تفسير إنجيل يوحنا الأصحاح 1 ج1 للأب متى المسكين
القسم الأول : استعلان يسوع المسيح 1: 1-18
الآيات 1-13
1:1 “فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ الله”
يفتتح القديس يوحنا إنجيله بهذه الآية ذات الثلاث وصلات، المتناسقة والموزونة على موسيقى الشعر العبري. وهي تعطينا صورة عن طابع إنجيل القديس يوحنا بل وعن القديس يوحنا نفسه. ويُلاحظ أن في الثلاث الجمل يتكرر الفاعل (الأسم) “الكلمة” كما يتكرر الفعل “كان” الدال على الكينونة وليس على الزمن, وتترابط الجمل بحرف عطف لتنضغط إلى أقل حيز ممكن. ومن هذا التركيب القوي المقصود قصداً، يظهر مقدار الجهد الفكري الذي يبلغ أقصى حدود الإجهاد لإبراز أفخم المعاني التي يمكن أن يبلغها الإتساع الفكري البشري، وذلك للتعرف على أسس طبيعة “الكلمة” في علاقته بالزمن, وفي كيانه الذاتي بالله وفي جوهره الإلهي.
كان في البدء، كان مع الله، كان هو الله.
وعندما نستمر في قراءة الأصحاح الأول نجد أن هذه الجمل الثلاث التي تزدحم بها هذه الآية الاولى، جاءت لترد في النهاية وتتوازن مع ثلاث جمل جاءت في الآية 14 لحظة التجسد:
“وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا”
فالكلمة الذي “كان” (في كينونة دائمة أزلية خارج الزمن) “صار” أي دخل الزمن، والكلمة الذي كان الله (أي في طبيعة الله) “صار جسداً” أي في طبيعة الإنسان، والكلمة الذي كان “عند الله” (حال فى الله) حل بيننا.
وبهذه الآية الاولى وما احتوته من استعلان كامل عن “الكلمة” يكون القديس يوحنا قد وضع أساس إنجيله، وبالتالى دستور الإيمان المسيحي فيما يخص شخص السيد المسيح باعتباره الكلمة المتجسد:
فالسيد المسيح “الكلمة” لم يتخذ شخصيته بالميلاد الجسدي ولا حتى لحظة الخلق. أي أنه ليس مخلوقاً ولا محدثاً, بل كان في البدء قائماً منذ الأزل.
والسيد المسيح “الكلمة” لا ينفرد بوجوده من دون الله؛ بل هو كائن في الله.
والسيد المسيح “الكلمة” بظهوره في الجسد لم يكن مجرد إنسان أو نبي. بل هو بطبيعة الله وجوهره, قد تجسد.
وبهذه المؤهلات صار للكلمة المتجسد، أي السيد المسيح، القدرة والسلطان أن يستعلن كل حقائق الله.
«فِي الْبَدْءِ»:
يتجه القديس يوحنا بهذه اللفظة التى تُنطق بالعبرية «براشيت» إلى الأسم التقليدى عند اليهود لسفر التكوين الذي يبدأ بهذه الكلمة «فى البدء خلق الله» وهذا هو الأسلوب السرى “المستيكى” للقديس يوحنا, أما القصد فواضح، فهو سيتكلم بإنجيله عن الخليقة الجديدة. وبدء الخليقة الجديدة عند القديس يوحنا هو السيد المسيح: «انا هو .. البداية والنهاية»، «انا هو الأول والآخر», «انا هو الألف والياء» (رؤ 8:1 و 8:2). وبحسب القديس كيرلس الكبير فهو البدء الذى بلا بدء.
و”البدء” فى إنجيل يوحنا ليس هو البدء فى سفر التكوين, لأن بدء سفر التكوين هو الخلق, أى بدء الزمن, أما البدء فى إنجيل يوحنا فهو ما قبل الخلق والزمن والتاريخ والأدراك, وليس قبل الخلق إلا الله.
ولكن القديس يوحنا لم يكتب فى البدء كان الله, لأنه لم يكن بصدد الحديث أو الإعلان عن الله, بل قال “فى البدء كان الكلمة” لأنه سيتكلم حالاً عن الخلق الذى تم “بكلمة” الله, ولكن لن يتوقف عن الخلق, كسفر التكوين, بل سيتجاوزه حالاً الى الخلاص الذى تم بتجسد “الكلمة”. من هنا كان هم القديس يوحنا أن يعرفنا بالكلمة قبل أن يتجسد, ليستعلن لنا قيمة وجلال التجسد وعظمة وقوة الخلاص الذى تم. ولكن من أين أتى القديس يوحنا بمفهوم هذا البدء اللازمنى قبل الخليقة.
قطعا ذلك لم يكن من العهد القديم؛ فالعهد القديم وإن كان سجل بدء الخلق, لكنه لم يتعرض لما قبل الخلق. والعهد القديم أضطلع بعمل الكلمة ولم يضطلع بطبيعة الكلمة, ولما تعرض لكلمة الله لم يتعرض لها بوصفها الاقنومي الذاتى المطلق بل كفعل قوة في حدوث الحدث الزمنى، إذ كان “الكلمة” الذاتي المطلق غائبأ غياباً كاملاً عن الوعي اليهودى. أشعياء النبي أحس بهذا الغياب إحساسا مؤلماً فقال “حَقّاً أَنْتَ إِلَهٌ مُحتجب يا إِلَهُ إِسْرَائِيلَ الْمُخَلِّصُ”( إش 15:45).
لذلك نحن نرى, وبالتأكيد, أن تأثير السيد المسيح بجلال مقولاته كان هو المصدر الأساسى فى تكوين فكر القديس يوحنا اللاهوتى, سواء من جهة أقنومية الكلمة الأزلى، أو من جهة مفهوم وجوده قبل الزمن “فى البدء”. وإنه من واقع إستعلان السيد المسيح لنفسه أستعلن القديس يوحنا الكلمة, فمرر آيتين ظاهرتين وبارزتين فى أقوال السيد المسيح يتضح أصل ومفهوم “البدء” اللازمنى ليكمله فى إنجيل يوحنا:
الآية الأولى: “وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ.” (يو 5:17)
الآية الثانية: أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ. (يو 24:17).
«كان الكلمة»:
كان هنا لا تدل على فعل زمني بل على الكينونة الدائمة وهي تخص الوجود اللازمني، وتستخدم للدلالة على الأمور المطلقة أى غير المخلوقة.
فعندما نقول «في البدء كان الكلمة» يعني أن للكلمة كينونة أو كياناً قائماً فى البدء أى فى الأزل. وهنا يتجه الفكر مباشرة إلى التعريف الذى عرّف الله به نفسه لموسى لما سأله هذا عن أسمه, فكان الرد « أهيه الذى أهيه»، وتفسيره حسب ما جاء في طبعة الكتاب المقدس (أكون الذى أكون) والقصد من هذا التعبير واضح غاية الوضوح وهو «أنا الكائن بذاتى» أو كما فى الترجمة الإنجليزية (I am the being) أى أنا الكينونة.
فـ «فى البدء كان الكلمة» تعني أن الكلمة كائن منذ الأزل, وهذا يسلمنا مباشرة إلى التعريف الى القول إنه لم يكن بمفرده, بل «كان عند الله». ويلاحظ هنا أنها جاءت «كان» وليس «كانت» لتناسب مونث الكلمة العربية لغوياً. وهذا قصور وخلل في الترجمة العربية لأن «الكلمة» أصلاً فى اللغة العبرية مذكرة = «قول» وتُرجمت باليونانية وهي مذكر ايضاً .
«الكلمة»: اللوغس
«فى البدء كان الكلمة» هذا الإصطلاح العميق المختصر من اين اتى به القديس يوحنا؟
لقد لجأ الشُراح في ذلك إلى عدة مصادر, ولكن من المصادر الواضحة امامنا التى مهدت لهذا القديس الرائي نسميته للمسيح «بالكلمة»» مصدرين:
أولاً: سفر الرؤيا, اذ سمع باذنيه ما يقوله الروح واصفاً المسيح وهو متجند للحرب, راكبا على فرس أبيض, دلالة على المقاصد السلامية، وعلى رأسه تيجان كثيرة. رمزاً للنصرة المتعددة المكاسب لحساب الانسان, وعيناه كلهيب نار تذيب القلوب الصخرية، «وله أسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو, وهو متسربل بثوب مغموس بدم ويُدعى اسمه “كلمة الله”» (رؤ12:19-13)
وهنا يظهر أن أسم «الكلمة» متعاظم الشأن لدى السمائيين, فهو صفة السيد المسيح المحاربة والديَّانة المتسلطة والقائدة, لأنه يقول فى بقية الآية: «وَكَانَ الأَجْنَادُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ يَتْبَعُونَهُ رَاكِبِينَ خُيُولاً بَيْضَاءَ، وَلاَبِسِينَ كَتَّاناً نَقِيّاً نَاصِعَ الْبَيَاضِ، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ سَيْفٌ حَادٌّ لِيَضْرِبَ بِهِ الأُمَمَ وَيَحْكُمَهُمْ بِعَصاً مِنْ حَدِيدٍ، وَيَدُوسَهُمْ فِي مَعْصَرَةِ شِدَّةِ غَضَبِ اللهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. وَقَدْ كُتِبَ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ: مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ» (رؤ 14:19-16). وهذه الصورة تمثل واقع «الكلمة» لدى السمائيين, والثوب المغموس بالدم علامة أبدية لأنهزام وقهر العدو لأنها تذكار الصليب. فهى شهادة لغلبته على العالم «ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ» (يو 33:16) و «وَهُمْ غَلَبُوهُ بِدَمِ الْحَمَلِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ.» (رؤ 11:12)
ولكن يُلاحظ هنا أن أسمه «كلمة الله» يٌعبر عن حالة خروج من الله وإرسال للإعلان عن مشيئة الله وتتميمها بقوة واقتدار, فهو اسم «الكلمة» بعد أن أضطلع بالعمل والرسالة, لذلك جاء أسمه «كلمة الله».
أما أسم «الكلمة» فقط الذى كتبه القديس يوحنا فى إنجيله بوحى الروح فهو يعبر عن ما قبل الخروج والأرسال والإعلان عن الله, فهو أسم له كفاءة واستحقاق ذاتى لكل ملء اللاهوت خلوا من عمل أو رسالة.
ثانيا: والمصدر الثانى الأكثر أثراً فى تكوين الفكر اللاهوتى للقديس يوحنا بخصوص «الكلمة اللوغس» فهو تشديد المسيح بصور متكررة أنه كلمة الله بصورة ذاتية وشخصية, وأن كلامه الذى يقوله هو «روح وحياة». وبالرجوع للآيات فى نصها اليونانى يظهر بوضوح أن السيد المسيح يعتبر كل ما يقوله هو «اللوغس», وأنه هو اللوغس أى «الكلمة».
وسنعيد كتابة الآيات فى نصها اليونانى لنرى مدى وضوح حقيقية اللوغس عند السيد المسيح, لأن الترجمة العربية اخطأت وتجاوزت لفظ «اللوغس» المفرد = «كلمة» وجعلته بالجمع «كلام», فاختفى المعنى.
علاقة اللوغس بالسيد المسيح من واقع كلامه:
+ « مَنْ يَسْمَعُ (كلاَمِي) كلمتى وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ» (يو 24:5)
المعنى ينصب هنا على أن الذى يقبل اللوغس السيد المسيح ويؤمن بالله الذى ارسله يكون له الحياة الأبدية. ومعروف أن الذى يقبل «كلمة» أو لوغس السيد المسيح فهذا يعنى أنه يقبل السيد المسيح. هنا السيد المسيح واللوغس على التساوى.
+ «أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ (الْكلاَمِ) الكلمة = اللوغس الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ.» (يو 3:15)
مجرد سماع الكلمة اللوغس هنا وإدراكه فهذا ينقى القلب, حيث أن المعنى يتمحور حول قبول السيد المسيح والإيمان به.
+ «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْفَظُ (كلاَمِي) كلمتى فَلَنْ يَرَى الْمَوْتَ إِلَى الأَبَدِ». (يو 51:8).
ومعروف أن الذى بؤمن بالسيد المسيح فهو الذى لن يرى الموت. فاللوغس والسيد المسيح هنا على التساوي.
+« فَقَالَ يَسُوعُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ: «إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي (كلاَمِي) كلمتى فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تلاَمِيذِي, وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ». (يو 31:7-32).
هنا الثبات فى كلمة السيد المسيح أى اللوغس يكشف عن التلمذة الحقيقية للمسيح, أى أن التلمذة لكلمة المسيح هى التلمذة بعينها.
ومعروف من آيات أخرى كثيرة أن الثبوت فى كلمة المسيح هو الثبوت فى السيد المسيح نفسه (يو 15 :7)
+ الَّذِي لاَ يُحِبُّنِي لاَ يَحْفَظُ كلاَمِي. (وَالْكلاَمُ) الكلمة الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي.
يوضح السيد المسيح هنا أن كلمته أى اللوغس ليس منفرداً من دون الله فهو اللوغس الذى أرسله الله سواء شخصه أو كلمته واحد!!
+أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كلاَمَكَ (كلمتك) وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ. (يو 14:17)
ومعروف أن العالم أبغض السيد المسيح وبالتالى أبغض الذين قبلوا كلمة الله اى اللوغس. هنا السيد المسيح ولوغس الله على التساوي.
+ قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. (كلاَمُكَ) كلمتك هُوَ حَقٌّ. (يو17:17)
ومعروف أن السيد المسيح أعلن بكل قوة ووضوح «أنا هو ….الحق»(يو 6:14). وهنا اللوغس والمسيح والحق على التساوي المطلق, بل يظهر أن السيد المسيح هو اللوغس مباشرة.
ومعروف أن المسيح أعطى الحق أى اللوغس فى كلامه عموماً, أى أن حديثه كان يحوى سر «الكلمة», سر «اللوغس», سر «المسيح» وهذا يتضح من الآية الآتية:
+ لِمَاذَا لاَ تَفْهَمُونَ كلاَمِي؟ لأَنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَسْمَعُوا (قَوْلِي) كلمتى . (يو 43:8)
واضح هنا أن كلمة السيد المسيح شىء و(الكلمة) أى اللوغس الكائن فى كلام السيد المسيح شىء آخر. فالكلمة اللوغس هو سر الله وهو السيد المسيح وهو الحق المخفى فى الكلام. فالذى يسمع لصوت الله وسره, أى الحق, من وسط الكلام يفهم كل الكلام فى الحال.
ومن هنا نستخلص أن “الكلمة” اللوغس هو محور كل تعاليم السيد المسيح وهو القلب النابض فى إنجيل القديس يوحنا وعليه يقوم الإنجيل كله, ولذلك وإن كان يتهيأ لجميع الشراح أن القديس يوحنا لم يستخدم أصطلاح “الكلمة” إلا فى موضعين فى مقدمة إنجيله فى الإصحاح الأول, إلا أن الواقع والحقيقة أن اللوغس هو محور إنجيل القديس يوحنا وملخص قكره اللاهوتى.
فكما أن كلمة الله اللوغس, وبالعبرية «قول إلوهيم»، جاء في الأسفار المقدسة قديما منطوقاً بفم الأنبياء وكان يحمل الحياة للذين يثبتون فيه، فقد جاء الكلمة اللوغس بنفسه في شخص يسوع المسيح معلنأ الحق ومعطيأ الحياة. ولكن يظل هناك فارق بين الكلام المقول واللوغس المحتوى داخله: “وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ, وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِهِ, فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي “( يو 37:5-39)
المسيح هنا يتسعلن نفسه بمنتهى الحذق الإلهي أنه هو اللوغس, فهو يوضح أن كلمة الله اللوغس التي يفتشون عليها في الكتب (الأسفار) لكي تعطيهم حياة أبدية أخطاوا إليها فأخطاوها، ولم ينتبهوا إليها حينما استعلنها المسيح في نفسه لما جاء بنفسه إليهم: «إلى خاصته جاء»، فلم يأتوا هم إليه، مع أنه بصفته اللوغس الذي يبحثون عنه قادر ان يعطيهم الحياة الآبدية!!
لذلك، فجوهر الإستعلان في إنجيل يوحنا محكوم بمستوى السماع الروحي للكلمة «اللوغس» وهو الحق المثبت في كلام المسيح، على أن هذا «اللوغس» هو سر الإنجيل وسر الله وسر المسيح، وهو لا يوجد جامداً أو ساكناً, بل على الدوام ينطق من بين السطور والكلمات, كومضات من نور أو دفقات حياة تنطلق بلا توقف.
وبهذا نرى أن اللوغس في إنجيل يوحنا لا يحتاج إلى شرح أو تعريف أو فهم، فهو هو المسيح، والروح واقف عل استعداد أن يأخذ ما للمسيح «اللوغس» ويخبركم. والمسيح لا يعطي كلام الحق ليُفهم، بل هو يًعطى الحق ليُعاش؛ ولا يعطى كلاماً يصلح للحياة بل يعطى الحياة. فهذا هو سر كلامه: « روح وحياة»، وهذا يوصلنا إلى مقدمة الإنجيل بكل هدوء, فالميسح هو «الكلمة اللوغس».
فإذ كان القديس يوحنا قد أعطى للمسيح اسم «الكلمة» اللوغس فهو فعل ذلك من واقع استعلان المسيح لنفسه من خلال تعليمه. على أن قدرة القديس يوحنا عل استشفاف هذا الاسم وطرحه في مستهل إنجيله, ليس على أنه «كلمة الله», بل على أنه «الكلمة» اللوغس يعتبر إلهاماً إلهياً وعلى مستوى المساهمة العظمى للاهوت المسيحي، وهي جرأة يستحيل أن يأتيها عقل بشر؛ فهي جرأة من رأى وعاين أن «يسوع المسيح هو الكلمة»: «هَذَا هُوَ التِّلْمِيذُ الَّذِي يَشْهَدُ بِهَذَا وَكَتَبَ هَذَا. وَنَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ حَقٌّ.» (يو 24:21)
وهذه المعلومة البسيطة في مظهرها صارت هي الحقيقة الإلهية العظمى في تاريخ معرفة الإنسان لله!
فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ:
قلنا أن «في البدء» تفيد ما قبل الخلق، وبالتالي ما قبل الزمن، فتكون بالتحديد هي الآزلية، وقلنا أن (كان) لا تفيد فعل الزمن الماضي الناقص ولكن تفيد الكينونة الدائمة للمطلق. أي أن الكلمة اللوغس هو«كائن أزلي». فمن أين أتى القديس يوحنا بهذا التوصيف الخطير للمسيح.
أمامنا مصدران واضحان استثف منهما القديس يوحنا وصف المسيح بالكينونة الآزلية:
الاول: قول المسيح صراحة لليهود: «أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ», فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟». قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يو 56:8-58)
قول المسيح «أنا كائن» كشف عن كينونته اللازمنية الآزلية. لأنه لوكان قد قال: «أنا كنت» لدخل المعنى في إطار الزمن وأصبح مجرد أسبقية زمنية، ولكن بقوله: «أنا كائن» أصبحت المقارنة بين إبراهيم والمسيح شاسعة جداً وبلا قياس، فهي مقارنة بين مخلوق وغير مخلوق, بين زمني وأزلى, إذن، فهو كائن قبل كل الآباء والأنبياء وكل الخليقة.
هذا القول الذي قاله المسيح «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» انطبع في قلب القديس يوحنا وأخذ الآولوية على كل ما عداه من الأوصاف التي استعلنها المسيح في ذاته.
الثاني: أما الموضع الثاني الذي عزز صورة المسيح في ذهن يوحنا وإيمانه بصفته الكائن الآزلي، فهو قوله المملوء سراً وجلالاً ورهبة: «إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ» (يو 24:8)
هنا نرجو القارىء الرجوع لشرح سر التسمية “أَنَا هُوَ” في كتاب “المدخل لشرح إنجيل يوحنا” ص 218-246 ويكفي هنا أن نقول أن هذا هو نفسه اسم الله الشخصي الذي قاله لموسى في مستهل سفر الخروج 13:3-14:
“فَقَالَ مُوسَى لِلَّهِ: «هَا أَنَا آتِي إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَقُولُ لَهُمْ: إِلَهُ آبَائِكُمْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. فَإِذَا قَالُوا لِي: مَا اسْمُهُ؟ فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟». فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: «أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ». وَقَالَ: «هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ».
وهذا الاسم صار توضيحه في هامش الكتاب المقدس هكذا: “أكون الذى أكون” وترجتها بالإنجليزية I am the being وتفهم بالعربية «أنا الكائن بذاتي» = هذا هو اسم الله.
ويلاحظ في هذا الشرط الخطير الذي قدمه المسيح لليهود لكي تغفر خطاياهم أنه يتحتم أن يؤمنوا بأنه يقدم لهم في منظوره الشخصي الله غير المنظور ذا الجلال والعظمة، وأن وجوده المنظور أمامهم يجمع كل الكيان اللامحدود والمحدود، المنظور وغير المنظور، وإلا فإنهم يموتون في خطاياهم. لماذا؟ لأنه هو الذي سيحمل كفارة خطاياهم, ولأنه هو هو “الله ظهر فى الجسد”(1تى 16:3)
وفي رد المسيح التالي على اليهود يتضح أكثر تأكيد المسيح على استعلان شخصيته الأزلية: فَقَالُوا لَهُ: «مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ». (يو 25:8 ). ويشرحها القديس أغسطينوس باختصار هكذا: “صدقونى أنني أنا البداية لأني قلت لكم هذا”.
كما يلاحظ أنه قبل أن يستعلن المسيح وجوده الأزلي بقوله “أنا هو” = “أنا الكائن بذاتي” فى الآية 24:8 قدم لهذا القول بالأية: قَالَ لَهُمْ: « أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. (يو 23:8). هذا كله يعزز استعلانه لذاته أنه كائن بذاته منذ البدء.
لقد انطبع هذا الاستعلان أيضأ في ذهن القديس يوحنا وأدرك بيقين أن شخصية المسيح تحمل الكيان الإلهي الأزلى، وأنه يحمل اسم ذات الله بكل جلاله وأنه منذ البدء وبلا بداية. لذلك استهل القديس يوحنا إنجيله بقوله: «في البدء كان الكلمة» . وكان هذا حصيلة معرفته اليقينية بالمسيح عن قرب، إذ لم يكن عن إملاء من الروح نفسه.
«كان الكلمة»:
لماذا لم يكتب القديس يوحنا «كلمة الله» كما هي معروفة في جميع الأسفار القديمة؟
يلاحظ القارئ أن القديس يوحنا يقدم المسيح قبل التجسد، وقبل إبراهيم: “أنا كائن”، ويقدمه قبل “كل شيء به كان” أي قبل الخليقة جميعها في الأرض وفي السموات، أي قبل الزمن: “في البدء”, الأزلى. قبل التاريخ، قبل الفهم والإدراك عموماً, وذلك لأنه لم يكن بعد للكلمة إرسالية خارج الله، فهو يصفه في كيانه أو كينونته في الذات الإلهية وحسب. ولأنه, أي “الكلمة” لم يبدأ في استعلان الله أو يخبر عن الله أو عما عند الله، إذ لم تكن توجد خليقة ما تسمع أو تفهم. لذلك فلا يجوز أن يوصف بأنه الكلمة المرسلة أو كلمة الله الخارجة لتعمل لحساب الله. بل كان «الكلمة» مكتفياً بالوجود المطلق في الله.
وبمجرد أن بدأ الخلق، بدأ عمل الكلمة في العالم المخلوق يشهد لإرادة الله بالقوة التي فيه، وهذا يصفه القديس يوحنا بـ “النور”. بدأ الكلمة عمله في العالم المخلوق كنور وحياة, وهذا هو الاستعلان الثاني «للكلمة».
+ وجاءت خلقة الإنسان على صورة الله، فهيمأ وناطقاً وسامعاً، وهنا بدأ عمل “الكلمة” في الإنسان (العهد القديم بكل أسفار) باعتباره “كلمة الله” المرسلة المسموعة والمفهومة, وهذا هو الاستعلان الثالث «للكلمة».
+ وقد جاء كلمة الله إلى خاصته، أي شعب إسرائيل، متكلماً في الأنبياء، فلما لم يقبلوه “تجسد الكلمة” – وهذا هو الاستعلان الرابع للكلمة- وذلك ليعلن ويخبر عن الله جهاراً وعلانية دون وسيط, لا كلمة الله المجردة المرسلة المسموعة والمفهومة فقط أي قوة غير مشخصة – ولكن الله الكلمة الشخص المسموع والمنظور والملموس أيضاً. “الَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ”االذي راني فقد رأى الآب” (يو 9:14)
لذلك حينما قال القديس يوحنا «في البدء كان الكلمة»، فهو يقول عن شخص «الكلمة» اللوغس في ذاته وفي البدء، وليس في عمله بعد!, معُرفال با “ال” ولكن ليس معرفاً بعمل.
«والكلمة كان عند الله»:
كلمة «عند» كما يرى العلماء في اللغة وشراح الكتاب المقدس, لا تفيد مجرد الوجود معأ كإثنين يعيشان في شركة، ولا حتى تعني اتحاداً بالمفهوم العام, أو وجوداً مكانيأ بأية علاقة كانت. ولكن هي تفيد علاقة متصلة، يشرحها المسيح نفسه في موضح آخر بعد التجسد بقوله: «الحق الحق أقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظرا الآب يعمل. لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك.» (يو 19:5)
وهذا يفيد في نظر العالم Westcott أن الوجود الشخصي لكلمة كان يتحقق في اتصال فعال دائم وشركة كاملة`مع الله، وهذه هي حقيقة “الكلمة” عند الله قبل أن يبدأ يستعلن الله.
وقد ورد هذا الاصطلاح: «عند» في موضع مماثل يعتبر بحد ذاته أقدم وأوضح شرح لمعنى «والكلمة كان عند الله»، وذلك في الأية التي كتبها القديس يوحنا في رسالته الاولى عن الحياة الأبدية التي “كانت عند الآب” و”أُظهرت”. وها يتضح أن الحياة الآبدية التي كانت عند الآب كانت تحقق ذاتها في علائق الاتصال الداخلي بالله. وهذا هو بعينه الذي يعنيه الروح بقول الإنجيل: “والكلمة كان عند الله”.
ويقول العالم شناكنبرج: “إن “عند” لا تفيد هنا الحركة تجاه هدف ما بل إنها تأتي مُعادلة وبالتبادل أحياناً مع ( ) كما قالها المسيح في صلاته: «والأن مجدني أنت أيها الأب عند ذاتك ( ) بالمجد الذي كان لى عندك ( ) قبل كون العالم» (يو 5:17)
ويقول شناكنبرج: (إن هذا المجد الذي كان له عند الآب هو هو اتصاله الوثيق بالله وهو قائم باتصال الحياة الأبدية المعطاة بالحب (يو 24:17). لذلك فإن في هذه المقدمة يتأكد أن كينونة اللوغس, بالأصل, هو وجود فعال بالحب، له مل حياة الله والمجد معه.
ويشرحها القديس يوحنا ذهبي الفم قائلاً: [ إن الكلمة هو وجود شخصي جوهري صادر بدون تألم من الآب نفسه, فهذا كما سبق وأن أشرت هو اصطلاح «الكلمة». وأيضاً قوله «في البدء كان الكلمة» هذا يوضح أزليته. كذلك أيضأ «والكلمة كان عند الله» يكون بذلك قد أعلن لنا أنه معه في الأزلية حتى إذا سمعتم أنه ««في البدء كان الكلمة» لا تخطئون في تصوركم أن حياة الأب عنه (عن الكلمة) بأي مسافة زمنية أو أي امتداد، فيتحدد بذلك خطأ بدء خاص للابن الوحيد، ولذلك أردف يقول: “والكلمة كان عند الله”. ولهذا فهو أزلي كالأب نفسه لأن «الأب» لم يكن أبدأ بدون «الكلمة» بل كان الله مع الله، كل في أقنومه الخاص.]
ومن هذا الشرح لذهبي الفم نفهم أن “عند” تساوي مفهوم “المعية الآزلية”، أي أن الكلمة كان مع الأب في الآزل دون افتراق.
ومن هذه الشروحات على قول القديس يوحنا “والكلمة كان عند الله (الآب)” قيما قبل الخلق وقبل حركة الكلمة في الإعلان عن الله سواء في الخليقة عامة أو في الإنسان؛ نرى أن لا الله ولا الكلمة كان في حاجة إلى خلقة العالم, وانما الخلقة جائت كإرادة حب “هكذا أحب الله العالم” (يو 16:3) لأن كل منهما كان في اكتفا كلي بالآخر، شركة المجد المتصل، وشركة الفهم والإدراك المتبادل، وشركة الحياة المتصلة، وشركة الآزلية الدائمة، جعلت «الله والكلمة» كُلاً واحداً كي المجد، مُدرك كامل كلي الحياة، وهو نفس مستوى الآب والابن كما سنرى, فيما بعد, كون طبيعة الحب المتفجرة والمتبادلة بين الابوة والبنوة جعلت ذات الله المتكاملة كلية الاكتفاء وكلية الحب والكرامة والمجد.
“والكلمة كان عند الله” تعطينا تصوراً أن الكلمة, اللوغس, قبل الخليقة يمثل القوة المدركة لكل مشيئة الله والقائمة الدائمة على أتم استعداد لتنفيذ هذه المشيئة.
أو يمكن أن نرى اللوغس قبل الخليقة أيضأ، القائم الدائم المؤتمن على كل خطط الله الأزلية، وهو على أتم استعداد لإخراجها للوجود عندما يحين ميعادها.
كذلك يمكن, من قول بولس الرسول, أن نرى اللوغس قبل تأسيس العالم وهو قائم عند الله, يحمل صوراً وقوائم بأسماء كل الذين اختارهم الله ليمارس دوره معهم وفيهم بكل وسائل التقديس, ليقفوا أمام الله يوماً ما بلا لوم حسب سخاء محبته: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة.” (أف 3:1-4)
بهذا يتضح أمامنا أنه حتى وقبل خلقة السموات والآرض وقبل كل الدهور, وقبل أذ يًرسل ليعلن مشيئة الله, كان “للكلمة” اللوغس عمل خاص من جهة الخلاص، واهتمام بالمفديين، وتدبير الخطط مع الله لتكميل مسرة حب الله: “حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته لنكون لمدح مجده، نحن الذين قد سبق رجاؤنإ في المسيح” (أف 11:1-12)
وعلى أساس هذه الصلات الجوهرية والوثيقة بين (الكلمة _ اللوغس) والله، والتي هي على مستوى الوحدة الخصبة ذات الفعالية، أصبح “للكلمة” اللوغس, حينها أُرسل بعد ذلك ليعلن الله ومشيئته, أن يقول: “الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر” (يو 18:1). هذه الآية تشرح, على المستوى الشخصي والعاطفي, مركز اللوغس عند الله, فهو وجود ملتحم ودائم ولكن متميز وشخصي.
وكان الكلمة الله:
هنا كلمة “الله” جاءت في الأصل اليوناني غير معرفة بـ ألـ بعكس الجملة الجملة السابقة «والكلمة كان عند الله»، حيث كلمة الله معرفة بـ الـ. ففي الجملة الاولى “والكلمة كان عند الله” نجد أن «الكلمة» مُعرفه بـ الـ و”الله” معرف بـ الـ توضيحاً أن لكل منهما وجوده الشخصي، وحيث «الله» المعرف بـ الـ يحمل معنى الذات الكلية. أما في الجملة الثانية فالقصد من قوله «وكان الكلمة الله» هو تعيين الجوهر اي طبيعة «الكلمة» أنها إلهية، ولا يقصد تعريف الكلمة أنه هو الله من جهة الذات.
وهنا يحذر أن نقرأ “الله” معرفا بـ الـ في “وكان الكلمة الله” وإلا يكون لا فرق بين الكلمة والله، وبالتالي لا فرق بين الآب والابن، وهذه هي بدعة سابليوس الذي قال أنها مجرد أسماء، في حين أن الإيمان المسيحي يقول أن الآقانيم في الله مميزة: فالآب ليس هو الابن ولا الابن هو الآب، وكل أقنوم له اختصاصة الإلهي. كذلك فالله ليس هو الكلمة, ليس هو الله (الكلي).
وها يقابلنا قصور مكشوف في اللغة العربية، فلا توجد كلمة «الله» بدون التعريف بـ الـ .
وقد يتراءى للبعض أنه يمكن أذ يقال «وكان الكلمة إلهاً»، وهذا أيضاً أنحراف لأن الكلمة اللوغس (أو الابن) ليس إلهاً «آخر» أو«ثان» غير الله الواحد، كما أن الله ليس فيه آلهة, بالثنى أوالجمع, فالله إله واحد آب وابن وروح قدس.
والمعنى يكون أن الكلمة اللوغس ليس بمفرده الذات الكلية لله، ولكن الله والكلمة هو “الله”. وكما نقول ان الابن والله الأب الله. يمكن أن نقول «الله الكلمة» أو “الكلمة االله” لتعريف ماهية الكلمة، وذلك بقصد التفريق بين طبيعة الخليقة سواء في السماء أو الأرض أو الإنسان وبين طبيعة «الكلمة» اللوغسى. فالكلمة كان الله ولم يكن العالم أو الخليقة أو الإنسان. لأنه يجدر بنا هنا أن نوجه نظر القارىء أنه في أيام القديس يوحنا كانت هذه الثلاث البدع موجودة. فكان هناك من ينادي بأن “الكلمة اللوغس هو العالم”، ومن يقول أنه “كان رئيس ملائكة”، ومن يقول أنه “كان إنساناً”. وبهذا يتضح جداً المعنى والقصد من قول القديس يوحنا: “وكان الكلمة الله”.
