تفسير إنجيل يوحنا الأصحاح 18 للأب متى المسكين

الجزء الخامس: إنجبل الفداء
الأصحاحات 18و19و20و21

‏هذه الأصحاحات تشمل:
أولاً التسليم     18: 1-11
ثانياً المحاكمة أمام الهيئات الدينية، المحاكمة أمام الدولة الرومانية 18: 12 – 19: 16
ثالثاً النهاية 19: 17-42
رابعاً القيامة (الحياة الجديدة) 20
خامساً صور مستيكية لمستقبل الكنيسة الرسولية 21

الأصحاحان الثامن عشر والتاسع عشر

مقدمة: خصائص الأصحاحين الثامن عشر والتاسع عشر

+ يرتفع فيهما القديس يوحنا فوق السرد التاريخي لحوادث الآلام والصلب ليجذب انتباه القارىء إلى ما تحمله الحوادث من معان هامة.
+ فالآلام والموت، وحتى القيامة، تحمل أقصى الاستعلان عن شخصية المسيح.
+ كل حديث وكل قول جاء معه، يحمل في أعماقه صفة الآية التي تشير إلى مضمون يتفوق كثيراً عن مجرد السرد التاريخي الذي جاء به هذا الحدث وهذا القول.
+ ليس من الصواب أن نعتبر ما أضافه القديس يوحنا في رواية الآلام والصلب أنه تكميل لما جاء في الثلاثة الأناجيل، بل الصواب هو أن هذه الإضافات تنطلق من قاعدة شاهد عيان كان على قرب وثيق مع المسيح في كل تحركاته، إذ لازمه ولم يتخلى عنه لحظة واحدة، مما أهله أن يصف، عن ملء الرؤيا والمعرفة الباشرة, الأمر الذي لم يتسنى لبقية التلاميذ.
القديس يوحنا, في سرده لحوادث الآلام والصلب, اكتفى, كباقي رواية الإنجيل, بمواقف اختارها خصيصا دون بقية الحوادث والآيات، ليتخذ منها أساساً يبني عليه القصد الكلي والنهائي من الانجيل, وهو استعلان شخص المسيح باعتباره ابن الله، الأمر الذي اعتبره دستوراً للايمان المسيحي والحياة الأبدية، واعتبرته الكنيسة من بعده كذلك.
‏وعلى هذا الأساس، يمكن أن نستخلص من رواية القديس يوحنا عناصر استعلانية واضحة تكشف عن لاهوت المسيح، وهو يجوز آلامه.
أولاً: المسيح جاز الآلام عن مشيئة وإرادة طوعية:
4:18 فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟».
8:18 أَجَابَ: «قَدْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا هُوَ. فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هَؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ».
11:18 فَقَالَ يَسُوعُ لِبُطْرُسَ: «اجْعَلْ سَيْفَكَ فِي الْغِمْدِ. الْكَأْسُ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ ألاَ أَشْرَبُهَا؟».
36:18 أَجَابَ يَسُوعُ: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا الْعَالَمِ لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلَكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا».
28:19 بَعْدَ هَذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ فَلِكَيْ يَتِمَّ الْكِتَابُ قَالَ: «أَنَا عَطْشَانُ».
30:19 فَلَمَّا أَخَذَ يَسُوعُ الْخَلَّ قَالَ: «قَدْ أُكْمِلَ». وَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ.
‏ثانياً: الحوادث تنطق أن المسيح كان يكمل بآلامه خطة إلهية مرسومة مسبقاً.
8:18-9 فَسَأَلَهُمْ أَيْضاً: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟» فَقَالُوا: «يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ». أَجَابَ: «قَدْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا هُوَ. فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هَؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ».
11:18 فَقَالَ يَسُوعُ لِبُطْرُسَ: «اجْعَلْ سَيْفَكَ فِي الْغِمْدِ. الْكَأْسُ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ ألاَ أَشْرَبُهَا؟».
‏11:19 أَجَابَ يَسُوعُ: « لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ. لِذَلِكَ الَّذِي أَسْلَمَنِي إِلَيْكَ لَهُ خَطِيَّةٌ أَعْظَمُ».
24:19 فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لاَ نَشُقُّهُ بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ». لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: «اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً». هَذَا فَعَلَهُ الْعَسْكَرُ
28:19 بَعْدَ هَذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ فَلِكَيْ يَتِمَّ الْكِتَابُ قَالَ: «أَنَا عَطْشَانُ».
‏ثالثاً: سمات التفوق الإهي من داخل ذلة القبض, وعصة الآلام, وعار الصليب:
6:18 فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أَنَا هُوَ» رَجَعُوا إِلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ.
20:18-21 أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ علاَنِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِماً. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ. لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا؟ اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ. هُوَذَا هَؤُلاَءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلْتُ أَنَا».
37:18 فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: «أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي».
‏36:19-37 لأَنَّ هَذَا كَانَ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ: «عَظْمٌ لاَ يُكْسَرُ مِنْهُ». وَأَيْضاً يَقُولُ كِتَابٌ آخَرُ: «سَيَنْظُرُونَ إِلَى الَّذِي طَعَنُوهُ».
‏أما العناصر الجديدة التي ساهم بها إنجيل يوحنا في خزانة الإنجيل, فنحن نلخصها في ‏الآتي:
1- كلمات القوة والسلطان لحظة القبض عليه: (4:18-9).
2- الفحص والمحاكمة أمام حنان رئيس الكهن: (13:18-24).
3- الاجتماع الأول بين اليهود وبيلاطس، الذي أعقبه إجراء سري لاستجواب بيلاطس: (28:18-37, 9:19-11)
4- الاستهزاء الأول بالمسيح وهو مقبوض عليه. وخروج بيلاطس بجملته المشهورة: «هوذا الإنسان»: (2:19-5).
5- إصرار بيلاطس على كتابة ما كتب بخصوص ملك اليهود: (21:19-22).
6- تسليم المسيح والدته القديسة مريم العذراء للتلميذ الذي يحبه: (25:19-27).
7- الجملة الأخيرة: «أنا عطشان«، و«قد أكمل.» (28:19-30‏).
8- طعن جنب المسيح بالحربة، وخروج دم وماء‏: (31:19-37).
9- عودة نيقوديموس علناً, وقيامه بواجب الأمانة التي أخفاها طويلاً في الظلام: (39:19).
‏وقد برزت في رواية القديس يوحنا إضافات، استطراداً للشرح الضمني، هي ذات وزن تاريخي للرواية، وعلى غاية من الأهمية، وتوضح أن الذي يقولها شاهد عيان وخبير بأمور الرب:
1- «قال يسوع هذا (صلاة يو17)، «وخرج» مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون حيث كان بستان …» (1:18)
2- «وكان يهوذا مسلمه يعرف الموضع، لأن يسوع اجتمع هناك كثيرا مع تلاميذه.» 2:18)
3- «ثم إن سمعان بطرس كان معه سيف, فاستله وضرب عبد رئيس الكهة، فقطع أذنه اليمنى. وكان اسم العبد ملخس (10:18)
4- «فقال يسوع لبطرس: اجعل سيفك في الغمد، الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟» (11:18)
5- «ثم إن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا عل يسوع، وأوثقوه» (12:18)
6- «ومضوا به إلى حنان أولاً، لأنه كان حما قيافا، الذي كان رئيساً للكهنة في تلك السنة.» (13:18‏)
7- «وكان سمعان بطرس والتلميذ الآخر يتبعان يسوع. وكان ذلك التلميذ معروفاً عند رئيس الكهنة، فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة.» (15:18‏)
8- «واما بطرس فكان واقفاً عند الباب خارجاً. فخرج التلميذ الأخر الذي كان معروفاً عند رئيس الكهنة، وكلم البوابة، فأدخل بطرس.» (16:18‏)
9- «قال واحد من عبيد رئيس الكهة، وهو نسيب الذي قطع بطرس أذنه: أما رأيتك أنا معه في البستان؟» (26:18‏)
10- «ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية، وكان صبح. ولم يدخلوا هم إلى دار الولاية، لكي لا يتنجسوا، فيأكلون الفصح.» (28:18)
11- «وكان استعداد الفصح، ونحو الساعة السادسة، فقال لليهود: هوذا ملككم.» (14:19)
12- «فخرج وهو حامل صليبه, إلى الموضع الذي يقال له موضع الجمجمة، ويقال له بالعبرانية جلجثة.» (17:19)
13- «وكتب بيلاطس عنواناً، ووضعه على الصليب، وكان مكتوباً: يسوع الناصري ملك اليهود.» (19:19‏)
14- «ثم إن العسكر لما كانوا قد صلبوا يسوع، أخذوا ثيابه وجعلوها أربعة أقسام، لكل عسكري قسماً. وأخذوا القميص أيضاً، وكان القميص بغير خياطة، منسوجاً كله من فوق.» (23:19)
«وكان في الموضع الذي صُلب فيه بستان، وفي البستان قبر جديد لم يوضع فيه أحد قط.» (41:19‏)

أولاً : التسليم 18: 1-11

1:18 قَالَ يَسُوعُ هَذَا وَخَرَجَ مَعَ تلاَمِيذِهِ إِلَى عَبْرِ وَادِي قَدْرُونَ حَيْثُ كَانَ بُسْتَانٌ دَخَلَهُ هُوَ وَتلاَمِيذُهُ.
«خَرَجَ»: ‏لأول وهلة, تفيد هذه الكلمة أن الرب خرج من العلية التي كانوا مجتمعين فيها، ولكن في موضع آخر، وفي نهاية الأصحاح الرابع عشر، بعد الحديث على العشاء، نسمع الرب يقول: «قوموا ننطلق من ههنا» (يو31:14)، كإفادة للخروج من العلية. لذلك يعلق بعض الشراح على الخروج هنا أنه كان من أحد الأروقة في الهيكل التي عرج عليها الرب في طريقه إلى جثيماني في جبل الزيتون.
‏ويرجح ذلك، العالم وستكوت، بسبب قول الإنجيل أنه خرج إلى عبر وادي قدرون، وهو الوادي الذي يفصل الهيكل عن جبل الزيتون، بمعنى أن الرب اجتاز الأرض من الغرب, ناحية الهيكل, إلى الشرق. وهذا لا يتأتى، إلا إذا كان خارجاً من الهيكل، وغالباً من باب دمشق، وهو المرسوم عليه الكرمة الذهبية بأفرعها الممتدة. ولكن الذي يزيدنا شعوراً بصدق هذا الاحتمال، هو الإحساس الشديد الذي يخلفه المسيح في صلاته التي قدمها إلى الآب بالحضرة الإلهية المهيبة التي يصورها الهيكل: «بيتي بيت الصلاة يدعى» (مت13:21‏). خاصة وهو يرفع بصره بعيداً، نحو الكنيسة الجديدة الأزلية، حيث السجود للأب سيكون بالروح والحق!
«قدرون»: هو نهر يجف صيفاً، فيترك قاعه جافاً كالوادى، ليمر فوقه المارة.
‏ولكن يبدو أن القديس يوحنا اعتنى أن يقدم لنا هذا الوصف التفصيلي للرحلة الحزينة للمسيح، وهو خارج من المدينة صوب جبل الزيتون، مُطارداً من التلميذ الخائن والشعب الأحمق، ليعطينا نفس الصورة النبوية لداود «ملك إسرائيل»، وهو خارج باكياً حافي القدمين، هارباً مم وجه «أبنه» أبشالوم الطامع في ملك أبيه، متسلحاً بمشورة أخيتوفل، وبجيش من الشعب الأحمق الذي أغواه ضد أبيه:
+ «وكانت جميع الأرض تبكي بصوت عظم، وجميع الشعب يعبرون، وعبر الملك في وادي قدرون, وعبر جميع الشعب نحو طريق البرية.» (2صم23:15)
+ «وأما داود فصعد في مصعد جبل الزيتون، كان يصعد باكياً، ورأسه مغطى، ويمشي حافياً، وجميع الشعب الذين معه غطوا كل واحد رأسه، وكانوا يصعدون وهم يبكون.» (2صم30:15‏)
‏أما أبشالوم الابن الجاهل، فأصابه سهم في ظهره وعُلق عل شجرة ميتاً. وأما أخيتوفل، صاحب المشورة، فذهب وخنق نفسه (2صم23:17)!!
‏«… حيث كان بستان دخله هو وتلاميذه»: هذا هو بستان «جثسيمانى»، الاسم الذي أطلقه كل من القديس متى والقديس مرقس. ويحكي لنا المؤرخ يوسيفوس اليهودي، أن مثل هذه البساتين الصغيرة كانت منتشرة عل جبل الزيتون، وكانت تدعى بالبراديسوى, أي «الجنات»
‏وكلمة «جثسيماني» من مقطعين «جاث _ شماي» وتعني «معصرة الزيت»:
+ «من ذا الآتي من أدوم بثياب حمر من بصرة، هذا البهي بملابسه، المتعظم بكثرة قوته؟ أنا المكتم بالبر، العظيم للخلاص. ما بال لباسك محمر وثيابك كدائس المعصرة؟ قد دست المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن معي أحد. فدستهم بغضبي، ووطئتهم بغيظي، فرش عصيرهم على ثيابي، فلطخت كل ملابسي. لأن يوم النقمة في قلبي، وسنة مفديي قد أتت.» (إش1:63-4)
‏كثير من الشراح والقديسين الأوائل تغنوا ببستان جثسيماني كبستان، أو بالتعبير الإنجيلي الصحيح جنة، وبتعبيرنا «جنينة» أي تصغير «جنة» ، وذلك في مقابل جنة عدن، فكما فقد الإنسان الأول فيها هويته، إذ طغى عليه الشيطان وأغواه وأحدره إلى الأرض عرياناً, مفضوحاً، ميتاً بجهله؛ جاء ابن الإنسان ودخلها مصلياً، وانتقم للانسان، بأن أسقط الشيطان من السماء كالبرة المنطفىء، وأحدره إلى الهاوية، مكبلاً بقيود الظلام، وأعاد آدم إلى رتبته الأولى حياً، غالباً الموت، لميراث نعيم الحياة الأبدي .
‏وربما يكون القديس يوحنا قد وضع موضوع المقابلة في أمر جنة عدن والبستان = الجنة ضمن اعتباره، إذ يكرر مرة أخرى أن موت الرب وقيامه كانا في بستان (جنة) أيضاً: «وكان في الموضع الذي صُلب فيه بستان, وفي البستان قبر جديد لم يدفن فيه أحد قط» (يو41:19). بل وأمعن في أمر البستان، أذ مريم توهمت أن المسيح القائم من الموت أنه هو «البستاني»: «فظنت تلك أنه البستاني، فقالت له: يا سيد إن كنت أنت قد حملته، فقل لى أين وضعته وأنا آخذه» (يو15:20). ولم تعلم مريم أنه «البستاني» الحقيقي، الذي فلح لنا الفردوس الجديد، عوض آدم الذي أفقدنا الفردوس الأول.
«دخله هو وتلاميذه»: واضح أن البستان له أسوار وباب. لقد كان مكاناً مختاراً للرب والتلاميذ لقضاء أوقات وأيام للراحة والصلاة والتأمل. هنا يذكر الإنجيل التلاميذ بكامل عددهم: «تلاميذه»، بعد أن أسقط يهوذا، فتلاميذ المسيح لا يجمعهم عدد، بل يجمعهم الحب والإيمان اللذين فقدها يهوذا، ففقد نفسه, ولم يفقد التلاميذ شيئاً بفقده.
‏لم يذكر القديس يوحنا شيئاً عن معاناة الرب في الصلاة التي اشتهرت بها جثسيماني، ولكن لم يغفل القديس يوحنا مرارة الروح التي صلى بها المسيح في جثسيماني، وعمق المعاناة التي جازها، وصرخة الجزع التي خرجت لتعبر عن ثقل التجرية؛ ولكنه ذكرها مسبقاً عبر أحاديث هادفة، ولم يشأ أن يركز عليها تركيزاً كباقي الإنجيليين. لقد ذكرها في موضوع تعليمي يليق بموت الذات الإرادي في موضوع موت حبة الحنطة، وضمها إلى ساعة الصليب، ليفهمها القارىء اللبيب:
+ «وَأَمَّا يَسُوعُ فَأَجَابَهُمَا: «قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ. اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلَكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ. إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضاً يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ. اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ. أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ». فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: «مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً». فَالْجَمْعُ الَّذِي كَانَ وَاقِفاً وَسَمِعَ قَالَ: «قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ». وَآخَرُونَ قَالُوا: «قَدْ كَلَّمَهُ ملاَكٌ». أَجَابَ يَسُوعُ: «لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هَذَا الصَّوْتُ بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ. اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ. اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا الْعَالَمِ خَارِجاً. وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ». قَالَ هَذَا مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ.»
‏نعم، هكذا استوفى القديس يوحنا كل تعبيرات جثسيماني وكل أنينها وتنهداتها، بل وكل رعدتها وجزعها، ولكنه صبها صباً في قالب تعليمي. اسمع كيف يسرد القديس يوحنا قول المسيح, في جثسيماني, عن موضوع «شرب الكأس», مخاطبا بطرس, وكل بطرس, الذي جزع من شربها، مع أنه شربها في النهاية: «اجعل سيفك في الغمد، الكأس التي أعطاني الآب, ألا أشربها» (يو11:18)
‏واضح أن القديس يوحنا ثبت نظره على الصليب كمجد، والآلام كطريق للمجد، والموت كانتصار. هكذا اختزل القديس يوحنا محنة جثسيماني في جملة واحدة: «الكأس التي أعطاني الآب، ألا أشربها؟» (يو11:18)

2:18 وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ يَعْرِفُ الْمَوْضِعَ لأَنَّ يَسُوعَ اجْتَمَعَ هُنَاكَ كَثِيراً مَعَ تلاَمِيذِهِ.

‏القول فيه دفاع عن كون المسيح لم يخرج من المدينة ويذهب إلى ظلال شجر جبل الزيتون هروبا من يهوذا والمطاردين، فالقديس يوحنا يؤكد أنه المكان المختار الذي كان يلجأ إليه المسيح كثيراً . والمسيح، كيوحنا، يعلم أن يهوذا يعرف الموضح جيداً، فكأنه ذهب إلى هناك لا هروبا من التسليم بل تسهيلاً للخائن أن يكمل مشورته: «ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة» !!! فوقت الاختباء قد ولى، والآن هي ساعة العلانية.
‏ويبدو أن بستان جثسيماني كان يمتلكه سرا أحد تلاميذ الرب، تماما كالعلية التي تم الاجتماع فيها، فالقديس متى يلمح على ذلك: «اذهبوا إلى المدينة إلى فلان (سر), وقولوا له: المعلم يقول: إن وقتي قريب, عندك أصنع الفصح مع تلاميذي.» (مت18:26)
‏وفي رواية القديس مرقس لحوادث جثسيماني، يذكر عرضاً أمراً عجيباً يلفة السر من كل جانب، إذ يذكر بالحرف الواحد أنهم وهم داخل البستان، أقبل عليهم يهوذا ومعه جمع كثير، ويردف ويقول: «فأجاب يسوع وقال لهم: كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني. كل يوم كنت معكم في الهيكل أعلم ولم تمسكوني، ولكن لكي تكمل الكتب. فتركه الجميع, وهربوا. وتبعه شاب لابساً إزارا على عريه, فأمسكه الشبان, فترك الإزار وهرب منهم عرياناً» (مر48:14-52)
‏والمعتقد أن هذا الشاب لم يكن إلآ صاحب البستان «جثسيماني»، حيث كان فيه يؤانس ضيوفه ويرحب بهم، ثم ذهب لينعس بإزار خفيف على عريه. ثم هب من نومه على ضجة العسكر، وأراد أن يتبع المعلم، وأخيراً هرب بجلده، وساعده عريه على ذلك. ولم يكن هذا الشاب أيضاً حسب التقليد إلا مرقس الرسول، صاحب العلية أيضاً, وهو الوحيد الذي كتب قصة عريه وهربه، كما أنه هو الوحيد الذي ذكر اسم البستان «جثسيماني»، وقد أخذ عنه القديس متى وحده هذا الاسم!
‏«لأن يسوع اجتمع هناك كثيراً مع تلاميذه»: «اجتمع»: واضح من اللفظة اليونانية أن البستان كان مخصصا لاجتماع الرب مع تلاميذه، بمعنى اجتماع للصلاة والتعليم والقيادة الروحية أكثر منه مكان راحة واستجمام: «خرج إلى الجبل ليصلي، وقضى الليل كله في الصلاة» (لو12:6)», «وكان في النهار يعلم في الهيكل، وفي الليل يخرج ويبيت في الجبل، الذي يدعى جبل الزيتون» (لو37:21). وربما إذ كان التلاميذ قد تعودوا النوم هناك, أنهم بمجرد أن تركهم المسيح ليصلي فإنهم ناموا جميعاً! بل وربما على هذا الأساس، اعتقد يهوذا أنه سيداهم الرب والتلاميذ وهم نيام، كما اعتادوا في الأيام السابقة.
‏كذلك واضح من الآية: «اجتمع هناك كثيراً» ، أن تواجد المسيح في أورشليم لم يقتصر على موسم الفصح هذه المرة فقط، فإنجيل يوحنا يذكر زيارات المسيح لأورشليم لثلاثة أعياد فصح خلت, مع الأعياد الأخرى الرسمية، وهو في هذه المرة لم يغادر أورشليم منذ عيد المظال وحتى هذا الفصح الأخير.

