمان بيوتاً وإخوة وأخوات وأمهات وأولاداً وحقولاً مع اضطهادات وفي الدهر الآتي الحياة الأ بدية.» (مر ٢٩:١٠و٣٠).
كذلك مثل المسيح عن اللؤلؤة الفريدة: «أيضاً يشبه ملكوت السموات إنساناً تاجراً يطلب لآلئ حسنة فلمَّا وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن مضى وباع كل ما كان له واشتراها» (مت ٤٥:١٣و٤٦). اسم المسيح هو اللؤلؤة الكثيرة الثمن فمَنْ ذا لايبيع كل ما له ليقتنيه ويخدمه؟
ولنا هنا مع القارئ وقفة قصيرة:
أيهما الأول وأيهما الثاني : اقتناء الروح أم ترك القنية؟ حياة الشركة أم توزيع الحاجات؟ أو بمعنى آخر : هل الملء من الروح القدس هو الذي أوحى إلى التفرغ من هموم الدنيا أو العكس؟ هنا خطورة قلب الأوضاع الذي يضعف الأ ول والثاني بل ويحرم الإنسان من بلوغ هدفه بلوغاً حقيقياً وصحيحاً!!
المثل الذي طبقته الكنيسة ينطق بالحق والصحيح . الكنيسة امتلأت من الروح القدس يوم الخمسين فأخذت طبيعة الروح وفكره وعمله وهدفه . فابتدأت تعمل وتشهد. ثم بدأت تبيع وتتفرغ!
في مَثَل المسيح الاسم المبارك ملأ القلب وغطَّى على التفكير وشغل الروح فانطلق الإنسان يبيع ويترك كل ما كان يمتلك، من الأب حتى الولد . ثم الحقول ثم النفس «ينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (مت ٢٤:١٦)!!.
وفي المثل الثاني ارتفع الإنجيل في أفق الحياة فملأ كل تصوراتها، فلم يَعُدْ غير الإنجيل، فباع الإنسان كل ما كان له!
وفي مَثَل اللؤلؤة تصوَّر الإنسان جمال اللؤلؤة فملأ جمالها كل نفسه وعقله وشهوة قلبه، فذهب يبيع كل ما كان له ليشتريها، ولمَّا اشتراها غطَّت كل تصوراته وشهوة قلبه فلم يعد لعداها أية قيمة.
ثم من هذا المبدأ عينه إلى صميم الحياة والعبادة : هل صوم الجسد أولاً أم شبع الروح؟ وهل يمكن أن يصوم الجسد ويقنع بالصوم ويرتاح إليه والنفس ليست على شبع من الروح وفرحه؟
إذاً، فهو قانون روحي ومبدأ لاهوتي : «بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً » ( يو ٥:١٥)، وبالتالي وحتماً يكون: «أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني.» (في ١٣:٤ ).
كثيرون أخطأوا في اتخاذهم الثاني بدل الأول فصار صومهم بدون فعالية الروح وأصبح تعذيباً للجسد دون بلوغ الهدف، وصار تكريسهم وخدمتهم عملاً شاقاً وجهداً مضنياً مبذولاً دون وصول . وبهذا الخطأ يضيع من مَثَل المسيح «المائة ضعف»! فالمائة ضعف العائد من البيع والترك والتخلِّي عن كل شيء هو رهن : «من أجلي ومن أجل الإنجيل »!! أمَّا مع الاضطهاد فهو تأمين لتحويل المائة ضعف على الأرض إلى ما يساويها في السماء!! وهذه هي سيرتنا المكتوبة في السماويات.
٣٢:٤ «وكان لجمهورِ الذينَ آمنوا قَلبٌ واحدٌ ونفسٌ واحدةٌ . ولم يَكُنْ أَحدٌ يقولُ إنَّ شيئاً من أمواله لهُ بل كان عندهُمْ كلُّ شيءٍ مُشتركاً .»
حينما انفعل الجميع بالروح الواحد اتحدت المشاعر والأهداف، فالقلب قاعدة المشاعر الإنسانية، والنفس مصدر الفكر والرؤيا وتحديد الهدف . هنا اختفت الفردية، أي افرازات الخطية التي تعمل على تفتيت الصورة الإنسانية من وحدتها المنطبعة من االله الواحد إلى الذاتية الأنانية المنبثقة من انقسام الهوى والغرض والمشيئة.