ولينتبه القارىء، لأن طبيعة الله ليست كطبيعة أعلى المخلوقات مهما غلت وسمت هذه المخلوقات، فطبيعة الملائكة والإنسان فيها الفرد والجمع, فيها الملاك وربوات الملائكة، وفيها الإنسان وملايين الناس. أما طبيعة الله فهي طبيعة مطلقة لا تقبل المفرد ولا المثنى ولا الجمع العددي، فهي منزهة عن العددية، طبيعة بسيطة غير مركبة، وهي واحدة لأنها وحيدة لواحد مطلق. والكلمة فيها متحد بالله اتحاداً مطلقأ, فالله والكلمة هو الله الواحد الأحد.
مقارنة بين كلمة الله وكلمة الإنسان.
* “الكلمة” في الإنسان تصور شخصية الإنسان تصويراً جزئياً، وقد تخطئ فتبقى كلمة الإنسان شيئاُ ويبقى الإنسان شيئتً آخر.
أما “كلمة الله” فهي صورة كاملة لله كمالاً مطلقاً، حيث التطابق بين الله وكلمته يفوق حد التساوي في المفهوم البشري, لأن التطابق في المطلق, أي الله, غير المحدود هو أعلى مفهوم للتساوي الذي هو الوحدة عينها، لأنه لا توجد ثنائية قط في المطلقات وبالضرورة في الله.
لذلك فالتطابق بين إرادة الله وفعل كلمته يبغ من التساوي حد التطابق المطلق. فالكلمة يقول ويعمل بحسب مشيئة الله بالتمام والكمال، وهذا نسمعه في وصف المسيح لنفسه باستمرار: «لأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ. وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ وَصِيَّتَهُ هِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ. فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هَكَذَا أَتَكَلَّمُ» (يو 49:12-50). هذا من جهة الكلام» كذلك من جهة العمل: “فَقَالَ يَسُوعُ لَهُمُ: «لاَ يَقْدِرُ الاِبْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الاِبْنُ كَذَلِكَ». هنا تطابق كلي في القول والعمل, ومن هنا الوحدة الطلقة الكلية: «أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الْكلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي لَكِنَّ الآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ.» (يو 10:14)
* وكلمة الإنسان مهما بلغت في تعبيرها عن حالة الإنسان ومداخله، فهي في طبيعتها مجرد ظاهرة أو مظهر مسموع أو مكتوب أومعمول لا يمل طبيعة الإنسان تمثيلاً كلياً؛ ولكن كلمة الله, اللوغس, يحمل طبيعة الله يعبر عن ذاته تعبيراً كلياً مطلقاً، فإذا خرج اللوغس من لدن الله فهو خروج غير زمي وغير محدود، وهو يظل قائماً في الله ويعمل خارج الله، فهويل الحضرة الإلهية بكل طبيعتها وقوتها وجلالها، يعمل اسم الله وسلطانه كذات الله.
وهكذا فكون «كلمة الله» هو أقنوم (شخص) _عند الله وفي الله_ بحد ذاته، فهذا امتياز لطبيعة الله الفائقة عن طبيعتنا. لذلك فالفارق يفوق تصورنا جداً, لأنه ليس له مثيل في طبيعتنا. وهذا أيضاً أحد كمالات الله وخصائصه واتساع قدراته التي تزيد كثيراغً من تصورنا.
* كذلك، إذا كانت كلمة الإنسان كريمة عند نفسه وعزيزة لديه, وهو يطالب بكرامتها وحتمية تنفيذها لأنها تعتبر عن ذاته؛ فكم بالحرى تكون كلمة الله؟
وهذا نسمعه تماماً في تعاليم المسيح عن نفسه, باعتباره «الكلمة» والابن المرسل: «لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الاِبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ. لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي كَذَلِكَ الاِبْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ. لأَنَّ الآبَ لاَ يَدِينُ أَحَداً بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلاِبْنِ. لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الاِبْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الآبَ. مَنْ لاَ يُكْرِمُ الاِبْنَ لاَ يُكْرِمُ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ.» (يو 20:5-23) & «الَّذِي يُؤْمِنُ بِي لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي. والَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي.» (يو 44:12-45) & «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (يو30:10) & «الَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ» (يو 9:14).
والآن، أنظر أيها القارىء، وأعد النظ على ضوء ما قلناه في قول القديس يوحنا: “وكان الكلمة الله”
أما إذا تبادر إلى ذهنك: ولماذا بدأ الإنجيل بـ “الكلمة” ولم يبدأ بوصف “الابن”؟ فالجواب هو أن القديس يوحنا يتتبع المسيح قبل التجسد وقبل الأنبياء وقبل الخليقة ليجعلك تراه في حقيقة شخصه قبل الخلق وهو قائم في الأزلية عند الله, تمهيداً لاستعلان بنوته.
2:1 – هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ الله.
«هذا» هنا تكرار مقصود به «اللوغس» في القول السابق: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ»، ليؤكد أمرين غاية في الأهمية بالنسبة لما هو مزمع أن يقوله عن الكلمة بالنسبة للخلق: الأمر الاول أن الكلمة أزلى, والثاني أن الكلمة هو من جوهر الله وطبيعته, ومؤكداً مرة أخرى أن «هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ» أي قبل أن يكون العالم وكافة المخلوقات.
وتأكيد القديس يوحنا على «عِنْدَ اللَّهِ» لثاني مرة لا يخلو من إشارة ذكية، أن هذه العلاقة القائمة الدائمة بين الكلمة والله هي بحد ذاتها سر من أسرار الخلق.
كما أن التأكيد عل أزلية الكلمة مع الله تقطع بالهوة السحيقة التي تفصل بين “الكلمة” وبين “الخلق المحدث الزمنى”, المخلوق بالكلمة.
وفي التعليق عل قول الإنجيل: «هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ» يشرح القديس يوحنا ذهبي الفم: [لقد أعاد ثاية القول «هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ» أي أزلى تماماً كالآب، لأن الأب لم يكن قط بدون الكلمة، بل كان الكلمة الله مع الله كل بشخصه.].
ونحن نرى أن العودة إلى «الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ» مرة أخرى هي حارس يحرس التعبير من الإنحراف نحو الثنائية بين الكلمة والله.
3:1- كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ.
وَقَدْ جَعَلْتُ أَقْوَالِي فِي فَمِكَ (اللوغس) وَبِظِلِّ يَدِي َستَرْتُكَ لِغَرْسِ السَّمَاوَاتِ
وَتَأْسِيسِ الأَرْضِ وَلِتَقُولَ لِصِهْيَوْنَ: «أَنْتِ شَعْبِي» (أش 16:51).
وهكذا ينحدر القديس يوحنا سريعاً من تحليقه فيما وراء الزمن في الآزلية، ومن الشخوص الفائق في كيان اللوغس عند الله الذي أوقفنا أمامه وفي مواجهته لحظة، لينزل بنا إلى واقعنا المادي إل الخليقة بكافة أشكالها وأنواعها فيما يُرى وما لا يُرى .
ولا يخفى على الدارس للفكر اليهودي القديم أن يلمح في هذه الأية تقابل الوزن العبري بالإيجاب ثم السلب باتصال, ليغوص بنا في أعماق وأطراف العنى، وليجمع بينهما فكر واحد متكامل محبوك لا يأتيه الشك من أي جانب: «كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان»، حيث لا يزال التركيز هنا على الكلمة اللوغس باعتباره العامل الوحيد في الخلق. فكل الخليقة أخذت وجودها وكيانها المرئي وغير المرئي منه», لا توجد خليقة قط يمكن أن تتخذ لها وجوداً بدونه.
وبينما يظل الكلمة أزليا كما هو، أخذت منه الخليقة مبدأها الزمني، وارتبطت به ارتباط الوجود والكيان والحركة والدوام على ستوى الزمن، وظل هو حراً منها لا يحده زمان أو كيان.
* هنا “كل شيء” يفيد كل شيء بمفرداته واحداً واحداً، وليس كل شىء كجمع كلي، وإلا كانت تُكتب ( )، كما جاءت في رسالة بولس الرسول “فإنه فيه خُلق الكل…” (كو16:1). وبالتأكيد فإن “كل شيء” هنا يعود عل تنوع الخلائق من روحية وبشرية ومادية ، ليقطع خط الرجعة على بدع القائلين أن اللوغس هو العالم أو أنه كان ملاكاً أو كان مجرد إنسان.
* “به كان” والآصح بحسب الاصول والمعنى اليوناني «به صار».
والمعنى المقصود هو “به خُلق”، لأن “كان” هنا كما جاءت في اللغة العربية توقعنا في خطأ وارتباك لأنها لم تجيء في اليوناية التي تفيد الكينونة، بل وتعني »«صار» أو “ظهر في الوجود” أو “خًلق”.
وبحسب العالم وستكوت فإن فعل “خلق” يأتي عل ثلاث صور من الأفعال:
الاول: يخلق والثاني: يصنع وذلك بالنسبة للخالق. والثالث: يصير.
1- والفعل الأول يخلق كما جاء في (كو1: 16و17) :”فإنه فيه خُلق الكل ما في السموات وما عل الأرض ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق، الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل”. وهنا يأخذ فعل «خلق» معنى وحقيقة التصميم والتخطيط والقصد من الشيء قبل صنعه في ذهن الخالق .
2- أما الفعل الثاني ««صنع» كما جاء في إنجيل مرقس: «من بدء الخليقة ذكرا وأنثى
خلقهما الله » ( مر٦:١٠)، فهي تفيد النتيجة الفعلية أو الشيء الناتج من الخلق كصنعه. كما هو واضح جدا من قول بولس الرسول: «لأننا نحن عمله (وترجتها بالانجليزية واضحة للغاية workmanship his are we for) مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها…) ( أف 2: 10)
3- أما الفعل الثالث «يصير» الذي نحن بصدده هنا، « كل شيء به (كان) صار»، فهو يفيد القانون الخاص الذي بمقتضاه يتم ظهور الشئ حسب تدبير العناية الالهية.
وأوضح مثل لذلك ما جاء في الفعلين المستخدمين في الاية 1:14: « والكلمة صار جسدا»؛ وفي الآية 17:1: «لأن الناموس بموسى أُعطى أما النعمة والحق فبيسوع المسح صارا»
وهنا تنكشف قوة هذا الفعل كمعبر عن كيفية الاستعلان عن النظام والتدبير الإلهيين وإظهارهما للوجود. بمعنى أنه قبل أن يخلق الله العالم بالكلمة كان هناك تدبير وخطة ونظام وقانون انتهت جميعاً إلى استعلان خطة العالم بوجوده، وانتهت إلى استعلان تجسد الكلمة، ثم انتهت إلى استعلان النعمة والحق في المسيح يسوع، وهذا هو المعنى النوعي والتحديدي لفعل eyéveto.
+ «به» : الحرف اليوناني لا يفيد المعنى باللغة العربية «به»، ولكن معنى آخر أعمق يمكن أن يترجم «بواسطته» التي تأتي بالإنجليزية through him وليس by him.
لهذا فالحرف يعطي معنى أكثر علاقة بين الكلمة اللوغس وبين الخليقة. أي أن كل شيء هو به وفيه بان واحد، وليس به فقط، فالكلمة بعد أن خلق، ظل حافظأ ومقيما وماسكاً ومدبرا للخلق، المسيح عبر عن ذلك بقوله: «بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئا.» ( يو15: 5)
والعلاقة الممتدة بين الخليقة والكلمة تتضح من كلام القديس بولس الرسول:
«فإن فيه خلق الكل
الكل به وله قد حلق
وفيه يقوم الكل (كو1: 16 و17)
أي أن الخليقة بواسطته خُلقت، وفيه هي مخلوقة وقائمة ومتماسكة معا.
هذا يوضحه ق . يوحنا منتهى الإختصار بقوله :
« وبغيره لم يكن شيء مما كان» ، والترجمة الأصح: «وبغيره لم يصر شيء مما صار».
وكلمة « بغيره» تفيد «بعيدا عنه » أي: «بدونه » لا يصير لها وجود وكيان.
وبهذا تكون الخليقة قائمة تحت عاملين:
العامل الاول: الاعتماد الكلي على التوسط الإلهي بواسطلة الكلمة.
العامل الثاني: الحضرة الإلهية الدائمة التي تقيم وتحفظ كيانها.
فالخليقة أولاً صارت إلى الوجود بواسطة الكلمة، ثم أخذت وتأخذ قيامها وتماسكها ودوامها معاً بالكلمة أيضاً.
هذا الأمر توضحه الرسالة إل العبرانيين عندما يقول:” الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ. الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ”(عب 2:1-3)؛ حيث «بة»» توضح سر بقاء ودوام الخليقة كونها محمولة بقوة الكلمة . فهنا سر الخلق، وسرقيام الخلق، وسر دوام الخلق.
ويزيد القديس بولس الرسول هذا الوضع الأخير وضوحاً بقوله: «لأننا به نحيا, ونتحرك, ونوجد» (أع 28:17)
نفهم من هذا صحة قول بولس الرسول أن الله موجود وظاهر في الخليقة بصورة تجعل تجاهله دينونة على الإنسان _ أي إنسان في العالم _ “إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ. لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ”.(رو 19:1-20)
ثم وجود الخليقة في مجال العمل الإلهي بل والوجود الإلهي أيضأ، الذي منه تأخذ كيانها ووجودها وحياتها وحركتها وكل تدبيرها الذي تحكمه مئات بل ألوف بل ملايين الملايين من القوانين والقياسات والضوابط والصفات الموروثة والمكتسبة والموهوبة، التي بلغ الإنسان إلى معرفتها والتي لم يبلغ إليها بعد والتي لن يبلغ إليها في هذا الدهر قط، والتي تتحكم في سير الكون بل الأكوان بسمائه ومجراته والأرض وما عليها من جوامد وأحياء نباتية وحيوانية والإنسان، ناهيك عن السماء الروحانية بكل أجنادها، هذه كلها لولا الضبط الإلهي الذي بالكلمة ما صارت وما سارت.
أما السؤال التقليدي الذي أثاره الإنسان في كل عصوره وعلى كل مستوياته الخلقية والدينية: هل العالم مُحدث أم أزلى؟
فيرد القديس أوغسطينوس على هذا بقوله أنه محدث بالنسبة لواقعه الظاهري، ولكنه كان موجوداً عند الله كخطة ونظام قبل أن يكون ويظهرفي الوجود.
والقديس يوحنا باختياره فعل “صار” لتوضيح خلقة الله لكل أشياء العالم واحدة واحدة بواسطة الكلمة، يقطع خط الرجعة على نظرية أفلاطون بأزلية العالم، كما يقطع خط الرجعة على نظرية كل من الغنوسيين وفيلو اليهودي بثنائية خلقة العالم بين شر وخير، وأيضا ينتفي أن يكون لغير الكلمة اللوغس أي وساطة أخرى في الخلق, خاصة بتشديده على استحالة الخلقة بدون «الكلمة» باستخدامه النفي للتأكيد «وبغيره لم يكن شيء مما كان».
كما ولينتبه القارىء كيف بدأ القديس يوحنا بوضع الأساس في حقيقة الخلق والخليقة بقوله: “والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله”. حتى إذا جاء إلى الخلق وقال أن ««به»» _أي بواسطة الكلمة_ خلق الله العالم، لا يكون أمام القارىء أي فرصة ليظن أن الكلمة أقل من الله الخالق حينما يكون عمل «الكلمة» هو توسطي فقط أي «بواسطة» الكلمة. لأن المعنى في كُليته يكون بالنهاية: بواسطة الله خلق الله العالم.
والقديس ذهبي الفم يرى أن ذكر القديس يوحنا لخلقة العالم هنا, لا يركز بالدرجة الاولى على عمل الكلمة كما يركز على وحدة العمل الخلقي مع الله إمعاناً في إظهار لاهوته وتفوقه فوق كل الخلائق.
كما تنبري جملة النفي: «وبغيره لم يكن شيء مما كان»، لتؤكد أن ««توسط» الكلمة في الخلق أساسي بالدرجة الاولى، إذ بدونه يستحيل الخلق أو دوام الخليقة.
والقديس بولس الرسول يرى بالروح وبالرؤية السماوية الفائقة علاقة المسيح بالخليقة الاولى، ما رآه القديس يوحنا بصورة محققة وكاملة، فلا يكتفي بأن يجعل عمل المسيح « الكلمة» توسطياً بمفهوم مستوى المساعدة الآلية لله، بل يرفع رؤيتنا لنرى الخليقة كلها حتى الروحانية كلها قائمة فيه تتخذ منه وجودها وحركتها وبقاءها ودوامها: «فإنه فيه خُيق الكل ما في السموات وما على الأ رض, ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين، الكل “به” وقد خلق» الذي هو قبل كل شيء “وفيه” يقوم الكل.» (كو 16:1-17)
وليلاحظ القارىء هذه الحروف الئلاثة: “فيه وبه وله” التي تحكم العلاقة بين الخليقة والخالق.
وسفر الرؤيا يعطينا صورة إضافية حية مبدعة تنطق بمستوى خضوع كافة الخليقة الروحانية بالنسبة للمسيح الخالق لها، فكافة الأجناد السماوية تتبعه: «والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بزا أبيض ونقياً.» (رؤ 14:19).
وهنا يجدر بنا أن نتأمل في هذه الخليقة كلها المتعددة الممالك: سمائية بجندها الروحاني وبنجومها وأقمارها وأفلاكها ومجراتها التي يتوه فيها عقل الإنسان، والأ رض بجمادها ونباتها وحيوانها وإنسانها، كيف يتبناها الله جيعاً كأب ويدبرها الكلمة كراع أعظم ما فيها, والأعظم في الخليقة فوق حدود تصور الإنسان, كأقل ما فيها، حتى العصفور له موضع في قلب الله ومكانة وعناية: «هكذا أحب الله العالم ……» (يو 16:3)
ثم اسمع ما يقوله المسيح كخبيرفي شئون خلقته: «أليس عصفوران يباعان بفلس وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدولأ أبيكم؟ وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جيعها محصاة. فلا تخافوا، أنتم أفضل من عصافير كثيرة» (مت 29:10-31). ويزيد على هذا القول نفسه القديس لوقا في إنجيله من جهة هذه العصافير أيضأ ويقول: «واحد منها ليس منسيا أمام الله» (لو 6:12).
أما من جهة الإنسان الذي خلقه على صورته كشبهه, فتقول الحكمة (الكلمة _ اللوغس): «لمَّا وَضَعَ لِلْبَحْرِ حَدَّهُ فَلاَ تَتَعَدَّى الْمِيَاهُ تُخْمَهُ لَمَّا رَسَمَ أُسُسَ الأَرْضِ. كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعاً وَكُنْتُ كُلَّ يَوْمٍ لَذَّتَهُ فَرِحَةً دَائِماً قُدَّامَهُ. فَرِحَةً فِي مَسْكُونَةِ أَرْضِهِ وَلَذَّاتِي مَعَ بَنِي آدَمَ.» (أم 29:8-31)
4:1 – فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاس
تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ وَتَسْمَعُ لِصَوْتِهِ وَتَلْتَصِقُ بِهِ، لأَنَّهُ هُوَ حَيَاتُكَ… (تث 20:30)
لأَنَّ عِنْدَكَ يَنْبُوعَ الْحَيَاةِ. بِنُورِكَ نَرَى نُوراً. (مز 9:36)
هنا يكشف القديس يوحنا عمقاً إلهياً فى أعماق «الكلمة». فالكلمة في الحياة أصلاً وأساماً كإحدى خصائص الجوهر الإلهي الآزلى.
وقد كشف المسيح سرها هكذا: « لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ (حياة ذاتية)، كَذَلِكَ أَعْطَى الاِبْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ (أي حياة ذاتية غير مكتسبة)» (يو 26:5).
وجوهر الحياة في الكلمة ليس كالحياة التي نعيشها ونعرفها، بل هي الحياة الأبدية التي من أخص خصائصها أنها تُحيي» أي لها القدرة على خلق الحياة التي نعرفها ونعيش لوناً من ألوانها في عمرنا الزمني على الأرض، والتي عرفها المسيح بقوله: “لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ كَذَلِكَ أَعْطَى الاِبْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ.” (يو 21:5)
وحينما يقول القديس يوحنا أن «فيه كانت الحياة» فإنه يشرح بدقة وبصورة مباشرة ما جاء في الأية التى قبلها: “”كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ” (يو 3:1). إذن، سر قوة الخلق لدى اللوغس الكلمة متمركز بصورة أساسية في امتلاك الكلمة لجوهر الحياة امتلاكاً ذاتياً.
وعلى القارىء أذ يلاحظ أنه لم يقل: «فيه “حياة” أي “حي” وحسب، بل «فيه الحياة» كينبوع: “أَنَا هُوَ الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ. أَنَا أُعْطِي الْعَطْشَانَ مِنْ يَنْبُوعِ مَاءِ الْحَيَاةِ مَجَّاناً. ” (رؤ 6:21)
وحينما يقول القديس يوحنا أن «فيه كانت الحياة» بعد قوله : «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ» ، فهو يشير ضمنأ إلى علة الارتباط الجوهري بين الخليقة والكلمة، بصورة دائمة، وأيضاً ارتباط الكلمة بالخليقة كمصدر الحياة فيها ولها وبصورة دائمة أيضاً، فهو قوام حياتها: «لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ. كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضاً: لأَنَّنَا أَيْضاً ذُرِّيَّتُهُ.» (أع 28:17).
وللأسف الشديد فنحن لا ندرك الآن من هذه الحياة إلآ صورها الظاهرة المربوطة بالزمن، أما جوهرها غير المنظور وغير الزمني الذي هو لها الامتداد الأسمى، والأكثر بهاء وجمالاً، الذي لا يشوبه حزن ولا كآبة ولا تنهد، والروحاني الصرف؛ فهو، وان كنا نعيشه بالايمان، إلآ أنه محجوز عن فكرنا كما هو محجوز عن أعيننا، بانتظار استعلانه في الآبدية.
ولكن ما يقصده القديس يوحنا من قوله: “فيه كانت االحياة”، ليس هو الحياة التي هي قوام المخلوقات، لأن «حياة» المخلوقات هي الحياة المخلوقة، أما الحياة في الكلمة فهي “الحياة الخالقة” أي جوهر الحياة الفعال والتي نعرفها بـ «الحياة الآبدية»: «فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا.» (1يو 2:1)
الرب نوري وخلاصي. (تث 20:30)
قد جعلتك نوراً للأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض. (مز 6:49)
بنفس تدرج مراحل الخلق في سفر التكوين يضع القديس يوحنا الإنسان كختام لكل الخليقة. وفي الحال يربط خلقة الإنسان بالحياة الأبدية، الأساس الذي خلق عليه الإنسان إذ خلقه الله على صورته، وبالتالي ليبقى معه ويحيا أمامه إلى الأبد ، وذلك بقوله: “وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ”. فالحياة الطبيعية الزمنية التي كانت لكل الخليقة والتي أخذ منها الإنسان نصيبه، أضاف الله عليها نصيباً مختاراً عن فائق الخلائق، بأن وهبه نور الحياة الأبدية الذي به يدرك الله ويستمع إليه ويتكلم معه.
ولكن هنا في الأية: «والحياة كانت نور الناس»، يختزل القديس يوحنا مرحلة الحياة الأرضية كلها ولا يستبقي من عطية الله في الخلق بالنسبة للانسان إلا نور معرفته: الأمر الذي هو رسالة الكلمة اللوغس بالدرجة الاولى، بل ورسالة إنجيل يوحنا برمته: «وَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلَهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (يو3:17)
وإنجيل يوحنا هنا تزدحم فيه الأسرار. فالإنسان المدلل الذي خُلق في جنة عدن تحت ظلال شجرة الحياة التي كان مزمعاُ أن يأكل منها ويحيا إلى الآبد، لكنه حرم نفسه منها بإرادته، مع أنها غُرست له وهو خُلق لها؛ وهو الذي كانت تفطيه سحابة الحياة النيرة، تُضيء فكره وروحه فيرى الله ويتحدث إليه، ولكنه أخطأ وغطى نفسه حتى لا يراه الله ولا يرى هو الل؛؟ ولكن الله عاد فتذكر وعده وتذكر حبه, فأرسل “الكلمة” في ملء الزمان، لا كشجرة حياة بل «خبز الحياة», فأكل الانسان منه وارتدت روح الله فيه وعاش إلى الأبد؟ وانفتحت عيناه وعاين “انورالحياة” وعرف الحياة الأبدية.
وهكذا يشير القديس يوحنا في هذه الأية: «فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ» إشارة قديرة بليغة إلى الأصول الاولى من جهة السر الذي كان مخفياً في كلمة الله عند الخلق من جهة نصيب الانسان حسب مسرة قصد الله أن يحيا بحياة الله ويستير بنوره: «فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ»، الأمر الذي تحقق في المسيح، وحققه المسيح جهاراً: «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ» (يو 6:14)، «أَنَا نُورُ الْعَالَمِ» (يو 5:9)
فالقديس يوحنا يكشف لنا في مقدمة إنجيله عن عطيتي الحياة والنور اللتين كانتا مختفتين في اللوغس منذ الآزل، واللتين كشفهما لنا المسيح وحققهما وسكبهما علينا سكبياً على مستوى المنظور والزمن، أو ربما على الوجه الأصح أن ما سكبه المسيح من ملئه علينا في أواخر الآيام من الحياة والنور، هما في الحقيقة من مذخرات الآزل، من مل ء لاهوت “الكلمة”، حتى ندرك عظم النصيب الإلهي الذي صار لنا، وجلال وهيبة المسيح الذي جاءنا من عند الآب.
علاقة الحياة بالنور في هذه الآية:
تتكرر كلمة “الحياة” في إنجيل يوحنا أكثرمن ثلاثين مرة، وجميعها يتجه معناه نحو الحياة الآبدية على أساس مفهوم الخلاص. ولكن القديس يوحنا حتى ورود هذه الآية 4:1 لم يكن قد بلغ نقطة التجسد بعد، فالحياة التي كانت في “الكلمة”: “فيه كانت الحياة”، لا ينصب معناها في هذه الآية نحو الخلاص كما يتسرع بعض الشراح في شرحهم. ولكنها هي الحياة التي تكلم عنها القديس يوحنا في رسالته الاولى: الحياة الأبدية التي كانت عند الآب” و(ثم) “أظهرت لنا”. أما قوله: “والحياة كانت نور الناس” فهنا أول فعل الامتداد للحياة الآبدية التي كانت عند الآب وفي اللوغس الكلمة لتواجه الإنسان وليتواجه بها الإنسان فيما قبل التجسد.
ثم إن الحياة الأبدية في حقيقتها هي «حياة الله» ولا يقترب منها الإنسان، ولا هي تقترب إليه, إلا بالاستعلان, بمعنى أن الكشف يكون عن طربق الاستنارة بالروح وليس برؤيا العين. ومن خصائص طبيعة الحياة الآبدية «النور»الإلهي، فالله طبيعته “النور”, “الله نور” (1يو 5:1)، “ساكناً في نور لا يدنى منه، الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه” (اتى 16:6)
وها كشف لنوعين من النور: الأول جوهري وهو طبيعة الله، والثاني مخلوق: “ساكناً في نور لا يُدنى منه”، وهو الطاقة الاولى والعظمى التي انحدرت منها كل الطاقات والمجالات والمادة المخلوقة.
فرؤية النور الإلهي أو الدخول في مجاله لا يكون قط من خلال الطبيعة الجسدية للانسان بل من خلال الروح, حينما تنشط من الداخل, أو حينما تقتحمها القوة الإلهية المنيرة من الخارج. وفي كلا الحالين يكون الجسد بكل ملكاته في حالة توقف مؤقت لاستقبال المعرفة. وفي هذا الوقت يرى الإنسان النور الإلهي رؤيا الروح، ويدركه بإدراك العقل الروحي، وحينئذ يختفي نور النهار ويضمحل نور الشمس, لأن نور الطبيعة الإلهية أعلى مجالاً وأسمى نوعأ بدرجة لا تقاس.
«وَحَدَثَ لِي بَعْدَ مَا رَجَعْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَكُنْتُ أُصَلِّي فِي الْهَيْكَلِ أَنِّي حَصَلْتُ فِي غَيْبَةٍ. فَرَأَيْتُهُ (أع 17:22)
فَحَدَثَ لِي وَأَنَا ذَاهِبٌ وَمُتَقَرِّبٌ إِلَى دِمَشْقَ أَنَّهُ نَحْوَ نِصْفِ النَّهَارِ بَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلِي مِنَ السَّمَاءِ نُورٌ عَظِيمٌ. فَسَقَطْتُ عَلَى الأَرْضِ …… ” (أع 6:22-7)
“رَأَيْتُ فِي نِصْفِ النَّهَارِ فِي الطَّرِيقِ أَيُّهَا الْمَلِكُ نُوراً مِنَ السَّمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ لَمَعَانِ الشَّمْسِ قَدْ أَبْرَقَ حَوْلِي وَحَوْلَ الذَّاهِبِينَ مَعِي.” (أع 13:26)
ويلاحظ القارىء أن ظهورالنور الإلهي الطاغي لشاول لم يكن عن استحقاق أويدخل بأي حال من الأحوال في مضمون استعداد طبيعة شاول، لا بالصلاة ولا بالإيمان بالمسيح ولا بالحب ولا بالتصوف ولا على أي أساس بشري، بل هو اقتحام للطبيعة الجسدية من جهة واحدة بمقتضى تدبير الله.
وليكن معلومأ أن رؤية بولس لهذا النور الإلهي، ومعه الصوت الإلهي يعرف نفسه له أنه هو يسوع، هذه الرؤية بحد ذاتها أدخلت بولس الرسول في مجال معرفة المسيح والاتصال به والتعلم منه كل سني حياته. فمن خلال هذا النور الكاشف والمضىء للذهن الروحي تعلم بولس وعلم إنجيل الحياة الآبدية والخلاص:
وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. فَإِنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِسِيرَتِي قَبْلاً فِي الدِّيَانَةِ الْيَهُودِيَّةِ، أَنِّي كُنْتُ أَضْطَهِدُ كَنِيسَةَ اللهِ بِإِفْرَاطٍ وَأُتْلِفُهَا. (غل 11:1-13)
ثم لاحظ أيها القارىء العزيز أن الحياة الأبدية التي دخل إليها بولس الرسول ظهرت له “كنور” بالنسبة للوعي الروحي, وأنشأت فيه وفي الحال استنارة فائقة لإدراك سر المسيح وسر الخلاص وسر لاهوت المسيح بكل أعماقه.
ثم لاحظ أن بولس الرسول اكتشف أن هذا النور، وهذه الحياة التي اندفقت فيع، هي بفعل وحضور يسوع المسيح المتكلم بنفسه من السماء: «من أنت يا سيد؟»، «أنا يسوع الذي أنت تضطهده» (أع 5:9 )
ومثل آخر يوضح معنى النور وعمله, وذلك في شهادة بطرس الرسول المفاجئة للمسيح: «فأجابه سمعان بطرس يا رب إلى من نذهب، كلام الحياة الأبدية عندك، ونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي» (يو 68:9-69). وكان تعليق المسيح على قول القديس بطرس هذا كما جاء في إنجيل القديس متى: “فأجابه يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا, إن لحماً ودما لم يعلن لك, لكن أبي الذي في السموات” (مت 17:16). معنى هذا أن بطرس نال استنارة ذهنية ونور الله أضاء فكره وروحه ليتقبل استعلاناً مباشراً عن المسيح من الله، هذا هو النور الذي يتقبله الإنسان عندما يدخل من عتبة الحياة الأ بدية.
والإنجيل بعد ذلك يشرح بقوة وبإفصاح مدهش عن هذه الحقيقة: «أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة” (يو 12:8)
فإذا سرنا في النور فنحن نكون في عمق الحياة مع الله ومعرفته.
وقد ارتبط النور بالمحبة في إنجيل يوحنا، وهذا ليس عجيباً. فالله محبة، والله نور أيضاً، وهكذا ارتبط النور بالصلاح وارتبطت الظلمة بالأعمال الشريرة وبالدينونة، قى آن واحد: «وهذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة.” (يو 19:3)
وهذا يعني أن غياب النور عن الإنسان يكون باختياره، لأنه يرفض الحياة في النور أي في الحق والمحبة والقداسة. وغياب النور عن الإنسان معناه غياب الله، حيث يختفي الهدف الحقيقي للحياة، بل وتفقد الحياة قيمتها العليا ومعناها، فلا يعود الإنسان يرى نفسه ولا يعود يعرف لماذا يعيش.
5:1- وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ
هنا يضع القديس يوحنا، ولأول مرة «النور» في مقابل «الظلمة», الوجود في مقابل العدم.
أما النور فقد عرفه بعد ذلك أنه «النور الحقيقي» وهكذا يتضح أنه طبيعة الله. لأن هناك فرقاً هائلاً بين النور المخلوق الذي هو قوة وطاقة وبين النور الخالق الذي هو حياة.
فإن كنا في الأية السابقة قد وجدنا الحياة الآبدية, التي في الكلمة, وقد دخلت في علاقة مباشرة مع الإنسان بعد الخليقة «كل شيء به كان»، وهذه الحياة كانت هي مصدر النور للناس: «والحياة كانت نور الناس»؛ فهنا في هذه الأية: «النور يُضيء في الظلمة» يزيد المعنى السابق إيضاحاً من جهة مبادرة النور من تلقاء ذاته للقيام بعمله الجوهري أي “الإضاءة”, بمعنى أن الكلمة لم يُلق على الإنسان كل مهمة التعرف على النور أو الوصول إليه. فالنور الإلهي يضيء من ذاته ومن سخاء طبيعته الالهية, كما يصفه إشعياء النبي: «وَيَكُونُ نُورُ الْقَمَرِ كَنُورِ الشَّمْسِ وَنُورُ الشَّمْسِ يَكُونُ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ كَنُورِ سَبْعَةِ أَيَّامٍ فِي يَوْمٍ يَجْبُرُ الرَّبُّ كَسْرَ شَعْبِهِ وَيَشْفِي رَضَّ ضَرْبِهِ» (إش 26:30), وهو ما يصفه بولس الرسول في اختباره العجيب: رَأَيْتُ فِي نِصْفِ النَّهَارِ فِي الطَّرِيقِ أَيُّهَا الْمَلِكُ نُوراً مِنَ السَّمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ لَمَعَانِ الشَّمْسِ قَدْ أَبْرَقَ حَوْلِي وَحَوْلَ الذَّاهِبِينَ مَعِي. (أع 13:26).