3:18 فَأَخَذَ يَهُوذَا الْجُنْدَ وَخُدَّاماً مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ وَجَاءَ إِلَى هُنَاكَ بِمَشَاعِلَ وَمَصَابِيحَ وَسِلاَحٍ.

وأخيراً، انضمت قوات الظلمة معاً على ثلاث درجاتها: تلميذ من الخاصة الاثني عشر المختارين؛ ورؤساء كهنة وفريسيون, حكماء صهيون, مختفين وراء خدامهم؛ ثم سفارة عن هيئة هذا العالم، والكل بقيادة الشيطان: فبالنسبة للتلميذ، قال المسيح بخصوصه: «فغمس اللقمة، وأعطاها ليهوذا سمعان الإسخريوطي. فبعد اللقمة، دخله الشيطان, فقال له يسوع: ما أنت تعمله، فاعمله بأكثر سرعة.» (يو26:13-27)
‏وبالنسبة لرؤساء الكهنة والفريسين، حكماء إسرائيل، فقد خصهم المسيح بالقول: «أنتم من أب هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالاً للناس من البدء.» (يو44:8)
أما عن هيئة هذا العالم، فقد سخرها رؤساء الكهنة لخدمة أغراضهم وهم أبرياء. هؤلاء خرجوا بمشاعل يفتشون عن النور الحقيقي الذي ينير كل العالم مسلحين، يتسترون بالسلاح خلف رعبتهم. وعند أول مواجهة سقطوا على الأرض، وسيوفهم في أيديهم.
‏ومن الآية (12) القادمة، التي يذكر فيها القديس يوحنا: «الجند والقائد وخدام اليهود» (يو12:18)، يتضح من اللغة اليونانية نوع وعدد العساكر ورتبة القائد:
‏«الجند»: ومقابلها باللاتينية ( )، وتعني الاورطة، وتعدادها حوالى 200 جندي. وهي ثلث الفرقة المكلفة أصلاً بحراسة الهيكل ، ومقرها قلعة أنطونيا شمال شرقي الهيكل.
«والقائد»، وهو كما يتضح من اليونانية رئيس ألف، وهى رتبة كبيرة.
أما كلمة «خداماً» من عد رئيس الكهنة التي جاءت في الأية (12) تحت «خدام اليهود» فهي في اللغة اليونانية ( )، وترجمتها «ضباطاً». وهؤلاء بعضهم ضباط رومانيون مكلفون بخدمة حراسة الهيكل، ولكنهم كانوا يأتمرون بأمر أعضاء السنهدريم لحفظ الأمن، بالنسبة لخدمة الهيكل، خاصة في أيام الأعياد.
‏ومن هذه المجموعة المشكلة من كافة اختصاصات القوات الرومانية واليهودية، يتضح مقدار الرعبة التي ملأت قلوب رؤساء الكهنة والفريسين والسنهدريم من جهة خطورة القبض على المسيح، لا خوفاً من هياج الشعب، كما يدعون، بل بسبب الرعبة من شخص الرب.
‏وقد اعتنى القديس يوحنا في تعداد أنواعها ودرجاتها وعددها ضمناً ليعطي صورة حقيقية لمشهد القبض المخيف والمرعب.
‏كذلك من قول المسيح في إنجيل القديس متى: «أتظن أني لا أستطيع الأن أن أطلب إلى أبي، فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة، فكيف تكمل الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون» (مت53:26-54)، نستشف أن المسيح كان يهدىء من روع بطرس، الذي ارتاع من كثرة الجند، وخرج من هدوئه وبدأ يضرب بالسيف.
‏وهذا كله لا يمكن أن يجري بهذه الضخامة والسهولة, بدون ترتيب مسبق مع الحكومة الرومانية. واذا لاحظنا مجريات الحوادث بدقة، نجد أن دورة الفحص لقضية المسيح انتهت عند قيافا بعد منتصف الليل، ثم في الحال رحلوا المسيح إلى دار الولاية، أي مقر الحكومة الرومانية.
‏ويقول القديس يوحنا: «ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية وكان صبح» (يو28:18). كلمة «صبح» هنا، ترجمة غير معبرة تماما، فهي باليوناية تعني «مبكراً جداً». وتكميل الكلام: «فخرج بيلاطس إليهم… » (يو29:18)
‏هذا الاهتمام من جانب بيلاطس وخروجه باكراً جداً، حوالى الساعة الخامسة صباحاً لمقابلة المشتكين، وقبوله فحص القضية في الحال أمر يسير الدهشة، ويخفي وراءه سعاية ضخمة من رؤساء الكهنة إذ لم تكن مؤامرة مدبرة مع بيلاطس نفسه. إلى هذا الحد بلغ تدبير رؤساء الكهنة، أو بلغة العصر «التكتيك»، الذي يحوطه الشك في ذمة هؤلاء وهؤلاء!
‏ومن جهة أخرى لا تخلو من الأهمية، فهناك ما جاء في إنجيل القديس متى من جهة بيلاطس: «واذ كان جالساً على كرسي الولاية، أرسلت إليه امرأته قائلة: إياك وذلك البار، لأني تألمت اليوم كثيراً في حلم من أجله» (مت19:27). ولكنه ضرب بتحذير امرأته عرض الحائط. ويعلق القديس متى على ذلك بقوله: «ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرضوا الجموع على أن يطلبوا باراباس ويهلكوا يسوع» (مت20:27). يتضح من هذا ثقل الضغط الذي مارسه رؤساء الكهنة بوسائلهم على الحاكم الروماني المهزوز.

4:18 فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟».

‏لم يتركهم المسيح ليقتحموا أسوار البستان، بل خرج إليهم. لقد شعر السيح بضرورة الملاقاة لاهوتيا، إذ لم يكن ممكناً أن يعطي للشر فرصة لمباغتة ابن الله. والعكس في اللاهوت صحيح، إذ أن عمل الله في الأساس، هو أن يباغت الشرير في عقر داره: لذا خرج للمباغتة، وهو عالم بكل ما سيأتي عليه, لأنه أراده, بل لأنه نزل من السماء ليلاقيه!
‏كانت رؤية المسيح سباقة لاكتشاف مجيئهم واقترابهم قبل أن يكتشفوا هم وجوده. «هوذا ابن الإنسان يُسلم إلى أيدي الخطاة. قوموا لنذهب (للملاقاة)، هوذا الذي يسلمني قد اقترب» (مر41:14-42). لقد تمت المقابلة داخل البستان، لأنه يبدو أن المسيح فتح لهم الباب، بدليل أن نسيب «ملخس» الذي قطع بطرس أذنه اليمنى قال لبطرس متعرفاً عليه: «أما رأيتك أنا معه فى البستان» (يو11:19)
‏«عالم بكل ما يأتي عليه»: هذا اصطلاح فريد، يوضح أن الآلام أتت عليه من فوق، ولم تقتحم إرادته، كان يعلمها مسبقاً، بل أعد نفسه لها منذ ما قبل التجسد. لم يسقها عليه أحد مهما كان: «لم يكن لك علىّ سلطان البتة، لو لم تكن قد أعطيت من فوق.» (يو11:19)
«وقال لهم: من تطلبون»: ‏مبادرة، بل مباغتة غير متوقعة, لم يكن يخطر لهم على بال أن الرب نفسه سيلاقيهم. لقد ظنوا, على أقصى تقدير, أنه أحد التلاميذ، لم يتعرفوا عليه على أضواء مشاعلهم الخافتة, ولم يسعفهم ضوء القمر وهو في اكتمال استدارته، فالليلة ليلة الرابع عشر من نيسان. لقد أدرك المسيح عجزهم عن التعرف عليه، فتقدم بسؤال من هو مشفق على جهلهم، وقد أعد لهم المفاجأة, إذ نوى أن يعلن لهم عن «شخصه», لا عن اسمه فحسب!

5:18 أَجَابُوهُ: «يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ». قَالَ لَهُمْ: «أَنَا هُوَ». وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضاً وَاقِفاً مَعَهُمْ.

‏اللقب فيه استهزاء، فهو الذي يدور على السنة غير المؤمنين به، لأنه فرق أن يُقال: «يسوع الناصرى»، وأن يقال «يسوع الذي من الناصرة», كما جاء في التعريف الإنجيلي به (يو45:1).
‏‏‏«أنا هو»: بحسب الفهم البسيط، فإن المسيح هنا يعلن عن نفسه باعتباره أنه هو الذي يطلبونه، يسوع الناصري. ولكن كان مصاحباً لهذا النطق، استعلان فائق لشخصه، أراده المسيح إرادة، لكي يستخدمه كمساومة لفك الطوق عن التلاميذ الحاضرين!
أما يهوذا، فوقف مشدوهاً، والقبلة ميتة على فمه، فقد ألغى المسيح تديره، وأفقده قيمة المبادرة التي قام بها، إذ أعلن المسيح عن نفسه, بل عن شخصه الإلهي.

6:18 فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أَنَا هُوَ» رَجَعُوا إِلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ.

واضح هنا أيما وضوح، أن المسيح رفح الحجاب عن شخصه، فظهر بمجده إلى لحظة، فكان ذلك أشد مباغتة، تدافعوا على الأثر إلى الوراء: القائد والجند وفرقة الحرس، وسقطوا على الأرض، وسيوفهم وعصيهم ومصابيحهم ومشاعلهم بأيديهم أمام المسيح، وهو واقف بقامته في جلال مهيب. كان هذا هو صورة مصغرة لقول الكتاب: «عندما يأتي العدو كنهر، فنفخة الرب تدفعه» (إش19:59). وكانت هذه من المرات القليلة جداً التي استخدم المسيح فيها سلطانه، وهدفه الوحيد في ذلك لا أن ينجو من أيديهم بل أن ينجي تلاميذه، في سبيل أن يتمم لهم مسعاهم، ويسلم نفسه لهم بحرية إرادته: «فلما رأيته، سقطت عند رجليه كميت, فرفع يده اليمنى علي قائلاً لي: لا تخف، أنا هو الأول والآخر.» (رؤ17:1)
‏الآن علم القائد وأعضاء فرقته والحرس من هو الذي يطلبون القبض عليه، والآن أصبح من السهل على المسيح أن يطلب، وكأنه على مستوى الأمر, أن يطلق سراح تلاميذه.

7:18 فَسَأَلَهُمْ أَيْضاً: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟» فَقَالُوا: «يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ».

‏محاولة من المسيح لتلطيف الجو، وإعطائهم فرصة لاسترجاع وعيهم وشجاعتهم. وكأن تكرار السؤال بمثابة تذكيرهم بواجبهم المكلفين بتتميمه. ولكن بعد سقوطهم أمامه، عرفوا تماماً كيف يلتزمون حدود القبض, وفي الحدود الواجبة، بل ويصغون تماماً لما يقول.

8:18 أَجَابَ: «قَدْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي أَنَا هُوَ. فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هَؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ».

«استيقظ يا سيف على راعي، وعلى رجل رفقتي، يقول رب الجنود. اضرب الراعي، فتتشتت الغنم، وأرد يدي على الصغار.» (زك7:13)
‏الآن يملي المسيح شروطه, لم يتوسل المسيح, بل كان يأمر، وذلك من موقع التفوق على القائد والجند, ولم يكن أمامهم إلأ قبول الشرط.
‏فإن كانوا قد جاءوا يطلبون المسيح فقط، وهذا من واقع إجابتهم مرتين، فقد مح أن يطالبهم المسيح بتنفيذ الأمر الواقع عليهم فقط؛ أي أن لا يقبضوا على التلاميذ!
‏يلاحظ القارىء أن هدف المسيح لم يكن فقط أن يحافظ عل أرواح تلاميذه، بل بالأكثر أن يجمل آلامه في حدودها الخاصة به وحده، ولا يضار بسببها أحد. فدور الآلام بالنسبة لتلاميذه لم يكن قد حان بعد. وموتهم الآن ربما يعترض تكميل خلاصهم: «ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير.» (مت13:6)

9:18 لِيَتِمَّ الْقَوْلُ الَّذِي قَالَهُ: «إِنَّ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لَمْ أُهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَداً».

‏واضح أنه من غير الممكن أن يموت أحد عن المسيح، قبل أن يموت المسيح نفسه، لأنه بدون قيامة المسيح يكون الموت هلاكأ بالفعل: «وإن لم يكن المسيح قد قام, فباطل إيمانكم، أنتم بعد في خطاياكم، إذاً، الذين رقدوا في المسيح (بدون قيامة المسيح)، أيضاً, هلكوا.» ( اكو17:15-18)
‏وضع القديس بطرس الرسول، وهو مقدام الرسل في ذلك الأمر يعزز هذا القول، فهو لم يستطع قبل قيامة المسيح أن يشهد للمسيح مجرد شهادة, بل حينما سُئل عن علاقته بالمسيح، أنكر: «إني لا أعرف هذا الرجل», وزاد بأن «أخذ يحلف ويلعن»!! ولكن، وفي الوقت المحدد, وبعد أن مات من أجله المسيح وقام, استطاع بطرس أن يموت عن المسيح وعلى ذات الصليب!! إذاً، فموت المسيح من أجلنا وقيامته أصبحت لنا مصدر قوة للشهادة، وقبول الآلام, والموت بفرح.

11:18 فَقَالَ يَسُوعُ لِبُطْرُسَ: «اجْعَلْ سَيْفَكَ فِي الْغِمْدِ. الْكَأْسُ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ ألاَ أَشْرَبُهَا؟».

‏«السيف والكأس» لقد وضع المسيح، بهذه الآية، المعيار الأعلى، أو المُعلى، للايمان المسيحي. فالمسيحي لا يمد يده بالسيف إزاء الخطر، بل يتقبل كأس الموت طواعية!
‏فالدف عن النفس، عمل غير مشروع على حملة الصليب! فالذي يحمل الصليب، لا يحمل الخنجر. ولماذا السيف، والموت ربح؟ «لأن لى الحياة هي المسيح، والموت هو ربح» (في21:1). لقد صلى المسيح في جثسيماني، منذ لحظات، بحسب البشرية التي فيه: «أجز عني هذه الكأس» (مر36:14). ثم عاد المسيح، بعد أن أكمل الصلاة وسلم الإرادة ليد الآب: «ولكن, ليكن لا ما أريد أنا, بل ما تريد أنت» (مر36:14)؛ وبهذا جعل الكأس، إذا تحتم بكل ما يحمله من خطر، «عطية» مباشرة من يد الآب: «الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟» (يو11:18)
‏بطرس أراد أن يحمي المسيح بسيفه ليعطله عن الصليب!! فكرر غلطته الكبرى التي نال عليها توبيخاً مرا! «حاشاك يا رب، لا يكون لك هذا، فالتفت وقال لبطرس: اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لى، لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس.» (مت22:16-23)

ثانياً: المحاكمة المزدوجة

أ- المحاكمة الأولى أمام المحكمة الكنسية (12:18-27).
‏ب _ المحاكمة الثانية أمام المحكمة المدنية (28:18-16:19).

مقدمة

أ- المحاكمة الأولى: أمام المحكمة الكنسية (12:18-27).

لقد انفرد القديس يوحنا في إنجيله بسرد وقائع المحاكمة الكنسية. ومن لغة الرواية يُستدل أنه كان حاضراً وشاهد عيان: «وكان سمعان بطرس والتلميذ الآخر يتبعان يسوع. وكان ذلك التلميذ معروفاً عند رئيس الكهنة، فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة» (يو15:18). «فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه.» (يو19:18)
‏وقبل أن نخوض في خطوات المحاكمة الكنسية, وجدنا من المفيد أن نُطلع القارىء على القوانين اليهودية الكنسية التي جعها العالم وستكوت، والتي كان معمولا بها في ذلك العهد تقريباً, من واقعع كتب المشناه. علماً بأنه من العسير تحديد زمان كتابة هذه القوانين التي جاءت تحت رأس عنوان «السنهدريم». ومن هذه القوانين نستشف, إلى حد ما، كيف اتفق بعضها مع الإجراءات التي اتخذت في محاكمة المسيح، وكيف ابتعدوا جداً في كثير منها عن أصالة التقليد:
1- القضايا الخاصة والمخالفات الرئيسية، يصير الحكم فيها بواسطة مجمع من ثلاثة وعشرين عضوا: (الفصل الأول مقطع 4‏).
2- القضايا الخاصة بمحاكم إدعاء النبوة, أي النبوة الكاذبة, يصير الحكم فيها على وجه الخصوص بحضور المجمع الكبير للسنهدريم، أو واحد وسبعين عضواً: (الفصل الأول مقطع 5).
3- بخصوص الشهود، يلزم أن يُفحصوا بدقة، وعلى انفراد، في جميع الأحوال. على أن اتفاق اثنين منهم يعتبر كافياً وصحيحاً: (فصل 3 مقطع 6؛ فصل 5 مقاطع ا وما بعده).
4- في القضايا الرئيسية، يُختبر الشهود اختباراً خاصاً من جهة دوافعهم التي أتت بهم للشهادة، ويُحزروا من جهة خطورة هلاك النفس: (الفصل 4 مقطع 5)، على أن لا تُقتل شهادة عن طريق السماع المنقول.
5- يجلس القضاة على شكل نصف دائرة، على أن يجلس الرئيس في الوسط، حتى يواجه الكل بعضهم وجهاً لوجه: (فصل4 ‏مقطع 3).
6- في القضايا الرئيسية، يرتب كل شي, حتى يُعطى للمتهم حق الاستفادة من جنوح القضية نحو الشك! وحينئذ تؤخذ أصوات المبرئين أولاً: (فصل 4 مقطع 1).
7- في القضايا المدنية، يمكن أن تستمر المحاكمة ويُفرغ منها في الليل. على أن التقرير يمكن أن يخرج في نفس يوم فحص القضية.
8- في القضايا الرئيسية، تصير المحاكمة فقط بالنهار؛ بينما الحكم بالبراءة يمكن أن يُنطق به في يوم القضية نفسه، لكن النطق بالاتهام والإدانة لا ينطق به إلا في اليوم الثاني للقضية. على أن مثل هذه القضايا لا يجوز فحصها مساء السبت ولا في عيد: (الفصل4 المقطع1؛ الفصل الخامس مقطع5‏).
9- في حالة الاتهام، يلزم أن يُمنح المتهم أربع أو خمس مرات حسب مقتضيات الحاجة، ليأتي بحجج والتماسات جديدة: (فصل6 مقطع 1)
10- في ختام الاتهام والإدانة، يُستحث المتهم أن «يعترف» حتى لا يهلك فيما بعد: (فصل6 مقطع2).
11- يتقدم المُدان مناد، ويقول بصوت عال: إن فلان الفلاني ابن فلان الفلاني ذاهب للرجم بسبب كذا وكذا من السيئات. والشهود عليه هم فلان وفلان، وكل من يستطيع أن يدلي ببيانات تثبت براءته فليتقدم ويعطي الأسباب: (فصل6 مقطع1).
12- في قضايا التجديف يُفحص الشهود فحصاً شديداً فيما يخص اللغة التي استخدمها المتهم، فإذا ثبتت صحة شهادة الشهود ثبوتاً قاطعاً يقف القضاة ويشقتون ثوبهم: (فصل7 مقطع5‏).
13- المجدف يُرجم. (فصل7 مقطع4)
14- بعد رجم المجدف, يُعلق على المشنقة: (فصل6 مقطع4)، وينزل عنها في المساء، ليُدفن في مقبرة عامة، تُعد خصيصاً لهذا الغرض: (فصل6 مقطع5‏).