هذه الخبرة الفريدة في تاريخ الكنيسة الأُولى تُعتبر بلوغ القمة في قامة الكنيسة باعتبارها جسد المسيح الموحَّد الأعضاء، وهي ذات الصو رة التي تسعى إليها الكنيسة عبر عصورها، وهي أيضاً منتهى رجائها الأخير من جهة الإيمان والعبادة والمحبة والبذل والقداسة والشركة، وحتى من جهة العمل وتقسيم المواهب : «الذي نزل هو الذي صعد أيضاً فوق جميع السموات لكي يملأ الكل. وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلاً والبعض أنبياء والبعض مبشرين والبعض رعاة ومعلمين . لأجل تكميل القديسين، لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان، ومعرفة ابن االله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح »(أف١٠:٤-١٣) .
والعجيب حقاً أن الكنيسة بدأت بهذه القامة الوا حدة الموحَّدة عملياً وبصورة بسيطة مذهلة. ولو فحصنا آية ق . بولس الرسول لأهل أفسس هذه، نجد أن سر الوحدة والوحدانية الكاملة بدأ مباشرة بعد أن صعد المسيح إلى أعلى من السموات «ليملأ الكل »، فملأ الكل فعلاً . فكانت هذه الكنيسة الممتلئة من الروح القدس والمتحدة برأسها في السماء. وهكذا ظهر القلب الواحد والنفس الواحدة تأكيداً للجسد الواحد!!
أمَّا غياب الذاتية الفردية الذي هو العنصر المسموم لتفتيت الوحدة فنراه عملياً واضحاً ثابتاً وهو أنه لم يكن أحد يقول «إن شيئاً من أمواله له بل كان عندهم كل شيء مشتركاً » ( أع ٣٢:٤). فالإحساس بالملكية الذاتية – وهو الذي يكشف عن عنصر التفتت – كان غائباً عن الجماعة، فكانت متحدة قلباً ونفساً.
ولكن الذي ينبغي أن يسترعي انتباهنا هو أن غياب الإحساس بالملكية الذاتية لم يأتِ اصطناعاً أو طبيعياً، بل جاء كنتيجة فائقة لعمل الروح القدس الفائق . فالروح القدس جذب كل نفس إليه وأخلاها من كل الشوائب الدخيلة عليها التي من صنع العالم، وهكذا أخذت صورتها الصحيحة التي أخذتها من االله، ولكن الصورة أصلاً واحدة وهكذا توحَّدت النفوس في صورتها الصحيحة الواحدة . فصار للنفوس المتجمعة نفسٌ واحدة وقلبٌ واحدٌ بالضرورة.
والآن، بلوغ الكنيسة إلى هذه الصورة الحيَّة الفعَّالة العاملة والعابدة والمجاهدة الشاهدة للمسيح في العالم – آنئذ – يؤكد لنا صدق وعد المسيح ويعطينا اليقين الإلهي أنها حتماً ستبلغها في النهاية . لأنه إن كانت الكنيسة قد بلغتها تماماً وبالتمام في بدايتها، فهي تحياها الآن وإن كان جزئياً على رجاء الملء النهائي الذي سيمنحها هذه الصورة الفريدة بالنهاية لتنتهي الكنيسة إلى ملء قامة المسيح بالحق.
والذي نود أن نزيد ونعيد فيه أن نقتنع جميعاً بصدق المقولة الإلهية أن الكنيسة هي جسد المسيح حقاً، فصورة الكنيسة الأُولى التي رسمها ق. لوقا الآن أمامنا من واقع خبرة الرسل الأُولى وحياتهم العملية، تشهد أن هذه المقولة الإلهية هي في حكم الواقع الذي حققته الكنيسة بالفعل وفي أصعب أدوار حياتها. فالجسد الواحد للكنيسة، ذو القلب الواحد والنفس الواحدة والاهتمام الواحد، عاشته الكنيسة في ملء الواقع التاريخي وفي صميم الزمن، أسوأ زمن . فإن كانت الكنيسة اليوم عاجزة عن أن تتمم شكلها الواحد وأن تُجمِّع جسدها الواحد، فليس السبب عدم صدق المقولة الإلهية أن الكنيسة هي جسد المسيح والأعضاء فيها متحدون ولهم قلب واحد ونفس واحدة؛ ولكن السبب هو أن الأعضاء فيها أخ ذوا منهج الابن الأصغر الذي استقل بماله وذاته. ولكن الآب لم ييأس، فهو على الباب واقف ينتظر العودة.