وهنا نلتقط الفكرة المبدئية في علاقة النور بالخليقة، فحقيقة «النور يضيء في الظلمة» في معناها الخصب تفيد نصرة الخلق على العدم، كما تفيد نصرة الحق على الباطل، أو معرفة الله على الجهالة، وبالنهاية وعلى الواقع الملموس تجسد الكلمة ذاته فيما بعد. لأن هذا هو بالفعل دخول النور إلى العالم المظلم: “وهذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم…” (يو 19:3). وبدخول النور إلى ظلمة العالم انقسم عالم الإنسان إلى إنسان النور وإنسان الظلمة, وان كان إنسان الظلمة يعيث فساداً وتخريباً، ولكن لن يتغلب غير الموجود على الموجود. فإنسان النور اكتسب وجوداً أزلياً، أما الظلمة فتنتهي إلى العدم ولن يبقى إلا النور.
كذلك ففي هذه الأية يكون القديس يوحنا لا يزال منحصراً في الكلمة وعلاقته بالناس,لأن «الإضاءة» هى نور الاستعلان بالنسبة للخليقة ذات الإدراك الروحي عامة, وذلك قبل أن يحصر عمله مع خاصته أى مع شعب أسرائيل. فقوله: “النور يضيء في الظمة” يتجه إلى مطق عمل “الكلمة” في الظلمة بالنسبة للانسان عامة, دون تخصيص حقبة زمنية أو شعبب مميز أو أية ظروف خاصة. فالإشارة هنا إل طبيعة عمل جوهر النور الإلهي في الكلمة تجاه طبيعة الإنسان الروحية كإنسان. وهذه الحقيقة أشار إليها القديس بولس الرسول هكذا: “لأن الأمم الذين ليس عندهم ناموس متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس, فهؤلاءه إذ ليس لهم الناموس, هم ناموس لأنفسهم, الذين يظهرون عمل الناموس مكتوباً فى قلوبهم شاهدأ أيضاً ضميرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة.” (رو 14:2-15)
واضح من كلام القديس بولس أن النور الإلهي لم يحرم الأمم من الحصول على صورة منيرة لقوانين الله الأخلاقية التي تصلح أن تدينهم وتبكت ضمائرهم.
كذلك سبق أن استشهدنا بقول للقديس بولس الرسول عل نفس المستوى باعتبار أن الله أظهر معرفته للناس عامة منذ الدهر: «إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ. لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ. (رو19:1-20)
واضح، إذن، أن النور يضيء في الظلمة بصورة عامة منذ بدء الخلق، لأن هذا عمل يختص بصميم طبيعة الكلمة بالنسبة للناس، باعتبار أن الإنسان مخلوق مُدرك على صورة الله، والله مدرك كامل, فالعلاقة بينه وبين الكلمة علاقة كيانية، حيث يستمد منه الإنسان كيانه وإحساسه بنفسه عامة، وادراكه الروحي خاصة. لذلك تقول الأية: “حتى إنهم بلا عذر”
واضح من كلام القديس بولس أن النور الإلهي لم يحرم الأمم من الحصول على صورة منيرة لقوانين الله الأخلاقية التي تصلح أن تدينهم وتبكت ضمائرهم.
كذلك سبق أن استشهدنا بقول للقديس بولس الرسول عل نفس المستوى باعتبار أن الله أظهر معرفته للناس عامة منذ الدهر: «إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ. لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ. (رو19:1-20)
واضح، إذن، أن النور يضيء في الظلمة بصورة عامة منذ بدء الخلق، لأن هذا عمل يختص بصميم طبيعة الكلمة بالنسبة للناس، باعتبار أن الإنسان مخلوق مُدرك على صورة الله، والله مدرك كامل, فالعلاقة بينه وبين الكلمة علاقة كيانية، حيث يستمد منه الإنسان كيانه وإحساسه بنفسه عامة، وادراكه الروحي خاصة. لذلك تقول الأية: “حتى إنهم بلا عذر”
ما هي الظمة:
عرفنا أن النور الحقيقي هو طبيعة الله و “الكلمة”، ومعلوم أن «الظلمة» بحسب معرفة الإنسان المادية والقياسية هي غياب النور ليس إلا، أي لا توجد ظلمة, ككيان بحد ذاته, ولكن الظمة تصير أحيانا بغياب النور. وهذا المقياس ينطق على المعنى الروحي «للظلمة» بمفهومها الروحي إلى حد كبير. فإذا أخذنا «النور» مأخذاً شخصياً يكون «النور» هو الله من جهة طبيعته. وبالتال تكون «الظلمة» هي الشخص الذي يخلو من طبيعة الله المضيئة والمنيرة (روحياً) خلواً تاماً سواء كان هذا شيطاناً أو إنساناً. وقد عرفنا الإنجيل بكل يقين أن شخص الظمة هو الشيطان. حيث يقدم لنا الإنجيل معرفة الله وكلمته أنه “المحيي” للانسان جسدياً وروحياً، والشيطان أنه “قتال للناس منذ البدء” جسدياً وروحياً، وإن الله وكلمته أمين وصادق في كل ما يقول ويعمل، وأن الشيطان “كذاب وأبو الكذاب” (يو 44:8). ومن ذلك نرى أن الله نور حقاً وأن الشيطان ظلمة بالحقيقة، ويدعوه المسيح «سلطان الظلمة»: “هذه ساعتكم وسلطان الظلمة” (لو 53:22)، وهي ساعة تزور حكم الموت للمسيح.
فإذا عرفنا الظلمة بحد ذاتها خلواً من شخص، أي من جهة طبيعتها وعملها، تكون هي السالبية بكل معانيها وأعمالها:
فإن كان النور الحقيقي أي الله هو “المحبة” وهو “الرحمة” والسلام” و”الحق” و”الأمانة”؛ يكون الظلام أو الظلمة هي اللامحبة وكل ما يتفرع منها، البغض والكراهية والحقد والحسد والنميمة والذم والقتل….. إلخ.
وهي اللارحمة وكل ما يتفرع منها، القسوة والنقمة والتعذيب……إلخ.
وهي اللاسلام وكل ما يتفرع منه، القلق والضيق والاضطراب والتشويش والخوف …..إلخ
وهي اللآحق وكل ما يتفرع منه، الغش والتزوير والتحريف والكذب….إلخ .
وهي اللا أمانة وكل ما يتفرع منها: الخيانة والإختلاس والسرقة…… إلخ .
فهذه كلها أعمال«الظلمة» التي تتخذ وجودها ونشاطها من غياب “النور”
لذلك عندما يقول القديس يوحنا إن: الله نور وليس فيه ظلمة البتة” (1يو5:1), فهذا يعني خلو طبيعته المنيرة الخيرة من كل السالبية خلواً باتاً.
وعندما يقول إن الحياة الأبدية التي في “الكلمة” “فيه كانت الحياة”, وهذه الحياة هي «نور الناس»، فهو يقصد بكل تأكيد أن حياة «الكلمة» في الناس هي مصدر كل الإيجابيات، فهي حضرة نور الله وصفاته داخل النفس البشرية حيث ينمو الحب وتزدهر الرحمة وينشر السلام ويتجذر الحق وتثبت الأمانة. وذلك كله يتم على جهتين:
فمن جهة الخالق وكلمته, فإنه يتعهد صورته التي خلق لتبقى على صورة خالقها، ومن جهة الإنسان تنزع الصورة فيه بحسب طبيعتها لتحاكي أصلها وتتعدل عليه.
هذا كله بدأ منذ الخلق وسار في طريق الزمن، مرة يعلو ومرة ينخفض، من شعب لشعب ومن إنسان لإنسان، والله يعدل طريقته بحسب اعوجاج الانسان أو استقامته، من إعلان لإعلان، ومن تزكية لتزكية، ليبلح قصده من الخلق يوم خلق. إلى أن “أظهرت الحياة الآبدية”, التي في الكلمة, التي كانت عند الأب في صميم جوهرها، وتجسد النور بملء فعله كأخر مرحلة من خطة الله الأزلية، ليأخذ الإنسان صورة خالقه ويدخل معه الحياة في حال التبني.
وقول القديس يوحنا أن “االنور يضىء في الظلمة والظلمة لم تدركه” هو تصوير بديع لحال الإنسان الذي أخفق كثيراً ومراراً في الإمساك بالنور أو التعرف عليه. فأول إخفاق شنيع ومريع كان في انحياز آدم وحواء إلى الظمة وخروجهما من دائرة النور الفعال, ثم على مدى كل الأزمنة القديمة وعلى ستوى الفهماء والحكماء والشعراء والفلاسفة الكبار، أخفق الإنسان أن يمسك بالنور أو يتحول إليه: ” لأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلَهٍ بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ. وَبَيْنَمَا هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ حُكَمَاءُ صَارُوا جُهَلاَءَ. وَأَبْدَلُوا مَجْدَ اللهِ الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى وَ الطُّيُورِ وَ الدَّوَابِّ وَ الزَّحَّافَاتِ.” رو 21:1-23)
بل ويمعن بولس الرسول في إظهار مدى تسرب النور الإلهي والحكمة الإلهية إلى حكماء العالم قديماً، وخاصة حكماء أثينا، وبالرغم من امتلاكهم “حكمة الله” فإنهم لم يخضعوا لنورها، وبالتال لم يدركوا الله بالحكمة لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة, استحسن الله أن يخص المؤمنبن بجهالة الكرازة (الصليب). (1كو 21:1)
وهذا ما يقصده القديس يوحنا في تصويره لمرحلة عمل «الكلمة» في العالم والناس فيما قبل ظهوره في العهد القديم على ألسنة الأنبياء، كـ «كلمة الله» وكنور, عندما اختار له أخصاء من شعب اختاره لنفسه للاعلان عن الله وعن قرب.
الظمة تتعقب النور:
يقول القديس يوحنا أن “النور يضىء” وهذا بحكم طبيعته الإلهية الخيرة، وهو يضىء على الجميع بلا استثناء كما يقول الإنجيل: “يشرق شمسه على الأشرار والصالحين” (مت45:5). ولكن لكي يبين الله عظم صلاحه فإنه يركز عمل نوره عل الظمة والجالسين في الظمة.
ولقد تحدد منذ الدهر بفم أنبياء كثيرين أن المسيح سيكون “نوراً للأمم” بقدر ما سيكون «مجداً لشعبك إسرائيل» (لو32:2). لذلك أصبح من طبيعة النور الخلاصية أنه يعقب الظمة منذ الآزل: «للرب حرب مع عماليق من دور إلى دور» (خر 16:17). وهو يفتش عن الذين له في مسالك الأرض كلها: “الشعب السالك في الظمة أبصر نوراً عظميماً. الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور.” (إش 2:9)
وتعقب النور للظلمة أنشأ بالتالي ترصداً وتعقباً مضاداً من جهة الظلمة تجاه النور، وذلك بحسب قانون الأفعال والحركات، مادية كانت أو روحية، القائل بأن لكل فعل رد فعل، بمقتض تدبير الله تجاه إبليس المدعو أيضاً «سلطان الظمة»، حينها قال الله للحية التي كانت تنطق بفم إبليس: «وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق (يرصد) رأسك وأنت تسحقين (ترصدين) عقبه.» (تك 15:3)
وقول القديس يوحنا أن «الظلمة لم تدركه» هو وصف دقيق للعجز الذي ظهر به الشيطان في صراعه ضد مصدر النور بطول الزمن وعل مدى الحياة.
فقد لخص سفر الرؤيا معركة المسيح مع إبليس والعالم هكذا: ” فَنَظَرْتُ، وَإِذَا فَرَسٌ أَبْيَضُ، وَالْجَالِسُ عَلَيْهِ مَعَهُ قَوْسٌ، وَقَدْ أُعْطِيَ إِكْلِيلاً، وَخَرَجَ غَالِباً وَلِكَيْ يَغْلِبَ” (رؤ 2:6)
وهنا غلبة النور على الظلمة تأتي على مرحلتين: الاولى في الفعل الماضي “َخَرَجَ غَالِباً” والثانية لأفعال قادمة « وَلِكَيْ يَغْلِبَ» .
وحرب الظلمة، من اسمها تعرف أنها حرب خداع وتزييف، لها صورة الحرب وهي ليست حرباً، ولها صورة الحق وهي الكذب بعينه.
بدأها الشيطان بحديث الحية مع الإنسان وهو في صورة الأضعف «حواء»: «أحقأ قال الله لا تأكلا من “كل” شجر الجنة» (تك 1:3). هذا أول تزييف للحق، فالله لم يقل هذا ولكن هذا مدخل التشكيك.
ثم يبني الشيطان على التشكيك فكرة لها صورة الصدق، وهي الكذب المسموم, والتجربة التي صدقها الإنسان فمات بالفعل: «فقالت المرأة للحية من ثمر شجر الجنة نأكل, وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا. فقالت الحية للمرأة لن تموتا…» (تك 2:3-4). فأكل الإنسان ومات. هذه الحرب, حرب الغواية والغش والخدع قائمة بحسب بولس الرسول كما هي حتى اليوم: «ولكني أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تُفسد أذهانكم عن البساطة التي في المسيح.» (2كو 3:11).
ولكن أقوى مواجهة تمت بين النور والظمة على مدى تاريخ الإنسان وعمره كانت مع المسيح: «لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء» (يو 30:14), «من منكم يبكتني على خطية.» (يو46:8 )
ولكن الشيطان في استخدام سلطان الظلمة أكثر من حدوده ووثق في أدوات القتل التى يملكها من شهود زور، ورؤساء يبخرون للكذب وحرفية الناموس القاتلة وحناجر الشعب ألجاهل وقاض جبان. وهكذا، فإنه وعلى الصليب رأى بولس الرسول كيف تم القبض على رؤساء الظلمة وكيف فُضحوا وشٌهر بهم: « إِذْ مَحَا الصَّكَّ الَّذِي عَلَيْنَا فِي الْفَرَائِضِ، الَّذِي كَانَ ضِدّاً لَنَا، وَقَدْ رَفَعَهُ مِنَ الْوَسَطِ مُسَمِّراً ايَّاهُ بِالصَّلِيبِ، إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ اشْهَرَهُمْ (فضحهم) جِهَاراً، ظَافِراً بِهِمْ فِيهِ (أى فى الصليب).» (كو 14:2-15)
ومن هذا, ولهذا صار الصليب رعباً للشيطان وسلاحاً ضد كل أعمال الظلمة.
فإذا أردنا أن نبلور حرب الظلمة الأولى مع أدم وحواء، فهذه يلخصها لنا القداس الإلهي في مطلعه قائلاً: “والموت الذي دخل إلى العالم بحسد إبليس… “. أما إذا أردنا أن نبلور حرب الظلمة الكبرى على الصليب، فهذه يلخصها الإنجيل بقوله: ” فَأَجَابَهُمْ بِيلاَطُسُ: «أَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟». لأَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوهُ حَسَداً.” (مر 9:15-10)
فالحسد, وهو الصفة الاولى لمن فقد النعمة, كان عمل الظلمة تجاه الإنسان لحجز النور عنه ولاطفاء النور ذاته، ولكن قرار الإنجيل الأخير أن الظلمة لم تدرك قصدها!! ولن تدرك!!
6:1 – كَانَ إِنْسَانٌ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ اسْمُهُ يُوحَنَّا. هَذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ بَلْ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ
لا يزال التسلسل الإعلاني عن الكلمة يسير في مجراه، من الأزلية عند الله ثم إلى الخلق، ثم إلى الحياة في الناس، وإلى النور. وهنا يبدأ القديس يوحنا ليدخل «بالكلمة«» إل مجال التاريخ الانجيلي.
والملاحظ أن الأناجيل بعد أن استوفت قصة ميلاد المسيح، بدأت على الفور تاريخ الإنجيل بذكر يوحنا المعمدان كبدء للخدمة العملية والكرازة. هذا ما سار عليه القديس يوحنا، إذ بعد أن استوفى استعلان وجود المسيح السابق على ميلاده أي تجسده، بدأ يؤرخ. ولكن أسلوب القديس يوحنا يرتفع دائمأ بالتاريخ إلى ما هو فوق التاريخ. فإن كل كلمة ذكرها عن المعمدان وضعها في القابل لما ذكره عن المسيح، ليجعل المقارنة تنطق بألوهية المسيح.
فـ كان “إنسان” يقابلها “وكان الكلمة الله”
ثم «مرسل من الله» يأتي الفعل مبنياً للمجهول بصوم ة تجعل التركيز يقع على الإرسالية في حد ذاتها وعلى هدفها، فهي إرسالية إلهية ولكن المرسل “إنسان اسمه يوحنا”. والقديس يوحنا يركز على الإرسالية أنها من الله باعتبار أن هذه الارسالية، وليس شخصه، هي التي تعطي المعمدان أهميته.
«اسمه يوحنا» هنا لو رجعا إلى إنجيل لوقا (59:1-66) وقرأنا قصة تسمية يوحنا، نفهم لماذا ركز القديس يوحنا الإنجيلى على هذا الاسم من حيث القصد من التسمية, ثم معنى الاسم. فالقصد في قصة إنجيل لوقا مربوط بعلاقته بمجيء المسيح، والمعنى «الله يتحنن» يشير إلى تحنن الله بإرسال المخلص. فالتسمية والاسم بالنسبة للمعمدان يخدمان الإعلان عن المسيح الكلمة المتجسد. كذلك لا ننسى أن اسم كاتب الإنجيل هو يوحنا. فبالرغم من أن الأناجيل الثلاثة ذكرت المعمد بأسمه “يوحنا” مضافأً إليه لقبه الشهير جداً “المعمدان”، حتى يميزوه عن يوحنا الإنجيلي، إلا أذ يوحنا نفسه لم يذكر لقب المعمدان مكتفياً بيوحنا، لأنه ليس ما يدعو للتمييز فهو كاتب الإنجيل. وهذا ما أخذه كثير من الشراح لإثبات أن كاتب الإنجيل الرابع هو يوحنا.
«هذا جاء للشهادة ليشهد للنور»:
”هذا” كحرف إشارة يفيد في أسلوب القديس يوحنا العودة إلى الشخص بكل صفاته المذكورة، حيث يجعل مجيئه لقصد محدد وهو«الشهادة للنور». وهذا هو محور كل ما سيجيء عن المعمدان في إنجيل يوحنا. ويلاحظ كيف يحصر القديس يوحنا عمل المعمدان في “الشهادة”، ثم كيف يعود ويؤكد حدود هذه الشهادة أيضاً، فهو جاء للشهادة فقط، وشهادته هى للنور فقط. فهو يركز على الشهادة وليس الشاهد نفسه.
وهنا يتبادر إل ذهن القارىء سؤال: ولماذا هذا التحديد والحصر والقصر؟؟
للرد نقول: إن عاملين أحدها إيجابي والأخر سلبي كانا يتحكمان في الحديث عن المعمدان بالنسبة لإنجيل يوحنا وخاصة في زمن كتابته:
العامل الاول الإيجابي: هو أهية شهادة المعمدان القصوى بالنسبة للانجيل كونه ممثلاً للعهد القديم بأنبيائه والمعاصر للمسيح, علماً بأن الشهادة تحتل في إنجيل يوحنا مركزاً هاماً.
(وترد فيه 14 مرة، في حين ترد في إنجيل مرقس 3 مرات، وفي إنجيل لوقا مرة واحدة، وتغيب من إنجيل متى تاماً. كما يرد الفعل “يشهد” 33 مرة في إنجيل يوحنا، ولا يرد نهائياً في إنجيل مرقس ويرد مرة واحدة في كل من إنجيلي متى ولوقا). وهكذا يستخدم إنجيل يوحنا الشهادة أكثر من أي سفر آخر في العهد الجديد.
وتوجد في إنجيل يوحنا سبعة أنواع من الشهادات للميسح، منها ثلاثة مختصة بالآقانيم الثلاثة:
شهادة الآب: 31:5 و 34 و37 و 18:8.
شهادة المسيح لنفسه: 14:8 و 18 و 11:3 و 32 و 37:18.
شهادة الروح القدس: 39:5 و 46.
ثم شهادة الآعمال التي يعملها المسيح: 36:5 و 25:10 و11:14 24:15.
ثم شهادة الأسفار المقدسة: 39:5 و 46 .
والشاهد السادس هو يوحنا المعمدان.
أما الشهادة السابعة فهي لمجموعة عديدة من الآشخاص منهم التلاميذ 27:15 و 35:19 و 24:21، ثم السامرية في بكور الرسالة، وكذلك نثنائيل، وبطرس في الختام. كما لا ننسى شهادة توما الفائقة القدر، وشهادة الآعمى الذي صار بصيراً.
على أن الشهادة كما يقدمها القديس يوحنا فى شخص المعمدان هي بمثابة وضع الرقبة تحت سيف القاتل. فالذي يشهد للمسيح أنه ابن الله كان عليه أولاً أن يفرط في نفسه وفي الحياة, ولذلك تأتي شهادته توكيداً “للحق” الذي كان عنده أعلى قيمة من الحياة. ويسلمنا القديس يوحنا إنجيله محمولاً على رقاب كثيرة أولهم المعمدان.
العامل الثاني وهو السلبي: لأنه قامت شيعة يهودية نصف مسيحية تتعصب للمعمدان كونه هو المسيح, نسمع عن بدايتها في إنجيل لوقا: “وإذ كان الشعب ينتظر والجميع يفكرون في قلوبهم عن يوحنا لعله المسيح…»» (لو 15:3). ثم في سفر الأعمال: “ثم أقبل إلى أفسس يهودي اسمه أبلوس إسكندري الجنس رجل فصيح مقتدر في الكتب. كان هذا خبيرأ في طريق الرب (التنبؤات عن المسيا)، وكان وهو حار بالروح يتكلم ويعلم بتدقيق ما يختص بالرب عاوفاً معمودية يوحنا فقط” (أع 24:18-25)، كذلك: “بولس بعد ما اجتاز في النواحي العالية جاء إلى أفسس، فإذ وجد تلاميذ قال لهم هل قبلتم الروح القدس لما آمنتم. قالوا له ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس. فقال لهم فبماذا اعتمدتم, فقالوا بمعمودية يوحنا. فقال بولس إن يوحنا عمد بمعمودية التوبة قائلآ للشعب أن يؤمنوا بالذي يأتي بعده أي بالمسيح يسوع. فلما سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع. ولما وضع بولس يديه عليهم حل الروح القدس عليهم فطفقوا يتكلمون بلغات ويتنبأرن. وكان جميع الرجال نحو اثني عشر” (أع 1:19-7)
وفي ختام القرن الأول بلغت هذه الشيعة شأواً كبيراً بلبل الكرازة، هذا مما جعل القديس يوحنا يركز على كون المعمدان جاء للشهادة فقط ليشهد للنور ولم يكن هو النور, واستطرد في توضيح ذلك كلما جاء ذكر المعمدان.
“جاء للشهادة ليشهد للنور”:
على ضو ما قيل عن المعمدان نفهم لماذا يقصر القديس يوحنا مجيء المعمدان للشهادة فقط ، حتى إنه لا يذكر معمودية المسيح تحت يد المعمدان، وذلك عن قصد, لأنه يبدو أن هذه أخذت خطأ لتضيف من قدر عظمة المعمدان لا لتضيف من قدر تواضع الرب. كما أن القديس يوحنا يوضح في النهاية ومن فم المعمدان أنه حتى وان كان قد أرسله الله ليعمد, فهذا لكي يظهر المسيح لإسرائيل.
ولا يتبادر إلى الذهن أن القديس يوحنا كان ينتقص من شخصية المعمدان في شيء، بل أعطاه صفات مكرمة “مُرسل من الله” و “صديق العريس”، وسجل له أعظم شهادة للمسيح جاءت عل لسان إنسان: «وأنا قد رأيت وشهدت أذ هذا هو ابن الله» (يو34:1)؛ « هوذا حمل الله» (يو 36:1)
“ليشهد للنور”:
شهادة المعمدان للنور في عُرف القديس يوحنا لا تزال محصورة في مفهوم “نور الكلمة”, إذ لم يذكر التجسد بعد. فالمعمدان يحمل رسالتين:
الرسالة الاولى: تختص بالأنبياء، إذ لا ينبغي أن ننسى أنه حامل لروح إيليا عظيم الأنبياء الذي أغلق السموات وفتحها بكلمة، والوحيد من بين كافة الأنبياء الذي ارتفع حياً إلى السماء عياناً في مركبة نارية وخيول نارية. والمسيح يشهد للمعمدان أنه فعلاً كان إيليا، مرة تلميحاً ومرة تصريحاً: «بل ماذا خرجتم لتنظروا، أنبياً؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي. هذا هو الذي كُتب عنه “ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيى، طريقك قدامك. لأني أقول لكم إنه بين المولودين من النساء نبي أعظم من يوحنا المعمدان ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه» (لو26:7-28)
وهذا الملاك الذى يقول عنه المسيح هنا هو وارد فى سفر ملاخى النبى آخر أسفار العهد القديم، ووارد على صورتين، إحداهما فى هذه الصورة في (ملاخي 1:3)، والصورة الأخرى “هأنذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب, اليوم العظيم والمخوف.» (ملاخى 5:4)
أما المرة الاخرى التي صرح فيها المسيح أن المعمدان هو هو إيليا فجاءت هكذا: «ومن أيام يوحنا المعمدان إلى الآن ملكوت السموات يُغصب والغاصبون يختطفونه. لأن جيع الأنبياء والناموس إلى يوحنا تنبأوا, وإن أردتم أن تقبلوا فهذا هو إيليا المزمع أن يأتي, من له أذنان للسمع فليسمع» (مت 12:11-15).
ومرة أخرى أكثر وضوحاً: “وسأله تلاميذه قائلين فلماذا يقول الكتبة أن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً. فأجاب يسوع وقال لهم إن إيليا يأتي أولاً ويرد كل شيء. ولكني أقول لكم إن إيليا قد جاء ولم يعرفوه بل عملوا به كل ما أرادوا. كذلك ابن الإنسان أيضاً سوف يتألم منهم. حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان” (مت 10:17-13).
إذن، فالمعمدان يتكلم ويشهد للنور بروح إيليا كمن يمثل العهد القديم بكل أنواره وأمجاده وشجاعته. فلما انتقل القديس يوحنا الإنجيلي من إضاءة النور العامة للانسان عامة “فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس”، و«النور أضاء في الظلمة والظلمة لم تدركه» في مفهومها العام أيضأ، أراد أن يخطو أول خطوة في وصف إضاءة النور الخاصة والأكثر إستعلاناً لشعب خاص, وذلك بواسطة الأنبياء، فقدم القديس يوحنا شخص المعمدان كمن يمثل النبوة في مجملها وفي أشد لمعانها «نبي وأعظم من نبي» , «وليس من بين المولودين من النساء من هو أعظم منه».
الرسالة الثانية للمعمدان تختص بأنه هو السابق الصابغ الذي جاء ليعد طريق الرب، أي يمهد للنور، وليس الشاهد فقط بل والمشاهد أيضاً. وهذا أعطاه أن يكون «أعظم من نبي»، فهو صديق العريس أو «اشبينه», له الكرامة الاولى في حفلة ظهور العريس. ولكن الخطأ المريع أن يٌظن أنه العريس، وهو مجرد مصباح أضاء في آخر الليل في مطلع الفجر حتى خرجت الشمس من حجابها، وحينئذ جيد أن يُطفأ المصباح: «فرحي هذا قد كمل. ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.»(يو 29:3-30)
«لكي يؤمن الكل بواسطته»
هذه الجملة مرتبطة بسابقتها ومتوقفة عليها، فهو جاء “ليشهد للنور”، “ليؤمن الكل” وهنا تكون الشهادة هى السبب المفروض لإيمان “الكل”, حيث الشهادة ستتضح بعد ذلك أنها شهادة من رأى وسمع: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله” (يو 34:1).
و«الكل» هنا تمتد لتشمل الشعب المرسل إليه وكل من تبلغه الشهادة هذه على مدى الدهور، لأن هذه كانت دائماً هي روح الأنبياء في رؤيتهم وشهادتهم للمسيا النور القادم: “نوراُ للامم ومجدا لشعب إسرائيل”. ولذلك يكون في كلمة «الكل» انفتاح الدعوة الجديدة على العالم أجمع بكل وضوح. ولكن للقديس يوحنا تلميح لا يُخطىء في قوله «الكل» فهو يستثني “البعض” الذين آمنوا بالمعمدان كونه المسيا الآتى وكانوا قلة ضالة.
«لم يكن هو النور, بل ليشهد للنور»:
لو لم يكن قد أخطأ الناس في تقييم المعمدان ما اضطر القديس يوحنا الإنجيلي أذ يبرز» في هذه المقارنة الأليمة. ولكن أليس القديس يوحنا نفسه هو التلميذ السابق للمعمدان؟ ومن شهادة المعمدان للنور الحقيقي نقل يوحنا تلمذته من المعمدان للمسيح؟ (يو 35:1-39). فالأن هو أقدر من يقيم نور المعمدان عل نور المسيح.
وفي الحقيقة فإن النور لا يحتاج إلى شهادة بل رؤيا، ولكن لأن الناس أصبحت لا ترى، لزمت الشهادة. فشهادة المعمدان شهادة راء بالدرجة الاولى. المعمدان رأى النور فانعكس النور عليه فاستضاءه فأخطأ الناس الرؤيا وحسبوه هو النور، ولكنه انعكاس النور ليس إلا: كمصباح استمد نوره من يد النور. والمصباح لا يضيء إلا في «موضع» مظلم في غياب النور، شأنه شأن كل نبوة: «وعندنا الكلمة النبوية, وهي أثبت, التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم» (2بط 19:1)، “أنا يسوع أرسلت ملاكي لأشهد لكم بهذه الأمور عن الكنائس. أنا أصل وذرية داود كوكب الصبح المنير” (رؤ16:22)
ولما فتح القديس زكريا الكاهن فمه ليتنبأ ساعة ميلاد المعمدان وصف هذا المنظر عينه: «وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس وتنبآ قائلآ: … وأنت أيها الصبي نبي العلي تدعى لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتعد طرقه. لتعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم. بأحشاء رحمة إلهنا التي بها افتقدنا المُشرق من العلاء ليضىء على الجالسين في الظلمة وظلال الموت لكي يهدي أقدامنا في طريق السلام.» (لو 67:1-79)
9:1- كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِياً إِلَى الْعَالَمِ.
عودة مرة أخرى إلى حركة النور الدائمة والمستمرة نحو التجسد: أولاً البدء والآزلية حيث “الكلمة”، ثم إلى الخلق، ثم إلى الحياة واستعلانه “نور الناس”، ثم إلى العمل الدائب ضد الظمة في كل مجالاتها، ثم توقف للشهادة للنور والتعرف به باعتباره النور الوحيد الكامل والدائم والمستمر. ثم استعلان صفته هنا لأول مرة بأنه هو “النور الحقيقي”.
والحقيقي هنا لا تفيد أكثر من أنه هو وحده الذي يكشف الحق الكلي، وأنه هو الحقيقي وغيره غير كامل وغير دائم وغير مستمر. وهذا الاصطلاح يُستخدم في إنجيل يوحنا كثيراً, مثل الخبز «الحقيقي» النازل من السماء، والكرمة «الحقيقية» حيث الآب هو الكرام!! والساجدون «الحقيقيون» الذين يسجدون بالروح والحق. و«أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» (يو 3:17). والحقيقي هو ما يمت إلى «الحق».
فإن كان المعمدان “نوراً” فهو ليس “النور الحقيقي”, ولكنه نور عل مستوى المصباح المنار غير الكامل وغير الدائم وغير المستمر.
وقوله «ينير كل إنسان» لها إفادة كبيرة مترامية الأطراف تعني أنه وهو النور الحقيقي الذي يكشف الله ويعلنه، وليس نوراً أخر ولا واسطة أخرى مهما كانت توصل إلى الل, فهو الواسطة والطريق الوحيد إلى الله. كل من يأتي إلى هذا النور أو كل من أتى إلى هذا النور الحقيقي تنفتح بصيرته ويستعلن الله فيه، أي يرى نفسه أمام الله, أي أمام خالقه ونافخ روحه في أنفه، أي يتعرف على مصدر وجوده وحياته. وليس ذلك فقط بل كل من يدخل في هذا النور الحقيقي، أو يدخل هذا النور الحقيقي إليه, فإنه يرى العالم نفسه رؤية أخرى غير مظهر العالم، يراه في الله ويرى الله فيه ويدرك لاهوته بالمصنوعات التي فيه كما يقول بولس الرسول، أي يرى أصل العالم كما يرى أصل وجوده كإنسان.
وهكذا بالمقابل، يكون الإنسان الذي لا يأتي إل النور لأن أعماله شريرة، فإنه لا يرى نفسه أمام الله ولا يرى الله في العالم، أي لا يرى الله جملة وتفصيلاً، فيحيا فاقداً رؤية حقيقة نفسه، أي يرى نفسه في الظلام.