‏ب_ المحاكمة الثانية أمام المحكمة المدنية (28:18؛16:19)
«رئيس هذا العالم يأتي, وليس له في شيء.» (يو30:14)
‏لقد أثبتت كل التحقيقات التي قام بها بيلاطس، سواء مع اليهود أو مع المسيح أنه لا توجد علة واحدة توجب الحكم عليه. لقد اعتنى القديس يوحنا أن يسجل ما كرره بيلاطس علناً، لثلاث مرات، كون المسيح بريئاً تماماً:
1- «أنا لست أجد فيه علة واحدة» (يو38:18)
2- «اني لست أجد فيه علة واحدة.» (يو4:19)
3- «خذوه أنتم واصلبوه لأني لست أجد فيه علة.» (يو6:19)
‏بل إن نية القاضي استطاع أن يكشفها القديس يوحنا بوضوح، أنها اتجهت منذ أول المحاكمة وحتى نهايتها ناحية التبرئة والإطلاق: «من هذا الوقت, كان بيلاطس يطلب أن يطلقه.» (يو12:19)
‏لقد اختلى بيلاطس بيسوع مرتين:
‏الاختلاء الأول: يستفسر عن لقب «ملك اليهود»، وانتهى الحديث الأول عند تصريح المسيح: «لهذا قد وُلدت أنا … لأشهد للحق» (يو37:18)، فوقف بيلاطس عند كلمة «الحق»، وارتعب، وخرج ليعلن تقريره الأول: «أنا لست أجد فيه علة واحدة.» (يو38:18).
‏الاختلاء الثاني: عندما سع بيلاطس من اليهود أن «المسيح ابن الله», «ازداد خوفاً, فدخل أيضاً إلى دار الولاية وقال ليسوع: من أين أنت؟؟» (يو8:19-9). وانهى الحديث بتصحيح مفهوم بيلاطس، أن له سلطاناً ليُصلب أو يُطلق المسيح، ولكن السلطان إنما يأتيه من فوق، أما هو فليس له على المسيح سلطان البتة!! «من هذا الوقت كان بيلاطس يطلب أن يطلقه» (يو12:19)، لا لشىء إلا لأنه لا بد وأنه اقتنع بما قاله المسيح مباشرة.
‏واضح أن المحاكمة أمام بيلاطس انتهت بوقوف المسيح في المستوى الأعلى، وقوف الواثق من قضيته، في الوقت الذي ملأ الخوف قلب القاضي.
‏أما وثوق المسيح، فلأنه كان قد قبل حكم القضية من فوق قبل أن يُنطق بها، بل قبل أن يولد: «لهذا قد أتيت إلى العالم» (يو37:18)، «الكأس التي أعطاني الآب …» (يو11:18)، «لم يكن لك علي سلطان البتة، لو لم تكن قد أُعطيت من فوق» (يو11:19). أما ازدياد خوف بيلاطس، فلأنه سيحكم على بريء، وليس فيه علة واحدة. ولكنه، للأسف, حكم تحت تأثير تهديد اليهود: «إن أطلقت هذا، فلسث محباً لقيصر. كل من يجعل نفسه ملكاً، يقاوم قيصر» (يو12:19)، «فلما سمع بيلاطس هذا القول, أخرج يسوع وجلس على كرسي الولاية… فحينئذ أسلمه إليهم ليصلب.» (يو13:19و16)
‏من كل هذا نفهم من صميم التقرير الذي يقدمه القديس يوحنا بذكاء ومهارة قانونية, وكشاهد عيان، أن الحكم الروماني المدني في قضية المسيح كان قائماً على غير أساس، بحسب ما تنص عليه أصول القوانين الجنائية الرومانية، فقد نطق القاضي ثلاثاً أن المتهم ليس فيه علة واحدة، وأنه بحسب الضمير كان عاملاً لإطلاقه؛ وأن الحكم صدر، فقط وفي آخر لحظة، تحت التهديد، والقاضي في حالة: «ازداد خوفاً») من جهة المتهم. أما من جهة القاضي نفسه، فقد نجى نفسه بأن أصدر حكم الإدانة، وهوغير مقتنع؛ وكان في حالة فقدان إرادة الحياد المطلق الذي ينص عليه القانون الروماني.
‏اليهود فقدوا ملكهم والمسيا والله: ‏الذي خسر القضية هم اليهود فقط: «قال لهم بيلاطس: أأصلب ملككم, أجاب رؤساء الكهنة؛ ليس لنا ملك إلا قيصر» (يو15:19). وهكذا، وفي سبيل حقدهم على المسيح وتحرق قلوبهم بشهوة قتله, فرطوا في الله الذي اعتبروه منذ الدهر أنه ملك إسرائيل، بل والله الذي كان يعتبر نفسه فعلاً ملك إسرائيل، خسروه بالإعلان العلني الذي نطقوه أمام الأمم، والذي يشبه سبق حنثهم في الله ملكهم سابقاً:
«فاجتمع كل شيوخ إسرائيل، وجاءوا إلى صموئيل إلى الرامة، وقالوا له … فالآن اجعل لنا ملكاً يقضى لنا كسائر الشعوب … فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياي رفضوا, حتى لا أملك عليهم» (1صم5:8-7)
‏وحتى قول بيلاطس: «أأصلب ملككم»، فلم يكن عن غير وعي بل: «لأنه عرف أن رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسداً» (مر10:15)

الشرح

أ- المحاكمة الأولى: أمام المحكمة الكنسية: (12:18-27).

 

12:18 ثُمَّ إِنَّ الْجُنْدَ وَالْقَائِدَ وَخُدَّامَ الْيَهُودِ قَبَضُوا عَلَى يَسُوعَ وَأَوْثَقُوهُ.

«إلهي إلهي لماذا تركتني … لا تتباعد عني لأن الضيق قريب … أحاطت بي ثيران كثيرة … فغروا علي أفواههم, كأسد مفترس مزمجر… لأنه قد أحاطت بي كلاب، جماعة من الأشرار اكتنفتني … أنقذ من السيف نفسي» (مز23).

‏«فيا رب الجنود، القاضي العدل! فاحص الكلى والقلب، دعني أرى انتقاقك منهم، لأني لك كشفت دعواي. لذلك, هكذا قال الرب، عن أهل عناثوث، الذين يطلبون نفسك, قائلين: لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيدنا …، هأنذا أعاقبهم. يموت الشبان بالسيف، ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع، ولا تكون لهم بقية, لأني أجلب شراً على أهل عناثوث، سنة عقابهم.» (إر20:11-23)

«الجند»: أورطة وعددها حوالى 200 عسكري، والقائد ( )رئيس ألف، وخدام اليهود ( ) الضباط المكلفون بخدمة الهيكل والرؤساء (اليهود).
‏يلاحظ في إعادة ذكر هذه الأسماء المخصصة لتشكيل الجند، أن القديس يوحنا يضعها في بداية الجملة، بنوع من الضغط والتركيز للأهمية.
«وأوثقوه»: كان يطيب لجميع الأباه القديسين الأوائل الذين شرحوا هذا الإنجيل، أن يقفوا عند هذه الكلمة كثيراً ويتذكروا معها كيف أمسك إبراهيم ابنه إسحق وأوثقه: «فلما أتيا إلى الموضع الذي قال له الله، بنى هناك إبراهيم المذبح، ورتب الحطب وربط (أوثق) إسحق ابنه, ووضعه على المذبح فوق الحطب.» (تك9:22‏)
والملاحظ، سواء في موضوع ربط إسحق أو المسيح، أن الاثنين يشتركان معاً في عدم المقاومة، بل كانا في صورة خضوعية مذهلة. ولكن ما كان لإسحق أن يقاوم وهو تحت يد أبيه، إذ لم يكن معقولاً قط أن يبدي أية مقاومة، وهو واثق من شدة رحمة أبيه الذي يحبه حباً كنفسه. وينسحب الأمر نفسه على المسيح، وهو في الظاهر واقع بين أيدي جماعة أشرار هربت الرحمة من قلوبهم، وتحرقت أسنانهم لافتراسه بسيوف وعصي، لكنه وقف موقف إسحق عينه، إذ كان في الحقيقة وائقاً أنه تحت يدي أبيه السماوي الذي أحبه كوحيد له: «الكأس التي أعطاني الأب، ألا أشربها؟» (يو11:18)
‏وهكذا لما لم يجد القائد والجند والخدام أية مقاومة، مدوا أيديهم عليه وأوثقوه، هذا الذي أعطى للانسان أن يربط ما في السماء ويحله، ربطوه بحبل!!، هذا الذي كسر مصاريع النحاس وقطع حديد الهاوية وفك أسرى الجحيم، ربطوه بحبال!… اليد التي ضمدت جراحهم، ولمست حنانها قلوبهم, وشفت مرضاهم، وأقامت موتاهم, ربطوها بحبال!…
‏هذا الذي فك قيود خطاياهم، وحل رباط الشيطان عنهم, وأطلقهم أحراراً، قبضوا هم عليه وأوثقوه.!
‏لقد صدق موسى حيما خاطبهم بالقول: «الرب تكافئون بهذا، يا شعباً غبيا غير حكيم، أليس هو أباك ومقتنيك، هو عملك وأنشأك.» (تث6:32)
‏لسنا ندري لماذا أوثقوه، وهو الذي قدم نفسه طواعية، ولكن ليتم القول الذي قيل في هذا المقام: «أؤثقوا الذبيحة بربط إلى قرون المذبح.» (مز27:118)

ملابسات محاكمة المسيح

‏توجد بعض أركان خاصة جاءت في المحاكمة ذات مدلولات هامة، يفيدنا كثيراً لو جمعناها وتتبعناها في أصولها وأسبابها ومعانيها، ودرسنا معاً إلى أي حد يمكن أن تهدم الأساس الذي قامت عليه هذه القضية.
1- واضح، بدء كل ذي بدء، أن قضية المسيح لا ترتكز على أصول جنائية، أو حتى مخالفات يمكن أن تعطي لها الشكل القضائي، والذي بمقتضاه تُحتسب قضية صحيحة، وذلك من واقع سبق تحدي المسيح للجهات القضائية بقوله: «من منكم يبكتني على خطية. فإن كنت أقول الحق، فلماذا لستم تؤمنون بي؟» (يو46:8‏). وهم لم يستطيعوا بالفعل أن يقيموا عليه أية حجة. كذلك، ومن واقع تحديه لرئيس الكهنة عند أول استجواب له: «فسأل رئيس الكهنة يسوع عن تلاميذه وعن تعليمه. أجابه يسوع: أنا كلمت العالم علانية. أنا علمت كل حين في المجمع وفي الهيكل (أي تحت نظركم وسمعكم، وكنتم تشتركون في الأمثلة، وتستمعون إلى الأجوبة)، حيث يجتمع اليهود دائماً. وفي الخفاء لم أتكلم بشيء. لماذا تسألني أنا؟ اسأل الذين قد سمعوا ماذا كلمتهم. هوذا هؤلاء يعرفون ماذا قلت أنا؟» (يو19:18-21). ولم يستطع رئيس الكهنة أن يرد، أو يستطرد في الأسئلة.
‏ولكن هناك سؤال نقدمه نحن إلى قيافا: ألا تعلم حقيقة كل ما قاله المسيح وعلم به؟ ثم ألا تعرف حقاً تلاميذه جميعاً وبالأخص يوحنا؟ وإلا لماذا استحلفته بالله الحي أن لا يعلق أنفسكم ويقول صراحة هل هو المسيح ابن الله؟ أليس لأن تعاليمه أذهلت عقولكم، وصغرت نفوسكم، وبكتت ضمائركم؟
2- هذه القصية مستوجبة السقوط قانونياً من واقع ضرورة «رد القاضي», إذ سبق له الحكم فيها قبل رفعها وقبل القبض على المسيح. وهذا ألمح إليه القديس يوحنا، عند ذكر اسم رئيس الكهنة المكلف بالمحاكمة هكذا: «وكان قيافا هو الذي أشار على اليهود, أنه خير ان يموت إنسان واحد عن الشعب.» (يو14:18)
3- تقديم المسيح للمحاكمة أمام «حنان», ليبدي رأيه أو ليحكم، كان عملاً غير قانوني بالمرة. فحنان ليس رئيس كهنة، بل كان رئيس كهنة وعُزل منذ مدة. ولكن الأمر الوحيد الذي جعله يقوم بهذا الإجراء غير القانوني، أعلنه القديس يوحنا متهكماً عند ذكر اسم حنان هكذا: «ثم إن الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع، وأوثقوه، ومضوا به إلى «حنان أولاً» لأنه كان حما قيافا الذي كان رثيساً للكهنة في تلك السنة» (يو12:18-13)
‏وهنا في هذه الآية يوجد ثلاثة أمور يلزم الانتباه إليها:
‏أولاً: أنه لم يذكر أن حنان رئيس كهنة، فكيف يقدم إليه وبأي صفة يحاكمه؟
‏ثانياً: يقول القديس يوحنا ويشدد: «ومضوا به إلى حنان أولاً». هنا كلمة «أولاً» لا يمكن أن تغيب عن ذهن الرجل القانوني، فهي تهكمية إلى أقصى حد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن القديس يوحنا يعقب على الثلاثة الأناجيل الأخرى أنها لم تذكر محاكمة المسيح أمام «حنان»، بل ذكرت مباشرة أنها كانت أمام قيافا. فالقديس يوحنا يقرر هنا حقيقة لم ترد في باقي الأنا جيل، يعلمها هو تمام العلم، لأنه كان حاضراً تلك المحاكمة الباطلة!
ثالثاً: يعود القديس يوحنا ويشرح السبب الذي دعا إلى تقديم المسيح إلى «حنان أولاً», وهو أنه «كان حما قيافا» (يقول عنه العالم هنجستنبرج: «تقديم المسيح للمحاكمة أمام حنان لم يكن بناء على أية وظيفة رسمية كان يقوم بها حنان في ذلك الوقت, بل إن قيافا كان مديناً لصهره حنان بمركزه الذي رفعه إليه كرئيس كهنة، وهو هنا يرد الجميل الذي ناله على يده»). وهذا هو المؤهل الوحيد والباطل الذي أعطاه هذا الشرف أن يحاكم المسيح.
4- في كل رواية القديس يوحنا عن المحاكمة الكنسية, سواء أمام «حنان» أو أمام رئيس الكهنة قيافا, لم يورد القديس يوحنا أي إشارة إلى أي اتهام استقروا عليه، لا كأنه أغفل ما تم داخل قاعة المحكمة في دار رئيس الكهنة، ولكن تأكيداً منه أنهم لم يمسكوا على المسيح خطية واحدة.
‏فإذا رجعنا إلى الثلاثة الأناجيل الأخرى, نجد في إنجيل القديس متى كيف تعلق قيافا بتصريح قاله المسيح وشق ثيابه (يقول العلامة إدرزهايم اليهودي المتنصر, إن رئيس الكهنة إزاء التجديف يقف علنا ويشق ثوبه الخارجي وثوبه الداخلي شقاً لا يمكن إصلاحه.)، إدعاء كاذباً منه أن المسيح جدف على الله وهكذا أصدر حكمه بالإجماع أن المسيح جدف أمامه وأن لا حاجة بعد إلى شهود. أما الذي قاله المسيح، ردا على إلحاح قيافا واستحلافه له هكذا: «وأما يسوع، فكان ساكتاً. فأجاب رئيس الكهنة وقال له أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله؟ قال له يسوع: أنت قلت. وأيضاً أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء. فمزق رئيس الكهنة حينئذ ثيابه قائلاً: قد جدف, ما حاجتنا بعد إلى شهود, ها قد سمعتم تجديفه.» (63:26-65)
‏فإذا دققنا في رد المسيح، نجد أنه لم يجدف ولم يدع لنفسه شيئاً. بل رد عليه قائلاً: «أنت قلت»؛ ثم أكمل كلامه بنبوة دانيال. فكيف يفسر قيافا رد المسيح الإيجابي أنه تجديف. حتى ولو قال: نعم أنا المسيح, كما جاء في إنجيل القديس مرقس, فهل هذا تجديف؟ ولكئ المسيح بأسلوبه المتواضع الرقيق غير المتهجم ولا المتعالي, قال: «أنت قلت». أما باقي الكلام فهو نبوة دانيال التي قيلت والتي لا بد أن تتحقق، فكيف يكون هذا تجديفاً؟, «ماذا ترون؟ فأجابوا وقالوا: إنه مستوجب الموت» (مت66:26). إن هذا حكم افتراء لا يقوم على واقع ولا يستند إلى حقيقة.
كدلك نرى ان بعض الملابسات، كما جاءت فى سرد روايه المحاكمه، كانت على شيء من الغموض، ويهمنا أن نوضحها للقارىء حتى تصير خطوات المحاكمة واضحة
1- يقول إنجيل القديس يوحنا إن «الجند والقائد وخدام اليهود قبضوا على يسوع، وأوثقوه، ومضوا به إلى حنان أولاً, لأنه كان حما قيافا الذي كان رئيساً للكهنة في تلك السنة.» (يو12:18-13)
2- ثم يستطرد: «وكان سمعان بطرس والتلميذ الآخر يتبعان يسوع، وكان ذك التلميه معروفاً عند رئيس الكهنة، فدخل مع يسوع إلى دار رئيس الكهنة.» (يو15:18). هنا يلزما أن نوضح أن «دار حنان»، و«دار رئيس الكهنة قيافا», هي دار واحدة (‏إلى الآن، ومن واقع الآثار، مسجل على خريطة أورشليم موضع دار رئيس الكهنة, ومكتوب عليه: «قصر حنان وقيافا‏») ، وكان كل منهما يباشر مهامه في مكان منفصل داخل الدار الواحدة، وكانت قاعة المحكمة مشتركة بينهما. علمأ بأن حنان كان صهرا لقيافا، وكان رئيساً للكهنة سابقاً.
3- ‏كذلك يقول الإنجيل: «وكان حنان قد أرسله موثقاً إلى قيافا رئيس الكهنة» (يو24:18). وهنا أيضاً، المسيح لم ينتقل من دار رئيس الكهنة إلى مكان آخر، بل انتقل من أمام حنان إلى أمام قيافا في نفس الدار.
4- كذلك يقول إنجيل القديس يوحنا: «ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية» (يو28:18). وبهذا يكون القديس يوحنا قد أغفل المحاكمة التي تمت أمام السنهدريم! وهذا ليس صحيحاً، لأن مجلس السنهدريم انعقد أيضاً في دار رئيس الكهنة حيث كان حنان أيضاً. فالمسيح لم يخرج من دار رئيس الكهنة إلا إلى دار الولاية، كما ورد في إنجيل القديس مرقس: «فمضوا بيسوع إلى رئيس الكهنة فاجتمع معه جميع رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة (أي مجمع السنهدريم بكامل هيئته).» (مر53:14)
‏وظل هذا المجمع مجتمعاً حتى الفجر: «وللوقت في الصباح (الساعة الخامسة)، تشاور رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة والمجمع كله. فأوثقوا يسوع ومضوا به وأسلموه إلى بيلاطس.» (مر1:15)
‏أما كون القديس يوحنا قد آغفل ذكر المجمع, فالسبب واضح، وهو أنه اعتبر منذ البدء أن الكلمة والحكم النهائي كانا كليهما بيد قيافا وحده, وأنه سبق وأن أصدر حكمه قبل المحاكمة!! وأن المجمع قال بقول قيافا, فلم يكن له وجود فعلي في المحاكمة.
‏إزاء كل هذا الخلل الواضح في مجريات المحاكمة الأولى أمام الهيئات الكنسية اليهودية، نفهم لماذا لم يعط القديس يوحنا للنتائج المترتبة على هذه المحاكمة أي اهتمام, بل كان اتجاهه مصوباً ناحية المحاكمة الثانية المدنية أمام بيلاطس والتي وقف عندها طويلاً.
‏وفي الحقيقة والواقع, نرى وبكل تأكيد, أن ميعاد محاكمة المسيح أمام الهيئات الكنسية قد تأخر عن موعده كثيرا، بل تخطى الوقت المسموح به لرئيس الكهنة وكل مجمع سنهدريم اليهود وفريسيه وحكمائه للقيام بواجبهم إزاء أسس ديانتهم وتقاليدهم وكل تعاليمهم التي نقضها المسيح من الأساس. فلو كانت الأمة اليهودية صاحية حقاً لواجباتها الدينية وبقيادة رؤسائها، لكانت حققت مع المسيح طويلاً وطويلاً جداً بمجرد ظهور المعمدان وشهادته للمسيح وبدء خدمة المسيح العلنية التي بدأت هكذا: «قد سمعتم أنه قيل للقدماء… وأما أنا فأقول لكم…» (مت21:5‏)
‏أما الآن, وقد مضى على كرازة المسيح ما يزيد على الثلاث سنوات, فالوقت ليس هو وقت محاكمة المسيح, بل هو حقيقة وقت محاكمة الأمة اليهودية محاكمة عسيرة للغاية!! إذ أين كانوا هذه السنين الطوال، وتعاليم المسيح قد ملأت ربوع البلاد طولاً وعرضاً؟ وكيف يفسرون وجود مسيح الدهور كلها والفادي، هذا الذي ترجته كل الأجيال بكل ابائها وأنبيائها, بينما هو في وسطهم قائم، يعلم في المجامع والهيكل، ويشفي ويصنع المعجزات, ولثلاث سنوات!!!
‏إن محاكمة المسيح بعد ثلاث سنوات وأكثر من ظهوره وتعاليمه هي أكبر فضيحة، بل ومهزلة لأمانة الرسالة اليهودية التي حملها رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيون, وهم لم يكونوا عليها أمناء قط: «لا تظنوا أني أشكوكم إلى الآب, يوجد الذي يشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم, لأنكم لوكنتم تصدقون موسى، لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني.» (يو45:5-46)