٣٣:٤ «وبقوةٍ عظيمةٍ كان الرُّسُلُ يؤَدُّونَ الشَّهادةَ بقيامةِ الرَّبِّ يسوعَ ونِعمَةٌ عظيمةٌ كانت على جميعِهِم .»
هذه نتيجة مباشرة للصلاة والملء من الروح القدس المخصص للشهادة . فقد خرج الرسل من التجربة الأُولى، تجربة السجن والتهديد، بقوة مضاعفة إذ أحسُّوا أن موقفهم أقوى من موقف الذين يهددونهم. كذلك فإن التفرُّغ الكامل من هموم العالم أعطاهم تخصصاً في خدمة الكلمة والكرازة . وقد ارتدت أخبار الخدمة المفرحة عليهم بالدخول في حالة نعمة، وكأن الكنيسة في أعياد متواصلة . فليس جزافاً أن يسجل ق. لوقا أن الشهادة كانت بقوة عظيمة والنعمة كانت عظيمة. فهذا الانبهار في وصف حال الكنيسة يعطينا صورة فريدة لمستوى النجاح والنمو والقوة.
٣٤:٤و٣٥ «إذ لم يكن فيهم أَحدٌ مُحتاجاً لأَنَّ كُلَّ الذين كانوا أَصحابَ حقولٍ أو بيوتٍ كانوا يبيعونها ويأتونَ بأَثمانِ المبيعاتِ ويضعونَهَا عندِ أرجُلِ الرسُلِ فكان يُوزَّعُ على كلِّ أحدٍ كما يكونُ لهُ احتياجٌ .»
يُلاحَظ هنا أنه ينسب القوة العظيمة التي كان الرسل يؤدون بها الشهادة، والنعمة العظيمة التي كانت فيهم، ينسبها إلى تخلصهم من الاهتمام بشئون الحياة المادية، كعامل كان يعطل انطلاقهم وذلك بقوله: «إذ لم يكن فيهم أحد محتاجاً » (أع ٣٤:٤). لأن الأغنياء وفَّروا العناء عن الفقراء. وإن كان هذا الكلام جاء هنا مكرراً لما سبق وقاله في الأصحاح الثاني: ٤٥. فانظر، أيها القارئ العزيز، كيف بلغت الكنيسة بشعبها أقصى حالات العدالة الاقتصادية الذي تحلم به أعظم النظم الاقتصادية في العالم والعامل الأساسي الذي بُني عليه هذا النظام الاقتصادي المثالي، واضح أنه كان سمو روح الإنسان . ومن هنا نكتشف سر تدهور النظم الاقتصادية في العال م واستحالة بلوغها إلى مستوى العدالة، حتى بأقل صورة ممكنة، بسبب ضعف المستوى الروحي الذي تفكر به الحكومات والذي تحيا به الشعوب.
٣٦:٤و٣٧ «ويوسُفُ الذي دُعيَ مِنَ الرُّسُلِ بَرْنَابا الذي يُترجَمُ ابنَ الوعظِ وهو لاويٌّ قُبرسيُّ الجنس. إذ كان له حَقْلٌ باعهُ وأَتىَ بالدَّراهِمِ ووضَعها عندَ أَرجُلِ الرُّسُلِ .»
في الحقيقة يبدو ذكر حالة برنابا هنا على وجه الخصوص دون مئات وربما ألوف من الحالات الأخرى أن فيها أمراً مستغرباً . هذا لأنه أولاً لاوي واللاوي لا يقتني أرضاً بحسب الناموس ولكن ربما كانت هذه الأرض في غير إسرائيل، أيفي قبرص. وكذلك من المرجَّح أنها أرض متسعة وقد أتت بأثمان كثيرة حتى أنها صارت مثلاً، هذه الأرض باعها هذا القديس، فتأهَّل للرسالة.