ومن هنا نفهم, تجاوزاً، أن للنور عملاً سلبياً. فهو إذا رفضه إنسان انعمت عيناه. وهذا معنى القول: «أعمى عيونهم وأغلظ قلوبهم» (يو 40:12). وهنا يظهر بوضوح قول المسيح للفريسيين: “لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون” (يو 39:9)
“الذى ينير كل إنسان”:
لقد سبق القديس يوحنا وأوضح أن «الحياة كانت نور الناس». فالحياة الآبدية التي النور جوهرها، هذا النور الذي يعتبر عمله الآول والآعظم هو الإنفتاح على وعي الإنسان لقبول الحقائق الإلهية، هذه الحياة الأبدية التي كانت في “الكلمة عند الل” والتي صارت عاملة في الخليقة, كان عملها في الإنسان هو سكب النور لتدريب وعي الإنسان. ولكن عاد القديس يوحنا وقال إن الظلمة قد طغت على الإنسان فمنعته من إدراك كنه هذا النور وحقيقته؛ الآمر الذي دعا الله أن يجعل «الكلمة» و«النور» وسيطاً مساعداً هم الأنبياء. ولكنه ينبه أيضأ أن الأنبياء، الذين جاء المعمدان ليمثلهم بروح إيليا وقوته, لم يكونوا هم النور بل مجرد شهود له, مجرد مصابيح مضاءة. ونحن نعلم أيضاً أن شهادتهم لم تُقبل! مما دعا الله أن يجعل « النور» يأخذ طريقه الأخير نحو الإنسان على مستوى التجسد. فالنور الذي ينير كل إنسان بلغ قوته العظمى في المسيح “أنا هو نور العالم” (يو 12:8).
وقول القديس يوحنا أن «النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان» هنا يصف النور الحقيقي من واقح عمله الأساسي وليس من واقع النتائج, فالنتيجة دائمأ جاءت لا تساوي عمل النور وقوته. فالإنسان دائمأ وعلى جميع الآحوال لا يعوزه هذا النور في الإحساس به في القلب والضمير وفي الخليقة من حوله وفي الحياة التي تعج بآيات الله الناطقة بنوره ووجوده؛ ولكن أيضأ فالإنسان دائمأ وعلى جميع الأحوال لم يرتفع لمستوى حب الله وعنايته وفاعلية النور الإلهي العامل فيه ومن حوله. وهذا بالذات كان السبب الذي جعل الله يزيد من استعلان ذاته ويقترب أكثر فأكثر من الإنسان على مدى التاريخ.
ونلاحظ أن حالة الإستمرار التي أتت بها صيغة الفعل «الذي ينير» تكروت كثيراً في مواضع أخرى مما يكشف عن ديمومة في مقاصد الله منذ البدء، للا ستمرار في الإ تصال بالإنسان بكافة الطرق، فنحن نسمع المسيح يقول: «هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل مه الإنسان ولا يموت» (يو 5:6). وهذا نفسه وان كان يشير الى التجسد, وكأنه نزول دانم ليمد الإنسان بالحياة الدائمة حتى لا يموت الإنسان، فكم بالحري النور النازل باستمرار: «أنا هو نور العالم» (يو 12:8)، والحياة النازلة: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو6:14). والحب الئازل: «هكذا أحب الله العالم» (يو 16:3). هكذا يكشف عن تنازل الله المستمر نحو الإنسان حتى “صار جسداً”
ثم عودة مرة أخرى هنا لتركيز القديس يوحنا على «كل انسان», فإن كان يبدو أمراً صعباً فهم كيفية استنارة «كل إنسان» بـ «الكلمة» عملياً؛ ولكن لينتبه القارىء كيف سيتم هذا رغماً عن كل إنسان، عندما يتجسد الكلمة أخذاً طبيعة كل إنسان أو كل البشرية لنفسه، لا ليضيئها وحسب, بل لتتحد بالنور إتحاداً أزلياُ!! جاعلاً النور بذلك حقاً مشروعاً لكل إنسان بلا تمييز، كل من يؤمن! لأن الإنسان هو من خلقة النور ولأن النور هو أصل خلقة الإنسان!! لذلك حق للمسيح أن يقول: “أنا هو نور العالم” لأنه هو خالقه. كما يحق أن يقال بكل تأكيد أن ««العالم به وله قد خُليق» (كو 16:1). فالكلمة خلق العالم ليتجلى فيه، ولينتهي العالم إليه!!
“كان أتياً الى العالم”:
تقرأها بعض المصادر على أساس أنها صفة «لكل إنسان»، أي “كل إنسان أت إل العالم”؛ ولكن الأصح عند معظم الثقاة أنها خبر للنور الحقيقي: “كان النور الحقيقي أتياً إلى العالم”. ومما يرجح هذه القراءة أنه بعد ذلك أتى فعلاً إلى العالم بالتجسد!!
10:1- كَانَ فِي الْعَالَمِ وَكُوِّنَ الْعَالَمُ بِهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ.
يلزم أن ننتبه إل الرؤيه المتسعه لمفهوم القديس يوحنا عن الكلمة وعلاقته بالعالم, وذلك بالتفريق بين «كل شيء به كان» ويعني العالم بكل ما فيه، وبين “النور أضاء في الظلمة والظلمة لم تدركه” وهنا الظلمة هي ظلمة العالم والإضاءة هي استعلان الله لكل من له إدراك في العالم أي الإنسان، فالعالم هنا هو عالم الإنسان. أما قوله: “كان النور الحقيقي آتيأ إل العالم”، فهنا انتقال أساسي من عمل الكلمة على مستوى الخلق والإضاءة إل عمل الكلمة بالحضور الشخصى للاعلان عن الله.
ومن ها نفهم قوله “كان في العالم” بمعى أنه كان عاملاً بالإضاءة أي بالاستعلان الإدراكي لكل من له إدراك, كما نفهم “وكون العالم به” بمعنى الخلقة ودوام الخلقة متصلة بخالقها، أما النتيجة الدائمة أو رد فعل العالم، وباستمرار فهو «لم يعرفه العالم». وهنا «لم يعرفه العالم» لا يعني عدم المعرفة بالإستضاءة العامة، ولكن عدم التعرف الشخصي عليه وعدم الاستجابة له أخلاقياً، وبالتالي الوقوف في الظلمة ومع الظلمة ضد الله، لأن عدم الإذعان للنور هو التحرر من سلطانه، وكأن لا خالق له,بل وكأنه هو خالق ذاته أو موجواً من تلقاء ذاته، وهذه هي نظرة الملحدين تماماً ونظرة اللاأدريين ومؤلهي العالم.
وهنا يتضح أيضاً عمق التغير الروحي لثنائية وجود النور والظلمة في لاهوت القديس يوحنا. فالظلمة في العالم أو في الإنسان ليس الله صانعها، بل الإنسان وحده مسئول عن صنعها بنفسه بالسير في الخطية والشر. فالظمة ليست كالنور، فهي ليس لها أصل وجودي كالنور، بل هي من إفرازات التاريخ والسلوك الإنساني. وبكل اختصار تكون الظلمة هي غياب النور، ويكون عمل النور في الإنسان هو العودة إلى الله ، أي الخلاص، وعمل الظمة بالمقابل هو الدينونة، أي الحرمان من الله. وهكذا أيضأ ينقسم العالم في لاهوت القديس يوحنا إلى عالم قابل للنور والخلاص، وهو العالم الذي أحبه الله، وعالم رافض للنور وواقع تحت الرفض والدينونة. وهذا هو الذي حدا بالكلمة أو جعله يتخذ الخطوة الأكثر استعلاناً وهي: المجيء الشخصي .
11:1- إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ.
التدرج السابق في الاستعلان كان يبشر بهذه النتيجة الحتمية, فالعالم من أدم حتى إبراهيم ثم موسى لم يُعدم النور الإلهي، ولم يمتنع عنه صوت الله، ولم يمتنع على الإنسان أن يدعو باسم الرب. فنحن نسمع مبكراً جداً في أيام شيث بن أدم أن في أيامه ابتدأ الإنسان أن يدعو باسم الرب: «ولشيث أيضاً ؤلد ابن فدعا اسمه أنوش, حينئذ ابتدىء أن يدعى باسم الرب» (تك26:4). معنى هذا أن الإنسان كان في هذا الزمان السحيق يعرف الله معرفة شخصية وبالاسم!!
ثم بعد ذلك الزمان بعدة مئات من السنين نسمع بشخصية قديسة على المستوى العملي ارتفع بمعرفة الله والمناداة باسمه إلى مستوى السيرة السماوية والمسيرة العاشقة مع الله, بنوع يفوق تصورنا وكأنها زمالة أو أخوية: «وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه» (24:5)
كذلك وبعد ذلك بأزمنة جاء نوح الذي أظلمت الدنيا في أيامه وانحصر النور الالهي عن وعي الإنسان وضميره، وبحسب تعبير الوحي المقدس: “وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلماً… إذ كان كل بشر قد أفسد طريقه عل الأرض” (تك11:6-12). ولكن من بين هؤلاء وُجد نوح البار: «وكان نوح رجلاً باراً كاملاً في أجياله وسار نوح مع الله» (تك9:6). وهكذا وفي وسط الظلام الدامس لم يعدم «الكلمة» إنساناً يشهد للنور ويعيشه فيصبح شفيعاً لمزيد من استمرار ولمزيد من استعلانه وأخيراً «جاء إلى خاصته».
«إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله».
من نشيد موسى النبي الذي قاله للوداع قبل موته نفهم أن الله قسم شعوب الأرض, وجعلها تحت حراسات ربما بعض الملائكة , أما شعب إسرائيل فكان من نصيب الرب يرعاه بنفسه، أو بحسب تعبيره للأنبياء: “إقتناه لنفسه خاصة”: «حينما قسم العلّي للأمم، حين فرق بني أدم، نصب تخوماً لشعوب حسب عدد بني إسرائيل (أي كثيرة). إن قسم الرب هو شعبه, يعقوب حبل نصيبه. وجده في أرض قفر وفي خلاء مستوحش خرب. أحاط به ولاحظه وصانه كحدقة عينه. كما يحترك النسر عشه وعلى فراخه يرف ويبسط جناحيه ويأخذها ويحملها على مناكبه، هكذا الرب وحده اقتاده وليس معه إله أجنبي.» (تث 8:32-12)
ويلزم التفريق بين كلمة «خاصته» الاولى لأنها جاءت بصيغة المحايد (neuer)، أي ليس مذكر ولا مؤنث, أي لا تفيد معنى الإنسان، وهنا ينصب المعنى على الأرض والوطن وعلى البيت, أي بيته وبلده. والمعنى ينحصر في نهاية الأيام وليس منذ إبراهيم أو موسى، بل في ملء الزمان, أي مجيء المسيح. أما كلمة “خاصته” الثانية فجاءت بالمذكر الجمع للعاقل, وهنا ينصب المعنى على الشعب ككل, أي شعبه. وكذلك فإن المعنى ينصب هنا على مجيء المسيا.
وهكذا تفيد هذه الأية أن مجيء الكلمة انحصر انحصاراً هذه المرة في رقعة أرض خاصة وفي شعب مختار خاص دون بقية الأراضي والشعوب, وكأنهما “بيت الله وأهله”.
وإليك أيها القارىء من الأيات البينات ما يوضح ذلك:
تَرَنَّمِي وَافْرَحِي يَا بِنْتَ صِهْيَوْنَ لأَنِّي هَئَنَذَا آتِي وَأَسْكُنُ فِي وَسَطِكِ يَقُولُ الرَّبُّ. فَيَتَّصِلُ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ بِالرَّبِّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَكُونُونَ لِي شَعْباً فَأَسْكُنُ فِي وَسَطِكِ فَتَعْلَمِينَ أَنَّ رَبَّ الْجُنُودِ قَدْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكِ. وَالرَّبُّ يَرِثُ يَهُوذَا نَصِيبَهُ فِي الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَيَخْتَارُ أُورُشَلِيمَ بَعْدُ. (زك10:2-12)
ولكن ليس معنى ذلك أن الشعب المرفوض سابقاً سيمتلك الأرض التي اختارها الرب ليسكن فيها _ في نهاية الأيام_ بل تنص النبوة على أنه بالرغم من أن الرب سيأتي إلى الآرض، خاصته, ويسكن فيها, إلا أن الشعب سيطوح به بعيدا في الامم بسبب رفضه:
لاَ تَفْرَحْ يَا إِسْرَائِيلُ طَرَباً كَالشُّعُوبِ لأَنَّكَ قَدْ زَنَيْتَ عَنْ إِلَهِكَ. أَحْبَبْتَ الأُجْرَةَ عَلَى جَمِيعِ بَيَادِرِ الْحِنْطَةِ. لاَ يُطْعِمُهُمُ الْبَيْدَرُ وَالْمِعْصَرَةُ وَيَكْذِبُ عَلَيْهِمِ الْمِسْطَارُ. لاَ يَسْكُنُونَ فِي أَرْضِ الرَّبِّ بَلْ يَرْجِعُ أَفْرَايِمُ إِلَى مِصْرَ وَيَأْكُلُونَ النَّجِسَ فِي أَشُّورَ (هو1:9-3)
والسبب يذكره بوضوح إرميا النبي: “وأتيت بكم إلى أرض بساتين لتأكلوا ثمرها وخيرها, فأتيتم ونجستم أرضي وجعلتم ميراثي رجساً” (إر 7:2). والأساس الذي بمقتضاه سكن شعب إسرائيل فلسطين هو أن هذه الأرض ملك للرب وهم غرباء ونزلاء فيها، ليس فيها حق بيع أو شراء!!
«وَالأَرْضُ لاَ تُبَاعُ بَتَّةً لأَنَّ لِيَ الأَرْضَ وَأَنْتُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عِنْدِي.(لا 23:25)
أما شعب إسرائيل فاعتبرهم الرب خاصته، أي أهله وشعبه وعبيده الخصوصيين، وكأنه اشتراهم لنفسه، فهم ليسوا أحراراً في أنفسهم:
لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِي عَبِيدٌ. هُمْ عَبِيدِي الَّذِينَ أَخْرَجْتُهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ (لا55:25)
فَالآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. فَإِنَّ لِي كُلَّ الأَرْضِ. 6- وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً. هَذِهِ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تُكَلِّمُ بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ». (خر5:19-6)
لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لهُ شَعْباً أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الذِينَ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ. ليْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ التَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ (تث 6:7-7)
«أَنْتُمْ أَوْلادٌ لِلرَّبِّ إِلهِكُمْ. لا تَخْمِشُوا أَجْسَامَكُمْ وَلا تَجْعَلُوا قَرْعَةً بَيْنَ أَعْيُنِكُمْ لأَجْلِ مَيِّتٍ. لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِتَكُونَ لهُ شَعْباً خَاصّاً فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الذِينَ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ. (تث1:14-2)
وَوَاعَدَكَ الرَّبُّ اليَوْمَ أَنْ تَكُونَ لهُ شَعْباً خَاصّاً كَمَا قَال لكَ وَتَحْفَظَ جَمِيعَ وَصَايَاهُ. وَأَنْ يَجْعَلكَ مُسْتَعْلِياً عَلى جَمِيعِ القَبَائِلِ التِي عَمِلهَا فِي الثَّنَاءِ وَالاِسْمِ وَالبَهَاءِ وَأَنْ تَكُونَ شَعْباً مُقَدَّساً لِلرَّبِّ إِلهِكَ كَمَا قَال» (تث18:26-19)
ولكن للأسف لم يحتفظ إسرائيل بلقبه ولا باسمه ولا بحب الله له، ولا كرم اختياره له ولا حافظ على عهده، بل ارتد عن إلهه: « وأعطوا القفا لا الوجه» (إر 24:7). والقول في ذلك كثير جداً يملأ كل أسفار العهد القديم. ولكن أبشع أوصاف الأرتداد جاءت من فم موس نفسه، أي من بكور مسيرة الشعب خلف الل ، ويا للفضيحة:
«اُنْصُتِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ فَأَتَكَلمَ وَلتَسْمَعِ الأَرْضُ أَقْوَال فَمِي. يَهْطِلُ كَالمَطَرِ تَعْلِيمِي وَيَقْطُرُ كَالنَّدَى كَلامِي. كَالطَّلِّ عَلى الكَلإِ وَكَالوَابِلِ عَلى العُشْبِ… «فَسَدُوا تِجَاهَهُ الذِينَ هُمْ عَارٌ وَليْسُوا أَوْلادَهُ جِيلٌ أَعْوَجُ مُلتَوٍ. هَل تُكَافِئُونَ الرَّبَّ بِهَذَا يَا شَعْباً غَبِيّاً غَيْرَ حَكِيمٍ؟ أَليْسَ هُوَ أَبَاكَ وَمُقْتَنِيَكَ هُوَ عَمِلكَ وَأَنْشَأَكَ؟… » (تث1:32-52)
واضح أن أعمال الشعب الشريرة وأخصها الزنا وعبادة الأصنام التي أغرم بها الشعب, وأحياناً كثيرة كان ذلك بقيادة ملوكهم، هذه الأعمال الشريرة حجبت وجه الله. وهذا معناه المباشر توقف عمل «نور الظلمة» وحجز المعرفة والرأي الصواب والفهم والمشورة الحسنة عنهم، وذلك حتى لا يلوثوا اسم الله وكرامته ويخلطوا بين عمل الشر وعمل الله. وهذا بدوره مما حدا بالله، أو جعله يتقدم خطوة أكثر في الاستعلان عن نفسه بمجيء «الكلمة» مجيئاً منظوراً, حتى يتسنى لله أن يتكلم مع خاصته مباشرة دون وسيط أو نبي: “الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة ، كلمنا في هذه الايام الأخيرة في ابنه… ” (عب1:1-2)
ولكن كان لا يزال غضب الله على الشعب، الذي فسد بقيادة رؤسائه، قائما. بمعنى أنه كان قد حجب وجهه عنهم وانقطع عنهم عمل «نور الكلمة» كما سبق، فكان من الصعب على الشعب المنغمس في الشر مع رؤسائه ومعلميه أن يتعرف على المسيا الذي أتى, أي «الكلمة» الذي جاء بنفسه. وهذا يصفه القديس يوحنا في إنجيله في الأصحاح الثانى عشر ولكن بصورة جمع فيها انقطاع النور الالهي منذ القدم عن الشعب المرتد عن الله مع عدم إيمانهم بالمسيا, أي «الكلمة» عندما ظهر، أي المسيح الذي جاء إليهم, هكذا: وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ أَمَامَهُمْ آيَاتٍ هَذَا عَدَدُهَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. لِيَتِمَّ قَوْلُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: «يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا وَلِمَنِ اسْتُعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ؟» لِهَذَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا. لأَنَّ إِشَعْيَاءَ قَالَ أَيْضاً: «قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ لِئَلَّا يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ وَيَشْعُرُوا بِقُلُوبِهِمْ وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ». قَالَ إِشَعْيَاءُ هَذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ. (يو37:12-41).
والأن إلى إشعياء لندرس هذا الوضع الخطير:
فِي سَنَةِ وَفَاةِ عُزِّيَّا الْمَلِكِ رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ وَأَذْيَالُهُ تَمْلَأُ الْهَيْكَلَ. السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ. بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهَذَا نَادَى ذَاكَ: «قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ». فَاهْتَزَّتْ أَسَاسَاتُ الْعَتَبِ مِنْ صَوْتِ الصَّارِخِ وَامْتَلَأَ الْبَيْتُ دُخَاناً. فَقُلْتُ: «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ». فَطَارَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّرَافِيمِ وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ قَدْ أَخَذَهَا بِمِلْقَطٍ مِنْ عَلَى الْمَذْبَحِ. وَمَسَّ بِهَا فَمِي وَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ قَدْ مَسَّتْ شَفَتَيْكَ فَانْتُزِعَ إِثْمُكَ وَكُفِّرَ عَنْ خَطِيَّتِكَ». ثُمَّ سَمِعْتُ صَوْتَ السَّيِّدِ: «مَنْ أُرْسِلُ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟» فَأَجَبْتُ: «هَئَنَذَا أَرْسِلْنِي». فَقَالَ: «اذْهَبْ وَقُلْ لِهَذَا الشَّعْبِ: اسْمَعُوا سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُوا وَأَبْصِرُوا إِبْصَاراً وَلاَ تَعْرِفُوا. غَلِّظْ قَلْبَ هَذَا الشَّعْبِ وَثَقِّلْ أُذُنَيْهِ وَاطْمُسْ عَيْنَيْهِ لِئَلاَّ يُبْصِرَ بِعَيْنَيْهِ وَيَسْمَعَ بِأُذُنَيْهِ وَيَفْهَمْ بِقَلْبِهِ وَيَرْجِعَ فَيُشْفَى» (إش 1:6-10)
يلاحظ القارىء أن رسالة إشعياء النبي بدأت برؤية «يهوة»، كما يُعبر عنه بالملك رب الجنود، وهو هو “الكلمة” أي المسيا بحسب المظهر، ولكن في ملء مجده الذي اعتبره إشعياء أنه هو يهوه “الله”. لذلك قال ويل لى لأني رأيت الله، فسوف أموت، ولكن حدثت عملية تطهير لتجعل لإشعياء النبي قوة أو قدرة على رؤية «مجد الله» دون أن يموت. واستلم إشعياء الرسالة من “يهو” الذي هو “الكلمة المترائي في مجده”. وهذه الرسالة هى بعيها نص النبوة عما سيحدث عند ظهور المسيا، أي الكلمة، بشخصه، أي المسيح. فإنهم لن يصدقوه ولن يتعرفوا عليه. ثم شرح “يهو”, أي “الكلمة” الجالس عل عرش مجده، شرح لإشعياء سر عدم إيمان هذا الشعب، ومضمون هذا السر وهو أنه بسبب سيرة هذا الشعب الفاسدة بقيادة رؤسائه الفاسدين، وبسبب عدم إيمانهم بالله، وارتدادهم كل الأجيال السالفة عن عبادة الله، وإمعانهم في عمل الشر وأقبحها الزنا وعبادة الأصنام، فإن الله قد حجب وجهه عنهم، بمعنى أنه قطع عنهم «نور الكلمة»، فامتنعت عنهم المعرفة وانطمست البصيرة وانحجبت رؤية الحق، وهذا قد صنعه الله منذ القدم واستمرفي عقوبته عن قصد؛ حتى إذا ظهر المسيا “الكلمة” لا يتعرفون عليه فلا يرجعوا إليه، فلا يُشفوا، وذلك حتى لا يستمرون في الجمع بين الإفتخار بالله والإمعان في الشر فيلوثون رسالة المسيح.
ويلاحظ أن الذي رآه إشعياء أنه ديهوه»» الملك رب الجنود قال عنه القديس يوحنا أنه هو هو المسيح: «قال هذا إشعياء عدما رأى مجده (مجد المسيح) وتكلم عنه.» (يو41:12)
الأن فهمنا معنى “جاء إلى خاصته”، أي جاء إلى وطنه وبيته، وإلى “خاصته” أي إلى شعبه الأخصاء جداً دون جميع شعوب العالم, فلم يقبلوه. والأمر المذهل والمفزع أن الرفض كان عنيفاً إجماعياً، رؤساء كهنة وكتبة وفريسيين ورؤساء شعب وكل الشعب المضلل وحتى بعض التلاميذ، بلا أي تعقل بل بلا أي سبب: « لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ عَمِلْتُ بَيْنَهُمْ أَعْمَالاً لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ غَيْرِي لَمْ تَكُنْ لَهُمْ خَطِيَّةٌ وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ رَأَوْا وَأَبْغَضُونِي أَنَا وَأَبِي. لَكِنْ لِكَيْ تَتِمَّ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ فِي نَامُوسِهِمْ: إِنَّهُمْ أَبْغَضُونِي بِلاَ سَبَبٍ. (يو 24:15-25)
أما المكتوب في الناموس الذي يشير إليه المسيح فهو مز 19:35 ومز4:69
لاَ يَشْمَتْ بِي الَّذِينَ هُمْ أَعْدَائِي بَاطِلاً وَلاَ يَتَغَامَزْ بِالْعَيْنِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ. (مز 19:35)
أَكْثَرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي الَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ. اعْتَزَّ مُسْتَهْلِكِيَّ أَعْدَائِي ظُلْماً. حِينَئِذٍ رَدَدْتُ الَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ. (مز 4:69)
لقد احتار بيلاطس فيهم حينما أخذ يتلفت يمينا ويساراً يستجدي من يساعده في إطلاق سراحه، سواء من الرؤساء أو حتى من الشعب الذي التجأ إليه متوسلاً أن يختاره عوض باراباس، ولكن بح صوته بلا نتيجة فحكم على أساس كلمتهم: «دمه علينا وعلى أولادنا»!! (مت25:27) وكأنما قد حوصر النور إذ «لم يعرفه العالم». وهوذا الآن حتى خاصته أبغضوه ولم يقبلوه، الذين أعدهم خصيصاً بنفسه لنفسه منذ الدهر إعداداً متعدد النواحي، وأغدق عليهم إغداقأ ليس له من مزيد، في الأرض والمطر والزرع والضرع والبركات، مع العلم والمعرفة والمشورة، وكلمهم بالأنبياء مبكراً ومؤخراً، وجهزهم أحسن تجهيز إذ قدسهم وقدس أرضهم وأقام مقدسه في وسطهم، وبعد كل ذلك ليس فقط لم يقبلوه بل وأبغضوه, وبلا سبب، أو ربما بسبب أنهم أحبوا الظلمة أكثر من النور.
“جاء”:
هنا نجد أن «الكلمة» يتخطى كل حدود العمل من على بعد, ويأتي بنفسه مجيئاً محدداً واضح المعالم مرئيا ومسموعأ مشاهداً وملموساً، مجيئاً توج به كل طرق استعلانالله الاولى جميعا سواء في العالم ككل أو حتى إسرائيل بكل تاريخها القديم. ولكنه مجيء كان في مرحلته الاولى إلى خاصته: «لم أرسل إلا إل خراف بيت إسرائيل الضالة» (مت 24:15)
ولكن هذا المجيء لما بلغ أقصاه في الاستعلان لخاصته، كما بلغ أقصاه في الرفض, وانتهى الاستعلان وانتهى الرفض على أيدي خاصته بالصلب، استعلن هو هو بذالله, أي هذا المجيء المقدس والمبارك, على مستوى العالم كله والبشرية جمعاء وذلك لما “الكلمة صار جسداً”.
وبذلك يتضح تماماً من تدرج القديس يوحنا في الكشف عن تدرج الاستعلان الذي مارسه «الكلمة» في ذالله بالتجسد أنه تم بالفعل على مرحلتين أو على وجهين:
المرحلة الاولى أو الوجه الاول: باعتباره «المسيا» قمة الاستعلان أو الاستعلانات التي أتمها مع شعبه المقدس إسرائيل لكشف خطة الفداء لشعبه والخلاص حسب وعده.
والمرحلة الثانية أو الوجه الثاني: باعتباره «الكلمة صار جسداً» , «كنور للأمم» وفداء وخلاصاً إلى أقصى الأرض.
في المرحلة الاول واجه من خاصته نكوصاً شعبياً منقطع النظير كسيد مرفوض، مع الصليب، وسقوط الأمة!
وفي المرحلة الثانية قوبل قبولاً فرديا كرب لمجد الآب, امتد، ولا يزال يمتد، إلى أقص الآرض وأقصى الزمن.
لأنه لو يلاحظ القارىء، يكتشف أن الكنيسة المسيحية لم ترث الكنيس اليهودي بناموسه وبقوانينه وتراثه, ولا قامت الكنيسة المسيحية على أنقاض الهيكل المهدوم، لأن الكنيسة المسيحية هي «الهيكل الجديد», «المسيح نفسه», مشتهى كل الدهور: «فنحن من لحمه ومن عظامه» (أف30:5)، «وبيته نحن» (عب6:3)
12:1- وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ.
لقد جاء إل خاصته كوطن فلم يجد له مكاناً، وجاء إل خاصته كأمة فلم تقبله، ولكن كان لا بد من شهود، فالله لا يترك نفسه بلا شاهد. فإزاء رفض الأمة تقدم أفراد، وبصفتهم الشخصية آمنوا به وقبلوه، لا كيهود بل كمسيحيين!! طُردوا من المجمع والهيكل كوثنيين، ليفتحوا الطريق أمام كل الأمم! فقدوا البنوية لموسى وإبراهيم، فصاروا محسوبين على مستوى شعوب الدنيا، فأعطاهم الله وأعطى معهم كل شعوب الدنيا حق البنوية منه وله رأساً، ليكونوا رؤوسا لشعب جديد: «انت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي» (مت18:16)، «شعب اقتناء» (انتساب لله) (1بط9:2 )، «شركاء الطبيعة الإلهية» (2بط4:1)، بامتياز حق التبني لله مباشر يولدون له، من رحم نعمته، مقدسين، ومختومين بختم روح الله كأعضاء أحياء في جسد ابنه كما «من لحمه ومن عظامه» (أف30:5)، عوض ختان اللحم وتسجيل الاسم في سجلات المولودين من دم إبراهيم.
إن الإمتياز الكبير المجاني الذي أعطاه الله في البدء لإسرائيل في حدود الخصوصية المنحصرة في جنس وشعب محدد: “فتقول لفرعون هكذا يقول الرب إسرائيل ابني البكر” (خر 22:4)، «لما كان إسرائيل غلاماً أحببته ومن مصر دعوت ابني» (هو1:11)، هذا الإمتياز الكبير الفريد والمجاني الذي افتتح الله به عهد علاقة حبه مع الإنسان ممثلاً في إسرائيل، أطلقه الآن بلا قيود جنسية أو شعوبية للمؤمنين أفراداً، لأن عهد الله ووعوده كلها بلا ندامة (رو 29:11). وهكذا صار الرسل الآولون النموذج الجديد والكامل للابن الجديد البكر، عوض إسرائيل الأمة التي لم تصن عهد البنوة ولا عهد البكورية. اسمع القديس يعقوب يقول: «شاء فولدنا بـ “كلمة الحق” لكي نكون باكورة من خلائقه» (يع18:1)
«أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله»
كان شعب إسرائيل يفتخرعلى السلطان الذي له كشعب مختار من الله على أساس محبة الله لآبائهم الآوائل إبراهيم واسحق ويعقوب. وكان هذا السلطان يكتسبه الفرد بالولادة من أب يهودي وأم يهودية، فيرث نصيبه في محبة الله لآبائه. ولكن السلطان الذي أعطاه الله لكل من يقبل المسيح هو سلطان شخصي لا يورث ولا يورّث بحسب الجسد، بل هو إعطاء حق إقامة علاقة بنوية مباشرة مع الله على مستوى علاقة الله مع إسرائيل نفسه وأكثر. لأن إسرائيل أخذ صفة «الابن» كلقب، أما من يقبل يسوع المسيح باعتباره المسيا الموعود فإنه يأخذ حق البنوية من الله رأساً لأنه آمن بالوعد وحكم بصدق الله وأمانته: «الذي يأتي من السماء (المسيح) هو فوق الجميع، وما رآه وسمعه به يشهد وشهادته ليس أحد يقبلها، ومن قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق.» (يو 31:3-33)
وليلاحظ القارىء أن الآية لا تقول: «أما الذين قبلوه يصيرون أولاد الله» مباشرة، بل يقول «أعطاهم سلطاناً أن يصيروا… »، بمعشى أن قبولهم للنور أي للمسيا حسب الإيمان بالوعد، يضعهم أولاً موضع البنين, أبناء النور, ليصيروا بعد ذلك أولاداً بالحق بمزيد من إيمانهم بالمسيا, وعندنا آية أخرى مطابقة جاءت بالروح على لسان بطرس الرسول توضح أن معرفة المسيح الكاملة تعطي سلطاناً, حسب قدرة الله، ليصير بها من يقبلها شريكاً في الطبيعة الإلهية. ” كَمَا أَنَّ قُدْرَتَهُ الإِلَهِيَّةَ قَدْ وَهَبَتْ لَنَا كُلَّ مَا هُوَ لِلْحَيَاةِ وَالتَّقْوَى، بِمَعْرِفَةِ (يسوع المسيح) الَّذِي دَعَانَا بِالْمَجْدِ وَالْفَضِيلَةِ، اللَّذَيْنِ بِهِمَا قَدْ وَهَبَ لَنَا الْمَوَاعِيدَ الْعُظْمَى وَالثَّمِينَةَ لِكَيْ تَصِيرُوا بِهَا شُرَكَاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ، هَارِبِينَ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي فِي الْعَالَمِ بِالشَّهْوَةِ.” (2بط 3:1-4)
نفهم من هذا أن عدم قبول خاصته له (للنور) حرمهم في الحال من ( النور)، أي من سلطان البنوية الممنوح لهم كهبة ولقب “إسرائيل البكر”، مما أنشأ حتماً وبالضرورة للذين عرفوه وقبلوه حقاً فى المواعيد العظمى والثمينة أن يصيروا «أولاد الله».
ولكن لا يزال أمام الذين قبلوا, النور, المسيح كأفراد من خاصته أن يتعرفوا أكثر على المسيا الذي قبلوه, فأمامهم مرتفع من الإيمان يتحتم أن يتلقوه: إيمان الصليب وما بعد الصليب، لذلك نحن هنا لا نزال في درجة استعلان ما قبل «الكلمة صار جسداً» مباشرة.
“أولاد الله” = “آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور” (يو36:12):
القديس يوحنا لا يستخدم كلمة “ابن” إلا للمسيح فقط، كما يلاحظ أيضاً في أسلوب القديس يوحنا أنه لم يستخدم المفرد من «الأولاد» قط، وكأن في تفكير القديس يوحنا أن التبني هو «شركة طبيعة» تتضح أكثر في قوله: «الذين ؤلدوا» بالجمع، وكأنما يمعن في التفريق بين بنوية شعب إسرائيل وبنوية شعب المسيح، فالاول بالميراث الجسدي والثانية بالميلاد الروحي.
«المؤمنون باسمه».
القديس يوحنا يتقدم في فعل التقدم في الاستعلان من النور إلى المسيا إلى ابن الله ثم إلى رد الفعل الإيجابي من «القبول» إلى «الإيمان«.