13:18 وَمَضَوْا بِهِ إِلَى حَنَّانَ أَوَّلاً لأَنَّهُ كَانَ حَمَا قَيَافَا الَّذِي كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ.

‏«حنان»: ‏وهو حنان بن شيث، حسب تسمية المؤرخ يوسيفوس. كان واحداً من أكبر الشخصيات اليهودية. ولقد تبوأ عرش رئاسة الكهنوت من سنة 7م. حتى السنة 14-15م. حينما أسقطه فاليريوس جراتوس الحاكم السابق على بيلاطس، ومن بعده تقلد الرئاسة الكهنوتية ابنه ألعازر إلى سنة 16-17م، أي سنة واحدة، ومن بعده جاء يوسف قيافا نسيبه, الذي تزوج ابنته, والذي بقي في الرئاسة حتى سنة 35-36م. ومن بعد قيافا تولى الرئاسة ابن آخر لحنان، هو يوناثان سنة 36-37م، ومن بعده توالى على الرئاسة ثلاثة آخرون من أولاده، أي أولاد حنان، ثاوفيلس سنة 37-41م، متياس 41-44م، وكان آخرهم حنان الصغير سنة 62م (؟) الذي حمل اسم أبيه، أي كان اسمه حنان بن حنان، وهو الذي مد يده وقتل يعقوب أخا الرب. والمعروف عن هذه العائلة أنها عائلة الرشوة والدسائس الدينية.
‏وقد وردت إشارات في التلمود، أن رؤساء الكهنة في أيام حنان وبقيادته كانت عبارة عن عصابة لها الصفة الدينية شكلاً فقط، وكانت غير وطنية، يحتكرون الزمنيات، وأغلبهم دخلاء، أي ليسوا من فلسطين أصلاًُ، وحنان يقال أنه من الإسكندرية، وقد استدعاه هيرودس ليعاونه في خططه، وكانت الحكومة تناصرهم. وكان حنان محور النشاط السياسي للسنهدريم الذي كان شبه معطل رسمياً (انظر فارار، «حياة المسيح»، ص 722-723).
‏وفي التلمود (كتاب سجلات وتواريخ وعلوم اليهود)، يذكر المؤلف بلا احتياط أنه تمت اللعنة على بيت حنان وعلى سيرتهم التي أسموها «فحيح الأفعى»، ولم يكن قول المعمدان عنهم إلا مصدقاً لسيرتهم: «يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الأتي.» (مت7:3)
‏وفي الواقع لم يذكر أحد من الإنجيليين هذه العلاقة التي تربط حنان بقيافا إلا القديس يوحنا، وحينما يذكره هنا دون أن يذكر انه كان رئيس كهنة، فهو ينبه ذهن القارىء أنه يمارس الرئاسة خلسة وبالقوة الشخصية التي فرضها على نسيبه. كما يلاحظ القارىء أن القديس يوحنا يذكر تقديم المسيح للمحاكمة أمام حنان قبل قيافا، مع أن قيافا هو رئيس الكهنة الرسمي, وذلك لكي يؤكد طغيان حنان على سلطة رئيس الكهنة من جهة، ومن جهة أخرى لكي يلمح إلى ضعف شخصية رئيس الكهنة قيافا.
‏ولكن من الواضح جداً أن هذا كان هو التدبير المتفق عليه مع بيلاطس، لأنه من غير المعقول أن يأمر القائد الروماني بأخذ يسوع إلى منزل حنان وهو ليس رئيس كهنة في اعتبار الحكومة الرومانية. فالأصول الواجبة هي أن يؤخذ إلى دار الولاية أولاً، ثم على أسوأ الفروض إلى دار رئيس الكهنة الرسمي. ولكن أن يذهب به أولاً إلى دار حنان، فهذا إجراء غير قانوني مكشوف، يكمن وراءه عوامل غير عادية، تخل إخلالاً شديداً بحياد المحاكمة والوالي ورئيس الكهنة. وليس عبثاً أن يضع القديس يوحنا هذه الكلمة: «أولاً» في هذا الموضع، إلا لينبه القارىء إلى هذا الخلل الخطير.
‏كما يلاحظ القارىء أن الحامية العسكرية الكبيرة العدد (200جندي على الأقل)، وبقيادة القائد «رئيس ألف»، انسحبت فوراً بعد تسليم المسيح لحنان (؟) هذا إجراء عسكري يتعجب منه! وكأن الحامية العسكرية كانت تعمل لحساب حنان!!!
‏وبهذا يراجع القديس يوحنا، بأسلوبه الناقد المهذب، على صحة المحاكمة, كؤنها كانت خارجة عن العرف التقليدي وعن أصالة القانون: [فلم تكن المحاكمة أمام حنان إلا إجراء سياسياً]. وسوف يلاحظ القارىء أنه، حتى بينما كان المسيح يقف أمام رئيس الكهنة قيافا، كان يجري ذلك (يو19:18‏) في دار حنان نفسه. وهذا يتضح لنا أكثر بالرجوع إلى أيام المعمدان، حينما ظهر المعمدان في أيام الاثنين كليهما: «في أيام رئيس (واحد) الكهنة حنان وقيافا…» (لو2:3)، حيث لم يكن هنا حنان رئيس كهنة بالمرة ولكنه كان يمارس الوظيفة خلسة من خلف قيافا نسيبه, وهذا واضح ومفضوح بسبب مجيء الوظيفة بالمفرد: «في أيام رئيس الكهنة» التي يمارسها اثنان!! والذي يتقدم هو المغتصب.
‏وواضح من حادثة تطهير الهيكل من جهة وقف البيع والشراء وطرد البائعين والصيارفة، أن هذا العمل كان له أكبر وأخطر الأثر على أطماع وسياسة حنان, فهو الذي كان يدير هذه الحركة التجارية كلها، وكانت الأموال تنهال عليه كالنهر. فبهذا العمل الذي أتاه المسيح، والذي نبه أذهان اليهود الأتقياء والغيورين بل والفريسيين الأمناء، إلى فضيحة سلوك حنان ونسيبه قيافا، هذا العمل شكل أساس عداوة وحقد وتربص في قلب حنان لا يٌنسى. لهذا ظل يعمل بوحي هذه الحادثة ليل نهار, حتى يقضي على المسيح بأي ثمن. وهذا واضح من محاولة إقامة شهود ضده بأنه قال إنه قادر أن ينقض الهيكل ويبنيه في ثلاثة أيام (مر58:14)، في حين أن المسيح قال ذلك عن هيكل جسده وليس عن هيكل اليهود. كذلك نفس موضوع تطهير الهيكل الذي كان يفزع حنان وقيافا، كان هو موضوع الشماتة الأكثر عندهم عندما اطمأنوا إلى صلبه: «يا ناقض الهيكل وبانيه…»» (مر29:15)
‏وليفهم القارىء مدى خطورة فهمهم الخاطىء لقول المسيح أنه قادر أن ينقض الهيكل, أي هيكل اليهود, ويبني غيره في ثلاثة أيام. فهم تصوروا أنه فعلاً سيقوم بثورة، وبالتالي سيغير نظام الهيكل بأجمعه ليعمل هيكلاً جديداً يتناسب مع تعاليمه الجديدة. فإذا أضفنا إلى ذلك الأثر الذي تركته حادثة مقابلته لخدام الهيكل, وهم ضباط على مستوى عال من الدراية والمعرفة، والذين أرسلهم رؤساء الكهنة للقبض على يسوع, فلما استمعوا إليه وتأثروا بكلامه، أحبوه وآمنوا به: «فجاء الخدام إلى رؤساء الكهنة والفريسيين. فقال هؤلاء لهم: لماذا لم تأتوا به؟ أجاب الخدام: لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان. فأجابهم الفريسيون: ألملكم أنتم أيضاً قد ضللتم. ألعل أحداً من الرؤساء أو من الفريسيين آمن به. ولكن هذا الشعب الذي لا يفهم الناموس هو ملعون.» (يو45:7-49)
‏ولكن قد تحققت مخارفهم بصلبه, فقد نقض الهيكل القديم المصنوع بالأيادي، وأقيم الهيكل الجديد غير المصنوع بالأيادي. وقضي على هيكل اليهود، وانتهى رؤساء الكهنة من قاموس العبادة اليهودية!
‏ولكن المتابع لتاريخ سلوك حنان من جهة التربص للمسيح منذ ظهوره، وحتى لتلاميذه من بعده، يدرك لماذا قدم قيافا المسيح للمحاكمة أولاً أمام حنان، وبالإضافة إلى التكتيك السياسي، كونه يعلم مدى العداء الذي كان يكنه للمسيح، فقد قدمه له إرضاء لنزواته، واستطاع أن يحبك القضية منذ البداية بغش الأفعى ودهائها. وفي غالب الظن أن حنان هو الذي تعاهد مع يهوذا، وأرسل معه الجند والقائد والضباط. وقد لعبت الأموال دورها, فكان يغدق على يهوذا عطفاً وأموالاً، مما شجعه أن يلعب هذا الدور الخاسر.
‏ولكن القديس يوحنا ضرب عرض الحائط بكل محاكمة حنان، ولم يورد منها أي نص، بحسب ما كانت تستحق في نظره.
‏وقد ورث ابن حنان الأصغر نفس هذا العداء والحقد, واستطاع أن ينفثه في يعقوب الرسول المدعو أخا الرب، فتجرأ على قتله هو وكثيرين معه, مجازفاً بوظيفته، بتحديه للسلطة الرومانية التي لم تكن تسمح أبداً بهذا التعدي على حقوقها السياسية، فيما يخص حياة أو موت الأفراد الذين تحت حكمها، ومستغلاً أيضأ غياب الحاكم الروماني، وكان ذلك حوالي سنة 62‏م. ولم يرد ذكر هذه الحادثة إلا في تاريخ يوسيفوس. ويعقوب هذا غير يعقوب أخي يوحنا، الذي قتله هيرودس مبكراً جداً كما جاء في سفر الأعمال (أع1:12-2).
«الذي كان رئيسا للكهنة في تلك السنة»: كان رئيس الكهنة إذا اختير مرة، يبقى إلى نهاية حياته حاملاً الرتبة وكرامتها، حتى ولو تنحى عن العمل لأي سبب أو نُحي عنها. ولكن إذا نُحى عن القيام بمهام وظيفته رسمياً، فكان لا بد أن يخله آخر, كما في حالة حنان الذي خلفه قيافا في إدارة الشئون الدينية للبلاد، والتكلم رسمياً باسم الأمة اليهودية, فهو الناطق بلسانها لدى الجهات الرسمية الرومانية. أما قول القديس يوحنا: «كان رئيساً للكهنة في تلك السنة»، فهو لا يعني أن رئاسة الكهنوت كانت بالمناوبة سنوياً. ولكن بلغة القديس يوحنا الروحية فإن «هذه السنة» تعني سنة خيبة أمال اليهود ونهاية مجدهم، وبداية تعاستهم؛ ولكنها في نفس الوقت هي «سنة الرب المقبولة» أو سنة الخلاص الأبدي للعالم. فهي «سنة» وليس «كل السنين», إذ استعلن فيها الأول والآخر, البداية والنهاية, وهي التي عرفت في القديم بكلمة «هذا اليوم»، «وتلك الأيام», «وآخر الزمان».

14:18 وَكَانَ قَيَافَا هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى الْيَهُودِ أَنَّهُ خَيْرٌ أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ.

الإشارة هنا إلى ما ورد في إنجيل يوحنا (49:11-50): «فقال لهم واحد منهم، وهو قيافا، كان رئيساً للكهنة في تلك السنة: أنتم لستم تعرفون شيئاً ولا تفكرون, أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها»
‏وكما سبق وقلنا، هذه لغة القديس يوحنا التي يضرب بها ذات اليمين وذاته اليسار، فهو يعلن بها مسبقاً ماذا ننتظره من الحكم الذي يصدره إنسان له هذا التفكير وهذه العرفة وهذا المستوى من سهولة القتل بلا سبب، والغاية الكاذبة عنده تبرر الواسطة الدنيئة. ولكن أسلوب القديس يوحنا لا يقف عند هذا الحد، فهو يضرب بعصي الإنجيل فوق رأس القضاء اليهودي العابث بالحق، والملفق، بغير حياء. إذ كما سبق وقلنا أن هذا الإعلان القضائي المقدم من القديس يوحنا هو بمثابة «رد المحكمة»، وإعلان لفساد ذمة القاضي، وبالتال سقوط الدعوى والقضية، لأن القاضي قيافا سبق وأعلن مقدماً عن الحكم الذي سيبرمه والذي في سبيل إبرامه, حتماً, سيلفق التهم المناسبة ويزور الشهود ليبلغ قصده المبيت في نفسه، والذي أعلنه على مسامع مجمع السنهدريم.
‏ولكن لم يفت على بيلاطس أن يكتشف هذا السلوك المبيت، ولا هذه الأساليب السفلى، فقد أظهر من كلامه ومن مشاعره, سواء تجاه زمرة رؤساء الكهنة أو تجاه المتهم المبرأ، ما جعل الإنجيليين يسجلون للقاضي هذه اللفتة: «فأجابهم بيلاطس قائلاً: أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود، لأنه عرف أن رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسداً.» (مر9:15-10؛ مت18:27)
‏ويلاحظ أنه سواء في عملية القبض, أو في بدء المحاكمات, أم في حضور الصلب, لا نجد أي ذكر للفريسيين على الإطلاق. ويبدو أنهم انسحبوا من هذه العمليات وتركوا لزمرة رؤساء الكهنة ( الصدوقيين ) وكل من يتبعهم، القيام بهذه المهمة. ومن المعتقد أنهم كانوا غير متفقين فيما بينهم: «انظروا إنكم لا تنفعون شيئاً، هوذا العالم قد ذهب وراءه» (يو19:12)، «واذا رجل اسمه يوسف وكان مشيراً ورجلاً صالحاً باراً (سنهدريمي أي فريسي، بحسب تحقيق كثير من العلماء) هذا لم يكن موافقاً لرأيهم وعملهم» (لو50:23-51‏). «وجاء أيضأ نيقوديموس (فريسي بحب رواية إنجيل يوحنا1:3) الذي أتى أولاً إلى يسوع ليلاً وهو حامل مزيج مر وعود، نحو مائة مناً» (يو39:19)

15:18 وَكَانَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَالتِّلْمِيذُ الآخَرُ يَتْبَعَانِ يَسُوعَ وَكَانَ ذَلِكَ التِّلْمِيذُ مَعْرُوفاً عِنْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَدَخَلَ مَعَ يَسُوعَ إِلَى دَارِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ.