وكلمة «المؤمنون» هنا جاءت بحالة قائمة دائمة كرد فعل دائم لاستعلان المسيا أنه ابن الله برسوخ وتأكيد على أساس فريد من المعرفة والوعي للاستعلان الجديد، يقابلها تماماً قول القديس يوحنا في رسالته: «كتبت هذا إليكم أنتم المؤمين باسم ابن الله لكي تعلموا أن لكم حياة أبدية ولكي تؤمنوا باسم ابن الله(1بو13:5 )، وكأنما يود أن يقول لنا: آه لو عرفتم قيمة الإيماذ بابن الله فإنكم سوف تمسكون بالإيمان باسم ابن الله حتى الموت لأنكم ستحيون.
هذه الحالة نسمعها في بكور ظهور المسيا بوضوح من فم نثنائيل، أول الخاصة الذين قبلوه ثم آمنوا به: «يا معلم أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل.» (يو 49:1)
«باسمه»:
« الاسم» في لاهوت القديس يوحنا, وبالتالي في لاهوت الكنيسة الاولى وكبار لاهوتييها، هو المُعبر عن الشخص في حالة وجود وتجلي. فالذي يؤمن «باسم» ابن الله لا يعني ذلك أن نبحث عن ما هو اسمه, بل يعني أن هذا الإيمان؛ إيمان ثابت مع تعلق شخصي فيه ثقة وأمانة واتكال, بل فيه بهجة وفرح, لأنه يعبر عن حالة تجلي وحضرر إلهي. فاسم الله من الوجهة الفعلية التصوفية هو الحضرة الذاتية الإلهية عندما ينادي فيها المؤمن الله، كحاضر، ويتكلم معه وهو أمامه. وهذا نجده واضحاً وثابتاً في قول الرب للتلاميذ قبل الصعود: «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس.» (مت19:28)
فالاسم هنا يعني الدعاء للحضور والتجلي والمشاركة, بمعنى أن التعميد باسم الثالوث هو مباشرة الثالوث بالتعميد بناء على الدعاء بالاسم. وكذلك في الإفخارستيا وفي كل سر من أسرار الكنيسة, فإنه يجرى بالدعاء بالاسم لحضور الله وتتميم السر.
ومعروف أن النطق باسم الله أو باسم ابن الله له قوة وسلطان الحضور الإلهي تماماً. وهذا نسمعه من التلاميذ: «فرجع السبعون بفرح قائلين يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك.» (لو 17:10 )
كذلك فالدعاء بالاسم انتقل إلى مناداة القديسين بأسمائهم، لا لكي يسمعوا بل لكي يحضروا, فالدعاء باسم القديس هو تكليف حُبي متواضع للحضور للمعونة. “ادع الأن. فهل لك من مجيب. وإلى أي القديسين تلتفت” ( أي1:5). فالدعاء بالاسم هو استدعاء.
وفي قول القديس يوحنا «المؤمنون باسمه» معنى التعرف على يسوع أنه هو المسيح، وهذه هي الدرجة الحرجة في إيمان الإنسان اليهودي. فالذي قبل يسوع على أنه هو المسيح يكون قد انتقل من العهد القديم إلى العهد الجديد، وهذا بحد ذاته هو الذي يعبر عنه بالميلاد الجديد أو الخليقة الجديدة في المسيح، لأن التعرف على المسيح أنه ابن الله هو تحصيل حاصل. لأن المعروف في الفكرا ليهودي المتقدم والذي ينتظر الخلاص بالروح أن المسيا هو ابن الله. وهذا الأمر واضح من أول نطق إيماني لنثائيل، كما سبق وذكرنا. وهذا يعبر عنه القديس يوحنا بغاية الوضوح في رسالته الاولى بقوله: “كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد وُلد من الله” (ايو 1:5)
13:1- الَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ.
القديس يوحنا بدأ يرافق الاستعلان بالرد العملي من جهة الإنسان اليهودي, وليس الامة اليهودية, ليوضح القيمة العظمى لاستعلان كلمة الله عندما جاء إلى خاصته, على مستوى المسيا, فقبله بعض الشخصيات اليهودية. فالاستعلان واكبه إيمان, والإيمان رافقه ميلاد جديد للانسان، جديد على عقل الإنسان غاية الجدة . وكان إيمان هؤلاء الأشخاص الأفراد اليهود هو باكورة الخليقة الجديدة الذين خمروا عجين الأمم كله. هذا ما صرح به القديس يعقوب الرسول معبراً عن نفسه وزملائه الرسل: “شاء فولدنا بـ “كلمة الحق” لكي نكون باكورة من خلائقه” (يع18:1)
ولينتبه القارىء, لأن مفهوم الميلاد من الله، أو قول يعقوب الرسول: «ولدنا بكلمة الحق»، أو قوله: “باكورة من خلائقه الجديدة»، هذه كلها تعبير عن «الحياة الآبدية» مع الله، وهذا هو ملخص اللاهوت بل خلاصة إنجيل يوحنا الذي بلوره في ختام الأصحاح العشرين بهذه الكلمات عينها: «وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم حياة إذا آمنتم باسمه.» (يو31:20 )
وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ “دَمٍ” وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ “جَسَد”ٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ “رَجُلٍ” …..
لآول مرة بالنسبة للانسان العادي يسمع عن ميلاد لا تتدخل فيه أي من العناصر الطبيعية (الدماء). نعم, لأن النتيجة ليست لحساب حياة طبيعية، والمولود ليس لحساب هذا العالم الطبيعي.
كما نجد في هذا الميلاد غياباً كاملآ للغرائز الطبيعية (مشيئة جسد), لذلك فالمولود هنا ليس خاضعأ جبرياً لسطوتها. كما يغيب عن هذا الميلاد (مشيئة الإنسان)، وبالتالي فتوجيه الحياة الجديدة بأفعالها لا تنبع من مشيئة بشرية.
هذا هو مجمل الثلاث معايير السلبية: “ليس. ولا. ولا”. ولو نلاحظ، نجد أن القديس يوحنا لم يضع هذه المعايير المنفية جزافاً، بل هو يتدرج بها من الأسفل إلى الأعلى. فالمعيار المنفي الأول هو المسار الطبيعي للحياة الطبيعية «الدم»، والثاني هو المحرك الطبيعي للحياة المخلوقة “مشيئة الجسد”، والثالث هو جماع الشخصية الإنسانية التي تُصرف أمور الحياة الطبيعية “مشيئة رجل”.
ومن السهل فهم العناصر الثلا ثة الأخلاقية التي تتلخص منها الحياة الجديدة بهذا الميلاد الجديد:
العنصر الاول: عدم اعتماد الحياة الجديدة على توريث الحياة من السلف، والثاني: تحررها من الغرائز والشهوة، والثالث: استقلالها عن قدرة الإنسان. فما أعجبها من حياة !!
“ليس من دم”
الترجمة الحرفية الصحيحة: « ليس من دماء»، لأن « دم» جاءت بالجمع في اللغتين اليونانية واللاتينية. فهنا خرجت الترجة العربية عن النص فأساءت إل المعنى كما يقصده القديس يوحنا.
و«الدم» بالجمع يقصد بها دم الآب ودم الأم، كما يرى القديس أغسطينوس. وجمعها يفيد معنى كافة العناصر الطبيعية التي يتكون منها الجسد من ذكر وأنثى.
كما أننا نعرف لغة القديس يوحنا السرية لماذا يتحاشى قول “الدم” بالمفرد، فهذا هو افتخار اليهود، إنه كبرياء الجنس، فاليهوي مولود من «دم» يهودي, تعبيرا عن الجنس المختار, موروث من إبراهيم واسحق ويعقوب، كما يتحاشى القديس يوحنا المفرد في قوله: «مولودين ليس من دم (كما جاء في الترجة العربية)» لأننا مولودون بالحقيقة من «دم» هو دم يسوع المسيح. الميلاد الذي لم يستعلن بعد، لأن هذا مخصص لدرجة الاستعلان القادمة للكلمة حينما صار جسداً, وتخضب جسده على الصليب بهذا الدم غفراناً لكل العالم, أما الأن فنحن محصورون في “الكلمة” المستعلن بالمسيا، وفي المسيا، أي يسووع المسيح، لليهود فيما قبل الصليب, أي ليس بعد مكان للدم.
“وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ “جَسَد”ٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ “رَجُلٍ”
هنا يحصر القديس يوحنا معنى الميلاد الروحي للانسان, أو الخليقة الجديدة، أومعنى أولاد الله أو الميلاد من الله، في أنه ينأى كلية عن ما يتعلق بالخليقة الحيوانية عامة والخليقة البشرية خاصة. فهو ميلاد خليقة أخرى للانسان من فوق، فيها يصير الله أباً جديداً عظيمأ للانسان الذي به تُلغى عملياً القيمة المتبقية للانسان اليهودي من “الابوة” “لنا إبراهيم أباً» (مت9:3) التي يسعى الإنسان أن ينضوي تحتها: «لا تدعوا لكم أباً على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السموات”. (مت9:23)
“بل من الله”
«الولادة من الله» عقيدة متكاملة راسخة عند القديس يوحنا، يلذ لنا أن نستعرضها أمام القارىء:
1- وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ (إنجيل يوحنا بأكمله) لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ (يو 31:20)
2- كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ. وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ الْوَالِدَ يُحِبُّ الْمَوْلُودَ مِنْهُ أَيْضاً. (1يو 1:5)
3- أُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ اللهِ … أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ ….(1يو1:3-2)
4- أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ. (1يو 7:4)
5- إِنْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ بَارٌّ (المسيح) هُوَ، فَاعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصْنَعُ الْبِرَّ مَوْلُودٌ مِنْهُ (1يو29:2)
6- نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَنْ وُلِدَ مِنَ اللهِ لاَ يُخْطِئُ، بَلِ الْمَوْلُودُ مِنَ اللهِ يَحْفَظُ نَفْسَهُ، وَالشِّرِّيرُ لاَ يَمَسُّهُ. (1يو18:5)
7- كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ لاَ يَفْعَلُ خَطِيَّةً، لأَنَّ زَرْعَهُ يَثْبُتُ فِيهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ لأَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ. (1يو 9:3)
من بين هذه الآيات السبع نجد الآية رقم (2) هي الآية المتحكمة فيها جيعاً، وهي رأس مبدأ الميلاد من الله. لأن يسووع المسيح، كما في الآية رقم (1) هو ابن الله، والرسالة التي جاء ليكملها هي أن يرفعنا معه وفيه إلى حالة التبني لله.
فالذي يؤمن بأن يسوع هو المسيح فهو يكون قد قبل بالتالي الرسالة أي أن يكون أحد أولاد الله.
كذلك فإن العلة الأساسة التي على أساسها نصير أولادأ له, لا تعتمد على شيء حسن فينا، ولكن إلحاح محبته لنا، وهومضمون الآية رقم (3) . وكذلك الآية يو 16:3 “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به, بل تكون له الحياة الأبدية”.
كذلك فإن الوصية الاولى والعظمى هي المحبة لله والقريب لأنها الرد الوحيد اللائق لمحبته لنا.
فإذا نجح الإنسان في تكميل هذه الوصية، فإنه حتمأ يكون قد ؤلد من الله، لأن الله «محبة»، ويستحيل لأحد أن يستمد المحبة الإلهية إلا من مصدرها، وهذا هو مضمون الآية رقم (4).
كذلك فإن ناموس المسيح الذي جاء ليؤسسه هو ناموس البر الإلهي، أي السلوك بمقتضى الرحمة والحق معاً، والعدل والسلام معاً، وهذا مستحيل أن يأتيه إنسان ما إلا إذا أخذ قوة هذا البر من المسيح لأنه «بار» و«يبرر كثيرين»، وهذا مضمون الآية رقم (5).
كذلك إن كان المسيح قد حل بالإيمان في القلب، وثبت الإنسان في الروح القدس، فقد تسلح ضد الشيطان والخطية من جهة الغواية والفعل معاً، وأصبح متحصناً ضده، وهذا مضمون الأية رقم (6)
وهذه الآية يقابلها من جهة العقيدة عند القديس بولس مطابقة, إنما على الوجه الإيجابي البديع: “لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله, إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوف بل أخذتم روح التبني, الذي به نصرخ (عند الضيقة) يا أبا الأب، الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله” (رو14:8-16)
كذلك نعلم أن ليس إنسان لا يخطىء، وأن المسيح وحده بلا خطية، وجاء ليكسر شوكة الخطية المميتة، وقد رفعها بالفعل، وخلص الإنسان من ناموسها القاتل. لذلك إن كان إنسان ما قد قبل المسيح وامن به وحل المسيح بالإيمان في قلبه وقبل الروح القدس، فلا يمكن أن هذا الإنسان يخطىء خطية للموت وهذا مضمون الآية رقم (7).
وقول القديس يوحنا هنا: “لأن زع الله ثابت فيه» قول خطير في الواقع، نفهم منه أن الذين يستقبلون روح الابوة داخلهم فإنها تخصبهم وتصيرهم أولاداً لله، وأن الله يصير أباهم، ليس بالاسم ولا بالمجاز، بل بالقوة الوالدة للروح، الأمر الذي هو أقوى ألف مرة من الولادة التي أخذوها بالجسد وانحدروا منها بواسطلة زرع البشر الفاني. لأن الإنسان حينها تسكنه بذرة الروح لابوة الله، تصير فيه قوة خالقة تخلقه جديداً، وتنميه لينمو حسب صورة خالقه في البر والقداسة والحق. وبحق وقوة أبوة الله التي تسكن الإنسان، لا يُعد الله بالنسبة للانسان حاملاً عصا التأديب بعد، بل فاتحاً أذرع الحب ليضم خليقته التي تاهت عنه ثم عادت تحمل جمال صورته.
ولا يعد الانسان بالنسبة لله خليقة عاصية متمردة بل أبناء حضنه، يضمهم إليه ويقبلهم قبلة الأب الذي عثر على ابنه الضال فوقع على عنقه وقبله تقبيلاً. لأن الإنسان لم يعد متغرباً عن الله، بل بواسطلة ابنه الوحيد المحبوب الذي أخذ جسدنا لنفسه صار الإنسان على مستوى معزة الابن الوحيد ووريثا معه لكل حب الأب.
وفي ختام الآية التي نحن بصددها من الإنجيل، أي الآية 13:1 يلزمنا أن ننبه أنه إزاء الرفض الشعبي للأمة اليهودية لاستعلان الكلمة في شخص يسوع باعتباره المسيا الآتي، واجهنا هذه المرة أفراداً من خاصته، تلاميذ ورسلاً وكهنة ورؤساء من الشعب، قبلوه وامنوا باسمه أنه هو ابن الله الآتي إلى العالم، والتصقوا به فصاروا أولاد الله عوض بني إسرائيل، وأهل بيت الله عوض أعضاء في السنهدريم، واستناروا بنوره وصاروا رسلاً له للعالم، فكانوا منفذاً للنور للجالسين في الظلمة وظلال الموت، المقيدين بالذل والحديد. أما العالم, أي الأمم, فلم يكونوا على موعد مع الله بانتظار المسيا كاليهود، فلهؤلاء استعلن «المسيح الكلمة» نفسه استعلانه الأخير والأعظم للعالم كله، لا كابن داود بل «ابن الإنسان» «الله ظهرفي الجسد.» (1تى 6:3)
الآيات 14-18
14:1- وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً.
تقسيم هذه الأية:
ا- وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً
ب- وَحَلَّ بَيْنَنَا
ج- وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ
د- مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً.
نتذكر الاستعلان السالف الذي أكمله «الكلمة» أنه كان على مستوى تكميل وعد سابق بفم كل الأنبياء، أكمله بالمجيء الفعلي في ملء الزمن: “إلى خاصته جاء”. وكان مجيئه استعلاناً محصوراً في شعب هو خاصته وفي أرض هي من خاصته. ولكن الأن يستعلن “الكلمة” ذاته على غير موعد وعلى مستوى البشرية كلها والعالم أجمع.
وهكذا نكاد نصفق بأيدينا لهذا الانجيلي البديع زي البصيرة الحادة والرؤيا المترامية الأطراف، الذي واكب الكلمة في درجات استعلانه من الآزلية قبل الزمن، عبوراً بالخليقة والحياة والنور الذي لم ينحصر عن الإنسان قط منذ أن خٌلق، إلى الآباء والأنبياء والشعب المختار والحياة الآبدية المكنوزة في الكتب لمن يفتش عنها, إلى المعمدان يشهد للنور، إلى الرفض والمصادرة حتى منتهاها, إلى الاستعلان الأخير الذي نعيشه في ملء نوره وبهائه, كل ذلك أيها القارىء العزيز في أربع عشرة أية لم تأخذ من إنجيله أكثرمن نصف صفحة!!
أ- وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً
“الواو” هنا تتبع المسلسل الذي جاء في أول الآصحاح، فهو عودة على ذي بدء. ومن ذلك نلمح وبسهولة في قوله: « وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً» تكملة مفاجئة للآية الاولى بكل إحكام، ونقراها معاً هكذا: “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله والكلمة صار جسداً”.
وهنا اخر مرة نسمع فيها القديس يوحنا يذكر«االكلمة» إذ يدخل بها إنجيل الخلاص لنرى الكلمة في شخص المسيا.
هنا يتفضل الله وينزل بنفسه إل عالمه الذي خلق، لا كزائر روحي بشبه ملاك أو رئيس ملائكة، ولا كضيف غريب يباغت الإنسان في عقر داره، بل نزل كإنسان ليعيش مع الإنسان كإنسان، وليتكلم مع الإنسان بعد أن أخفقت كل الوسائل في توصيل كلمته إليه. جاء في «الجسد» ليتحدث مع كل ذي جسد: «إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته.» (ي 2:17).
نعم قد جاء الله بنفسه في الكلمة المتجسد ومعه الحياة الآبدية والنور الحقيقي في الجسد مخفيين في الجسد ولكن منظوران بالرؤيا الإيمانية النفاذة التي تنفذ خلال الظواهر والحجب والظلال والأقنعة لتقع على الحقيقة مباشرة, رؤية منفتحة على الإيمان. لذلك كل من كان له عين ترى وأذن تسمع، رأى مجده وسمع صوت الله فيه فعاش: “أما رأيت يسوع المسيح ربنا.” (1كو1:9)
لذلك بقدر ما كان الله الكلمة المتجسد نوراً وحياة أبدية لمن وقعت عينه على اللاهوت الذي فيه, بقدر ما كان الكلمة المتجسد عثرة للعين التي توقفت عند حجاب الجسد، فاختفى عنها الله والحياة والنور معاً: «طوبى لمن لا يعثر فًي.» (مت 6:11).
وكأنما سر التجسد هو الظل المرافق «للكلمة« منذ البدء! فـ «سر» التجسد الإلهي فوق أنه يحتضن كل ما عداه من أسرار الاستعلانات السابقة, للكلمة, ويكملها، فهو, أي “سر” التجسد” يحمله معه في وجوده المطلق منذ البدء وفي كيانه الإلهي «وكان الكلمة الله»، منطوياً تحت حب الله للعالم!!
وهكذا وبسهولة أيضأ نلمح في «الكلمة» احتضان الأزلية للزمن وانعطاف الله عل الإنسان! فسر المصالحة العظمى التي جاء ليصنعها الكلمة بين العالم والله: «أي إن الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه» (اكو 19:5)، هذه المصالحة كانت دوافعها وأدواتها كائنة فيه منذ الآزل!
انظر معي أيها القارىء العزيز وتمعن كيف أن «الكلمة» يحتضن الآزلية والزمان معاً “في البدء كان الكلمة”، «والكلمة صار…»
وكيف ينعطف اللاهوت على الإنسان: «والكلمة كان عند الله»، و”حل بيننا”:
فالزمن خرج من رحم الآزلية، وحب الله للانسان كان كامنا في حضه الآزلى.
ثم انظر كيف يجمع «الكلمة» في نفسه الله والإنسان: “وكان الكلمة الله” و “الكلمة صار جسداً”.
ثم انظر كيف نجح الكلمة أخيرا نجاحا منقطع النظير في استعلان ذاته واستعلان الله فيه: «ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الأب مملوءاً نعمة وحقاً».
«والكلمة صار جسداً»»: هنا، وهنا أخيراً، استقر القديس يوحنا بعد تحليقه طائراً وراء الكلمة في الآزلية محلقا في الله ليراه عنده قائماً، وفي الخليقة هناك خالقاً، وفي الحياة نورا مرفوضاً ومقبولاً، وكنا نحن نلهث وراء يوحنا ما عسى أن يكون «الكلمة» هذا، وما هيئته أو صورته، حتى انقطعت أنفاسنا؛ وأخيراً حط هذا النسر الجسور المتمرس في التحديق في نور الله، حط بـ «الكلمة» على «جسد» إنسان فعرفنا في الحال أنه «يسوع المسيح».
«مناجاة»
أيها الكلمة والفعل الآزلي، الكائن الذاتي, الله منطوقاً لنا بالكلمة والله مستعلنأ لنا بالفعل، الفاعل بكل قدرات الله ومشيئته في الخلق والتدبير، القائم الدائم في الذات الإلهية العظمى, الملتحم جوهريا وذاتيا بـ “أنا” الله بالحب المطلق، وصاحب الاسم الإلهي معه «أنا هو»، المنطلق من كيان الله لاستعلان الله بلا انقطاع، الحامل للكلية الإلهية بغير تجزؤ، والعامل بسلطان الله بلا نقصان مع الله كإرادة وفعل معاً كلي القدرة وكلي المعرفة وكلي الوجود, غير المنحصر في ذاته وغير المحدود وغير المبتدىء.
فأنت البداية التي بلا بداية, والنهاية التي بلا نهاية, التي ينتهي عندها كل زي نهاية، غير المتغير، والمتغيرات كلها فعل من أفعالك.
الزمان منك أخذ حركته ودورانه ليحكي عن عظمة سكونك الفعال وتعاليك عن كل ظل دوران، وإليك ينتهي وعندك يهدأ من كل حركاته، فأنت السكون الضابط لكل حركة.
أما المكان الذي تمثله روائع الأكوان كخيمة أقمت أعمدتها في وسط الوجود المطلق, فهي تحكي بوجودها المحدود عن جبرؤوت الله ووجودك غير المحدود ولا منظور. فكل الأكوان بما تحوي من بدائع المخلوقات المعروفة وغير المعروفة، هي صفعة منبسطة تعكس طرفاً من بهاء مجد الله فيك غير المدرك. فأنت الكلمة الله الذي هو وحده بالفعل والكلمة استعلن عظمة الله غير المدرك ولا معروف والذي لن يُدرك ولن يُعرف إلا فيك.
فهذا البدء الزماني والمكاني السحيق في القدم، هو بكلياته وجزئياته فعل حدث من أفعال أزليتك, خرج إلى الوجود كما صورته قدرة الله ومشيئته فيك.
أيها الكلمة الله الذاتي الذي كنت محتجباً في الله، مح أنك أنت الحامل لاستعلان الله، لقد استعلنت نور الله الذي كان سيظل محتجباً لولا هذا العالم الذي خلقت، الذي حمل إلينا رسالة ناطقة من خلف آياته الجبارة, تحكي عن الإرادة العظمى التي أرادته، وحكمة الفعل الإلهي الذي به خُلق.
فالمصنوعات فيه تحكي عن لاهوت الصانع، فكل الأفلاك والمجرات والعوالم التي يضج بها الفضاء بقوانين تحركها وتقلبها، وانضباطها الخاضع لسلطان الدقة الهندسية الفائقة، تحكي لنا عن ما هي الإرادة الإلهية التي أرادت والفعل الإلهي الذي خلق، تحكي عنك أيها الكلمة ذو الحكمة والقوة والسلطان والمجد والجلال العامل لحساب استعلان الله،
تحكي عن حب الله القائم في العالم لحساب العالم، فانبث فيه قانون المحبة والتآلف الذي يحكم حركتها جيعاً من جماد ونبات وحيوان وانسان. فكل ذرة, بحركتها الباطنية المنسجمة والمنضبطة في تآلف فائق القدر والوصف، تحكي عن التألف بين الإرادة والفعل في ذات الله الذي خلق. أما القوة الذرية المرعبة التي ظهرت عند انشطارها فهي تحكي عن القوة الإلهية التي جُمعت وضُبطت.
وهذا الإنسان الذي خلقت، حسب قصد محبة الله التي تعمل كل شيء حسب رأي مشيئته في المحبة، خلقته بامتياز الإدراك والنطق والحب، ليدركك ويدرك فيك الله المُدرك الكامل الذي يٌدرك ولا يٌدرك كماله، ويحبك ويقيس حب الله فيك؛ وصورته ليكون في النهاية على صورة خالقه ليستمتع بالحياة الأبدية ويحيا الخلود وينأى عن العجز والفساد.
هناك قبل كون العالم وأنت قائم في مجدك مع الله، عندما نويت أنت في أزليتك أن تحمل صورته البائسة التي انحط إليها, لترفعه أنت إلى صورتك في ملء الزمان وعند انتهاء أزمنة شقاء الإنسان، خلعث ثوب مجدك الظاهري لتقوى على حمل اتضاعنا وخساسة طبيعتنا، وأتيت إلينا على الأرض وصرت جسداً، وأنت الكلمة الذي لا تسعك السموات.
وهكذا لما أخذت هيئة بنوتنا, تعرفنا عليك حالاً أنك أنت أنت ابن الله الذي منك انبثقت كل بنوة، فأنت الحامل للبنوة الإلهية جوهراً وذاتاً، التي كل بنوة في العالم المخلوق هي صورة منك.
وهكذا وأنت أصل كل بنوة، لما حملت صورة بنوتا اكتشفنا فيك الآصل: وتعرفنا عليك أنت الابن الوحيد لأبيه. وأدركنا بالروح مقصدك الحميد، أنك لبست صورة بنوتنا لترفعها إلى مستوى جوهر بنوتك. وتجعل الصورة التي ماتت تحيا من جديد» وتنطق باسم الله “يا أبا الآب”.
أيها الرب يسوع المسيح الكلمة ابن الله الذاتي, كلي الكرامة والمجد مع الله أبيك” الأن عرفناك أنك أنت أنت الكلمة الذي كان، والكائن في البدء ومنذ الآزل عند الله.
فبعد ما كملت استعلان الله بالخلق الناطق بلاهوت الله في كل المصنوعات التي خلقت، التي تحكي عن جبرؤوت خالقها، تجسدت بشبه خليقتك التي خلقت، مع أنك أنت لا تزال قوام الخلائق طرا، فكلها تتخذ وجودها ودوامها بتدبير حكمتك، فأنت حياة ونور كل أحد.
أنت «الكلمة» الذي كان، والمستعلن لنا «ابن الله» الآن.
هكذا نؤمن وهكذا نعترف، انك بعد أن أكملت استعلان الله بالكلمة, جئت إلينا لتكمل استعلان الله بالجسد. ولكننا من خلال اتضاع بشريتك أدركنا وتيقنا من مجد ألوهيتك ومجد الآب الذي أعلنته ببنوتك. فإن كانت الخليقة هي لغتك، فقد أعطانا الروح فك شفرتها، فأدركنا أن نور بصائرنا الذي به نراك هو رجع لشعاع نورك، وحياتنا وميض من حياتك, وحتى الحب الذي يقوم حياتنا وأجناسنا وأسرنا وأفرادنا كقانون يتغلغل كل ذي جسد، هو هو حب الآب فيك الذي منه سكبت هذا الحب في خليقتك لما خلقت. فإن كان قانون الحب عندنا هو علة حياتنا الذي يجمع كل جنس ويضم كل أمرة ويوحد الذكر بالأنثى والابن مع أبيه وأمه, فما ذلك إلا أنك أنت أحببتنا قبل أن تخلقنا وأحببتنا قبل أن تفدينا, فصار الحب هو علة وجودنا وخلاصنا, الذي يحكي بقوة عن الحب الذي فيك من نحونا ونحو أبيك، الذي هو من طبيعتك.
ولم تكتف أن يبقى حبك حبيس الخليقة التي خلقت، بل أفضت من روحك القدوس, سر الحب الأقدس، على أرواحنا فتخطينا حدود الخلائق، وارتقينا بالحب فوق طبيعتنا، والتصقنا بالله فيك، لنبقى معه فيك روحاً في روح، لأن “من التصق بالرب فهو روح واحد”(1كو17:6)، فبلغنا غاية الحب وبلغنا الرؤية العظمى, لأن “الذى يجبني يحبه أبي وأنا أحبه واظهر له ذاتي” (يو21:17)، وصرنا من «أهل بيت الله» (أف19:2).
وهكذا بعد أن كنا عاراً في خليقتك، صرنا بالحب شركاء مجدك، نأخذ منه ونعطيك. وهكذا أكملت اسعقلان الله فينا لما سكب فينا أبوة الله المنسكبة فيك، فاستعلنا الله أباَ لنا وورثتنا ما هو ليس لنا…
لما أراد الله أن يكمل حديثه معنا ليعرفنا بمحبته ويكشف لنا عن أحشاء رحمته بعد أن كلم الآباء بالأنبياء، كلمنا فيك، فتكلمت معنا بفم أبيك, أنت الكلمة والابن والله الناطق بسر الوجود. فتجسدت لتكون أقرب إلينا من أنفسنا، فنسمعك سمع الاذن ونراك رؤيا العين، وكابن الإنسان وأنت ابن الله تكلمت مع الإنسان، فكان الصوت صوت إنسان والمتكلم هو الله!!
ولما لبست صورة الترابي بعد أن أخليت ذاتك, لم تستطع أن تخفي ذاتك لأن حضرتك الإلهية كشفت سر اتضاعك، وكان صوت أبيك سباقاً لتعريفنا بك: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا.» (مت5:17)
والروح القدس لم يطق قعوداً في السماء بل أخذ جناحي حمامة وطار وحط عليك, فرآه المعمدان لما استقر عليك, فعرفك ونادى وشهد هذا هو ابن الله. بل وإن روح البنوة التي فيك استعلنت مجد بنوتك للعيون المفتوحة، فرأوا فيك مجد الابن الوحيد وشهدوا له, ومن ملء لاهوتك أخذ تلاميذك وامتلأوا نعمة وحقاً.
سجلت بأعمالك شهادة لاهوتك، وأعلنت بالكلمة سر بنوتك الفريدة لآبيك، ففيك استعلن الآب حالما استعلنت البنوة، وكلاهما كان الصفة الجوهرية التي كانت محتجبة، والقائمة في ذات الله: البنوة مع الابوة, وهكذا استكملت استعلان الابوة التي لك خاصة، في الله أبيك والتي نقلت عطفها إلينا وحبها فينا كما هو فيك.
الله لم يره أحد قط, هكذا قلت، ولهذا جئت لتخبرنا أنت وحدك بالخبر اليقين وبما رأيت وعاينت وسمعت، فعليك أنت الكلمة ؤضع كل حمل استقلان الله منذ البدء.
أنت الابن المحبوب الذي استودعك الله أبوك ملء سر حبه الأبوي، لهذا لم يستأمن أن يرسل سواك إلينا في ختام عهد تأديبنا، لتبلغنا حبك كعريس، وتنقل لنا حب أبيك كما هو فيك، وتنقلنا إلى حال العروس في بيت أبيك، وتمنحنا رتبة البنين لله كامتياز, في قوة ونعمة بنوتك الذاتية لآبيك, بعد أن فديتنا بحياتك ودم صليبك، لنرث معك وفيك ميراث البنين، بعد أن كنا عبيدً وكان مقامنا خارج السياجات.
أيها الكلمة الآزلي ذا القوة والجلال، يا مسيح الصليب والقبر والقيامة, يا ابن الله المحبوب لآبيه، الجالس عن يمين العظمة في الآعالي، والمكلل بالمجد والكرامة، ما الخليقة كلها في السماء وعلى الآرض بكل أفرادها ومكوناتها، والإنسان على رأسها، إلا انعكاس فعال لحب الآب لك ولحبك لآبيك القائم الدائم في الذات الإلهية العظمى، هذا الحب الماسك بأطراق العالم الذي لولاه لانفرط عقده، بل إن العالم كله والإنسان على رأسه إن هو إلاستعلان في صميم الزمان لسر الحب الذي كان عند الله في الآزل من نحو العالم والانسان، الذي كان يكمن فيه سر خلاص الإنسان، وباستعلان حب الله في الإنسان واستعلان الابوة والبنوة للانسان صار الإنسان هو الصورة المجسدة الضئيلة التي تحكي عن سر اكتفاء الله في ذاته.
أنت “من لي في السماء، ومعك لا أريد شيئاً على الآرض.” (مز25:73)
لك نقدم الشكر مع التسبيح والسجود والمجد الدائم لك مع أبيك الصالح والروح القدس الإله الواحد أبينا وسيد كل أحد.
“والكلمة صار جسداً”
«صار» هنا لا تفيد التغيير كما لا تفيد أن الكلمة توقف عن أن يكون الكلمة. لأن “الكلمة” بدء كل ذي بدء، له جوهر الله وطبيعته، لذلك فهو غير قابل للغيير وغير قابل للتحول, ولكن القول “صار” يفيد اتخاذه درجة في الاستعلان تتناسب مع ضعف إدراكنا، لأن عجز الأنبياء في توصيل « الكلمة» للناس وفشل الناس في إدراك «الكلمة» جعلا الكلمة يأخذ حالة أكثر اقتراباً لإدراكنا، حتى يتمم فيها استعلاناً أكثر لله.
كذلك نجد أذ قوله: «صار» هنا تتصل بمفهوم عميق مع «صار» التي جاءت في الأية 2:1 “كل شيء به صار”، إذ نلمح أن القديس يوحنا يكاد يقول أن الكلمة هو أصل ومركز الخليقة القديمة والخليقة الجديدة، فالاولى «به صارت» والثانية “فيه صارت”, و«صار هو رأساً لها»، وكأن القديس يوحنا يود أن يقول “أنه صار إلى الذي به صار. ومن هنا جاء القول «بكر كل خليقة» (كو 15:1)، لأنه هو أيضاً أول قيامة الأموات!!
كذلك فإن “الجسد” الذي صار إليه وفيه؛ لا يعبر عن جزء من الإنسان، ولكنه تعبير لاهوتي عن طبيعة الإنسان ككل، جسداً ونفساً وروحاً.
وكلمة «الجسد» هي تعبير سائد في العهد القديم يعبر عن البشرية ككل، ونسمع ذلك في قول يؤئيل النبي (في الترجمة السبعينية): « ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل جسد… «، التي جاءت في الترجمة العربية «على كل بشر.» ( يؤئيل 28:2)
والمعنى أن «الكلمة» الذي «كان في البدء، وكان عند الله، وكان هو الله»، صار إنساناً كاملاً له كل ما للطبيعة البشرية من صفات, ما عدا الخطية وحدها, وهو هو الكلمة، كما كان قبل التجسد هكذا بقي كما هو بعد التجسد.
والقديس يوحنا, عن حكمة روحية وبصيرة لاهوتية, اختار كلمة «صار«، ولم يقل «أخذ جسداً»، كما يخطىء بعض اللاهوتيين، فهو لم «يأخذ» وإلا كان من المحتمل أن «يترك»؛ كذلك لم يقل «حل في الجسد» مجرد حلول وإلا احتمل الإخلاء والترك؛ بل قال «صار»» بحيث يستحيل أذ يتراجع فيما صار اليه لأن الصيرورة هنا شملت كيانه كله!
وحيما قال صار”جسداً، فهو بحكمة اختار كلمة «جسد»، فهو لا يقصد أنه صار إنساناً ما مجرد واحد من الناس. ولكه يقصد أنه صار«بشراً» له «ملء الطبيعة البشرية كلها«. لذلك نسمع المسيح يعطي نفسه اسم »ابن الإنسان» ليعبر عن البشرية كلها القائمة فيه. وفعلاً قد عبر بحياته على الآرض تعبيراً كاملاً عن الطيعة البشرية بكل ضعفها وأعوازها دون خطأ أو خطية، دون أن يتنازل لحظة واحدة ولا طرفة عين عن كونه «الكلمة» الله أو «الله الكلمة». وبهذا استطاع أن يرفع الطبيعة البشرية التي صار فيها إلى منتهى الكمال: “لأجلهم أقدس أنا ذاتي” (يو 19:17). لأن القصد من التجسد هو استعلان أن «يسوع» هو المسيا “الكلمة” الأزلى: «كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله(ايو2:4)، حيث كلمة «جاء في الجسد» تضيف إلى مفهوم «صار جسداً» الاولى مفهوم الديمومة في التجسد الكامل دون أي تغيير. لأن «صار جسداً» وحدها تفيد الحقيقة أنه صار بطبيعة الإنسان كاملة، أما قوله: “جاء في الجسد” فتفيد التواجد في هذه الحقيقة، والإستمرار فيها.
أما تأكيد التجسد أو أن الجسد الذي صار به هو جسد بشري داخل في مسلسل البشرية, فهذا يقرره بولس الرسول في رسالته إلى رومية: “بولس عبد ليسوع المسيح… الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة عن ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد.” (رو 1:1-3)
واختصار هذه الأية هو كالأتي: “يسوع, المسيا, ابن الله, تجسد !!”
ثم إذ التأكيد على أن البشرية التي صار بها هي بشرية حقيقية متألمة وقابلة للموت, فهذا يصفه أيضأ بولس الرسول: “فالله, إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية, دان الخطية في الجسد”(رو3:8)
أما قوله: «شبه جسد الخطية» فهو ليفرقه من “جسد الخطية”، فجسد المسيح يحمل كل مكونات جسد الخطية ما عدا الخطية، لأن بشرية المسيح وُجدت, لحظة ما وُجدت, متحدة بلاهوته!! فلم يكن ممكناً أن تداهم, الجسد, عناصر الخطية، بل ولأن جسد المسيح كان خالياً خلواً تاماً من عنصر الخطية، استطاع بلاهوته أن يدين, أي يحكم ويعاقب ويفرز الخطية بالجسد عندما حل عقوبتها عليه وهو بريء منها. فالصليب والموت كانا أقصى فضيحة للخطية وأعظ تتويج لجسد الإنسان بالنصرة عليها: “فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس”(عب14:2)
ولكن السؤال الكبير المحير: كيف أمكن «للكلمة الله» أو “الله الكلمة” وهو في ملء لاهوته ومجده أن «يصير جسداً»، ويوجد في الهيئة كإنسان؟ بمعنى أن مجد اللاهوت حينما يحل حلولاً ذاتيأ ودائمأ في جسد إنسان, علمأ بأنه كان أكثر من حلول إذ هو اتحاد وصيرورة, فإنه يمنع الجسد من أن يظهر بصورته الطبيعية, فبهاء مجد الله يصعق العين الترابية، وهوذا المثل أمامنا عملياً وواضحاً، فالمسيح نفسه لما استعلن لبولس الرسول بعد القيامة وهو في مجده لم يحتمله لا بولس ولا الذين معه: «رأيت في نصف النهار في الطريق أيها الملك نورا من السماء أفضل من لمعان الشمس قد أبرق حولى وحول الذاهبين معي, فلما سقطنا جميعا على الارض سمعت صوتاً يكلمني ويقول باللغة العبرانية شاول شاول لماذا تضطهدني… فقلت أنا “من أنت يا سيد” فقال “أنا يسوع الذي أنت تضطهده”» (أع13:26-15)
ولكن الذي نعرفه تماما أن يسوع المسيح حينها كان يعيش على الآرض، لم يكن له هذا النور الذي هو أشد لمعاناً من نور الشمس وقت الظهيرة!
هنا يقول بولس الرسول أنه لكي يحل ملء اللاهوت في الجسد ويتحد به، يلزمه أولاً أن يتخلى عن مجده الإلهي المنظور: “الذي كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة (هيئة) عبد صائرأ في شبه الناس” (فى6:2-7). وهذا هو الذي عبر عنه اللاهوتيون باسم “الإخلاء” باعتباره عملاً يتبع قدرة الله على كل شيء التي بها يقدر أن يخلي ذاته, في الظاهر, من مجده.
ولكن هذا الإخلاء ل يُنقص من كل خصائص اللاهوت التي حل بها الكلمة فى «الجسد» واتحد به, إذ يقول بولس الرسول: “فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا, وأنتم مملوؤن فيه!!”(كو9:2)
من هذا نستطيع أذ ندرك مدى عمق وفخامة المعنى في قول القديس يوحنا، وبمنتهى الإختصار «والكلمة صار جسدا»، فهنا قد بلغ استعلان الكلمة أوج قوته وعمقه وفعله لأن «جسد الكلمة» هذا، الذي هو جسد يسوع المسيح، أصبح أعلى قوة إلهية حصل عليها الإنسان ليدرك الله بها وفيها ويقترب إليه.
فجسد الكلمة, أي جسد يسوع المسيح, صار هو الطريق المفتوح أمام الإنسان إلى الأقداس العليا في السماء: «فإن لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إل الأقداس بدم يسوع، طريقاً كرسه لنا حديثاً حيا بالحجاب أي جسده…» (عب19:19-20). لأننا سبق أن قلنا أن يسوع المسيح “دان الخطية بالجسد”، فبالصليب أي بموت الجسد عن الخطية صار«الجسد» معبراً سرياً إلى الأمجاد العليا.
ثم إن هذا «الجسد», جسد الكلمة يسوع المسيح ابن الله, الذي قدمه الله نفسه ذبيحة خطية على مذبح خطية العالم كـ «حمل الله الذي يرفع خطية العالم» [فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة] فأصبح لحمه يؤكل بالسر, أي بالروح للتقديس, وهذا نسمعه من فم الرب قديماً متتماً بالفعل كنبوة ونموذج لذبيحة المسيح على الصليب يوم الفصح:
“تكون لكم شاة (حملاً) صحيحة ذكرا ابن سنة… ويكون عندكم تحت الحفظ إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر(نيسان), ثم يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل في العشية، ويأخذون من الدم ويجعلونه على القائمتين والعتبة العليا في البيوت التي يأكلونه فيها. ويأكلون اللحم تلك الليلة مشويأ بالنار مع فطير، على أعشاب مرة يأكلونه… هو فصح للرب.” (خ 5:12-11)
هذا هو المسيح فصحنا، فقد قبضوا عليه وتحفظوا عليه حتى اليوم الرابع عشر, بحسب إنجيل يوحنا, واشترك كل جهور جماعة شعب إسرائيل في ذبحه على الصليب “حسب الطقس”، وأهرقوا دمه على الصليب وعلى الأرض، على خلفية من نار الآلام ومرارة التعذيب، فكان هو “الفصح الحقيقي” الذي تم على اسمه أول فصح في مصر: “وتكون جثتاهما على شارع المدينة العظمى التي تدعى روحيا سدوم ومصر حيث صُلب ربنا أيضاً” (رؤ8:11). هذا هو فصحنا الحقيتي المذبوح لنا: “لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا” (اكو 7:5)
وكما أن الذين أكلوا الفصح الآول عبر عليهم الملاك ولم يقتحمهم حسب وعد الله لكل من أطاع وأكل لحم الفصح واختبأ خلف الدم، والذين لم يأكلوا ولم يتحصنوا بالدم أهلكهم المهلك؛ هكذا صار الأكل والشرب من فصحنا الجديد حمل الله الذي يرفع خطية العالم.
الفصح القديم كان بالرمز لنموذج جسدي، أما فصحنا الجديد فبالحق على مستوى الروح: “جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق… فمن يأكلني فهو يحيا بي” (يو55:6-57)
والإنذار الآول بالهلاك لمن لم يشترك في القصح بقي هو كما هو:
”من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (يو54:6)
“إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم.” (يو53:6)
ثم هذا هو بعينه “الجسد” الذي «صار للكلمة».
وهو الجسد الذي بذله من حياة العالم على الصليب.
وهو الجسد الذي هو بالحقيقة »خبزالسماء», «حبة الحنطة» التي سقطت من السماء على أرض الشقاء فماتت، ثم قامت واستقامت، وأتت بغلة وفيرة ملأت أهراء الحياة.
وهكذا يكون بـ «الكلمة صار جسداً», قد صار تأسيس طريق الخلاص للدخول إلى الأقداس العليا، وتأسيس سر الاتحاد الجديد بالإفخارستيا. فجسد الكلمة، أي «يسوع« المسيح ابن الله، صار خبز الحياة الذي يأكل منه الإنسان ولا يموت. فهنا اتحاد ذو شقين:
الأول: اتحاد عل مستوى الطبيعة الإلهية: «كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى… اللذين بهما قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية» (2بط3:1-4)؛ “لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله.» (أف19:3)
والثاني على مستوى الذات، أي شخصي: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم» (أف17:3)؛ «مع المسيح صُلبت فأحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا في. فما أحياه الأن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل20:2)؛ “إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً. (يو23:14)
فكل هذه النعم والمواعيد العظمى والثمينة, وهذا الخلاص العجيب، وهذا الحب الإلهي الذي جعل هياكل أجسادنا وأرواحنا منزلاً مريحأ لسكنى الآب والمسيح والروح القدس لتغيير طبيعتنا وتقديسها، وهذه الشركة والزمالة والمؤازرة في الحياة الحاضرة مع شخص الكلمة يسوع المسيح ابن الل؛ كل هذا تم لما انتهى «الكلمة» إلى قراره الآخير: “أن يصير جسداً”.
والآن يلزمنا أن نعود لندقق في المعاني اللاهوتية التي يتضمنها «التجسد» حتى نتجنب الإنزلاقات التي وقع فيها أئمة الهراطقة الذين خرجوا عن حدود الإيمان الصحيح بالتجسد:
1- البشرية التي «صار» إليها وبها الكلمة, أي التجسد, هي بشرية كاملة وصحيحة للانسان الكامل. وهذا ما وقع فيه أبوليناريوس الذي قال بأن البشرية التي أخذها المسيح لنفسه لم تكن كاملة. فهو أخذ جسداً ولكن هذا الجسد لم يكن جسداً كاملاً كما لإنسان عادي.
2- البشرية التي صار بها المسيح كانت بشرية حقيقية ودائمة. وهذا ما وقع فيه جماعة الغنوسيين (العارفين) الذين قالوا أن الكلمة أخذ جسداً حسب الظاهر فقط ولمدة قصيرة وبقي غريباً عن نفسه. فالكلمة عندهم صار جسداً ولكنه لم يلبس هذا الجسد. كما ضل الدوسيتيون الذين قالوا إن الجسد كان خيالاً أو شبهاً فقط. ولم يكن حقيقيا.
إن الطبيعة الالهية والطبيعة البشرية اتحدتا بالتجسد اتحادا كليا وكاملاً وصارتا واحداً. ولكن هذا الاتحاد لم يغير شيئاً من كلتا الطبيعتين، كل في مجاله، فهو “إله متأنس” وليس إلهاً وإنساناً وكأنه ازدواج للشخصية. فلم يأت عملاً إلهياً دون أن يكون الجسد شريكأ فيه، ولم يعمل عملاً جسدياً دون أن يكون اللاهوت شريكاً فيه. فلما أقام لعازر من الموت، أقامه بقوة لاهوته وبصوت فمه معاً. ولما مات، مات بالجسد، واللاهوت فيه لم يفارقه حياً وميتاً، لذلك لم يفسد الجسد ولذلك قام!! ولذلك أيضاً كان موته نصرة للجسد والروح معاً وكان فداء وخلاصاً! فإذا لم يكن اللاهوت ملازماً وشريكا في الآلام والموت لاستحالت الآلام أن تكون آلاما خلاصية والموت موتاً فدائياً. فالله فدانا بالجسد، والدم كان دماً إلهياً. “فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلى قدم نفسه لله (عب14:9), ولما قال: «أنا هو القيامة والحياة» (يو25:11)، قاما عل أساس لاهوت القيامة الكائن في الجسد المتحد به؛ فلما قام، قام بقوة لاهوته وبالجسد. ولما بكى، كان ذلك أعظم تعبير عن شركة اللاهوت (الله) في أحزان الإنسان موضحاً بالجسد: «في كل ضيقهم تضايق…(إش9:63). وهكذا لم يأت المسيح عملاً إلا واللاهوت له فيه كما للناسوت. لأن بعد الاتحاد لا يمكن أن تعمل أي طبيعة منهما بانفراد عن الأخرى ، لأن شخص المسيح، أي أقنومه، واحد هو الذي جمع الطبيعتين ووحدهما في واحدية ذاتية، فيستحيل عليه أن يكون له مشيئتان ولا إرادتان ولا قولان ولا نظرتان قبالة موضوع واحد. فجاءت أعماله كلها تنطق بوحدة بشرية كاملة ناضجة نفسا وجسدا وروحاً مع لاهوت كامل فعال على مستوى الله قوة وسلطانا ومجدا. وهذا كله واضح لا محتاج إل مجادلة في قول القديس يوحنا «والكلمة صار جسداً»». و«صار» هنا تنص وتؤكد عل عملية توحيد سري فائق للغاية أتاها الكلمة مع الجسد في ذاته ليعيش فيه إلى الأ بد ويعمل به كل أعمال الخلاص، بل ويمجد به الله والآب ، بل ويعيش به في مجده الذي كان له قبل إنشاء العالم، فكلمة «صار» أصبحت هي مركز الوحي اللاهوتي الصحيح. لأنه وإن كانت كلمة “صار” في قوله »والكلمة صار جسداً» تحمل في طياتها عمليات إلهية سرية خطيرة في معزل عن قدرة فكر الإنسان، وهيهات للانسان أن يبلغ مداها؛ إلا أن شيئاً واحداً يتحتم علينا أن لا نفوته، وهو أنه إن لم يكن قد صالح الله «الكلمة بالجسد» لما «صار الكلمة جسداً»، لما أمكن أن يصالح الكلمة المتجسد الله بالإنسان! أو كيف يصالح الآب الكلي القداسة بالإنسان الذي بلغ الحضيض في الخطية والنجاسة؟
وإن كان المسيح الكلمة المتجسد قد وقف يتشفع ويحامي ويطلب لدى الله الأب عن الإنسان الخاطىء, مطالبأ الله أن يجعله واحدأ في الآب والابن: «ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الأب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا, ليؤمن العالم أنك أرسلتني» (يو21:17), لأن رسالة المسيح »الكلمة المتجد» تتركز وتتلخص في هذا المطلب الواحد الآخير أن الإنسان يصير واحدأ مع الآب والابن؛ فكيف يتصور أن يكون الكلمة قد أخفق في أن يوحد اللاهوت بالناسوت إلى واحد في نفسه؟
وعندما قال المسيح: “أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد” (يو23:17)، فهل لم يكن يحب حساب الناسوت الذى له؟ وكيف يعقل أن نصير نحن واحد في المسيح, وواحداً في الآب مع المسيح, ونبلغ إلى «الشركة في الطيعة الإلهية»ء إذا تصورنا أن المسيح نفسه قد أخفق أن يُصير اللاهوت والناسوت واحداً ؟!
إذن فإيمان الكنيسة القبطية الأ رثوذكسية هو إيمان إنجيلي بالدرجة الأ ول ولاهوتها هو من عمق أعماق لاهوت إنجيل يوحنا؛ عندما تقول أن الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية صارتا واحداً بالاتحاد في أقنوم الكلمة المتجسد وليس اثنين بعد الاتحاده وأن المسيح كانت له بالتالي حتماً وبالضرورة مشيئة واحدة وإرادة واحدة.
هذا الأمر اختلط على أوطاخي إذ اعتبر أن اتحاد الطبيعتين أنشأ طبيعة ثالثة، واحدة، كانت فيها الطبيعة البشرية منسحبة وكأن لا وجود لها. فسماه اللاهوتيون(Monophysite) وألصقوا هذا الإصطلاح بالكنيسة القبطية، وهي من الأوطاحية ومن هذا الإفتراء براء !!
فعندنا «الكلمة صار جسداً» تعني أن كل من الكلمة والجسد صارا واحداً، يعملان معاً بانسجام فائق، نتيجة اتحاد كامل، إذ وحد بينهما المسيح في ذاته ليعملا عملاً واحداً بمشيئة واحدة وإرادة واحدة ورأي واحد هي مشيئته وارادته الذاتية الواحدة التي يستمدها من الأب. وفي وحدة الطبيعة والذات التي عاش بها المسيح ويعيش بها حتى الأن وإلى الأ بد مع الله، سيظهر بها كما كان يعيش فيها على الأرض: «ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله, لأننا سنراه كما هو» (1يو2:3)
4- إن بشرية المسيح كانت عامة وليست بشرية فردية. فهو كان، ونادى بأنه “ابن الإنسان” أكثر مما عُرف أنه من الناصرة أو الجليل أو ابن داود. كما كانت بشريته كاملة تسمو فوق اعتبارات الجنس ذكراً أو أنثى. وهذا واضح ومُضمن في قول القديس يوحنا «صار جسداً» ولم يقل صار إنساناً, وهذه لفتة بديعة, حتى يشمل كل ما للإنسان دون أن يستثني شيئاً منه.
5- قولنا أن الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية اجتمعتا واتحدتا إلى واحد في شخص «الكلمة»، أي يسوع المسيح, ثم قولنا أن المسيح وحدهما إلى واحد في ذاته، وبناء على ذلك كانت له مشيئة واحدة وارادة واحدة, هذا يقطع خط الرجعة على كل أشكال «النسطورية» التي قالت أنه كان له شخصية إلهية بجوار شخصية بشرية كل منهما تعمل عملها الخاص بها. وذلك نشأ بضرورة الحال لما اعتبروا أن الطبيعتين اللاهوتية والبشرية لم تأتيا فيه إلى إتحاد ووحدة!! فعندهم كل طبيعة برزت بشخصية تحمل خواصها. وهذا تقسيم شنيع في شخص المسيح الواحد. علماً بأن “الكلمة الذي كان في البدء، وكان عند الله وكان الله، والكلمة صار جسداً»؛ نقول أن شخص الكلمة أو أقنومه لما صار جسداً لم يأخذ شخصية جديدة عما كان له، ولم يغير شخصيته الإلهية، بل نسمع المسيح, أي الكلمة المتجسد, يقول بقوة وجلال «أنا هو»: « أنا هو الحق والحياة والنور» !!! »وقبل أن يكون إبراهيم أنا كائن»، و«إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم» (يو24:8)، «وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء, ابن الإنسان الذي هو في السماء.» (يو13:3)
6- إن الطبيعة البشرية التي صا رفيها الكلمة تأثرت تأثرا مباشراً باللاهوت, فبعد أن كانت تحت لعنة الموت رفع عنها الكلمة هذه اللعنة بلاهوته لحظة أن صار فيها، وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير: [لأنه كان من الضروري عندما صار الجسد جداً له أن يشترك في عدم الموت الذي له, أي الذي للكلمة].
7- كذلك فالطبيعة البشرية التي صارت للكلمة وصار الكلمة لها لما أخذت قوة عدم الموت أخذت فيها قوة القيامة من الأموات. لذلك قام الجسد من الموت دون أن يمسك فيه.
وهكذا فإن قول القديس يوحنا “والكلمة صار جسداً” فتح أمام اللاهوتيين كل كنوز اللاهوت التي كانت مخبأة لحساب «الجسد» الكلي أي البشرية عامة. لأن التجسد كان في حقيقته تنازلاً إلهياً سخياً إلينا، حاملآ على ذراعيه كل ما يمكن أن يعطيه الله للانسان مما كان هو محتاجاً إليه أو مما كانت محسوبة له أصلاً في الخليقة الاولى وفقدها بالخطية وبالبعد عنه.
هذه العطايا الإلهية السخية، حمل الله أصولها ونموذجها الكامل لجسده أي بشريته, التي صيرها له وصير نفسه لها كعينة لما هو مزمع أن يصنعه في جسد البشرية. ولو أدركنا هذه الحقيقة لآدركنا سر لاهحوت بولس الرسول كله، بل وسر إنجيل يوحنا وبقية الأناجيل وكل أقوال المسيح:
أ- فبولس الرسول فهم «الكلمة صار جسداً» بأن ملء اللاهوت حلق في جسد الكلمة “فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً” (كو9:2). فيتمسك بذلك بولس الرسول بالحرف الواحد, كما أصبح حقاً لنا أن نمتلىء منه أو فيه: «لكي تمتلئوا الى كل ملء الله» (أف19:3)، «وأنتم مملوؤون فيه» (كو10:2). أو حسب تعبير القديس يوحنا «ومن ملئه نحن جيعا أخذنا نعمة فوق نعمة» (يو16:1)
ب- ولأن لعنة الموت رُفعت عن «جسد الكلمة» وحل محلها قوة القيامة وملء الحياة الأبدية نتيجة الاتحاد الإلهي، كذلك أصبح لنا هذا الحق عينه: «من آمن بي ولو فسيحيا, وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى إلى الابد.» (يو25:11-26)
»من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إل دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5)
«من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا اقيمه في اليوم الأخير.» (يو24:5)
وهنا قوة ومركز الإفخارستيا المنقطع النظير، المترتب أصلآ عن أن “الكلمة صار جسداً”، إذ أن «الجسد» بفهوم «اللحم» و »الدم »» في الكلمة أي فى “جسد الكلمة” صار فيه وصار له كل ما للكلمة من قوة إلهية مدخرة فيه وعاملة به للشفاء من الموت، لذلك ستاه الآباء “ترياق عدم الموت”؛ بل ولإعطاء الحياة الآبدية، بل ولأخذ قوة القيامة ونور الخلود، لأنه «جسد الكلمة» أو إذ جاز القول “جسد الله” أو “جسد الحياة الابدية” أو «جسد النور»!! فانظر أيها القارىء وتمعن كيف يأكل ويشرب الإنسان بالسر “جسداً” مُدخراً فيه كل كنوز الله هذه مجاناً.
ب- «وحل بيننا».
كلمة “حل” تأتي في اليونانية ( ). وأصل الكلمة مأخوذ من كلمة الخيمة. وهكذا فهي تشير
إلى السكنى أو الحلول كما يضرب الإنسان خيمة على الآرض.
ثم تأتي كلمة “بيننا” لتزيد معنى الإقامة في خيمة وسط شعبه، إشارة إلى الحياة التي سيحياها على الأرض. فهي لا تعني السكنى فقط بل الإقامة والمعيشة. والحياة في الجسد كما في خيمة هو تراث فكري يهودي نسمع عنه من بطرس الرسول “عَالِماً أَنَّ خَلْعَ مَسْكَنِي قَرِيبٌ كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ الْمَسِيحُ أَيْضاً (2بط 1 : 14)”, وكذلك عند بولس الرسول «لأننا نعلم أنه إذا نقض بيت خيمتنا الأرضي (الجسد) فلنا في السموات بيت من الله الله غير مصنوع بيد أبدي» (2كو 1:5)
ولكن قصد القديس يوحنا الأساسي من ذكر هذا التعبير, أي الحلول في الخيمة, هو رفع أبصارنا إل ما صنع «يهوه» الرب قديماً عندما حل في خيمة الإجتماع وسط شعب إسرائيل.
“ثم غطت السحابة خيمة الإجتماع وملأ بهاء الرب المسكن، فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الإجتماع.” (خر34:40-35)
“لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم بل كت أسير في خيمة وفي مسكن” (2صم6:7)
وبهذا يكون القديس يوحنا قد ربط بين حلول يهوه قديماً في خيمة الإجتماع وسط الشعب حيث ملأ بهاؤه المسكن، وبين حلول الكلمة في خيمة جسده الذي لم يستطع أذ يخفي بهاه عن أصحاب العيون المفتوحة “ورأينا مجده” بالرغم من الإخلاء الظاهري الذي أجراه في ذاته ومن اتضاع هيئة جسده.
والعجيب أن الروح لا يتركنا بلا توضيح، فالنبوات لم تترك حتى هذا الحلول والسكنى في أخر الأيام دون إشارة، فنسمع عنه من زكريا النبي «ترنمى وافرحي يا بنت صهيون لأني هأنذا أتي وأسكن في وسطك يقول الرب.» (زك10:2)
هذا من جهة الحلول « في وسطنا».
كما يعطيا حزقيال النبي صورة أخرى للحلول «من فوق»: «ويكون مسكني فوقهم وأكون لهم إلهاً ويكونون لى شعباً« (حز27:37)
ولا نستغرب قوله: «مسكني فوقهم»، فهذا في الواقع كان موضع سكنى يهوه الرب العظيم داخل خيمة الإجتماع فوق “الغطاء” على التابوت. وغطاء التابوت هذا له شأن عظيم جداً سواء في اللاهوت العبري القديم, وكان اسمه عندهم «الشاكيناه» وهو “السكن” أي “موضع السكنى”, وطبعا دون ذكر اسم الله احتراماً وتوقيراً, أو في اللاهوت الطقسي في الكنيسة القبطية(الايلاستيريون) .
“وصنع غطاء من ذهب نقي طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف، وصنع كروبين (الشاروبيم) من ذهب… وكان الكروبان باسطين أجنحتهما إلى فوق مظلين بأجنحتهما فوق الغطاء ووجهاهما كل واحد إلى الأخر” (خر6:37-9). وقد حدد الله مكان تواجده عل هذا الغطاء هكذا:
2- «كَلِّمْ هَارُونَ أَخَاكَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى الْقُدْسِ دَاخِلَ الْحِجَابِ أَمَامَ الْغِطَاءِ الَّذِي عَلَى التَّابُوتِ لِئَلَّا يَمُوتَ لأَنِّي فِي السَّحَابِ أَتَرَاءَى عَلَى الْغِطَاءِ. (لا2:16)
22- وَأَنَا أَجْتَمِعُ بِكَ هُنَاكَ وَأَتَكَلَّمُ مَعَكَ مِنْ عَلَى الْغِطَاءِ مِنْ بَيْنِ الْكَرُوبَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى تَابُوتِ الشَّهَادَةِ بِكُلِّ مَا أُوصِيكَ بِهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (خر22:25)
وفي العبري تترجم “الايلاستيريون” بـ »الكابوراة», ويترجمها بعض العلماء بكرسي الرحمة, إشارة إلى مركز المسيح الشفاعي؛ ولكن معظم العلماء المدققين يربطون معناها بالكفارة وليس بالشفاعة, لأن المعنى الجذري في العبرية يقوم على الذبيحة، فهو معنى ذبائحي ينسجم مع الكفارة وليس الشفاعة. لأن رئيس الكهنة يدخل مرة واحدة في السنة في يوم الكفارة إلى قدس الآقداس لينضح من ذبيحة الخطية على الكبوراة أي غطاء التابوت أي الإيلاستيريون. وبولس الرسول يقطع بأن المسيح قد صار هو الايلاستيريون وقد تخضب بدم نفسه فصار الكبوراة الإلهية والكفارة الدائمة (رو25:3).
من هذا يتضح أن عبادة يهوه قديماً ارتبطت بخيمة الإجتماع وحلوله فيها وكان مركز خيمة الإجتماع الأقدس هو التابوت، وأقدس ما في التابوت هوغطاؤه حيث يسكن يهوه بصفة دائمة، كما يُفهم من الآيات السابقة.
وفي اللاهوت العبري، يعتبر الغطاء هذا أو الشاكيناه هو موضع «سكن» يهوه المقدس الدائم سواء في ترحاله قديماً أو إقامته الدائمة في الهيكل. وقد قدس العبرانيون اسم الشاكيناه »السكن» وجعلوه عوض اسم الله أو “الحضرة الإلهية”، فجاءت الترجمة العبرية للآية: «ويجعلون لى مُقدساً (هيكلاً) لآسكن في وسطهم» (خر8:25) في الترجوم هكذا: «وسأجعل الشاكيناه تسكن في وسطهم». لذلك فإن قول القديس يوحنا: “وسكن بينناً” كان يهدف بقوة إلى لفت أنظارنا إلى الحضرة الإلهية أو موضع سكناه في القديم.
وقد التقط آباء الكنيسة القبطة الآوائل هذا الوضع الفائق والممتاز لغطاء التابوت, الشاكيناه, (السكن)، وجعلوه تعبيراً عن الجسد، وجعلوا العذراء القديسة مريم هي الغطاه الذهب الذي حل عليه الله، أو سكنت فيه الحضرة الإلهية.
غير أن بولس الرسول استخدم لفظة “الغطاء” بمعنى الكفارة في الآية: “الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه” (رو25:3)، وهي الكلمة العبرية الأصل “كبوراة” المسماة أيضاً “كرسي الرحمة”.
من ها جاءت النبوة «ويكون مسكي فوقهم وأكون لهم إلهاً ويكونون لى شعباً» (حز27:37). فإنجيل لوقا يسجل لنا كيفية مدخل الكلمة إلى الجسد الذي حل فيه هكذا: «الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظلك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يُدعى ابن الله« (لو35:1). فهنا واضح أنه بدأ سكناه هكذا «يحل عليك» وبدأ مجد الله وقوته تخيم «فوق» جسد البشرية الممثل في العذراء القديسة الثيئوتوكس.
ويحلو لنا أن نكمل بأن ترحال يهوه قديماً «ساكناً» وسط شعبه، من خيمة إلى خيمة ومن موضع إلى موضع مع الشعب التائه أربعين سنة, وفي العبور الإعجازي للأردن، حيث التابوت كان يتقدم المسيرة، ثم الإقامة الساخطة في وسط شعب متمرد غليظ الرقبة الذي أعطوه القفا دون الوجه جزاء ترحاله المضني معهم هذه السنين كلها، أخيراً وأخيراً جداً استقر في “جسد الإنسان: الشاكيناه الحقيقي والحضرة الحقيقية لله” التي وثق أعمدتها في السماء وعلى الأرض: «وليس أحد صعد إل السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يو13:3) ليعيش فينا ومعنا دائمأ وإلى الأ بد “وها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر.” (مت 20:28).
ج- “ورأينا مجده”
واضح أن «حل بيننا» بمفهومها المنطبق على سكنى الحضرة الإلهية في الجسد عل مستوى خيمة الإجتماع لا بد أن يرافقها استعلان المجد. وها يقدم القديس يوحنا شهادته كواحد من الذين رأوا هذا المجد.
وكلمة »«رأينا» باللغة اليونانية تتبع مجموعة الرؤية غير العضوية التي ليست بالعين بل بالإيمان للاستعلان. فكلمة «يرى» باليوناية عند القديس يوحنا وردتعل ستة تركيبات تختلف في اللفظ بعضها عن بعض، بينما هي تأتي في الترجمة العربية بتركيب واحد: «يرى»، أما في اليونانية فهي تنقسم إلى ثلاث مجموعات كل منها له موضع خاص للتعبير عن نوع من الرؤيا الخاصة, ولفظة ( ) هنا تتبع الرؤيا الخاصة بالاستعلان، سواء بخصوص حادثة أو لشخص المسيح نفسه الذي يستعلن ذاته من خلال كلماته وأعماله. وهذا النوع من الرؤيا لا يتبع الرؤيا الروحية التي للروحيين, التي يروا بها ما لا يُرى، ولكنها هنا رؤية الايمان البسيط الذي يستعلن الحق بمقدار ما يعلن الحق ذاته. وهذا كان سلوك المسيح العجيب، الذي كان يعمل ويتكلم مُعلناً الحق الذي فيه، الذي كل من كان عنده حاسة الإيمان كان يقبله ويؤمن، لأنه كان يرى الحق الذي فيه. وهذا النوع من الإيمان أو رؤية الإيمان لا يحتاج في الحقيقة للرؤية العينية وهو الذي نص عليه المسيح بقوله لتوما: »لأنك رأيتني يا توما أمنت، طوبى للذين أمنوا ولم يروا” يو29:20). هذه الطوبى المدخرة في رؤيه الإيمان بلا عيان وهي التي بقيت لنا حتى اليوم كما يقول بطرس الرسول: “الذي وأن لم ترونه تحبونه, ذلك وإن كنتم لا ترونه الآن لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد.”(1بط8:1)
هنا يتحتم علينا أيها القارىء العزيز أن نوضح قيمة رؤية الايمان غير العيني, إذ أنه أصلاً قائم على رؤية علنية منظورة ومحسوسة إذ كانت تخص الكلمة المتجسد, هذه الرؤية العلنية التي ارتفعت عندهم إلى رؤية غير معتمدة على النظر والسمع، هذه هي الرؤية الإيمانية الصرف, التي سلمها الرسل للكنيسة، فصارت هي أساس الإيمان القويم غير المعتمد على المشاهدة ورؤيا العين، ولكن بقي الرسل هم أساس هذا الإيمان الوحيد. لذلك نحن نؤمن بالرسولية الكنسية عن حق وأصالة وضرورة حتمتها رؤيتهم القائمة على الرؤية العينية والمشاهدة واللمس التي اختصوا بها وحدهم دون جميع من رأوا الرب, لهذا صار الإيمان الرسولي المؤسس على ( ) هو ذخيرة الكنيسة، التي عليها نعيش، وبها نمسك كمن يمسك بالحياة الأبدية.