القديس يوحنا يورد هذه المعلومة الهامة، ليوضح بها أولاً أنه كان شاهد عيان لكل ما سيرويه، فهو والقديس بطرس، دون جميع التلاميذ الذين آثروا الهروب، تبعا يسوع.
‏ولكن عند الباب، احتحز بطرس لأنه لم يكن معروفاً بالوجه, أما يوحنا فدخل، لأنه بحسبه تعبيره، كان معروفاً عند رئيس الكهنة؟ وهنا «قيافا» هو المقصود وليس «حنان». وبالتالي كان يوحنا معروفاً لدى الخدام والبوابين.
‏هذه المعرفة الخاصة عند رئيس الكهنة هي التي جعلته يعرف العلاقة الأسرية بين حنان وقيافا، وهي التي آهلته أن يعرف عبد رئيس الكهنة بالاسم، الذي قطع بطرس أذنه بالسيف, كذلك جعلته يتعرف على نسيب ملخس أيضاً من بين الخدام!! وهي التي أهلته أن يدخل دار رئيس الكهنة في أخطر المواقف دون حرج، بل وهي التي أهلته أن يأمر البوابة أن تسمح لبطرس بالدخول، بل هذه المعرفة الخاصة أيضأ هي التي جعلته يوضح لنا أن الجارية التي أنكر بطرس المسيح أمامها في الثلاثة الأناجيل هي البوابة!
‏وعلاقة القديس يوحنا برئيس الكهنة تلقي ضوءاً كثيرأ على رواية إنجيله. فهو، وإن لم يكن ذا قرابة برئيس الكهنة, فهوعلى الأقل يحمل المؤهلات الدينية والروحية والتقليدية التي تتناسب مع إنسان معروف لدى رئيس الكهنة، وله من الدالة والجرأة أن يدخل داره بلا استئذان، وأن يدخل رفيقاً لمتهم على أعلى مستوى من العداوة والخطورة بالنسبة لرئيس الكهنة وكل عشيرته؟ بل وله من الدالة أن يأمر البوابة ‏أن تسمح بدخول شخص أخر غريب ومشكوك في أنه أحد أتباع المتهم.
‏والسؤال هو كيف أن البوابة والخدم لم يتصرفا تجاه القديس يوحنا, كما تصرفا مع بطرس، بالرغم من علمهم الأكيد أن القديس يوحنا أحد تلاميذ المسيح؟ اللهم إلآ إذا كان القديس يوحنا يمت بقرابة، وليس مجرد معرفة لرئيس الكهنة؟
‏ولكن, وبصورة غير مؤكدة، يقص لنا المؤرخ الكنسي يوسابيوس القيصري أن القديس يوحنا والقديس يعقوب البار أخا الرب كانا يلبسان أثناء الخدمة في عهدهما الميمي تاجاً من نفس النوع الذي يلبسه رؤساء الكهنة, وعليه القلادة الذهبية الخاصة برئيس الكهنة. وهذا يكشف عن أن أسرة كل منهما كانت تمت بصلة أكيدة إلى الكهنوت. ونحن لا ننسى أن القديس يوحنا كان هن تلاميذ المعمدان الأوائل، ويقيناً أنه كان قبل تعرفه على المعمدان يلتمس النور من مصادره التقليدية، أي من الهيكل ومن علمائه. وأخيراً باع كل شيء واشترى اللؤلؤة!!
‏إن سيرة القديس يوحنا قبل المسيح كانت شديدة الشبه بتلك التي للقديس بولس، أما بعد المسيح فهما مؤتلفان في الروح ، وفي الوعي المسيحي النادر، وفي الرؤى السماوية.
«دار رئيس الكهنة»: بحسب تحقيقات بعض العلماء، ومنهم هنجستنبرج ووستكوت، يبدو أن قصر حنان كان ‏مكان اجتماع «رئاسة الكهنة»؛ خاصة وأنه توالى على رئاسة الكهنة, كما علمنا, أولاده من بعده . وهذا قيافا أيضاً، وقد تزوج بنت حنان, فقد كان من الطبيعي أن يبقى مقر اجتماع رئاسة الكهنة كما هو في دار حنان حميه. وهذا يوضح لنا كيف تمت المحاكمة الأولى والمحاكمة الثانية، دون أن ينتقل المسيح خارج الدار. كما يتضح لنا بالأكثر كيف أن بطرس بقي في موضعه في الطابق السفلي، حتى أكمل إنكاره المعهود إلى ثلاث مرات، دون أن ينتقل خارج الدار. ‏والمعروف في التاريخ اليهودي، أن السنهدريم وهو الجهة القضائية العليا المنوط بها الفحص والحكم في القضايا الكبرى التي تختص باليهود، قد توقف عن العمل أربعين سنة قبل خراب أورشليم، أي في أيام المسيح. وقد مُنع من الاجتماع في الدار المخصصة بالسنهدريم المسماة جازيت. كذلك فإنه بحسب التقليد اليهودي، كان لا يجوز لمجمع السنهدريم أن يحكم بالموت إلا داخل داره الرسمية هذه المسماة جازيت. لذلك اجتمع اجتماعاً غير قانوني في دار حنان المتسعة, بناء على استدعاء رؤساء الكهنة، وذلك بعد منتصف الليل للتصديق الشكلي على أحكام رؤساء الكهنة.

16:18 وَأَمَّا بُطْرُسُ فَكَانَ وَاقِفاً عِنْدَ الْبَابِ خَارِجاً. فَخَرَجَ التِّلْمِيذُ الآخَرُ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفاً عِنْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ وَكَلَّمَ الْبَوَّابَةَ فَأَدْخَلَ بُطْرُسَ.

‏حينها استقر القديس يوحنا في الداخل، وعن قرب من سيده، عاد يطلب صديقه بطرس. أما بطرس فكان راضياً بوقوفه خارج الباب، لأن الاساءة التي ارتكبها في حق عبد رئيس الكهنة كانت تقلقه خوفاً من أن يكتشف أمره، إضافة إلى لمسة من الرعبة سرت في أوصاله، زادها البرد وظلمة الليل، وبدأ يسأل نفسه لماذا أنا هنا؟
‏وأخيرا فتحت البوابة، وظهر القديس يوحنا، ودعا بطرس للدخول في صمت. هنا يمدنا القديس يوحنا للمرة الثانية، وبشيء من التأكيد, بصورة صادقة واثقة عن شجاعته الهادئة الثابتة، ويكرر على مسامعنا مرة أخرى معرفة رئيس الكهنة له، ليمهد لحديثه مكاناً واثقأ في إيماننا، كمن يتكلم عن سماع ورؤيا.
‏بينما اتجه بطرس إلى جماعة الخدم والعبيد، واندس بهدوء بينهم، راضياً أن يكون كأحد المتفرجين، أو عل الأقل من الذين لا يعنيهم أمر«هذا الرجل». كان هذا قد استقر في قرارة نفسه، كقرار لم يستطع أن يخفيه، لما اضطر أن يعلن عن علاقته «بهذا الرجل».
أ- «فأنكر قائلاً لست أدري ولا أفهم ما تقولين.» (مر68:14)
ب- «فابتدأ يلعن ويحلف أني لا أعرف هذا الرجل الذي تقولون عنه.» (مر17:14)
‏لقد ارتضى بطرس أن يجلس بين الناكرين، فأنكر.

17:18 فَقَالَتِ الْجَارِيَةُ الْبَوَّابَةُ لِبُطْرُسَ: «أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضاً مِنْ تلاَمِيذِ هَذَا الإِنْسَانِ؟» قَالَ ذَاكَ: «لَسْتُ أَنَا».

ولج بطرس داخل الدار بشيء من الإر تباك، وكمن يريد أن يخفي شخصيته، ولكن البوابة تفرست فيه في ضوء مصباحها الخافت, وتطلعت إلى شكله وعينيه، وكانت على شي ء كثير من الذكاء والفراسة، فخمنت، وأصابت الحقيقة. وفي تساؤل غير وائق بادرته بسرعة: «ألست أنت أيضأ من تلاميذ هذا الإنسان؟. لم تقصد البوابة شيئاً غير وضعه في موضعه، إنها مجرد بوابة. فقولها «أيضاً» يفيد أنها كانت قد تعرفت على القديس يوحنا أولأ أنه تلميذ «هذا الإنسان». وها هي ترى القديس يوحنا يترفق بزميله، فكيف لا يكون تلميذ هذا الإنسان أيضاً؟ هنا خانت بطرس شجاعته وارتج عليه الأمر, بحث فلم يجد في خزانة إيمانه حبة خردل. ولمح من بعيد صورة ملخس بين العبيد الواقين، أو تصور ذلك، فأخذته الرعدة، وبسرعة أراد أن ينفي عنه كل شيء: «لست أنا». وكأنه التقط الاستنكارمن فم البوابة: «ألسث أنث؟»، وحوله إلى جواب: «لست أنا». لقد سهلت عليه الرد، كالحية التي أغوت حواء.
«لست أنا»: في لغة إنجيل القديس يوحنا، هذا القول هو النقيض البغيض للقول المحبوب المُهاب لاسم المسيح ووجوده «أنا هو». لقد ألغى القدير بطرسص بقوله هذا وجوده وكيانه, لأنه فقدهما في الحقيقة لما أنكر تلمذته لذاك الذي يستمد منه وجوده وكيانه!!!
‏أما القديس يوحنا فتجاسر ودخل ليكون بجوار الرب، فكان كمن ارتكن إل حصن؛ وأما القديس بطرس فاكتفى أن يكون بعيداً بين البعداء فزل، ولكن أن يتبع بطرس المسيح ولو من بعيد، أفضل من أن يظل بعيداً ولا يتبعه!!! وكان ممكناً بعد أن تعرفوا على بطرس أنه كان في البستان، ولولا قليل لعرفوا أنه هو صاحب السيف، أن يوقعوا به أذية ومهانة، ولكن: «ولكني طلبت من أجلك …» (لو32:22)، كانت صلاة المسيح من أجله حصناً حصيناً ومجنا وسراً.

18:18 وَكَانَ الْعَبِيدُ وَالْخُدَّامُ وَاقِفِينَ وَهُمْ قَدْ أَضْرَمُوا جَمْراً لأَنَّهُ كَانَ بَرْدٌ وَكَانُوا يَصْطَلُونَ وَكَانَ بُطْرُسُ وَاقِفاً مَعَهُمْ يَصْطَلِي.

‏لقد انسحب القائد والجند ولم يتبق إلا عبيد رؤساء الكهنة وضباط الحراسة اليهود، هؤلاء تجمعوا معاً في فسحة الدار في الدور الأرضي، وأضرموا جمراً، أي أوقدوا فحماً وليس خشباً. ومعروف أنه في أيام القمح في 14 نيسان، غالباً يكون الجو دافئاً إلا في بعض السنين. لهذا يقول القديس يوحنا: «لأنه كان برد» ، معتبراً أن ذلك كان على غير المعتاد.
‏أما ذكر الجمر المتقد وهو يتلألأ ويرسل وهجه المنير هنا وهناك، فلأنه هو الذي فضح بطرس في الحقيقة. لأن الذي ينقل لنا هذا المشهد بدقة ليس القديس يوحنا بعد، لأنه دخل إلى مقر المحاكمة ولم يعد يعرف ماذا حدث كشاهد عيان، ولكن هنا يعطينا القديس لوقا ما سمعه من شهود عيان هكذا: «ولما أضرموا ناراً في وسط الدار وجلسوا معاً، جلس بطرس بينهم، فرأته جارية (البوابة عنمد القديس يوحنا) جالساً عند النار (أي في مواجهة نور الجمر). فتفرست فيه، وقالت: وهذا كان معه» (لو56:22). لقد ساعد نور الجمر على التعرف على شخصية بطرس.
‏ويكتل لنا القديس مرقس في إنجيله، على لسان القديس بطرس نفسه, حسب التقليد: «فلما رأت بطرس يستدفىء، نظرت إليه وقالت: وأنت كنت مع يسوع الناصري. فأنكر قائلاً: لست أدري ولا أفهم ما تقولين. وخرج خارجاً إلى الدهليز» (الطرقة الخارجية بين الفسحة الوسطى والباب), فصاح الديك. فرأته الجارية أيضاً وابتدأت تقول للحاضرين: إن هذا منهم، فأنكر أيضاً. وبعد قليل أيضاً قال الحاضرون لبطرس: حقاً أنت منهم، لأنك جليلي أيضاً، ولغتك تشبه لغتهم، فابتدأ يلعن ويحلف أني لا أعرف هذا الرجل الذي تقولون عنه. وصاح الديك ثانية، فتذكر بطرس القول الذي قاله له يسوع: إنك قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات. فلما تفكر به بكى.» (مر67:14-72).
‏واضح من رواية القديس مرقس أن بطرس لم يغادر دار رئيس الكهنة، بل كان أسفل الدار يصطلي، والمسيح فوق يُحاكم، أولاً عند حنان، ثم عند رئيس الكهنة قيافا وبالتال السنهدريم.

19:18 فَسَأَلَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ يَسُوعَ عَنْ تلاَمِيذِهِ وَعَنْ تَعْلِيمِهِ.

«شهود زور يقومون, وعما لم أعلم يسألوني.» (11:35)
«لو لم أكن قد جئت وكلمتهم، لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عزر في خطيتهم.» (يو22:15)
‏الكلام هنا يتبع مباشرة الآية (14)، أي بعد أن أجرى حنان تحقيقه غير الرسمى، وهذا واضح من تعقيب القديس يوحنا في نهاية تحقيق قيافا، إذ يقول مستدركاً: «وكان حنان قد أرسله موثقاً إلى قيافا رئيس الكهنة.» (يو24:18)
‏قيافا رئيس الكهة يبدأ تحقيقه الرسمي بكل دقة وتريب حسب الأصول القضائية تماماً. نعم، لأنه بقدر ما يكون الحكم المعد مسبقاً غير عادل وغير معقول بالمرة, بقدر ما تكون إجراءات المحاكمة غاية في الدقة وحسب الأصول بكل انضباط. هذه سنة المحققين المفسدين, وفلسفة القضاة الذين لا يخشون الله ولا الضمير, حينما ينوون تعريج القضاء والتدليس على الضمير, يستمعون للدفاع بكل انتباه ويناقشون المتهم بكل حرص وأدب, ويطيلون فرص الدفاع ويكررون نظر القضية في جلسات تلو جلسات دون تعب أو تململ. ثم ينطقون بالحكم الظالم الغاشم المتعنت بأقل كلمات وفي أدب جم, ثم يشرحون أسبابه بإسهاب وبمنطق القضاء العادل الذي يخشى الله والحق والتاريخ. هكذا حققوا مع المسيح بكل اهتمام, وقتلوه بغير اكتراث.
رئيس الكهنة سأل المسيح عن «تلاميذه» أولاً، ثم عن «تعليمه». لم يكن القصد معرفة من هم تلاميذه لأنهم كانوا يعرفونهم، والقديس يوحنا يقف كعينة فاخرة من هذه الزمرة. ولكنه كان يسأل عن مدى العلاقة التي تربطه بتلاميذه، لأن بيت القصيد في التهمة والاتهام أنه جعل نفسه «ابن الله» وبالتال فهو, بحسب ادعائهم هذا, يكون فوق السلطة الكهنوتية والراكب فوق رؤوسهم! وتلاميذه هم، والأمر كذلك، رؤساء كهنة بالدرجة الأولى والقيمون على الرسالة وانتشارها والمعلمون المنوط بهم تعليم الشعب. هذا أمر يخص رئيس الكهنة من الاتهام. أما الإعداد لتقديم الاتهام للرومان، فلأنه «المسيح الملك», فتلاميذه بالتال يكونون هم الحكام والقواد والمنوط بهم القيام بالثورة. هذا دور التلاميذ الذي يسأل عنه.
‏أما من جهة «تعليمه» فقد جمع مسبقاً من فم المسيح ما يكفي لتغطية الحكم بالرجم، وأعطى آنئذ علامة التزكية للطق بالحكم فيما بعد بأن «شق ملابسه» أمام السنهدريم، حب التقليد القضائي. وهو الآن يريد المزيد ليستوفي من فمه مسببات الحكم.
‏ولكن المسيح فوت عليه البند الأول من جهة تلاميذه، فلم يلتفت إليه أصلاً، لأن مبدأ المسيح الذي حرص عليه منذ البدء: «أن لا يهلك منهم أحد» (يو39:6؛ 12:17). ثم ابتدأ المسيح يهاجم فكرة التعليم السري، التي يدور حولها قيافا، وكأنها خطة خفية عن مملكة وملكوت يعده بالشفرة، ليعلنه في الوقت المناسب لينصب نفسه «مسيا الملك». وهذا من واقع الاتهام الذي قدمه ليبلاطس، كما جاء في إنجيل القديس لوقا: «ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر، قائلاً إنه هو مسيح ملك» (لو2:23). وهذا هو الذي حدا ببيلاطس أن يسأله, كما جاء في إنجيل القديس يوحنا: «ودعا يسوع وقال له: أنت ملك اليهود» (يو33:18). هنا واضح أن القديس يوحنا يكمل ويشرح عرضاً ما جاء في إنجيل القديس لوقا.

20:18 أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَنَا كَلَّمْتُ الْعَالَمَ علاَنِيَةً. أَنَا عَلَّمْتُ كُلَّ حِينٍ فِي الْمَجْمَعِ وَفِي الْهَيْكَلِ حَيْثُ يَجْتَمِعُ الْيَهُودُ دَائِماً. وَفِي الْخَفَاءِ لَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ».

«أنا كلمت … أنا علمت»: واضح كيف أن المسيح لكي يفوت على قيافا الإجابة عن «التلاميذ»، ابتدأ يركز بصورة قوية وشامخة على نفسه: «فأنا … أنا» تحمل المجاهرة القوية الصلبة والشجاعة.
‏ويلاحظ أن كلمة «أنا كلمت … أنا علمت», يجيء كل منهما في التصريف الكامل المنتهي (الماضي التام) لتمهد لآخر كلمة قالها، بعد التطبيق العملي على الصليب, لكل ما قال وعلم: «قد اكمل.» (يو30:19)
‏كما يتضح من مجيء كلمة «أنا كلمت» قبل «أنا علمت», أن التعليم الذي يسأل عنه قيافا لم يكن سرياً ولا بالشفرة أو الرموز، بل بالكلام العلني الحر، المسموع والمفهوم لدى «العالم», وكلمة «العالم» هنا تشمل كل درجات الناس بلا تمييز, تلاميذ وغير تلاميذ: «كما قلت لليهود … أقول لكم أنتم الآن» (يو33:13). والعلنية التي يفتخر بها المسيح، تجيء موبخة وفاضحة للسرية التي اتخذها قيافا ومن معه في خطة القبض عليه والتخابر السري مع يهوذا ودفع الثمن له! وتدبير هذه المحكمة وجمع شهود الزور. ثم يعود المسيح ويخصص تعاليمه لكل العالم على مستوى العلانية في البيوت والشوارع إلى: «أنا علمت كل حين في المجمع, وفي الهيكل, حيث يجتمع اليهود, وفي الخفاء لم أتكلم بشيء». لاحظ هنا تأكيد المسيح على موضوع «الخفاء».
‏واضح أن المسيح يقدم نفسه كمعلم دولة أولاً على مستوى «العالم»، ثم معلم الشعب اليهودي كافة بكل فئاته، حيث استمع إليه رؤساء كهنة وكتبة وفريسيون، خاطبهم وخاطبوه وناقشهم وناقشوه. إذن، لم يكن معلم جماعة، أو شيخ طريقة، أو صاحب مذهب, أو إمام شيعة، بل هو الناطق بكلمة الله في كل مكان وزمان ولكل إنسان!
‏«وفي الخفاء لم أتكلم بشيء»: «لم أتكلم بالخفاء في مكان من الأرض مظلم. لم أقل لنسل يعقوب باطلاً اطلبوني. أنا الرب متكلم بالصدق، مخبر بالاستقامة.» (إش19:45)
إن أقوى ما كان في تعاليم المسيح وإعلاناته هي «العلانية», بل وأقوى إعلان نطقه كان لقيافا هذا عينه، حينما توسل إليه مستحلفا بالله: «والذين أمسكوا يسوع، مضوا به إلى قيافا رئيس الكهنة … وقال له: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله, قال له يسوع أنت قلت (أو نعم كما قلت)؛ وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء.» (مت57:26-64)
‏وفي إنجيل القديس مرقس جاءت العلانية صارخة: «فسأله رئيس الكهنة أيضاً وقال له أأنت المسيح ابن المبارك؟ فقال يسوع: أنا هو. وسوف تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتيأ في سحاب السماء.» (مر61:14-62‏)
‏بل ولم يصرح المسيح قط أن ما يعلم به يبقى في الخفاء: «الذي أقوله لكم في الظلمة قولوه في النور، والذي تسمعونه في الأذن، نادوا به على السطوح» (مت27:10‏). المسيح هنا يشجب كل تعليم سري، لأن كل تعليم سري يخلو من الحق. أما الحق فهو علم العلانية ومعرفة النور, ويكفي أن يقول المسيح كمعلم: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو6:14). على الجبل علم، وفي الطريق علم، وفي البيوت وفي الخلاء وفي القفر وعلى شاطىء البحر وأمام القبر علم! بالليل مع نيقوديموس الذي آثر الظلام علم، وفي منتصف النهار ضرب ميعاده مع السامرية وعلم، وعلى مدى النهار كله وحتى خار الشعب, علم وأطعم. اختار السبوت للمجامع، والأعياد للهيكل. وما قاله هنا وهناك سمعناه كلنا، وفي كل مكان، وفي الدنيا كلها الآن. وحديث القلب الخاص جداً في العلية لتلاميذه, الذين أحبهم إلى المنتهى, على العشاء الأخير، صار حديثنا، بل صار إنجيلنا، بل صار طقسنا نرتل به، ونسبح, ونهذ فيه الليل مع النهار!
‏هذه الإجابة التي رد بها المسيح على سؤال قيافا، نسمعها بصورة أخرى يقولها المسيح لبعثة قيافا عينه، التي تسلحت بالسيوف والعصي للقبض عليه كما على مجرم ثائر ضد الأمة، هكذا: «فأجاب يسوع وقال لهم: كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني. كل يوم كنت معكم في الهيكل أُعلم, ولم تمسكوني، ولكن لكي تكمل الكتب» (مر48:14-49). وكأن قيافا أراد، ببعثة القبض عليه، أن يصوره بصورة المجرم الثائر.

21:18 لِمَاذَا تَسْأَلُنِي أَنَا؟ اِسْأَلِ الَّذِينَ قَدْ سَمِعُوا مَاذَا كَلَّمْتُهُمْ. هُوَذَا هَؤُلاَءِ يَعْرِفُونَ مَاذَا قُلْتُ أَنَا».

‏واضح جداً من قول المسيح هذا أنه، في الحقيقة، إنما كان يخاطب السامعين أنفسهم!! رؤساء ‏الكهنة والمحققين. يخاطب, إن لم يكن شجاعتهم ليدلوا بشهادتهم لو أرادوا, هذا لو كانت لهم حرية الإرادة, فضمائرهم!! ثم أنه في قول المسيح هذا، رجعة قانونية على المحقق المتحامل المدلس. فبحسب القانون اليهودي، يلزم حضور شهود الدفاع أولاً لتبرئة ذمة المتهم! هو هنا يطلب شهود الإيجاب, أي يطلب تعديل وضع المحكمة!! فالوضع القانوني الصحيح في المحاكمات اليهودية العريقة في القدم أن المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته. ولكن المسيح كان، في قرارة نفسه ولسان حاله, قد أكمل التعليم والأجوبة والشهادة والبراهين الكلامية التعليمية والإعجارية, والوقت لم يعد وقت شهادة وسؤال وجواب، ولكن هي شدة وضيق كان عليه أن يجوزها في صمت, لو أمكن!
‏ثم أليس هو الذي تكلم جهرا أمام مجلس السنهدريم معلناً بنوته لله وصدق مسيانيته؟ واننا، في الحقيقة, نلمح في قول المسيح: «لماذا تسألني»، رفضاً مقنعاً للاجابة، وهو ما نسمعه في الأناجيل الأخرى أنه صمت وأنه لم يرد بشيء!! «فقام رئيس الكهنة في الوسط، وسأل يسوع قائلاً: أما تجيب بشيء ماذا يشهد به هؤلاء عليك. أما هو فكان ساكتاً، ولم يجب بشيء.» (مر61:14-62؛ مت62:26-63)
‏ثم كيف يجيب المسيح على قاض صمم وأعلن عن قتله؟
‏لقد أعيي رئيس الكهنة, لكي يجمع شهادات زور, فلم يوفق أبداً: «وكان رؤساء الكهنة والشيوخ والمجمع كله يطلبون شهادة زور على يسوع، لكي يقتلوه, فلم يجدوا» (مت59:26-60‏), «لأن كثيرين شهدوا عليه زوراً، ولم تتفق شهادتهم.» (مر56:14‏)
ولكن حينما حل دور الشهادة للحق أمام المجمع عن بنوته لل, وأمام بيلاطس عن ملكوته، أجاب الإجابة القاطعة: «وشهد الاعتراف الحسن»، وهو الأمر الذي صار من صلب إيماننا: «أوصيك أمام الله الذي يحيي الكل والمسيح يسوع الذي شهد لدى بيلاطس البنطي بالاعتراف الحسن» (1تى13:6)

22:18 وَلَمَّا قَالَ هَذَا لَطَمَ يَسُوعَ وَاحِدٌ مِنَ الْخُدَّامِ كَانَ وَاقِفاً قَائِلاً: «أَهَكَذَا تُجَاوِبُ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ؟».

‏لقد سجل إشعياء النبي هذا المنظر قبل أن يحدث بستمائة سنة وصوره أروع تصوير: «بذلت ظهري للضاربين، وخدتي للناتفين (في السبعينية «للطم»، وجهي لم أستر عن العار والبصاق» (إش6:50)، [وخديك أهملتهما للطم] (القداس الغريغوري القبطي)
‏لم يكن العبد أسوأ من سيده, فلو كان رئيس الكهنة «الاضعف» احترم حقوق المتهم بحسب القانون, ما تجرأ العبد ومد يده على رئيس الكهنة «الأعظم».

23:18 أَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتُ قَدْ تَكَلَّمْتُ رَدِيّاً فَاشْهَدْ عَلَى الرَّدِيِّ وَإِنْ حَسَناً فَلِمَاذَا تَضْرِبُنِي؟».

المسيح هنا لا يرد على العبد, بل على قيافا حامي التوراة، وهل أعطت التوراة هذا العبد علة هذا التعدي: «لا تسب الله، ولا تلعن رئيساً في شعبك» (خر28:22), وقد قرأها القديس بولس «رئيس شعبك لا تقل فيه سوءاً» (أع5:23). فالمسيح هنا يسأل رئيس المحكمة الذي رأى ووافق على اللطم. إن القانون يقول: «لا تقل سوءاً», فما هو هذا السوء الذي تكلمت به حتى تعطي لعبدك الحق في الاساءة؟ وأنا لم أتكلم سوءاً, بل حسناً!! لقد احتسب المسيح هذه الإساءة, دون سبب, أنها مخلة بإجراءات المحاكمة وخروجاً على القانون والتوراة. وتجدر الاشارة هنا، إلى أن القانون اليهودي ينص على أنه ليس للقاضي الحق إلا ليطرح المذنب، إذا ثبت عليه الذنب، ثم يأمر بعد ذلك بالجلد في حدود كرامة الانسان «لئلا يُحتقر في عينيك»!!!
+ «إذا كانت خصومة بين أناس، وتقدموا إلى القضاء ليقضي القضاة بينهم فليبرروا البار, ويحكموا على المذنب. فإن كان المذنب مستوجب الضرب, يطرحه القاضي، ويجلدونه أمامه على قدر ذنبه بالعدد. أربعين يجلده، لا تزد، لئلا إذا زاد في جلده على هذه ضربات كثيرة, يحتقر أخوك في عينيك.» (تث1:25-4)
‏ولكن كان هذا مبتدأ الأوجاع، فقد زحفت ساعة الظمة، وتحرك العقرب على يد هذا العبد المتعوس، وبعد ذلك وبتحريض من رئيس الكهنة، أكملت الآلام، كما جاء في الأناجيل الأخرى:
+ «حيث اجتمع الكتبة والشيوخ (أعضاء السنهدريم)… ها قد سمعتم تجديفه ماذا ترون. فأجابوا وقالوا: إنه مستوجب الموت. حينئذ بصقوا في وجهه, ولكموه, وآخرون لطموه قائلين: تنبأ لنا أيها السيح من ضربك.» (مت65:26-68)
+ «فابتدأ قوم يبصقون عليه, ويغطون وجهه، ويلكمونه ويقولون له: تنبأ. وكان الخدام يلطمونه.» (مر65:14)
‏+ «والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع، كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه. وغطوه وكانوا يضربون وجهه ويسألونه قائلين: تنبأ من هو الذي ضربك؟ وأشياء أخرى كثيرة, كانوا يقولون عليه، مجدفين.» (لو63:22-65‏)
‏وقد انقسمت الآلام والتعديات على المسيح إلى ما كان منها قبل النطق بالحكم من فم قيافا، وما بعد النطق بالحكم, أي بعد انتهاء المحاكمة. وكانت التي قبل النطق بالحكم هي السبة العظمى في القانون اليهودي، ودلالة قاطعة على أن المحاكمة كانت على مستوى التشفي. (كثيرين تساءلوا لماذا لم يدر المسيح الخد الآخر حينما لُطم على الخد الأول؟ يرد على ذلك القديس أغسطينوس قائلاً: [إن وصايا المسيح لا تتتم بالجسد، ولكن باستعداد القلب, لأنه يمكن أن إنساناً غاضباً حاقداً يحول الخد الآخر. ولكن كم يكون من الأفضل للإنسان أن يكون في ملء السلام الداخلي، ليرد بجواب فيه الحق, وبهدوء الفكر يمسك نفسه باستعداد لاحتمال آلام أكثر تأتي عليه].)
لماذا؟ إشعياء يتأمل ويتعجب والروح يجيب!
+ «مخزول من الناس، رجل أوجاع, ومختبر الحزن… محتقر فلم نعتد به!
نحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً…
لكن: أحزاننا حملها, وأوجاعنا تحملها, .. مجررح لأجل معاصينا, مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحبره (كدمات أو رضوض أو سحق) شُفينا! ظُلم, أما هو فتذلل, ولم يفتح فاه؛ كشاة تُساق إلى الذبح…
‏ضُرت من أجل ذنب شعبي… على أنه لم يعمل ظلماً، ولم يكن في فمه غش!
‏أما الرب فسُر بأن يسحقه بالحزن. إن جعل نفسه ذبيحة إثم.» (إش3:53-10)
‏الأن أدركت لماذا ضُرب المسيح بالكف على وجهه, فأسرع ينفي عن نفسه نفياً باتاً أنه يستحق اللطم! لكي يصير عار اللطم الذي كان علي أن أحتمله, احتمله وجهه ثمناً مدفوعاً عن عاري أنا, وأتبرأ عن اللطم الذي أستحقه لتأديبي، ألم يقل إشعياء، «تأديب سلامنا عليه» (إش53:5)
‏الآن فهمت لماذا عرض المسيح وجهه للبصاق!! إنه ثمن فضيحتي الذي ستر به خزيي. ‏اقشعري يا نفسي وارتعدى, فعارك حمله على وجهه لطماً وبصاقاً، ليجعلك بلا لوم أمامه. ليس مجاناً اغتسلنا بل تقدسنا بل تبررنا, ‏بل بالثمن الغالي الذي تقشعر منه السماء والأرض معاً.
‏أربعون جلدة إلا واحدة, تحملها على ظهره الغض بتأوهات وأنين وآلام مبرحة, واللحم يتهرأ والدم يتفجر, والعقوبة أصلاً هي عقوبتى, فالجناية جنايتى, والذنب ذنبي, والتعدي صنعته حماقتي.
‏ذوبي يا نفسي خجلاً, وانطرحي إلى الأرض, وعفري وجهك بالتراب, فالثمن المدفوع لتبرئتك لا تطيقه السماء, والأرض كلها تميد من تحته!

24:18 وَكَانَ حَنَّانُ قَدْ أَرْسَلَهُ مُوثَقاً إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ الْكَهَنَةِ.

‏هذه الأية ليس موضعها هنا، لكنها أتت استدراكية، استدرك بها الكاتب ما كان يجب أن يقوله قبل البدء في المحاكمة أمام قيافا قبل الآية: «فسأل رئيس الكهنة يسوع…» (يو19:18)، لأن حنان أنهى تحقيقاته المبدئية قبل أن يرسله «موثقاً» إلى قيافا. وكلمة «موثقاً» هي الإشارة الوحيدة للادانة.
‏وإلى هنا تكون قد تمت التحقيقات المبدئية أمام «حنان» شكلياً، ثم التحقيقات التسجيلية في مضابط الجلسة أمام قيافا ومجلس السنهدريم. على أن التقليد اليهودي والتقليد المسيحي معاً، لا يقول أي منهما أن المسيح حوكم أمام السنهدريم رسمياً، وهي التحقيقات التي انتهت بتمزيق رئيس الكهنة ثوبه إعلاناً عن تجديف سجله على المسيح زوراً، وأشهد عليه السنهدريم, وهيج الأعضاء، فقاموا على المسيح وصنعوا به كل ما أرادوا. وهذا جاء في إنجيل القديس مرقس من الآية 55 حتى الآية 65 من الأصحاح الرابع عشر.

25:18 وَسِمْعَانُ بُطْرُسُ كَانَ وَاقِفاً يَصْطَلِي. فَقَالُوا لَهُ: «أَلَسْتَ أَنْتَ أَيْضاً مِنْ تلاَمِيذِهِ؟» فَأَنْكَرَ ذَاكَ وَقَالَ: «لَسْتُ أَنَا».

‏هذا الإنكار هو الثاني لبطرس، وقد تم في نهاية التحقيقات أمام حنان، وكان الداعي لهذا الانكار هو بمناسبة ظهور الممسيح موثقاً، وهو يمر محروسا بالخدم مم مكان حنان إلى مكان قيافا، إذ كانت فرصة جديدة للخدم، لإعادة النظر في هذا الغريب الجالس وسطهم دون أن يتعرفوا عليه.

26:18 قَالَ وَاحِدٌ مِنْ عَبِيدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ وَهُوَ نَسِيبُ الَّذِي قَطَعَ بُطْرُسُ أُذْنَهُ: «أَمَا رَأَيْتُكَ أَنَا مَعَهُ فِي الْبُسْتَانِ؟»

‏هنا تظهر إمكانيات القديس يوحنا في التعرف على أهل بيت رئيس الكهنة وخدامه, التي تشير إلى احتمال شديد للقرابة أكثر منها للمعرفة عند بيت رئيس الكهنة. كانت هذه اللفتة من نسيب ملخس مرعبة بالنسبة للقديس بطرس، لذلك أسرع في النفي.

27:18 فَأَنْكَرَ بُطْرُسُ أَيْضاً. وَلِلْوَقْتِ صَاحَ الدِّيكُ.

‏هذا هو الإنكار الثالث لبطرس، والآن وقد تم العدد المتفق عليه، إذ صاح الديك بالفعل! هنا، في هذه اللحظة, كانت قد تمت المحاكمة أمام قيافا والسنهدريم، وخرج يسوع موثقاً في طريقه لبيلاطس، وكان لابد أن يمر بالفسحة التى في الدور الأرضي التي كان بطرس واقفاً فيها مع الخدم يصطلي. وكان تدبير الله للخلاص أن مر الرب بجوار القديس بطرس في اللحظة التي أنكر فيها، فصاح الديك، ونظر إليه، فانتبه بطرس وقرأ ما في عيني الرب، هذا بحسب إنجيل القديس لوقا: «فقال بطرس: يا إنسان، لست أعرف ما تقول. وفي الحال, بينما هو يتكلم صاح الديك. فالتفت الرب ونظر إلى بطرس. فتذكر بطرس كلام الرب، كيف قال له إنك قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات، فخرج بطرس إلى خارج، وبكى بكاء مراً.» (لو60:22-62)
‏أما القديس يوحنا, فبحسب أسلوبه المحافظ جداً, لم يشأ أن يورد أي إشارة لإدانة القديس بطرس، أو الحط من كرامته, شأنه في ذلك مع بطرس شأنه مع جميع التلاميذ الذين كانوا موضع تكريم دائماً في إنجيل القديس يوحنا.
‏وواضح أن اهتمام القديس يوحنا في تسجيل حادثة إنكار بطرس، ومثل تسجيله لبقية الحوادث، كان منصباً على توجيه النظر ناحية لاهوت المسيح، وكيف تم ما قاله المسيح لبطرس بالحرف الواحد: «وقلت لكم الآن قبل أن يكون، حتى متى كان تؤمنون.» ‏(يو29:14)
‏«لا تحرف حق فقيرك في دعواه. ابتعد عن كلام الكذب، ولا تقتل البريء والبار، لأني لا أبرر المذنب.» (خر6:23-7)
»‏هكذا قال رب الجنود قائلاً: اقضوا قضاء الحق واعملوا إحساناً ورحمة، كل إنسان مح أخيه، ولا تظلموا… ولا يفكر أحد منكم شراً على أخيه فى قلبكم, فأبوا أن يصغوا، وأعطوا كتفاً معاندة, وثقلوا آذانهم عن السمح… فجاء غضب عظيم من عند رب الجنود. فكان كما نادى هو، فلم يسمعوا، كذلك ينادون هم فلا أسمع، قال رب الجنود، وأعصفهم إلى كل الأمم الذين لم يعرفوهم. فخربت الأرض وراءهم, لا ذاهب ولا آئب، فجعلوا الأرض البهجة خراباً.» (زك9:7-14)
‏في ختام رواية محاكمة المسيح أمام رؤساء الكهنة, ومجلس السنهدريم من الباطن , لا نعثر على قرار واضح أجرى عليه التصويت، ولا حتى إجراءات قانونية واضحة. وهذا ما لا يخفى على القارىء, أن رؤساء الكهنة ومجلس السنهدريم لم يكن له أي سلطة قضائية للمحاكمة أو لإصدار قرارات في عهد الحكم الروماني: «لا يجوز لنا أن نقتل أحداً» (يو31:18). وكل ما عملوه هو الإنتهاء إلى قرار موحد يستطيعون تقديمه لبيلاطس، ليحكم لهم بمقتضاه، إن أمكن. فالمسألة كانت مجرد اجتهاد بالنسبة لهم، وقد استخدموا كافة وسائل الضغط والترغيب، ثم الإرهاب ليبلغوا إلى غايتهم
وقد كشف بيلاطس العوامل النفسية الواضحة والصارخة التي حركتهم ضد المسيح، والتي استخلصها من قضيتهم ودعواهم، فوق كل صراخهم وإدعاءاتهم: «لأنه عرف أن رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسداً» (مر10:25). كما كشف بيلاطس على عدم استنادهم على أي أدلة واضحة أو صادقة لإقامة هذه الدعوى برمتها، وبالتالى المطالبة بصلبه.
1- شهادة بيلاطس ثلاث مرات بعدم وجود علة واحدة في المسيح (يو38:18؛ 4:19-6‏).
2- «وأى شر عمل؟ فكانوا يزدادون صراخاً قائلين ليصلب.» (مت23:27)
3- «فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً، بل بالحري يحدث شغب، أخذ ماء وغسل ‏يديه قدام الجميع قائلاً: إني بريء من دم هذا البار, أبصروا أنتم.» (مت24:27)
4- أتريدون أن اطلق لكم ملك اليهود.» (مر9:15‏)
5- «قد قدمتم إلي هذا الإنسان كمن يفسد الشعب، وها أنا قد فحصت قدامكم ولم أجد في هذا الإنسان عله مما تشتكون به عليه, ولا هيرودس أيضاً لأني أرسلتكم إليه. وها لا شيء يستحق الموت صٌنع منه.»(لو14:23-15)
6- «فقال لهم ثالثة: فأي شر عمل هذا؟ إني لا أجد فيه علة للموت.» (لو22:23)

ب- المحاكمة الثانية: أمام المحكمة المدنية: (28:18-16:19)

الملك السماوي أمام الحاكم الروماني:

‏يختص إنجيل القديس يوحنا بمفرده بالكشف عن التحقيقات الخاصة التي أجراها بيلاطس مع المسيح في غياب اليهود، وقد جاءت على مرتين (33:18-37؛ 8:19-11)
‏ولكننا نسمع عنها باختصار بالغ في رواية القديس متى 11:27. كما تأتي عرضاً كمسلمة من المسلمات الإيمانية العالية القيمة جداً في وصية القديس بولس الرسول الأخيرة لتيموثاوس هكذا: «أوصيك أمام الله الذي يُحيي الكل, والمسيح يسوع، الذي شهد لدى بيلاطس البنطي بالاعتراف الحسن» (اتي13:6‏). من هذا نستنتج أن القديس يوحنا يلزم أن يكون قد رافق المسيح ودخل معه دار الولاية، وربما كان هذا أسهل بكثير من دخوله مع المسيح دار رئيس الكهنة. كما يتضح ذلك أيضاً هن شرح للقديس يوحنا للغة بيلاطس سواء لليهود أو للمسيح، فقد كانت بوضوح واسهاب, في حين أن ما ورد في الثلاثة الأناجيل عما تم لدى بيلاطس كان باختصار وبدون ترتيب.
ورواية القديس يوحنا لمحاكمة المسيح لدى بيلاطس يمكن تقسيمها إلى فواصل واضحة؛ ما تم منها داخل دار الولاية (البريتوريون) وما تم منها خارج الدار:
الجزء الأول: خارج دار الولاية؛ ‏وفيه طالب بيلاطس اليهود بنفاذ حكم الإعدام الذي نطقوه (28:18-32).
‏الجزء الثاني: داخل دار الولاية؛ «الاعتراف الحسن». المسيح ملك (33:18-37‏).
الجزء الثالث: خارج دار الولاية؛ الإعلان الأول عن براءة المسيح؛ وموضووع باراباس (38:18-40).
‏الجزء الرابع: داخل دار الولاية؛ ‏الحكم بالجلد والاستهزاء الأول (1:19-3‏).
الجزء الخامس:خارج دار الولاية؛ الإعلان الثاني والثالث عن براءة المسيح: «هوذا الإنسان»,«ابن الله»(4:19-7).
‏الجزء السادس: داخل دار الولاية؛ مصدر السلطان والخطية الأعظم (8:19-11).
الجزء السابع: خارج دار الولاية؛ ‏تهديد القاضي, يحيا قيصر, وليمت المسيح (12:19-16).