وهذا الأساس الرسولى الإيماني القائم على الرؤية الإيمانية غير العينية يضعه القديس يوحنا الرسول موضع الشهادة الرسولية، لكي يعتمد بختم رسول: «ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مُخلصا للعالم» (1يو14:4), «الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة… » (1يو1:1). لذلك نستطيع بكل يقين أن نقول أن الإيمان غير العيني القائم على الرؤيا الصادقة هو إيمان تاريخي بالدرجة الاولى، له جذر تاريخي عاينه الرسل وعاشوه, لأن الله ظهر في الجسد وفي التاريخ. لهذا فكل من بلغ بالحقيقة إل رؤية الرسل هذه لابن الله يكون قد بلغ الرؤية الأمثل بكل تأكيد، أي يكون قد واجه معجزة التجسد ووضع يده على الجسد ورأى وشاهد ولمس، وذلك من خلال إيمان الرسل وشهادتهم, لذلك لم تصبح معجزة التجسد حبيسة تاريخ جيل الرسل, لقد استطاع الرسل بالرؤيا الغير عينية أن يجعلوا معجزة التجسد معجزة كل جيل, لتد أخرجوها من حيزها التاريخي إلى ما هو فوق التاريخ وبعده.
ولعل أقوى المواضع التي ذكر فيها كيف شوهد المجد علناً وعياناً هو حادثة التجلي، ولو أن القديس يوحنا لم يذكرها مع أنه كان أحد ثلا ثة شهود لها، وقد سجل هذه الحادثة كل من الآناجيل الثلاثة: «أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب وصعد إلى جبل ليصلي, وفيما هو يصلي صارت هيئة وجهه متغيرة ولباسه مبيضاً لامعاً, وإذا رجلان يتكلمان معه وها موسى وايليا, اللذان ظهرا بمجد, وتكلما عن خروجه الذي كان عتيدا أن يكمله في أورشليم, وأما بطرس واللذان معه فكانوا قد تثقلوا بالنوم, فلما استيقظوا رأوا مجده والرجلين الواقفين معه. وفيما هما يفارقانه قال بطرس ليسوع: يا معلم جيد أن نكون ههنا، فلنصنع ثلاث مظال لك واحدة ولموس واحدة ولإيليا واحدة. وهو لا يعلم ما يقول, وفيما هو يقول ذلك كانت سحابة فظللتهم فخافوا عندما دخلوا في السحابة, وصار صوت من السحابة قائلآ: هذا هو ابني الحبيب, له اسمعوا» (لو28:9-35)
وفي هذا الحادث نلتقط عدة أمور تهمنا في شرح الأية التي نحن بصددها:
1- “أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب”. 2
2- “صارت هيئة وجهه متغيرة” يقول عنها القديس متى في إنجيله: «تغيرت هيئته (تجلى)، واضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور.» (مت2:17)
3- “موسى وايليا اللذان ظهرا بمجد”
4- «فلما استيقظوا رأوا مجده».
5- “فلنصع ثلاث مظال لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة”.
6- “كانت سحابة فظلتهم”. يقول عنها القديس متى الإنجيلي أنها “سحابة نيرة”
7- “وصار صوت من السحابة قائلأ: هذا هو ابني الحبيب. له اسمعوا”.
ونحن إذا عدنا إلى الحادثة المماثلة في العهد القديم مع موسى، نجد الآتي: «فصعد موسى إلى الجبل فغطى السحاب الجبل وحل مجد الرب عل جبل سيناء وغطاه السحاب… وكان منظر مجد الرب كنار آكلة” (خر15:24-17). ففي هذا المنظر وكل مناظر استعلان مجد يهوه الله في العهد القديم نجد أنه بمجرد اقتراب الله من الشعب، أو بالأكثر من موس وهارون، أو اقتراب موسى وهارون أمام الله، كان يصاحب ذلك ظهور واستعلان مجد الله! فإن كان الأمر هكذا في القديم فكم وكم بالحري بعدما اقترب الله ثم اقترب ثم تواجه مع الإنسان داخل الانسان كيف لا يستعلن مجده فيه!
وإن حادثة التجلي تجمع الظهورين معاً والمجدين معاً: مجد الآب في السحابة النيرة التي ظللتهم مع صوته الأتي من المجد الأسنى، مع مجد الابن ونور الكلمة يغشى »الجسد» فيجمل الوجه يضيء كالشمس.
ثم علينا أن نعود إلى ذاكرة القديس بطرس لنسمع منه ما يتذكره عن حادثة التجلي هذه بعينها: “لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللَّهِ الآبِ كَرَامَةً وَمَجْداً، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهَذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ». وَنَحْنُ سَمِعْنَا هَذَا الصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ السَّمَاءِ إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ. (2بط16:1-18)
واضح من هذه الشواهد أن القديس يوحنا حينما قال: “ونحن” فهو يقصد الخاصة جداً من تلاميذه وهم الثلاثة الذين كان قد انتخبهم مم الاثنى عشر ليطلعهم على سر مجده هذا، كما أطلع موسى سابقاً عل الجبل في سيناء، حيث تقول النبوة أنه «سيراه كل بشر» (إش 5:40)
وقد يظهر تعارض في قول النبوة قديماً على فم إشعياء النبي بخصوص هذه الرؤية وهذا المجد “عزوا عزوا شعبي يقول إلهكم. طيبوا قلب أورشليم ونادوها بأن جهادها قد كمل، أن إثمها قد عُفي عنه أنها قد قبلت من يد الرب ضعفين عن كل خطاياها. صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب، قوموا في القفر سبيلً لإلهنا. كل وطأة يرتفع، وكل جبل وأكمة ينخفض، ويصير المعوج مستقيمأ والعراقيب سهلاً. فيعلن مجد الرب ويراه كل بشر معاً لأن فم الرب تكلم” (إش 1:40-5)
ولكن كان دأب الأنبياء أن يختصروا الزمن اختصاراً، فآلاف السنين تصير غداً أو سريعاً، لأن الرؤيا تكون في وهج شدتها متجمعة معاً وليست موزعة على السنين والأجيال. وقد تم بالفعل الجزء الاول من الاعلان عن مجد الرب, ورأه الأخصاء والمقربون والمختارون والمفديون، فمجدوا صاحب المجد. أما الجزء الثاني من الإعلان عن مجد الرب فهو مؤجل للجزء الباقي من البشرية حينما يرونه في مجيئه الثاني، في ملء مجده ومجد أبيه مع ملائكته (مت 30:24 , رؤ7:1).
وقوله: «رأيناه» فهو يتكلم عن رؤيا غير عادية كانت تحت سحابة نيرة، أي في الحضرة الالهية، التي تطابق حضور “يهوه” قديمأ على جبل سيناء في السحابة التي ظللته. وهنا إشارة سرية إلى التعرف على شخصية المسيح. وحضور موسى وإيليا في التجلي بمجد هو إشارة ضمنية إلى قوله: «مشهودأ له من الناموس (موسى) والأنبياء (إيليا)» (رو 21:3). وكلمة “بمجد” بالنسبة لموسى وإيليا تفيد ارتفاع كرامة الناموس والأنبياء في أشخاص مُمثليهما موسى وإيليا.
وقوله: «ورأينا مجده» فهو يقصد مجد «الكلمة بعد أن صار جسداً» أي يسوع المسيح. وقد اتضح من تسجيلات حادثة التجلي أنه فعلاً تغيرت هيئته الجسدية ولمع وجهه كالشمس وابيضت حتى ثيابه كالنور. ويصف القديس بطرس هذا المجد الذي رأه على الجبل أنه عاين عظمته، أي جلاله وقدرته، وأنه أخذ من الآب كرامة ومجداً: “مجد كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقاً”.
هنا فإن تكرار كلمة «المجد» هو بقصد التركيز ولفت الإنتباه لكي لا نتوه في تواضع «الجسد» أو في مضمون الإخلاء. فالمجد مًعلن ومنظور للعيون التي لا يلزمها الإخلاء والتي أدركت حقيقة «الكلمة» اللوغس، مهما تنازل وأخذ منظراً: «هكذا مُفسداً أكثر من الرجل» حسب قول إشعياء النبي (14:52). لأن خطيئتنا هي التي حتمت على العين الضعيفة أن تراه «لا منظر(له) فنشتهيه» (2:53)
أو ليس “الكلمة” اللوغس هو صوت الله ونداؤه, وهو قوله وأمره، فكيف نسمع صوت الله من فم اللوغس ولا نحس بالمجد المحاط به، هذا إذا أحسئا الرؤيا؛ لأنه حتى اليهود العاديون لمحوا في كلامه مجد الله وسلطانه «لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة» (مت29:7)!! أو بمعنى متقدم قليلاً عن الآية, إن المجد الذي رأوا ما هو إلا حب الآب منطبعاً عليه فلم يستطع أن يخفيه, واستطاعوا هم أن يستشفوه من فيض النعمة التي كانت عليه والحق الخارج منه الذي يهز كيان الإنسان الروحي.
وهذا المجد الذي رأوه فيه الذي هو حب الآب المنطبع عليه هو هو الذي جعل من الذين قبلوه أولاداً لله, أي أن هذا الحب نفسه أو المجد نفسه لما آمنوا به أدخلهم في مجاله فصاروا أولاد الله أي الحائزين على الحب الآبوي.
ونلاحظ أنه بظهور الكلمة في الجسد صار استعلان المجد الذي فيه. وقول القديس يوحنا أن هذا المجد لمحوه وتيقنوا من أنه مجد ابن وحيد لآبيه أو بالحري هو مجد الآب للابن الوحيد، هذا يوضح لنا سرا من أخطر الأسرار، أن استعلان المجد في الكلمة المتجسد كشف في الحال سر الأب والابن فيه، فبالرغم من أنه ظهر كابن، ولكن المجد كان مجد الآب في الابن. وهذا أيضاً صار كل من يرى الابن برؤية الإيمان فإنه يرى الآب بالضرورة، لأن مجد اللاهوت في الابن يشمل معه مجد الآب بآن واحد بدون شرح ولا توضيح: “الذي راني فقد رأى الآب.” (يو9:14)
القديس يوحنا يجمع هنا جملة ما رآه وسعه واختبره مع الخاصة من التلاميذ ويؤكد ذلك بقوله: “ونحن”, فهو سمع بنفسه الرب يسوع المسيح يخاطب الأب عن مجده الخاص له عند الأب (يو5:17 و 24)، بل وسمع الأب يوافق بأنه «مُجد وسيمجد أيضاً (يو28:12)، بل وسمع ورأى هذا المجد في حادثة التجلي المذكورة سابقاً, بل شاهد وعاين وشهد لأعمال الرب يسوع المسيح التي تنطق جيعها بمجده وأوضحها عرس قانا الجليل ومعجزة تحويل الماء خمراً التي بها أظهر المسيح مجده لتلاميذه فآمنوا به. هذا ولا ننسى المجد الذي عايشه القديس يوحنا مع كوكب الصبح المنير يسوع المسيح نفسه في سفر الرؤيا: «ووجهه كالشمس وهي تضيء في قوتها.» (رؤ 16:1)
«مجداً كما لوحيد من الآب»:
ها يقصد بحرف “كما” أن المجد الذي ظهر به الكلمة المتجسد هو المناسب والمطابق فقط لابن الله، الذي له وحده يليق كل مجد الله “الآب كالابن”.
“وحيد من الآب” (مونوجانيس) والكلمة كم مقطعين “نوع” و “واحد” وهذا الوصف بالنسبة للكلمة المتجسد هو استعلان الحب الأبوي وهو من أعمق وأعز الاستعلانات التي عرفها الإنسان عن الله .
و«المونوجانيس« كأعظم وأعز استعلان للحب الإلهي فاز به العالم لما بلغ ملء أحزانه وأعوزه مجد الله، إذ انشقت السماء بالفعل وأرسل الله محبوبه ليدبر العالم ويرعى الإنسان: “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد (المونوجانيس) لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو16:3). لاحظ الارتباط بين «أحب« و«الابن الوحيد» .
وإذا أردت أن تعرف أيها القارىء العزيز قيمة هذا المحبوب الوحيد عند الله، اسمع ما يقوله: «الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن بابن الله الوحيد (المونوجانيس) (يو18:3)، وقوله: «الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني.» (يو26:16)
والقديس يوحنا يصادق على هذا ويزيد: «بهذا أظيرت محبة الله فينا أن أرسل ابنه الوحيد (المونوجانيس) إلى العالم لكي نحيا به» (ايو9:4). أي أن المونوجانيس عند القديس يوحنا هو أعظم حدث من أحداث الحب الإلهي الذي استعلن لنا في يسوع المسيح.
وحينما يقول القديس يوحنا أن المونوجانيس كائن في الحضن الأبوي فهو يضع المحبة في موضعها، ويشير إلينا من أين انفتح لنا ينبوع هذا الحب. وإن كان هذا هو الموضع الذي خصصه الآب للمونوجانيس، إذن فأي موضع يليق به عند الإنسان ليضعه فيه إلا القلب!!؟
هذا الوصف ليس من عند القديس يوحنا بل هو نفس الصفة التي أعطاها الله الآتي من السماء، أو كما يقول القديس بطرس: من المجد الأسنى، والذي سعمه القديس بطرس بنفسه هكذا: “هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به” (2بط17:1). فالمونوجانيس تفيد أنه ابن حبيب وموضع مسرة أبيه الفريدة الذي لا يشاركه فيها اخر قط. وهذا الإصطلاح في الاستخدام يأتي للمذكر والمؤنث على السواء وقد جاء في مواضع كثيرة.
وكلمة المونوجانيس بحسب تحقيق العلماء لا تحمل معنى الولادة أو المولود وأدلتهم في ذلك ورود هذا الوصف في حالات يتعذر بل يمتنع فيها معنى الولادة أو المولود مثل:
1- في وصف إسحق ابن إبراهيم من فم الله نفسه: “وحدث بعد هذه الامور أن الله امتحن إبراهيم. فقال له يا إبراهيم، فقال هاءنذا. فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق، واذهب إل أرض المريا وأصعده هناك محرقة…” (تك1:22-2).
والمعروف أن إبراهيم ؤلد له ابنان وليس ابناً واحداً, فهو ليس وحيداً. ولكن كان إسحق هو “الابن الوحيد المحبوب عند أبيه” وهذا هو المونوجانيس ضبطاً وربطاً.
2- كما ورد هذا الوصف العادي على ابن أرملة نايين: «إذا ميت محمول ابن وحيد لأمه وهي أرملة» (لو12:7). ومن هنا تأتي كلمة «مونوجانيس« باعتبارها «قيمة» عالية وغالية جداً عند هذه الأرملة.
3- وإذا رجل اسمه يايرس… لأنه كان له بنت وحيدة » (لو41:8-42)
4- « ثم أتى يفتاح إل المصفاة إلى بيته. واذا بابنته خارجة للقائه بدفوف ورقص وهي وحيدة. لم يكن له ابن ولا ابنة غيرها» (قض34:11 ). وهنا أيضأ المونوجانيس تأتي كصفة تحمل قيمة عالية للغاية.
5- وقد جاءت في معان كثيرة لا علاقة لها بالبنوة ولا بالميلاد، ولكن أتت في معنى الوحيد المحبوب للغاية بالنسبة للانسان وهي نفسه: «نفس وحيدتي»: «…يا قوتي أسرع إل نصرتي. أنقذ من السيف نفسي من يد الكلب وحيدتي (مز 19:22-20 و 17:35 )
6- وجاءت بمعنى أنا وحدي. “التفت إلي وارحمني لأني وحيد ومسكين أنا”(مز16:25)
وقد جاءت هذه الكلمة ( ) في اللغة العبرية في مواضع كثيرة بمعنى المحبوب فقط ( ) وهي قريبة من كلمة المغبوط.
ولكن كانت نظرة آباء ما قبل نيقية منحصرة نوعاً ما في معنى « الولودة» وهذا لا تحتمله الكلمة .
“كما لوحيد من الآب”:
هنا يبدأ القديس يوحنا يضع أساس استعلان الكلمة بعد التجسد والتأنس، فهو يكشف عن درجة بنوة الكلمة لله حيث «الكلمة هو الابن» في الذات الإلهية والله هو الأب. والقديس يوحنا يعلن عن اكتشافه للابن عن طريق المجد الذي استعلن في الكلمة لما تجسد، تماماً كما أعلنت الأناجيل بفم الملاك عن الحبل الإلهي للابن بالميلاد الإعجازي الفائق من العذراء مريم وبشارة الملاك العلنية بذلك: “الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظلك، فلذلك أيضاً القدير المولود منك يدعى ابن الله.” (لو35:1)
وقد أعاد المسيح نفسه صياغة نطق الملاك هذا بتأكيد قائلأ: »فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم أتقولون له إنك تجدف لأني قلت إني ابن الله.»» (يو36:10)
وكما استعلن للقديس بولس بالقيامة من الأموات بمجد الآب: «وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات.» (رو3:1 , 4:6)
وكما تيقن القديس لوقا الإنجيلي بإعلان من المسيح نفسه أنه سيأتي كابن الله في مجده ومجد أبيه: »متى جاء بمجده ومجد الآب والملائكة القديسين» (لو26:9)
وهكذا نرى هذه الاستعلانات كلها متدرجة من جهة يقينية استقلان درجة البنوة لله هكذا:
أولأ: بالميلاد: دُعي ابن الل بفم الملاك.
ثانياً: بالقيامة: تعين ابن بالقوة من جهة روح القداسة.
ثالثاً: بالمعايشة والمعاينة: رأيناه ابن لله _ مع القديس يوحنا.
رابعاً: بوعد المسيح نفسه أنه يأتي ثانياً كابن الله في مجده ومجد أبيه.
خامساً: بتصريح المسيح نفسه.
“من الآب”:
وقول القديس يوحنا «من الأب« يشير ويركز على «نسبة المجد والبنوة بين الآب والابن»، كما تفيد أيضاً “الإرسالية” = ابن وحيد مُرسل من الآب: »أنا أعرفه لأني منه وهو أرسلني» (يو29:7)
وقول القديس يوحنا: «كما لوحيد من الآب» تفيد بحسب لاهوت القديس يوحنا، وهو اللاهوت الذي استرعى انتباه آباء الكنيسة الأوائل، أنها تفيد علاقة يبدو فيها الابن مرتبطاً في وجوده بالأب ارتباطاً ذاتيأ وجوهرياً، فهو ليس فقط ابن للأب بل ومرسل منه رسالة يؤديها بحتمية (الطاعة). وحتى المجد الذي للابن فهو ليس مجرد الابن بل مجد ابن وحيد من الإب.
والقديى بطرس يوضح هذه النسبة بغاية الدقة هكذا: «لأنه أخذ من الله كرامة ومجداً (2بط17:1). إذن فهو “مجد من الآب” للابن، وبهذا ينكشف لا المعنى المختفي وراء قول القديس يوحنا: «مجداً كما لوحيد من الآب«. ولا ينبغي أن يفوتنا أن كلمة «وحيد لأبيه» تفيد معى الفرادة في الحب حيث يستحوذ الابن على كل حب الأب. هذا نسمعه من الله بغاية الوضوح والتركيز «ابني الحبيب»، أي أن «مجد ابن وحيد لأبيه» تعني بكل العمق استعلان «مجد الحب الأبوي» في المسيح للتلاميذ، وبالتال للكنيسة، لأن كل مجد الابن ورثته الكنيسة لأنها جسده المملوء نعمة وحقاً.
وهكذا فإنه بحب الأب للابن تم الخلق, وتم الفداء، وتأسست الكنيسة! لأن بحب الأب للابن “كان كل شيء” في الخليقة الجديدة مثل القديمة، وبدون حب الابن للآب لم يكن شىء مما كان, وهكذا أحب الله العالم ففداه بحياة ابنه: «بذل ابنه الوحيد.» (يو16:3)
فالعلاقة بين الأب والابن علاقة تشمل وتتغلغل كل ما للابن حتى أنه لا يوجد الابن منفردأ بصفة لاهوتية خاصة به على الإطلاق إلا كونه ابناً.
ومن الملفت للنظر أن الله الأب بالنسبة للمسيح الابن في إنجيل يوحنا مذكور 137 مرة، في حين أن إنجيل متى مذكور فيه 64 مرة فقط، وانجيل لوقا 56 مرة، وإنجيل مرقس 18 مرة.
هذا يلزم أن ينبه ذهننا أن إنجيل يوحنا يتخصص في توضيح علاقة الآب بالابن والابن بالأب، أو بتعبير أصح يركز على استعلان سر الابوة والبنوة في عملية الخلاص والفداء والتبني.
لذلك فبعد الآصحاح الآول الذي كرسه لاستعلان «الكلمة» باعتباره الشخصية المحتجبة في الله: «حقاً أنت إله محتجب يا إلة إسرائيل المخلص» (إش15:45)؛ نجد القديس يوحنا بعد تجسد الكلمة يركز على المسيح كابن الله حتى نهاية الإنجيل، كاشفاً دور الآب كأساس لعمل الابن الخلاصي.
د- «مملوءاً نعمة وحقاً»:
بعد أن حلق القديس يوحنا في ذكرياته السالفة عن الأمجاد التي رأها واستعلنها في الابن الوحيد ووقعت عينه ويده عليها في المسيح, الذي اكتشف فيه سر الحياة الآبدية ومجد البنوة الوحيدة للآب؛ يعود بنا إلى ذكرياته عن «الكلمة» في شخص يسوع المسيح كما اختبره في حياته الخاصة والعامة وسلوكه مع الأحباء والأعداء. وأعطى هذه الشهادة أنه كان مملوءاً نعمة وحقاً… فالنعمة والحق هي الصفات الإلهية المتجسدة « للكلمة» المتجسد.
هي أصلاً صفات الله الكائنة فيه، ولكن بتجسد الكلمة استعلنت هذه الصفات لأنها صارت في موضع العطاء، اوتجهزت لتصير هبة تمنح للناس: «وتعرفون الحق والحق يحرركم… فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً.» (يو32:8 و 36)
«النعمة»:
لم تُستخدم في إنجيل يوحنا إلا هنا وفي الآية 17 من هذا الأصحاح فقط. وأما الحق فهو الصفة الإلهية التي تجىء في القمة بالنسبة للكلمة المتجسد، والتي أعلن عنها المسيح جهارا: «أنا هو الطريق والحق والحياة.» (يو6:14)
وهاتان الصفتان في ها المقابل في العهد الجديد اللتان تعامل بهما الله معنا في شخص يسوع المسيح، كما كان يتعامل بهما يهوه قديماً: «فنزل الرب في السحاب. فوقف عنده (موسى) هناك ونادى باسم الرب. فاجتاز الرب قدامه ونادى: الرب الرب إله رحيم ورءوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء، حافظ الإحسان إلى ألوف، غافر الإثم والمعصية والخطية، ولكن لن يبرىء إبراءً» (خر5:34-7). فهو “رحيم” ولكنه “لن يبرىء”.
لذلك فالنعمة والحق في العهد الجديد هما المقابل الحقيقي للناموس والدينونة كما وضعهما القديس يوحنا نفسه في الآية 17 القادمة.
والنعمة في مفهوم القديس يوحنا إذا كانت في مقابل الناموس فهي عملية الفداء والخلاص بكل مشتملاتها ونتائجها، وبالأخص جداً في أنه جعلنا أولاداً وأحباء, بل وأحراراً بعد أن كنا عبيدا تحت سطوة الناموس بمقتضى سلطان الخطية المُذل. بل وتشمل النعمة حتماً كل نعم الله من مواهب؛ بل وبالاكثر جداً اتصالنا بالآب واتحادنا بالابن. أي أن النعمة عند القديس يوحنا هي التجسد الذي أجراه الكلمة في نفسه، فهي بالتالي شخص يسوع المسيح نفسه بالدرجة الاولى. لأن فيه وبه نلنا كل النعمة بل كل النعم. لذلك هكذا ظهر الكلمة لما تجسد أنه مملوء نعمة وحقاً, أي كله نعمة وكله حق, على مستوى العطاء.
فنعمة الأب لنا هي أنه بذل ابنه الوحيد من أجلنا ليكون لنا حياة أبدية باسمه، ثم ولدنا لنفسه لما قبلنا ابنه بالإيمان في قلوبنا وحياتنا. الأب ولدنا لنفسه باتصال وليس بالمجاز أو التصور. لأن نعمة الأب لنا هي انعطاف ذاتي والتحام سري. فكلمة «مولودين من الله» هي من الجدية والحقيقة العملية الروحية على مستوى أعلى من «الميلاد من الدم ومشيئة الجسد ومشيئة الرجل», أي أنها بقوة فعل سري فائق يسري في كياننا الروحي فيغيره ليكون على صورة خالقه كما ينمو الولد ويتشكل على صورة والده. «كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأنه زرع (زرع الله) يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطىء لأنه مولود من الله.» (يو9:3)
ونعمة الآب هي مكملة لنعمة الابن لنا الذي تنازل وأخذ جسدنا لذاته ليهيئنا بالتقديس الذي أجراه لنا, لنكون مؤهلين لتبتي الآب لنا.
“الحق”:
الحق بالسبة للقديس يوحنا ليس هو الصدق الذي هو عكس الكذب بل الحقيقة Reality في مقابل الشبه أو الظل.
فكل أعمال ومعاملات الله قديماً كانت شبه السماويات وظلها، «إذ يوجد الكهنة النين يقدمون قرابين حسب الناموس، الذين يخدمون شبه السمويات وظلقا كما أوحي إل موسى وهو مزمع أن يصنع المسكن» (عب6:4-5). وكل رؤية الله مهما سمت كانت ليس أكثر من «شبه الله يعاين» كما جاء ملى لسان الله: «فقال (الرب) اسمعا كلامي: إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا أستعلن له في الحلم. أما عبدي موسى فليس هكذا, بل هو أمين في كل شي، فماً إلى فم وعياناً أتكلم معه لا بالألغاز، وشبة الرب يعاين« (عد6:12-8)
ولكن الآن، وباستعلان الله في الكلمة المتجسد أي شخص يسوع المسيح، ليس بعد كلام الله في حلم ولا بالآلغاز بل «كلمنا … في ابنه»، «الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة« (عب2:1؛ يو 63:6)، ولا بالشبه نعاين الله بل بالحق، «الأليثيا»: « الذي رآني فقد رأى الآب ( الله)«, «أنا هو… الحق» (يو6:14و9)
فـ «الحق» هنا عند القديس يوحنا هو استعلاذ الله في ذاته استعلاناً حقيقياً كاملآ كأب تبنانا، وعرفناه أباً ووالداً لنا, ليس بولادة مجازية أو كمنحة ولكن باتصال وفعل سري: «كل من يحب فقد ؤلد من الله» (1يو7:4)، وكابن أخذ جسدنا ومات عنا وفدانا.
فعندما يقول القديس يوحنا أنه مملوء نعمة وحقاً فهو يعني أنه بالقياس وبقدر ما يستطع الإنسان أن يقيس ويستوعب فهو الاستعلان الكلي لكل ملء الله سواء من جهة نعمته أومن جهة ذاته. والكلام كله منصب على «الكلمة صار جسداً».
ولكي ندرك صلة “الحق الأليثيا” باستعلان الابن عند القديس يوحنا نسمع من المسيح بوضوح قوله بأنه «الحق» و”الابن” واحد هكذا: «إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق والحق يحرركم» (يو31:8)، «فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً» (يو36:8)
ويلاحظ هنا أن »معرفة الابن» معرفة ثابتة توصل إلى »»معرفة الحق» ومعرفة الحق أو الابن كلتاها تحرر. والمعرفة هنا ليست بنت الفهم والدراسة بل حصيلة رؤيا واستعلان. فالذي يستعلن«الابن» ويدركه في ذاته يستعلن »الحق». أو بمعنى أكثر وضوحاً الذي يستعلن الله «كأب وابن»» يبلغ إلى منتهى الحق، لأنه يلده ابناً حرا لله! هذا كل ما نترجاه من النعمة وكل ما نطلبه من الحق، وهذا قد صار لنا لما صار الكلمة جسداً.
15:1- يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ وَنَادَى: «هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ: إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي».
هنا القديس يوحنا الإنجيلي يقدم هذه الجملة الإعتراضية بعد وصفه لأمجاد الكلمة المتجسد، مشيراً ومعلناً عن دخول الكلمة المتجسد إل بدء عمله، الذي لما باشره كشف في الحال عن شخصية المسيا, »الكلمة المتجسد», أنه وإن كان قد جاء متأخراً عن المعمدان إلا أن وظيفته أعلنت جهارا أنه كائن قبله، ليس من جهة الوقت أو الزمن بل الوجود والكيان: «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن.» (يو58:8)
والقديس يوحنا يقدم هذه الشهادة من فم المعمدان نفسه ليثبت بها للكلمة المتجسد التقدم المطلق: »لأنه كان قبلي» ليس في العمل وحسب, بل وفي الوجود والكيان السابق على المعمدان؛ الذي وإن كان المعمدان قد سبق المسيح فهذا لكي يعلن عنه ويعد الطريق له, وليس ليتقدم عليه في الكرامة.
وتأتي شهادة المعمدان في الفعل المضارع يشهد (باستمرار)، لتوضح دوام الحقيقة التي يشهد عنها، بخصوص الشخص المرتقب والمترجى ظهوره وطبعاً هو »المسيا».
وحينما يقول: »ونادى»، فهذه في الأصل تعبير عن الصراخ الملفت للنظر والذي يكون بالصوت العالي تعبيرا عن خطورة واهمية من يشير إليه, كما تفيد بصورة خفية أنها الصرخة التي أطلقها ومات عندما ماتت الصرخة, ولم تعد تتبع التاريخ بل صارت معلومة حية قائمة أبد الدهر. كذلك فإن صراخ الشهادة هو التصوير الإنجيلي لعمل الإلهام الروحي الذي يتدفق مرة واحدة في الإنسان فيطلقه بانفعال: «وامتلأت أليصابات من الروح القدس وصرخت بصوت عظيم وقالت مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك» (لو41:2-42). وهذا ما يقصده القديس يوحنا في تسجيله لشهادة المعمدان أنها كانت بنطق إلهي.
وغرض إنجيل القديس يوحنا من وضع هذه الشهادة هنا هكذا هو لحساب المؤمن الذي سيأتي عبر الزمان, الذي هو أنا وأنت أيها القارىء العزيزه ليأخذ من هذه الشهادة الهامة جداً، باعتبارها ختم آخر أنبياء العهد القديم على صدق مجيء المسيا بالجسد في ملء الزمن حسب توقعات كل الأنبياء والآباء والتاريخ اليهودي كله، وأنه وان جاء في مل ء التاريخ إلا أنه كان قائما قبل التاريخ.
وقد اكتفى الإنجيليون الثلاثة في ذلك بقولهم وبصفة عامة: «ياتي بعدي من هو أقوى مني»؛ ثم في تقييمهم لارتفاع كرامة المسيح بالنسبة للمعمدان سجلوا ما قاله بنفسه:
* لست أهلاً أن أحل حذاءه. (مت11:3)
* لست أهلاً أن أنحني وأحل سيور حذائه. (مر 7:1)
* لست أهلاً أن أحل سيور حذائه. (لو16:3)
أما القديس يوحنا فقد حدد شخصية المعمدان بالنسبة للمسيح، فالمسيح كائن قبل المعمدان. كذلك فعل المسيح سابق على عمل المعمدان. هذا هو معنى «كان قبلي»” كائنا وعاملاً.
وشهادة المعمدان التي يقدمها القديس يوحنا هنا تخدم قضية طبيعة وشخصية الكلمة المتجسد تأكيدا أن التجسد أبقى على لاهوت وأزلية الكلمة كما كان. فكأذ مجمل قول القديس يوحنا هو أن الكلمة لما صار جسداً بقي كما هو إذ رأينا مجده واستعلنا فيه أنه مجد وحيد لأبيه مملوء نعمة وحقاً، والمعمدان شهد لسمو طبيعته الفائقة ولأسبقيته عليه بلا حدود.
16:1- وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ.
القراءة الصحيحة باللغة اليونانية حسب آباء الإسكندرية تقول: «وبسبب هذا نحن جيعا أخذنا من ملئه، ونعمة فوق نعمة».