الجزء الأول من سير القضية
خارج دار الولاية (28:18-32)
‏بيلاطس واليهود. المطالبة بالإعدام والرد بالرفض

28:18 ثُمَّ جَاءُوا بِيَسُوعَ مِنْ عِنْدِ قَيَافَا إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَكَانَ صُبْحٌ. وَلَمْ يَدْخُلُوا هُمْ إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ لِكَيْ لاَ يَتَنَجَّسُوا فَيَأْكُلُونَ الْفِصْحَ.

‏إن آخر مرحلة عبر عليها المسيح في المحاكمة لدى رئيس الكهنة كانت باشتراك جميع رؤساء الكهنة وشيوخ إلشعب حيث قرروا قتله، وذلك حسب رواية إنجيل القديى متى: «ولما كان الصباح، تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه، فأوثقوه، ومضوا به، ودفعوه إلى بيلاطس البنطى الوالي.» (مت1:27-2‏)
‏كانت أحكام اليهود, مهما أخذت من رسميات, بلا قوة وغير قابلة للتنفيذ بدون السلطة الرومانية. أما دار الولاية, فبالرغم من أنه كان لها مقر رسمي في قصر خاص كان قد بناه هيرودس الملك على التلال الغربية الشمالية لمدينة أورشليم، إلا أن المعروف أن بيلاطس كان مقرة المؤقت في قلعة أنطونيا في الشمال الشرقي، لأن مقره الدائم كان في مدينة قيصرية. إلا أنه كان ينتقل من مقره الرسمي إلى أورشليم في الأعياد، ليشرف بنفسه على الأمن والنظام، لأن المدينة حينذاك تكون مكتظة باليهود الآتين من الشتات، الذين بيلخ عددهم في الفصح ما يقرب من ثلاثة ملايين.
‏«وكان صبح (الفجر)»: هذا التعبير الروماني يقابله في تقسيم الزمن اليهودي، الهزيع الرابع من الليل (ويبدأ من الساعة الثالثة بعد نصف الليل حتى الساعة السادسة صباحاً). ومعروف في القانون اليهودي أنه ‏تحظر إصدار حكم بالموت أثناء الليل.
‏وهكذا عُقد السنهدريم بكامل هيئته في الصباح، ليوافقوا على حكم الليل، لمجرد استيفاء الشكليات القانونية، وهذا هو العبث, عين العبث, بروح القانون.
‏ولكن ظل القرار الذي أخذوه بالإجماع في الصباح مخالفاً لنص القانون اليهودي، وهو أن حكماً بالموت لا يصدر في يوم المحاكمة، إذ لا بد أن يؤجل إلى يوم آخر غير يوم المحاكمة. ولكنهم، باعتبارهم الهيئة العليا المهيمنة على الشئون القانونية، أعطت لنفسها الحرية أن تعبث بالقانون، ظناً منها أنه لن يوجد من يؤاخذها. ولكن العالم كله، وكل جيل, وفي كل أمة، يشهد الآن على فساد ذمة القضاة اليهود الذين تولوا الحكم على يسوع.
‏ذهبوا إلى دار الولاية في وقت مبكر للغاية، مع أن القانون الروماني ينص على انعقاد المحكمة بعد شروق الشمس على كل حال. ولكن يبدو أنهم كانوا على ميعاد مع بيلاطس, وأنه هو الذي أرسل الحامية العسكرية. ومعروف أن حنان, أغنى أغنياء اليهود, كان على صلة بكل الذين في دار الولاية، وأنه كان يرشو الجمع بالأموال. ولكن بيلاطس ظلق محتفظاً برأيه فيما يختص بالحدود التي تفصل بين قضاء اليهود والقضاء الروماني.
‏«ولم يدخلواه لكي لا يتنجسواء فيأكلون الفصح»: كانوا يخشون نجاسة الجسد، ولا يخشون سفك دم بريء!! وصح فيهم قول المسيح أنهم: «يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل.» (مت24:23).
‏قبل أن نخوض في إثبات تقليد إنجيل القديس يوحنا في كون المسيح ذُبح في يوم 14 نيسان، وهو ميعاد ذبح الخروف، يلزم أن نوضح الآتي:
‏أولاً: ذبح خروف الفصح، حسب الناموس، يكون في يوم4 ‏ا نيسان قبل الغروب بين العشائين, أي من الساعة الثالثة حتى الساعة السادسة بالتوقيت الإفرنجي.
ثانياً: اليوم اليهودي يبدأ من بعد غروب الشمس حتى غروب الشمس في اليوم التالي (أربع وعشرون ساعة).
‏ثالثاً: يوم ذبح الخروف يُسمى يوم الفصح, أو عيد الفصح, وهو 14 نيسان. واليوم الذي يليه وهو 15 نيسان يسمى أول أيام العيد، وهو أول أيام عيد الفطير، وفيه محفل رسمي. ففي يوم الفصح يُذبح الخروف وقت الغروب. ويكون أكل الفصح بعد الغروب، أي يدخل في يوم 15 نيسان، وهو أول يوم لعيد الفطير.
‏بعد يوم 14 نيسان يبدأ أسبوع الفصح الذي لا يؤكل فيه خمير قط بل فطير، ويسمى عيد الفطير. ولكن عدد أيام أكل الفطير هي 6 ‏أيام, لأن في يوم 4 ‏ا نيسان يُقطع الخمير، ويُصنع الفطير.
خامساً: ‏بحسب رواية الثلاثة الأناجيل، يبدو أن المسيح صنع العشاء الأخير في غروب يوم الفصح نفسه, ي في 14 ‏نيسان، وأنه صُلب ثاني يوم, أي أنه في 15 نيسان بدأ عيد ‏الفطير.
‏سادساً: بحسب رواية إنجيل القديس يوحنا، يبدو أن المسيح صنع العشاء الأخير قبل يوم الفصح، لأنه يعلم أنه هو نسه سيكون خروف الفصمح: «حمل الله الذي يرفع خطايا العالم» (يو29:1)، وأنه صُلب يوم 14 نيسان، وهو يوم ذبح الخروف, عن علم سابق وقصد. والمسيح بذلك يكون قد ألغى الفصح اليهودي بذبح الخروف، وأسس الفصح المسيحي بذبح نفسه. وهذا تؤكده شهادة بولس الرسرل القوية: «لأن فصحنا أيضاً المسيح, قد ذُبح لأجلنا, إذاً لنعيد ليس بخميرة عتيقة، ولا بخميرة الشر والخبث، بل بفطير الإخلاص والحق.»(اكو7:5-8)
سابعاً: ‏إمكانية التوفيق بين رواية الثلاثة الأنا جيل ورواية إنجيل القديس يوحنا قام بها كثير من العلماء، وأثبتوا صحة الروايتين، محاولين التوفيق بينهما:
1- فمثلاً في الثلاثة الأناجيل، وفي إنجيل القديس يوحنا، معروف أن ليلة العشاء الأخير كانت هي ليلة التسليم.
2- من رواية القديس لوقا، يتضح أن القيامة حدثت يوم الأحد. ومعروف أن الكنيسة عيد يوم الخمسين بحسب سفر الأعمال (الذي هو ملحق لإنجيل لوقا) من تلك السنة إلى اليوم بعد خمسين يوماً وكان يوم الأحد ولا يزال. ومعروف في الناموس أن حساب يوم الخمسين هو بعد خمسين يوماً بعد أول سبت من عيد الفصح مباشرة. وعيد الفصح سنة صلب المسيح، إذا حسبناه يوم السبت أي بحساب الخمسين يوماً يكون 14 نيسان هو يوم الجمعة ميعاد ذبح الخروف، وهكذا يتفق إنجيل لوقا مع إنجيل يوحنا تماماً. «ثم تحسبون لكم من غد السبت (أول سبت بعد عيد الفصح)، من يوم إتيانكم بحزمة الترديد, سبعة أسابيع تكون كاملة، إلى غد السبت السابع, تحسبون خمسين يوماً، ثم تقربون تقدمة جديدة للرب … وتنادون في ذلك اليوم عينه محفلاً مقدساً يكون ‏لكم» (لا15:23-21)، وهو عيد الخمسين.
3- معروف أن المسيح صنع عشاء الفصح في بداية يوم رفع الخمير وبدء الفطير، يوم 14 نيسان، لأن هذا اليوم يبدأ بعد غروب يوم 13 نيسان (الخميس) مباشرة. وفي هذا اليوم صنع العشاء الأخير 13-14 نيسان, بدأه في غروب الخميس وأكمله في دخول الجمعة، وفي منتصف نهار 14 نيسان رُفع على الصليب. إذن، فالمسيح أكمل العشاء الأخير في الساعات الأولى من 14 نيسان، وقدم ذبيحة نفسه على الصليب في الساعات الأخيرة ليوم الفصح 14 نيسان أيضاً. ومن هذا يتضح أن اللبس في مفهوم عشاء الخميس وفصح الجمعة هو بسبب عدم فهمنا لنظام توقيت اليهود؛ لأن يوم الخميس، بحسب التوقيت الإفرنجي الآن، ينتهي في منتصف ليلة الخميس عشية الجمعة؛ أما بحسب توقيت اليهود، فيوم الخميس ينتهي الساعة السادسة في غروب شمس يوم الخميس عشية الجمعة. لذلك حينما نقول إن العشاء الأخير تأسس في مساء الخميس، يكون هذا التعبير مسارياً للتعبير اليهودي أن العشاء الأخير تأسس في الساعات الأولى من يوم الجمعة الذي يبدأ بعد غروب شمس الخميس مباشرة.
4- التلمود اليهوي، سجل فيه اليوم الذي صُلب فيه المسيح هكذاا: [أن يسوع عُلق على خشبة في مساء ‏الفصح].
5- قول المسيح في إنجيل متى: «المعلم يقول إن وقتي قريب, عندك أصنع الفصح مع تلاميذي» (مت17:26). فكلمة: «وقتي قريب», يتضح من هذا التعبير ان الرب لا يقصد الفصح الرسمي بل عشاء فصحياً يصنعه تحت اضطرار عدم إمكانية إقامة الفصح الرسمي مع التلاميذ بسبب «وقتي قريب»، أي أن «الساعة» ستكون هي ساعة ذبح الحروف، وقد صنعه خصيصاً ليؤسس فيه سر دمه وجسده.
6- قول المسيح: «‏شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم، قبل أن أتألم، لأني أقول لكم إني لا آكل منه بعد، حتى يُكمل في ملكوت الله» ‏(لو15:22-16). ومن هذا التعبير يتضح أن الرب، وهو عالم أنه لن يأكل هذا الفصح رسميا مع تلامنذه، صنع هو هذا الفصح مسبقاً, ليؤسس فيه سر الشكر والحب، لأن هذه هي شهوته الحقيقية.
7- هذا كله، يكشف سره ويوضحه توضيحاً بليغاً القديس يوحنا في تسجيله لهذا العشاء: «أما يسوع قبل عيد الفصح, وهو عالم أن ساعته قد جاءت لينتقل من هذا العالم إل الآب، إذ كان قد أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إل المنتهى، فحين كان العشاء …» (يو1:13-2). هنا يأتي تصريح القديس يوحنا القاطع، أن المسيح صنع الفصح الخاص الذي قدم فيه جسده ودمه سراً للعالم، قبل أن يصنعه عملياً وعلنا على الصليب. وكان بالفعل يتحتم أن يكون ذلك قبل عيد القمح، فإن كان كلا الفصحين واحداً، ففصح الخميس يقدم أعظم شرح لما تم في فصح الجمعة، وسر فصح الخميس يستمد قوته وفعله من فصح الجمعة. وكان يستحيل على الكنيسة أن تفهم فصح الصليب أو تنتفع به، إلا بتأسيس ‏فصح الخميس!!
8- واضح من تسمية الخبز الذي أخذه المسيح عل يده باعتباره جسده أنه خبز خمير: «خبز»‏، وليس «فطيراً»‏، في حين أنه في يوم الفصح يتحتم تحتيما أن يكون فطيراً، والكنيسة المسيحية لا تزال تستخدم الخبز المختمر، وحتى الكنيسة الكاثوليكية كانت تستخم الخبز الخمير وليس «البرشامة» (الفطير) حتى القرن الحادي عشر.
9- لم يُذكر في طقس عشاء الرب، في الثلاثة الأناجيل، المكونات الأساسية لعشاء الفصح الرسمي، وهي الأعشماب المرة والخروف.
10- استخدم كأس واحد من الخمر، مر على الجميع، في حين أن طقس عشاء الفصح الرسمي يتحتم أن يكون في يد كل واحد كأساً، أثناء بدء قراءة خدمة الفصح.
11- ذهاب المسيح من أورشليم إلى جثسيماني خارج المدينة، هو ممنوع يوم العيد.
12- حمل بطرس سيفاً، هو أمر محرم قطعاً يوم العيد.
13- مجيء سمعان القيرواني من الحقل، وهو الذي سخروه لحمل الصليب، يعني أنه كان يعمل في ذلك اليوم، وهو أمر محرم قطعاً يوم العيد.
14- شراء يوسف الرامي الكتان والحنوط، أمر مستحيل يوم العيد, فلا محلات مفتوحة, ولا سماح للبيع والشراء في يوم العيد.
15- مكتوب في إنجيل القديس يوحنا: «وكان استعداد الفصح ونحو الساعة السادسة فقال اليهود هوذا ملككم» (14:19)، «ثم إذ كان استعداد، فلكي لا تبقى الأجساد على الصليب في السبت … » (31:19). هذا هو الاستعداد «الجمعة» الذي يسبق الفصح.
‏وهنا ينقسم العلماء إلى مجموعتين: مجموعة تقول بأن «أكل الفصح» (يو28:18) عند القديس يوحنا هو ذبح الخروف الفصحي، بينما العشاء الفصحي هو يوم الجمعة 14 نيسان. وهذه المجموعة يتبعها بعض الآباء القديسين الذين شرحوا إنجيل القديس يوحنا مثل القديس كيرلس الكبير ومن العلماء‏: ماير، كييم‏، دي برسانسيه‏، بو ير‏، نياندر‏(حاخام يهودي متنصر)‏، إبرارد، إيفالد، وستكوت, جوديه، لوكه وآخرون.
‏أما المجموعة الأخرى فتقول بأن يوم الصلب ليس هو يوم الفصح 14 نيسان، بل إن يوم الفصح هو 15 نيسان, وأن يوم الجمعة هذا يتبع الفصح فقط وهو المخمتص لأكل «الشجيجة»، وليس الفصح، وهي ذبيحة سلامة إضافية للعيد، وهؤلاء لا يعنوننا، لأننا نعتقد أن الرأي الأول هو الأصح.
قول للقديس كيرلس الكبير في هذا المعنى: [«اقضوا قضاء عادلاً ولا تقتلوا البريء ولا البار»، كان هذا نص الناموس. ولكن هؤلاء ‏البؤساء لم يخجلوا، كون أدلة الإتهام لم تسعفهم ليقيموا دعواهم ضد المسيح، بل إذ وجدوا أن قيامهم أصلاً ضد المسيح بلا سبب، واذ هم ممنوعون من قتله بأيديهم, وقد اقترب ميعاد ذبح الكفارة, فإذ قرب ميعاد ذبح خروف الفصح بحسب الناموس, ولو أنهم كانوا فاقدين قوته, أحضروه إلى بيلاطى معتقدين بجنونهم أنهم لن يحملوا وزر إهراق دمه ظلماً ما داموا لم يسفكوا دمه بأيديهم، فأحضروه ليُقتل بيد آخر؛ مع أن الذي أضمروه في قلوبهم مخالف بجملته لقانون موسى.]
‏واضح هنا أن القديس كيرلس الكبير يقول بأن يوم صلب المسيح هو 14 نيسان ميعاد ذبح الخروف.
‏والسبب الأول على أن قول القديس يوحنا هو ما يخص أكل الفصح الرسمى وأن اليهود لم يدخلوا دار الولاية لئلا يتنجسوا فيمتنع عليهم أكل الفصح الرسمي, هر أن معظمهم كان رؤساء كهنة وكهنة، وهم المنوط بهم ذبح خروف الفصح باعتباره عملاً طقسياً رسمياً في الهيكل. فالأمر لا يختص بالأكل فقط ولا كان مجرد الاستحمام بعد غروب الشمس يعطيهم حق الأكل من الفصح، ولكن الذي منعهم بالفعل هو خوفهم من تعطيل طقس ذبح الخروف الذي يتحتم أن يكون في الغروب. فإذا تنجسوا, امتنع عليهم الاقتراب من طقس الذبح حتى إلى ما بعد الغروب.
‏أما السبب الثاني الذي يؤكد أن يوم الجمعة هذا هو يوم الفصح 14 نيسان, الذي يُذبح فيه الخروف، فهو أنه يتعذر، بل ويستحيل أن يكون يوم الخميس وهو يوم القبض على المسيح ومحاكمته طول الليل، هو اليوم الذي يذبحون فيه الفصح, لأن هذا معناه أن صلب المسيح يكون بالتالى في العيد (15 نيسان)، الأمر الذي تحاشاه اليهود ما أمكن.
السبب الثالث: يلاحظ أن رؤساء الكهنة ومجمع السنهدريم أرادوا أن يتحاشوا إمدار حكمهم بموت المسيح، حسب الأصول القضائية الناموسية، ثاني يوم بعد التحقيق, لئلا يكون ذلك في العيد 15 نيسان، فاضطروا اضطراراً أن يصدروه في نفس يوم التحقيق 14 نيسان في الفجر، مخالفين بذلك قواعد الناموس، ولكن عن اضطرار تورطوا فيه.