وهذه الآية ولو أنها معتمدة على الآية 14 قبل السابقة لدبقة«(ونحن) رأينا مجده .. مملوءاً نعمة وحقاً«، إلا أن هذه الأية هنا تؤكد حقيقة الأية 14 عمليأ بسبب أخذنا من عطاياه. وهكذا يأتي فعل «أخذنا» تأكيدا وتصديقا لفعل «رأينا». هذا يزيد التركيب اللغوي اليوناني قوة وإيضاحأ بسبب أن فعل “أخذنا” الذي يعني أكثر من «أخذنا» خاصة حينما يأتي بعد شهادة أو معتمداً عليها, إذ يفيد معنى الأخذ على مستوى المسك أو القبض أو الاستحواذ سواء فعلاً أو فهمأ, وحينئذ ترسخ معنى الإيمان اليقيني أو مل ء الإيمان؛ حيث »الأخذ أو القبض على» تفيد الفهم والإيمان والقبول والاستحقاق معاً.
وينكشق هذا المعنى حيما نسمع العكس في قول المسيح: «روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله (يأخذه) لأنه لا يراه ولا يعرفه« (يو17:14). أي أن الأخذ على مستوى القبول يعتمد مل رؤيا وتأمل وملاحظة واستحقاق، وإلا يمتنع. وهذا السبب بالذات، أي لأنهم رأوا مجده رؤية التحقق، لذلك أو«لهذا السبب» أخذوا نعمة فوق نعمة.
ولقد ظن بعض آباء العصر الآول مثل أوريجانس وهيراكليدس وغيرها، الذين اضطلعوا بشرح إنجيل يوحنا أن هذه الآية هي تكملة لحديث المعمدان وشهادته، ولكن تسلسل الكلام والمعنى يمنع ذلك، بالإضافة إل أن قول القديس يوحنا «نحن جميعا» ليس أسلوب المعمدان، ولا هو من حقه أن يقول ذلك، لأنه جاء كصوت واحد صارخ يعد الطريق وليس ليمتلئ. فالمكلم هنا هو القديس يوحنا الإنجيلي, كما يقول كل من القديس ذهبي الفم وأغسطينوس وكيرلس الكبير. فبعد أن قدم شهادته مع التلاميذ في قوله “ونحن” رأينا مجده يقدم لنا شهادة الكنيسة معه: “ونحن جيعاً أخذنا”.
وبهذا تكون هذه الآية هي أول إشارة إل علاقة الكلمة المتجسد الملوء نعمة وحقاً بالكنيسة التي أخذت من ملئه. وتسلسل الكلام يكون هكذا: «ونحن التلاميذ رأينا مجده مجد وحيد لآبيه، وعرفنا وتيقنا أنه مملوء نعمة وحقاً، وبسبب هذا نحن جميعاً, أي الكنيسة كلها, أخذت من ملئه».
الإشارة هنا بليغة وتشير إلى فيض الحب الذي يتفجر من الكلمة المتجسد على هيئة نعم وعطايا متلاحقة الواحدة تمسك بالأخرى. فكل نعمة تؤدي إلى نعمة أكثر. ثم انظر كيف يركز القديس يوحنا على »جميعاً»، وكأنه لم يترك أحداً في الكنيسة دون أن يغدق عليه نعمة ولو لم يدر.
«ملئه»:
متصلة بسابقتها »مملوء» وهي تشير إل االكثرة والفيض، كما تجيء في اللاتينية Plenitudo. (كما وردت في نسخة Vulgate).
فإذا علمنا أن ( ) هي صيغة الحال المأخوذ من الفعل ( ) الذى معناه يكمل (To make complete)، إذن، فالكلمة تعني كمال الملء أو منتهى الملء. وهذا ما يقصده القديس بولس الرسول بقوله: «لأنه فيه سر(الآب) أن يحل “كل” الملء» (كو19:1). والملء ها تعبير لاهوتي يختص بطبيعة الله، فهو الوحيد الملء الكلي والمالىء الكل. ومن روح إنجيل يوحنا يأتي عمل الملء على أساس الحياة الأبدية. فمن ملء الحياة الآبدية يملأ “الله الكلمة” الفرد أو الكنيسة، بالحياة الآبدية.
وفي الحقيقة، وبنظرة واحدة ثاقبة، نرى أن ملء اللوغس المتجسد الأتي إلينا من جهته هو، هو ملء الحياة والمجد وحب الآب, ولكن من الجهة الأخرى بالنسبة لنا فهو الخلاص الكلي بكل مشتملاته من موت وقيامة وفداء وتبرير وصعود وحياة أبدية ومجد وشركة في الطبيعة الإلهية، بكل ما يتبع ذلك من مواهب ضرورية وعطايا امتياز وتبني وحب إلهي فائق:
«لأن الذي ارسله الله يتكلم بكلام الله, لانه ليس بكيل يعطي الله الروح» (يو35:3)
«كما ارسلني الآب الحي وانا حي بالآب فمن يأكلني فهو يحيا بي» (يو57:6)
وكلمة “الملء” محبوبة جداً عند القديس بولس, فهي تملأ قلبه بالأحساس الغامر بفيض النعمه فى المسيح يسوع بصورة طاغية. فقد وردت خمس مرات فى رسالتى افسس وكولوسي. وهذه الكلمة بالذات تعتبر هنا وصلة ذات اعتبار كبير بين لاهوت القديس بولس ولاهوت القديس يوحنا، وبالاخص التي جاءت في الرسالة إلى كولوسي:
* “لأنه فيه سر أن يحل كل الملء, وأن يصالح به الكل لنفسه، عاملاً الصلح بدم صليبه، بواسطته, سواء كان ما على الأرض أم فى السموات” (كو19:1-20)
* “فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً ل, وأنتم مملوؤون فيه” (كو9:2-10)
* «واخضح كل شيء تحت قدميه وإياه جعل رأساً فوق كل شيء للكنيسة التي هي جسده ملء الذى يملأ الكل فى الكل” (اف22:1-22).
* “ونعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفه، لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله” (أف 19:3)
* “إلى أن ننتهي جيعنا إلى وحدانية الايمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح» (اف13:4)
بولس الرسول يرى ملء المسيح هو ملء الله, وأن الإيمان بالمسيح والدخول في محبته الفائقة المعرفة هو الطريق للأخذ من هذا الملء الكامل الذى للمسيح, وذلك عندما يتحد المؤمنون في وحدة الإيمان ومعرفة ابن الله. وكل واحد يأخذ من هذا الملء قدر ما تؤهله رؤية إيمانه لمجد المسيح وحبه، وايضا قدر ما توهله صلته في الكنيسة كعضو في جسدها. لانه للكنيسة المتحدة فقط أعطي ملء المسيح كل الملء, على اساس شدة الحب الذي يجمع اعضاءها ليصير لها ما للرأس بالضرورة الحتمية؛ لان مجد الرأس هو للجسد، وفخر الجسد هو الرأس.
القديس يوحنا في هذه الأية يتول قول القديس بولس تماماً، إنما باختصار شعري بليغ، كما يجعل هذا المبدأ اللاهوتي في صلاة المسيح قائلآ للآب القول المستجاب: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطتني ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد» (يو22:17)، هذا هو المجد الذي أخذ من ملئه القديس يوحنا وأخذت الكنيسة معه.
وهنا لا يفوتنا لمحة لاهوتية نخرج بها من هذا المضمار في القول عن الملء من جهة نصيب التجسد من هذا الملء الذي يؤكده ويرسخه بولس الرسول بقوله: «لأنه فيه سر أن يحل كل الملء»، و «فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً»، والذي يرد عليه القديس يوحنا بقوله: «والكلمة صار جسداً… مملوءا نعمة وحقاً». هنا ظفر الجسد بالملء الإلهي، ملء اللاهوت، فدخلته البشرية من أوسع أبوابه لأنه جسد »الكلمة»، الذي انفرش عليه اللاهوت، فمدد أطرافه ووسع تخمه وأبعاده حتى وسع ما للاهوت من ملء. هنا دخلت الكنيسة التي هي جسده إلى اللانهائية، لا باستحياء، بل بجراءة الذي خلقها وفداها ورفعها من التراب إلى السماء.
«..أخذنا, ونعمة فوق نعمة»:
«أخذنا» تأتي هنا بدون مفعول به, »من ملئه نحن جيعاً أخذنا». لأن الملء ليس مجزءا، هو فعلاً عطايا ونعم كثيرة وبلا حصر أوعلى الأصح «بلا كيل». ولكن الملء يوزع ليعود فيتجمع, فهو ملء واحد, ولا بد حتماً بعد أن يتوزع لكل واحد حسب حاجته وبمسرة الله، أن يصير وينتهي إلى واحد, »إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح.» (أف13:4)
«ونعمة فوق نعمة»:
في هذه الآية ذهب الشُراح كل مذهب، فمنهم من قال, وهم بعض آباء الكنيسة ومنهم ذهبي الفم وكيرلس الكبير, أن نعمة مقابل نعمة تعني نعمة العهد الجديد مقابل نعمة العهد القديم، أي الناموس، ولكن قولهم مردود عليه في الآية 17 التي جعلت الناموس هو المقابل للنعمة ومتدني عنها: «لأن الناموس بموسى أعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا».
وبولس الرسول يضح الناموس مضاداً للنعمة، وليس مساوياً لها أو حتى بديلا عنها: “”لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الَّذِينَ مِنَ النَّامُوسِ هُمْ وَرَثَةً فَقَدْ تَعَطَّلَ الإِيمَانُ وَبَطَلَ الْوَعْدُ. لأَنَّ النَّامُوسَ يُنْشِئُ غَضَباً إِذْ حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضاً تَعَدٍّ. لِهَذَا هُوَ مِنَ الإِيمَانِ كَيْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ النِّعْمَةِ لِيَكُونَ الْوَعْدُ وَطِيداً لِجَمِيعِ النَّسْلِ. لَيْسَ لِمَنْ هُوَ مِنَ النَّامُوسِ فَقَطْ بَلْ أَيْضاً لِمَنْ هُوَ مِنْ إِيمَانِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ أَبٌ لِجَمِيعِنَا.” (رو14:4-16)
ولكن علماء الشرح المدققين اتفقوا حديثأ على أنها تفيد اللاحقة والمتابعة التي لا تنتهي لعطايا النعم المتجددة دائمأ وإلى الأبد من لدن الرب يسوع المسيح: أي أن كل نعمة تأتي تنادي نعمة أخرى فترد عليها تلك وتأتي.
فكل نعمة يقابلها نعمة أعمق وأعلى، ونعمة الرب لا تقف ولا تحد: «لأنه ليس بكيل يعطي الله الروح.» (يو34:3)
القديس أغسطينوس في عظته الثالثة على الأصحاح الأول لإنجيل القديس يوحنا يشرحها شرحا مطولا بما يفيد أن من ملئه نحن أخذنا, هذا مجمل الأخذ، ثم أضاف الإنجيل: «ونعمة فوق نعمة»، فمثلاً الإيمان نعمة ويقابل الإيمان نعمة أخرى وهي الحياة الأبدية، وهكذا.
فإذا عاد القارىء بذاكرته إل ما قلناه بخصوص طابع إنجيل القديس يوحنا الاستعلاني والمتدرج في استعلانه للمسيح والأب، نجد في هذا القول: «ومن ملئه نحن جيعاً أخذنا ونعمة فوق نعمة» بما يفيد أيضاً الامتداد الاستعلاني للمسيح حتى وإلى الأبد. لأن تلاحق النعم وتلاحق الامتلاء من ملئه, أي من ملء النعمة والحق, هو أساساً وبالدرجة الاولى يخدم قضية استعلان حقيقة المسيح الذي لا نهاية لملئه. وفي المنهج الروحي العملي معروف أن كل نعمة يحصل عليها الإنسان إنما ترفعه إلى نعمة أخرى أعلى، لأن النعمة هي بحد ذاتها قوة رافعة، لذلك نسمع القول أن «من يضع نفسه يرتفع» (مت12:23, لو11:14, 14:18), وما ذلك إلا لأن الإتضاع نعمة, فنعمة الإتضاع ترفع إلى نعمة المجد. وقد يتهيأ أحياناً للانسان الروحي الذي يمارس الحب الإلهي أنه بلغ المنتهى من النعم والسعادة، ويكاد يقول: كفى، هنا قد بلغت النهاية. ولكن إذ بالنعمة ترفعه إلى مستوى أعلى فينظر وراءه وكأنه لم يكن سابقاً قد بلغ شيئاً!!، وهكذا فلينتبه القارىء أننا أمام قديس إنجيلي متمرس يتكلم من أعماق يعيشها وبكلمات قليلة يسلمها لمن يسير على دربه.
وكما سر الآب «أن يحل في المسيح كل ملء اللاهوت جسدياً», كذلك سر المسيح بنفس القدر والسخاء والحب أن يصب كل ملء نعم اللاهوت الذي له في الكنيسة التي هي جسده، لتمتلىء إلى كل ملء نعم الله، لأنها تأسست على دم الحب وشربت منه الروح الأزلي الذي لن يكف عن أن يأخذ مما للمسيح ويصب فيها صباً حتى تمتلىء إلى كل ملء الله. فلا تستغربن أيها القارىء قول القديس يوحنا: «ونعمة فوق نعمة»، لأن المنعم صمم على أن «المجد الذي لي أنا أعطيتهم»، بل ونفذ بالفعل السري حالة حلول واتحاد وعطاء نعم بلا حد ولا عد للذين أمنوا وتبعوا وشهدوا له في كل عصر: «أنا فيهم وأنت فيى» (يو23:17). لذلك فسريان النعمة لن بكف، طالما كان الاتحاد مفتوحاً.
وشهادة القديس يوحنا هنا خاصة بإضافة «جميعاً»، و«نحن جيعاً»، هي ليست شهادة فقط، بل واعتراف، بل وصلاة شكر بلسان الكنيسة كلها ولسان القارىء.
فهي تسبحة اعتراف بفضل المسيح يسوع الدائم والآبدي، فلا يوجد مكان أو زمان في الكنيسة يخلو من نعمته، ولا دخل إليه أحد وخرج فارغاً؛ فمراحمه لا تزال تتجدد كل صباح، وفي الفجر تتساقط نعمته كالطل على الكلأ، من يبكر إليه يجده، ومن يسهر إليه يتمشى معه. هو هو وحده وليس أخر يعطي ولا حدود لعطائه، ونحن جيعاً جميعاً نأخذ بلا عد ولا مكيال.
17:1- لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا.
هنا يدفع القديس يوحنا الاستعلان إلى أقصاه فيبرز الاسم الذي ملأ خياله منذ أن بدأ يكتب إنجيله. هنا برز ختم الرسالة حيث يقرأ بغاية الوضوح اسم صاحبها: «يسوع المسيح».
وهذا هو آخر درجات استعلان مؤهلات «الكلمة»، وقد وضعه في مقابل الناموس أي التوراة جملة, بل والعهد القديم برمته, موضحاً أن الناموس أي التوراة لم تأت لا بنعمة ولا بحق، لا بسبب قصور فيها فهي «كلمة الله” بالدرجة الاولى, ولكن كان القصور في الشعب برؤسائه وكهنته الذين لم يلتصقوا بالله ليدركوا النور الذي فيها، مما حدا بالله أن يأتي بنفسه ويلتصق بالإنسان ويسكب فيه من روحه النعمة والحق.
فإذا عدنا بالذاكرة إلى مخطط استعلاناته لشخص يسوع المسيح السابقة نجدها هكذا:
1- «الكلمة في البدء» أي الآزلية.
2- «الكلمة عند الله».
3- «اكلمة الله”.
4- «الكلمة» كخالق. «كل شيء به كان».
5- “الكلمة” كحياة. «فيه كانت الحياة».
6- «دالكلمة» نور. “و لحياة كانت نور الناس».
7- «الكلمة» ضد الظمة. “والنور أضاء في الظمة».
8- «الكلمة» أتياً إلى العالم. «كان في العالم» كنور.
9- «الكلمة» أتى إلى خاصته. كلمة الله في الأنبياء_ “المسيا».
10- «الكلمة» “صار جسداً».
11- «الكلمة” في هيكله الجديد «حل (سكن) بيننا».
12- استعلان الكلمة المتجسد أنه “ابن الله” مملوء نعمة وحقاً.
13- أستعلان الكلمة كملء الكنيسة: “نحن جيعاُ مملوؤون فيه.
14- استعلاذ الكلمة في شخص «يسوع المسيح” والعهد الجديد والإعلان عن انتهاء عهد الناموس: «لأن الناموس بموسى اعطي, أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا».
تأتي هذه الآية موازية للأية السابقة ومترتبة عليها. فظهور النعمة والحق بالملء الالهي الكلي هو إيذان بانتهاء عصر الناموس، عصر العقوبة والظل. وظهور شخص يسوع المسيح الذي تفسيره اللاهوتي من الآيات السابقة هو «يسوع», الكلمة المتجسد، المسيح, المسيا الآتي، هو إيذان حتمي بانتهاء عصر موسى.
فيكون الله قد بدأ “يكلمنا في المسيا ابنه», فهذا معناه أن عهد «الكلمة في موسى والانبياء» انتهى، والآن قد صار يكلمما الله بلا وسيط! ليس على أساس القانون والعصا بل بالنعمة والحق.
فعهد المسيح أو المسيحية مبني على النعمة، النعمة تغطى حياة المسيحي منذ أن يعتمد وحتى يلتحق بوطنه السمائي. ولكن ليست النعمة عطية واحدة على وتيرة واحدة، بل هي نعمة بانية وممتدة لملء حياة المسيحي: “نعمة فوة نعمة». والنعمة ليست وحدها تبني وليست وحدها توصل، بل النعمة في المسيحية مؤسسة على الحق، ليس على الشكل ولا الخارج أو الشبه ت أو الزائل، بل هي نعمة الله الموصلة إلى الله.
ولكي يتأكد القارىء أن «اسم يسوع المسيح» كان يملأ فكر القديس يوحنا ويملي عليه كل استعلاناته بتدرجها المدهش هذا، نقدم هاتين الآيتين:
* «وهذه هي الحياة الأبدية أذ يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته” (يو 3:17)
* «وآيات أخرى كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب. وأما هذه فقد كُتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم حياة إذا أمنتم باسمه.” (يو 30:20-31)
هذا وإن اسم يسوع يحتل أكبر ساحة إنجيلية عل الإطلاق عند القديس يوحنا، فقد ورد 237 مرة في حين أنه ورد في إنجيل القديس متى 150 مرة وإنجيل القديس مرقص 81 وانجيل القديس لوق 89 مرة.
ولقد انتحى كثير من الشراح نحو كشف المفارقة بين الناموس والنعمة، أي العهه القديم والجديد، أو موسى والمسيح . ولكن في الحقيقة نحن نسترشد بقول المسيح نفسه ما جئت لأنقض بل لأكمل: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل» (مت17:5)
ولكي نوضح مدى التكميل أو مدى الكمال في ناموس المسيح بالنسبة لناموس موسى, نقدم للقارىء هذه الوصية الجديدة لعهد ناموس النعمة: “سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً.» (مت 38:5-39)
إذن، إذا أردنا أن نعمل مقارنة بين عهد الناموس وعهد النعمة، فهذه المقارنة لن تخرج عن قول المسيح أنها مقارنة بين الناقص والكامل الذي أكمله المسيح على الصليب بموته الفدائي: «قد أُكمل» (يو30:19) فكان هو سر النعمة كلها.
فكل ما كان ناقصأ في ناموس موسى، أكمله المسيح في نفسه ثم أعطاه لنا مجاناً. وهذه هي النعمة, كل النعمة. أو بأكثر دقة ووضوح فإن المقارنة بين الناموس والنعمة هي في حقيقتها مقارنة بين الجسد والروح!
ولكن نقص الناموس لم يكن بسبب موسى ولا من الله الذي أعطاه، فالمسيح يقول بهذا الصدد: «ما جئت لأنقض بل لاكمل، فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (مت17:5-18). ولكن الناقص كان ناقصأ بسبب الذين أُعطي لهم. والمسيح يقول بهذا الصدد: “فتقدم الفريسيون وسألوه: هل يحل للرجل أن يطلق امرأته ليجربوه. فأجاب وقال لهم: بماذا أوصاكم موس؟ فقالوا: موسى أذن أن يكتب كتاب طلاق فتطلق. فأجاب يسوع وقال لهم: من أجل قساوة قلوبكم كتب لكم هذه الوصية. ولكن من بدء الخليقة ذكرأ وأنثى خلقهما الله، من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأنه، ويكون الاثنان جسداً واحداً. إذا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان.» (مر2:10-9)
وبولس الرسول يؤكد ذلك تأكيداً موضحاً أن الخطية كانت قد ملكت الإنسان واستعبدته حتى صيرت له الصالح موتاً: «لأن الخطية وهي متخذة فرصة بالوصية خدعتني بها وقتلتني، إذاً الناموس مقدس والوصية مقدسة وعادلة وصالحة. فهل صار لي الصالح موتاً؟ حاشا، بل الخطية، لكي تظهر خطية منشئة لي بالصالح موتاً، لكي تصير الخطية خاطئة جداً بالوصية» (رو11:7-13). وهذا هو سر الإثم الكائن في العالم الذي دوخ الإنسان. أي أن علة ضعف الناموس وعجزه عن أن ينشىء شيئاً صالحاً للانسان هي الخطيئة التي كانت قد ملكت وسادت وقتلت!! وهذه العلة, أى الخطية, التي ألغت قوة الناموس ومسخت روحانيته وجعلته غير صالح، مع أنه صالح, هي التي ألغاها المسيح», وقتلها في جسده. وهذا ما يوضحه بولس الرسول أيما توضيح:
* ” إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ (الناموس) بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ (النعمة. لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَ الْمَوْتِ. لأَنَّهُ مَا كَانَ النَّامُوسُ عَاجِزاً عَنْهُ فِي مَا كَانَ (الإنسان) ضَعِيفاً بِالْجَسَدِ فَاللَّهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ (اى بدون خطية) وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ (التى عطلت عمل موسى) دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ (الصليب). لِكَيْ يَتِمَّ حُكْمُ النَّامُوسِ فِينَا (ونأخذ صك براءة ممض باسم المسيح ومختوم بالدم) نَحْنُ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ (الناموس) بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ (الإنجيل). (رو1:8-4)
فعوض الخطية أعطى المسيح النعمة!! وعوض حكم الناموس بموت الخاطىء، أعطى المسيح بره الشخصى لتبرير الخاطىء ليحيا إلى الأبد ولا يموت أبداً.
وبينما كان الناموس وكل وصايا وفرائض وعبادة الناموس بالجسد هي شبه السمويات وظلها، إذ بالمسيح يجعل الوصية والعبادة بالروح والحق هي السمويات عينها التي جاء منها، وهي طبيعة الله وحياته التي جاء ليخبر بها.
18:1- اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ.
هذه هي آخر آية في منظومة مقدمة إنجيل يوحنا. وهي بمثابة الرتاج أو صمام الأمن الذي يغلق ¬في وجه كل محاولة كانت أو ستكون، إن هي وقفت لتناطح صاحب هذا الاسم الآخير المستعلن, يسوع المسيح, في كونه الوحيد بصفته الابن المحبوب لله, الذي استطاع ويستطيع إلى الآبد أن يخبر عن الله أبيه الخبر اليقين والبشارة المفرحة. فليست هذه الآية تقع كسابقتها في مواجهة موسى أو غيره من الآنبياء، بل وكل ادعاء يجىء ليتحدث ويخبر عن الله: «الآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي، لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته» (يو37:5). ولكن كان هم القديس يوحنا ليس إسكات أصوات إدعاء المتكلمين بفم الله في زمانه أو غير زمانه، بل كان همه بالأساس إرساء قاعدة حق إنجيل يسوع المسيح ابن الله، على أساس أن يسوع المسيح ابن الله هو الاستعلان الكامل والوحيد لله، الذي به نرى الله، وفيه نرى الآب، ومنه نعرف كل ما عند الآب:
* وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهَذَا أَقُولُهُ لِلْعَالَمِ». (يو26:8)
* وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ (يو40:8)
* «أَعْمَالاً كَثِيرَةً حَسَنَةً أَرَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَبِي (يو32:10)
* 7- لَوْ كُنْتُمْ قَدْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً. وَمِنَ الآنَ تَعْرِفُونَهُ وَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ». (يو7:14)
* لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي. (يو15:15)
* لاَ أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِأَمْثَالٍ بَلْ أُخْبِرُكُمْ عَنِ الآبِ علاَنِيَةً. (يو25:16)
فجميح طرق الاستعلان السالفة لم تكن كافية لتبلغ الإنسان حقيقة الله؛ وبواسطتها جميعاً أخفق الإنساذ أن يرى الله أو يسمع صوته. أما في الابن الوحيد الكائن في حضن الآب فقد استعلن الله، مرئياً ومسموعاً:
الَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ. (يو9:14)
وَالْكلاَمُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلْ لِلآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي. (يو24:14)
والآية بحد ذاتها تضع الله في السمو المطق وتقنع الإنسان الذي انطلق يفحص الله أن يعود إلى بيته ودائرة محدوديته. كما تقنع الإنساذ الطموح الذي يتحرق اشتياقاً وحباً لله أن يلتجىء إلى الابن المتجسد ليشبع منه وفيه كل اشتياقاته وحبه، فالأبن المتجسد هو الابن المحبوب الحامل ليس فقط لمعرفة الآب بل لكل حبه. فـ «دالمونوجانيس» كصفة الابن يجمع صفتين جوهريتين لله: البنوة الفريدة، والحب الفريد.
فلو انتبهنا إل الأية السالفة (17) باعتبارها الأية الفاعلة بين العهد القديم والعهد الجديد سواء من جهة طبيعته أو صاحبه: «الناموس بموسى أعطي أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا»، نجد أنها ينقصها المزيد من التوضيح. وهذا هو الذي تكمله الأية التي نحن بصددها. فموسى وكل الشخصيات العظيمة والمقربة إلى الله على مدى العهد القديم كله لم يحظ أحد منهم برؤية الله رؤية حقيقية، وإنما كان كله بالشبه، وبالتالي تكون كذلك كل توصيات ووصايا العهد القديم هي حتماً «شبه السماويات وظلها»، وحتى الإنسان نفسه، كل إنسان، فهو مخلوق أصلاً على شبه الله وصورته. ولكن الآن وفي المسيح ليس الأمر كذلك، فهو الصورة الحقيقية لله، بل هو«الحق» في ذاته وفي كل أقواله:
* فقال (موسى) أرني مجدك, فقال أجيز كل جودتي قدامك وأنادي باسم الرب قدامك. وأتراءف على من أتراءف وأرحم من أرحم. وقال لا تقدر أن ترى وجهي, لأن الإنسان لا يراني ويعيش.» (خر18:33-20)
هذا في مقابل صاحب العهد الجديد ومؤسسه يسوع المسيح الابن الوحيد، فهو ليس كذلك بل هو وكما أشارت الأية السابقة ملء النعمة والحق:
«(ابن) وحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً». و«الابن الوحيد (الإله) الذي هو في حضن الآب هو خبر».
فهو الابن الحقيقي والفريد لله، الذي ليس فقط رأى الله ويعرفه بل هو قائم فيه في موضع الحضن أو على الأصح في حالة الحضن أي العمق الخفي والخاص والسري جداً، المستريح والفعال في الله الذي لا يحتلة إلا “الابن الحبيب الذي سررت به».
“في حضن الآب»:
يلاحظ أنها لم تجيء ( ) ولكن ( ) وهذا في التعبير اليوناني الدقيق يفيد ليس ««في حضن الآب» بل «داخل حضن الآب”. وحتى هذا الوجود في الداخل ليى جامداً غير متحرك، بل هو وجود «متداخل», أي دائم الإتجاه نحو الحضن الأبوي. وبهذا يصبح هذا التعبير مشابهاً للتعبير الأول في الآية الأولى ( ) “عند الله”, فهو وجود قائم متداخل ممتد في الله, وبذلك يكون التشديد في المعنى متركزاً نحو كيفية الصلة الذاتية «الابن بالآب»، فهي صلة تداخل وتضام كلي ومطلق، لأن الابن والآب هما الواحد المطلق.
وبهذا التعبير اللاهوتي الدقيق يمتنع تصور الثنائية بين الأب والابن، لأنه حتى بعدما أرسل الابن في مهمة الخلاص العظمى حسب مسرة الآب وحبه للعالم والإنساذ، ظل الابن هو كما هر قائماً في الآب ومتجهاً نحوه بتداخل كلي ومطلق، فهو كائن على الأرض وفي السماء، في جسد إنسان، وهو هو في الآب دون أدنى مفارقة ذاتية «وليس أحد صعد إلى السماء إلآ الذي نزل من السماء، ابن الانسان الذي هو في السماء.» (يو13:3)
وفي هذا يقول القديس أغسطينوس في عظاته عن إنجيل يوحنا: [لقد أُضيف الانسان إليه، أما الله فلم يُفقد منه، لقد أخلى نفسه ليس بأنه فقد شيئا مما له، ولكن بأخذه لنفسه ما لم يكن له.]
من موضع هذا الحضن، أو على الأصح من واقع هذه الحالة, يخبرنا الابن عن الله كأبيه، أو بالحري يكشف لنا عن حقيقة طبيعة ذات الله.
ويجيء التعبير عن ذلك هنا في الآية باللغة اليونانية بترجمتها الصحيحة عن أقدم المخطوطات، وهو الوضع الذي أخذ به معظم الآباء، هكذا: ( ), أى «الابن الوحيد الاله الكائن بذاته في حضن الآب». وهي الصفات الكاملة التي كانت تنقص ألقاب المسيح في الآية السالفة: “أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا»: وهو تعبير يتجه مباشرة نعو العلاقة الحميمة بين الآب والابن، وتفيد أن الابن كائن بالحب في الآب، والمسيح عبر عن هذه العلاقة أصدق تعبير بقوله:
* لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي بَلْ أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي. (يو16:8)
* والَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ». (يو29:8)
* وَتَتْرُكُونَنِي وَحْدِي. وَأَنَا لَسْتُ وَحْدِي لأَنَّ الآبَ مَعِي. (يو32:16)
* أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ (يو10:14)
وهذا هو التعبير الشخصي المعبر عن علاقة الكينونة التي تربط الآب بالابن، مقابل التعبير الفكري الذي صور علاقة الكلمة بالله على مستور العمل والخلق، «والكلمة كان عند الله». فإذا أردنا أن نقارن بين التعبيرين فإنه يكون هكذا : فكما أن الكلمة تكون دائمأ في حضن العقل، أو كما يكون الفعل مختفياً في الإرادة, هكذا الابن في حضن الآب.
وهذا الا ستعلان يخدم قضية الانجيل كله. لأنه بالتالي يكون «كل ما يقول ويعمل ويشرح» عن الله “ابيه” هو الحق الواحد والوحيد لأنه يخبرنا بما يرى ويعرف.
ويجيء الفعل «يخبر» ( ) يحمل هذه المعاني مجتمعة، فهو يخبر بالخبر الإنجيلي الذي يشرح ويفسر ما خفي عن الله ويعلم ويوضح.
ومعروف أن اللغات الحديثة أخذت هذه الكلمة ( ) دون أي تحريف لتجعل منها نفس المعنى أي الشرح والتفسير والتوضيح للأمور المخفية (علم التفسير). وفي الحقيقة إذ المعنى لهذه الكلمة ينسحب على المسيح نفسه بكل ارتياح، فهو بذاته وبحياته وتجسده هو هو الآب. فالمسيح هو “الله المُعلن», “والله هو من أعلنه المسيح” في ذاته وأقواله وأعماله. بل إن المسيح في عرف الآباء القديسين هو “الإنجيل” لأنه هو «الخبر المفرح”، أليس هو «الكلمة”؟
وبهذه الكلمة يسلم القديس يوحنا فكرالقارىء إلى بداية رواية الإنجيل مباشرة في الآية القادمة بثقة وبكل هدوء. فانظر أيها القارىء وتعجب لهذه الدقة المتناهية وهذا الحبك اللفظي والمعنوي، هذا ليس حرفاً بل هو روح!!
كما يلاحظ أنه عن قصد ودراية يقدم لنا القديس يوحنا هذه الآية الأخيرة واصفاً صاحب العهد الجديد بل وصاحب الإنجيل بهذه الصفات، فهو يقصد التأكيد على أن كل ما سيجىء, في هذا الإنجيل, على لسان المسيح هو «الحقد”، فهو أولاً “كلمة الله» وهو «المملوء نعمة وحقاً», وهو “الابن الإله القائم فى حضن الآب» هذه هي مؤهلات الذي أتى بالخبر الإنجلي. وهو يخبرنا، نحن البشر، خبر القُربى, والسكنى في البيت الواحد. فهو يكلمنا ليس بالرؤيا ولا بالحلم، “فالكلمة صار جسداً وحل بيننا”، فهو وهو كزنه “كلمة الله” يكلمنا «بالجسد” كإنسان وهو الله.
وفي ختام هذه المقدمة يمكن أن نضع أمام القارىء أهم وأخطر الكلمات التي جمعها وكدسها القديس يوحنا في المقدمة، والتي ستقوم عليها كل رواية الانجيل باعتبارها أساس لاهوت إنجيل يوحنا:
الحياة، النور، الظمة، الشهادة، العالم، المجد، ابن الله الوحيد، الحق، يقبل، يؤمن، اسمه، يولد من الله.
أما الكلمات الهامة جداً التي جاءت في المقدمة فقط واختفت من باقي الإنجيل فهي: «الكلمة»، «النعمة”, «الملء»، لأنها بعد التجسد أخذت صورة الفعل والعمل. فالكلمة صار متكلماً، والنعمة صارت عطية، والملء صار توزيعاً.
تفسير إنجيل يوحنا – مقدمة | إنجيل يوحنا – 1 | تفسير إنجيل يوحنا | تفسير العهد الجديد | تفسير إنجيل يوحنا – 1 ج2 |
القمص متى المسكين | ||||
تفاسير إنجيل يوحنا – 1 | تفاسير إنجيل يوحنا | تفاسير العهد الجديد |