29:18 فَخَرَجَ بِيلاَطُسُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: «أَيَّةَ شِكَايَةٍ تُقَدِّمُونَ عَلَى هَذَا الإِنْسَانِ؟».

‏لا بد أن بيلاطس أخذ علمأ بعذر اليهود عن الدخول إلى دار الولاية، ولعلمه بتعصبهم العنيد لعوائدهم الدينية لم يشأ أن يرغمهم, بل خرج هو خارج دار الولاية، وبدأ يستجوبهم بشيء من الرسمية.
‏«أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان»: ‏تعبير يحمل كثيراً من المعاني والأحاسيس، فهو أولاً يعرف موضوع هذه القضية جيداً، فهو الذي أصدر الأمر للقائد بالقبض على يسوع بناء على طلب وإلحاح من رؤساء الكهنة، وكان سلوك القائد يدل على أنه كان هناك توصية خاصة بترحيل المقبوض عليه إلى المكان الذي عينه اليهود «بيت حنان»، وهو بيت غيررسمي. ولكن معروف أن هناك علاقات بين هذا الرئيس المتقاعد وكل الهيئات الرسمية.
‏والسؤال هنا، لماذا يبدو بيلاطس وكأنه يتجاهل القضية برمتها؟ بل وسؤاله يحمل شيئاً من الارتياب في نيات اليهود، بل ومن قويه: «هذا الإنسان» يبدو وكأنه يعطف نوعاً ما على وضعه.
‏هنا يفيدنا أن نأتي بقول للقديس متى، له وزنه: «وإذ كان جالساً على كرسي الولاية، أرسلت إليه امرأته قائلة: إياك وذلك البار. لأني تألمت اليوم كثيراً في حلم من أجله» (مت19:27). إذن، فامرأة بيلاطس، وبالتالي كل أسرته، وشخصه أيضاً، يعرفون ماذا كان يجري من وراء الكواليس في الخفاء، ويعلمون من هو «هذا البار»، وهم قد سمعوا عنه الشيء الكثير والكثير! في سؤال بيلاطس شيء من الاستنكار لما عملوه واتفقوا عليه، ولكل الإتهامات التي لُفقت مسبقاً, وبلغت أسماع بيلاطس من بعيد. وقد ظل هذا السؤال على فم بيلاطس طوال المحاكمة، إذ لم يكن مقتنعاً قط بكل ما يقولونه ويطلبونه, والى أخر لحظة.
«بيلاطس»: هو خامس وال على البلاد (أي اليهودية، وهي الجزء الجنوبي من فلسطين وعاصمته أورشليم)، وذلك من سنة 26م وظل حتى سنة 36م. ويصفه العلامة فيلو اليهودي الإسكندري أنه (متغطرس، إنسان لا يمكن أن يُضط، يبغض العوائد اليهودية المتعصبة المتحيزة. وقد اشتبك كثيراً مع اليهود فأظهر طباعأ شرسة, له نوبات من الغضب الذي يثير أحاسيس الناس بقسوته، فمن الممكن أن يحكم بالإعدام بدون محاكمة وبدون اتهام، كما اشتهر أنه بلا إنسانية).

30:18 أَجَابُوا: «لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلَ شَرٍّ لَمَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَاهُ إِلَيْكَ!».

صُدم اليهود من سؤال بيلاطس، إذ لم يكونوا ستعدين لأي تردد, فكشفوا في الحال عن آخر ما في نيتهم من الأمر ملحين أن ينفذوا حكمهم، في اقتضاب وخشونة ووقاحة، وفي الحال كان رد بيلاطس على رغبتهم في الاستقلال برأيهم,ء أن: «خذوه أنتم واصنعوا به كل ما تريدون»، بجفاء أشد، ملمحاً إلى أن ناموسهم طالما هو مقيد, إذ كان ممنوعاً عليهم إصدار أحكام بالإعدام, إذا، فيلزم أن يخضعوا للقانون الروماني.

31:18 فَقَالَ لَهُمْ بِيلاَطُسُ: «خُذُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ». فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَداً».

‏يكاد بيلاطس أن يسخر «بهم» و«بناموسهم»: «خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم»، إنما بشيء من التعال والغطرسة، في مقابل وقاحتهم.
‏واليهود، وذ ضيق عليهم الخناق هكذا، لم يكن أمامهم أي اختيار غير أن يعلنوا عن طلبهم ويقفوا عنده بعناد وإصرار، واختاروا من الاتهام ما يجعل بيلاطس ينتبه إلى خطورة مطلبهم, وإلى حتمية النظر فيه لأنه من صميم اختصاصه.
«لا يجوز لنا أن نقتل أحداً‏» : أما «القتل» فهو فعلاً من اختصاص المحكمة الرومانية وحدها. ولكن كان في اعتبارهم أنهم لم يأتوا إلى بيلاطس ليناقشهم في حكمهم الذي حكموا به وانتهوا منه، إنهم يطلبون التنفيذ وحسب! وعند هذه النقطة الحرجة للغاية، يتدخل القديس يوحنا، ويرفع عنا هذا الكابوس الضاغط على صدورنا نتيجة مسلك رؤساء الكهنة هذا، والذي بلغ هنا أقصى ما يحتمل بشر، وذلك بجملة إعتراضية:

32:18 لِيَتِمَّ قَوْلُ يَسُوعَ الَّذِي قَالَهُ مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ.

‏لأنه معروف أن اليهود لو كانوا هم الذين نفذوا الحكم الذي انتهوا إليه بقتل المسيح، لتم ذلك بحب الناموس, «احكموا عليه حسب ناموسكم», رمجاً بالحجارة. ولكن المسيح أعلن مراراً أنه سيُصلب!! وبتعبير إنجيل القديس يوحنا أنه سيُرفع أو يرتفع عن الأرض، كما رفع موسى الحية النحاسية على العصا في البرية. وليس ذلك فقط، بل إن المسيح سبق وأعلن أن ابن الإنسان يُسلم لأيدي الأمم!! من هذا نفهم ونتأمل في أعاجيب سياسة الله. كيف دخلت الأمم في قلب الأمة ‏اليهودية, وتعين بيلاطس على اليهودية حتى يشترك اليهود والامم, ممثلين عن العالم كله, في تقديم ذبيحة الفداء والخلاص عن اليهود وأمم العالم كله, كما هو مكتوب: «ها نحن صاعدون إلى أورشليم, وابن الإنسان يُسلم إلى رؤساء الكهنة والكتبة, فيحكمون عليه بالموت، ويسلمونه إلى الأمم لكي يهزأوا به, ويجلدوه، ويصلبوه، وفي اليوم الثالث يقوم» (مت18:20-19)، الأمر الذي تممه اليهود والأمم بالفعل والحرف الواحد!
‏وفي موت المسيح على الصليب، استعلن على الملأ كيف تنازل المسيح عن حياته متكبداً في ذلك أفدح الآلام والمهانة والمذلة، ليكمل كل عقوبة ممكنة عن كل من يستحق العقوبة، فيبرر مجاناً كل من يؤمن بهذا الصليب وآلامه! أما من وجهة نظر توراة اليهودى فقد أكمل اللعنة التي ينبغي أن يتحملها الإنسان وحده كميراث آدميته، لما عُلق على الخشبة!!
‏عجيب هو هذا القديس يوحنا الإنجيلي, كيف استطاع في هذه اللحظة التي اشتبكت فيها السياسة اليهودية مع السلطة الرومانية لتقدح منها نار الغضب مع الكبرياء, والتعصب مع العنف, فيفك هذا الاشتباك المعقد المفزع بأن يرده إلى سر الخلاص والفداء، وحتمية الصلح بالصليب؛ كما رسمها المسيح نفسه المحسوب أنه هو الذي وضع الخطة التي قام بتنفيذها، دون أن يدري المتنازعون!!
‏وربما يعطينا القديس لوقا مفتاحاً سهلاُ ندخل به إلى سر تحول قلب بيلاطس من قاض يستنكر الاتهامات التي كان يصبها رؤساء الكهنة على المتهم: «أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان»؟ إلى قلب يأمر بالصلب! يقول القديس لوقا: «وابتدأوا يشتكون عليه قائلين: إننا وجدنا هذا يفسد الأمة, ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر قائلاً إنه هو مسيح ملك» (لو). فكان وقع هذا الاتهام شديد الوطأة بالنسبة لبيلاطس. ولو أنه تعجب أن هؤلاء الكهنة المتعصبين الثائرين يقولون هذا، وهم كانوا دائماً على نزاع وتمرد مع السلطة الرومانية بسبب امتناعهم عن الإلتزام بدفع الضرائب. كان رياؤهم ممزوجاً بخبث شنيع، مسنوداً بصياح وهياج شعبي منسق بدعوى الوطنية، وهو مدفوع دفعاً ليلعب دور التهديد. لقد أحس بيلاطس بنذير الشؤم يزحف نحو كرسيه!!
‏ولكن لم يفت على بيلاطس، كما لا يمكن أن يفوت عل القارىء، أن هذه التهمة عينها لو صحت, وهي إدعاء مناداته بعدم إعطاء الجزية لقيصر، وهي التهمة التي يتسترون وراءها, لكان يمكن أن ترفع من شأن هذا المتهم المطلوب قتله ليكون زعيم الأمة اليهودية والمنادي بخلاصها، لأنهم كانوا في تلهف على مثل هذا المخلص، لولا ما يحملونه نحوه من حقد وحسد ‏وضغينة.

الجزء الثانى من سير القضية
داخل الولاية (33:18-37)
«الأعتراف الحسن»

33:18 ثُمَّ دَخَلَ بِيلاَطُسُ أَيْضاً إِلَى دَارِ الْوِلاَيَةِ وَدَعَا يَسُوعَ وَقَالَ لَهُ: «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟».

‏هذا الفحص السري داخل دار الولاية الذي جرى بين بيلاطس والمسيح دون حضور رئيس الكهنة، ولا شهود من أي نوع، يختص به القديس يوحنا وحده في إنجيله، فقد اختص وحده بسرد وقائع محاكمة المسيح أمام حنان أيضاً بدون شهود. لذلك، فالمعروف أن القديس يوحنا كان حاضراً في كل من المحاكمتين.
‏هذا السؤال الأول الذي سأله بيلاطس للمسيح، نجده في الأناجيل الأربعة على السواء، لأن هذا اللقب «ملك اليهود» استرعى انتباه بيلاطس، لأنه خطير بحد ذاته، فهو يحمل وراءه حركة تعصب لـ «ملك اليهود» كما يحمل وراءه أطماعاً وخططاً، وهذا ما قصده اليهود قصداً أن يرسموه في فكر بيلاطس. لقد سمع بيلاطس هذا اللقب عن المسيح أول ما سمع، وذلك عندما «… دخل أورشليم, ارتجت المدينة كلها قائلة: من هذا؟ فقالت الجموع: هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل» (مت10:21-11)، «قائلين مبارك الملك الآتي باسم الرب, سلام في السماء ومجد في الأعالى» (لو38:19)، «أوصنا (خلصنا)، مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل» (يو13:12)
‏هذا الهتاف المدوي، الذي ملأ سماء أورشليم، ورج الهيكل، وأرعب قلوب رؤساء الكهنة، لم ينسه حنان ولا قيافا أبداً: «فلما رأى رؤساء الكهنة والكتبة العجائب التي صنع، والأولاد يصرخون في الهيكل ويقولون: أوصنا لابن داود، غضبوا وقالوا له: أتسمع ما يقول هؤلإء» (مت15:21-16)، «… يا معلم انتهر تلاميذك, فأجاب وقال لهم: أقول لكم إنه إن سكت هؤلاء، فالحجارة تصرخ» (لو39:19-40‏). أما الآن, فقد جاء وقت التشفي وتصفية الحساب … ولم يدر هؤلاء الحاقدون والمتشفون أن هذا اليوم هو هو يوم التجلي وتنصيب الملك على خشبة, هو يوم الخلاص الآتي من الأعال فعلاً، يوم سلام في السماء ومجد على الأرض حقاً، يوم إعلان بدء مملكة أبينا داود الأبدية، مملكة المسيح أصل وذرية داود، كوكب الصبح المنير.
‏والآن يسمع بيلاطس هذا اللقب من رؤساء الكهنة وحشود الشعب المأجور والمدفوع على أنه هو علة للصلب: «وكان رؤساء الكهنة يشتكون عليه كثيراً (بخصوص لقب الملك). فسأله بيلاطس أيضأ قائلاً: أما تجيب بشيء. انظركم يشهدون عليك. فلم يجب يسوع أيضاً بشىء حتى تعجب بيلاطس» (مر3:15-5‏). هذه المواجهة أغفلها إنجيل يوحنا، ولكن القانون الروماني يحتم أن تكون كل شكوى في حضور المتهم، ولكن ذلك تم قبل أن يدخل بيلاطس إلى دار الولاية، وذلك بحسب رواية مرقس الرسول. فدخل بيلاطس دار الولاية واستدعى المسيح سراً وبدأ يسأله كما في الآية السابقة (33:18‏)، لا كمتأثر بطبيعة المتهم الهادىء الصامت, ولكن كمتعجب من سلوك متهم مُقدم للموت، وكأنه لا يبالي بالموت. ولو كان هؤلاء المتعطشون إلى الدماء صادقين في إلصاق هذه التهمة السياسية عليه, فأين أتباعه ومعاونوه؟ أين الذين يسعون لتمليكه؟ كان هذا يدور في فكر بيلاطس ويتعجب!!

34:18 أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَمِنْ ذَاتِكَ تَقُولُ هَذَا أَمْ آخَرُونَ قَالُوا لَكَ عَنِّي؟».

‏ليس هذا جواباً، بل سؤالاً من المسيح، تحذيراً خطيراً، وذلك لكي يفرق بيلاطس بين ما يشعر به هو من جهة الحق وبين ما يسمعه كذباً وتلفيقاً من اليهود. أما إن كان الآخرون هم الذين يقولون عني هذا، ففي توراتهم مكتوب إني لهذا وُلدت بقسم الله من فوق: «أقسم الرب لداود بالحق, لا يرجع عنه, من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك» (مز11:132)، لا كملك وحسب، بل وملك الملوك ورب الأرباب، لا كملك على أجساد، بل على أرواح وضمائر وقلوب!! كرسي ليس على الأرض، بل في السماء، ومجلسى عن يمين عرش الله!
المسيح لا يجاوب، بل يسأل مرة أخرى، ماذا يعني بيلاطس من سؤاله، هل لكي يعرف الحقيقة: «أمن ذاتك تقول هذا»؟ وكأن ضميرك يطلب الحق؟ أم آخرون يدسون عليك اللقب لتحاكمني بمقتضاه؟ هل هذا اللقب يعنيك أنت «ذاتك» (شخصياً)؟ وهنا «الملك» يأخذ معناه الروحي العالى الذي لا يتعارض مع وظيفتك وسياستك ورئيسك! أم أنه يعني الشاكين، الذين يُلبسون اللقب ثوب السياسة والخيانة والغدر؟
‏لقد نجح المسيح في استجوابه لبيلاطس أن يصحح عنده مفهوم لقب «ملك». فإن كان هو من ذاته يقول هذا, فهو لقب صحيح مائة بالمائة, لأنه يكون قد قاله عن وعي صادق؟ أما إن كان نقلاً عن آخرين فهو مرفوض من المسيح، كما هو مستنكر من بيلاطس سواء بسواء!! وإلا أين أعواني وما هي مظاهر مطالبتي بالملك؟

35:18 أَجَابَهُ بِيلاَطُسُ: «أَلَعَلِّي أَنَا يَهُودِيٌّ؟ أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ. مَاذَا فَعَلْتَ؟»

‏لقد فهم بيلاطس الدرس تماماً، وعن صحة، مما يفيد أن روحه بالفعل تتحرك فيه، لأنه يرد على الإحتمال الأول كأنه بالإيجاب: «ألعلي أنا يهودي؟»، لأن الذي يقول عنك أنك ملك بالحق يلزم أن يكون يهودياً، أو ينبغي أن يصير يهودياً، ولكني على غير استعداد. أنا روماني، ووظيفتي محقق، ماذا فعلت؟ إجابة بيلاطس فيها وعي حقيقي، وفيها أيضاً رجعة عن الحق والوعي!!
«أُمتك ورؤساء الكهنة أسلموك إلي»: «أُمتك» بالمعنى السياسي الجنسي: «أمة اليهود», أسلمت ملك اليهود؟ يا للعجب عند بيلاطس! لأن أشد ما كان يتوق إليه اليهود هو أن يرزقهم الله بملك يحررهم من نير الرومان، هذا كان يعلمه بيلاطس تمام العلم. والآن هم يقدمون من يقولون إنه ملك اليهودى ليُقتل: «إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله» (يو11:1). بيلاطس يتبرأ من أي مفهوم «للملك» قال عنه المسيح، لا المفهوم الإلهي ولا المفهوم السياسي، وألقى اللوم المضاعف على أمته وعلى رؤساء الكهنة!! «ضعوا أنتم هذا الكلام في آذانكم، إن ابن الإنسان سوف يُسلم إلى أيدي الناس» (لو44:9‏)، «إن إله إبراهيم واسحق ويعقوب، إله آبائنا, مجد فتاه يسوع, الذي أسلمتموه أنتم, وأنكرتموه أمام وجه بيلاطس، وهو حاكم بإطلاقه.» (أع13:3)
‏ويكاد رد بيلاطس أن يكون صارخاً، مؤكداً للمسيح أنه إذا كان هو الآن بين يدي الحاكم الروماني، فأُمتك اليهودية ورؤساء الكهنة هم الذين جحدوا ملوكيتك, كانت ما كانت, وكل مؤهلاتك.
‏ماذا فعلت. أو ما هو السبب في كل هذا؟ هذا ما كان يحير بيلاطس بالفعل.

36:18 أَجَابَ يَسُوعُ: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هَذَا الْعَالَمِ لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلَكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا»

‏«كنت أرى في رؤى الليل, وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان، أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه. فأُعطي سلطانا ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض.» (دا13:7-14)
‏لا يزال المسيح يفتح وعي العالم على حقيقته: «أنتم من أسفل» أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم» (يو23:8). وهذا هو سر التعارض الهائل الذي أنتج هذا الهياج, وهذه المحاكمة، وهذه المرارة. أما «ماذا فعلت», فالرد الذي لا يُقال ولا يُسمع: ما فعلت هو أني نزلت إلى الأرض، جئت إلى خاصتي، النور أضاء في الظلمة، والظلمة لم تدركه. أنا ملك السلام، ومملكتي هي الحق, وخدامي هم أبناء النور.
‏حينما طلبتم القبض علي سلمت نفسي لكم في سلام وخضوع، لأن ملكوتي لا يضيره القيود ولا يشينه القبض ولا المحاكمة، ولا الموت يجوز عليه، فهو فوق هذا وذاك.
‏لست كأمتي, أنا لا أعتبركم أعداء لى، فأنا صديق العالم كله. وحتى لو كنتم أعداء أمتي، فأنا أحبكم، لأني أنادي: «أحبوا أعداءكم» (مت44:5‏)، فكيف تظن في العنف؟ مملكتي ليست هنا ولا من هنا، فأنا أستمد سلطاني من فوق، وخدامي هم أيضأ ليسوا من هذا العالم, كما إني أنا لست من هذا العالم. فلو كانت مملكتي من هذا العالم وخدامي من هذا العالم، لكانوا الآن يحاربون عني حتى لا أُسلم إلى اليهود.
«لكي لا أُسلم إلى اليهود»: اليهود هنا، ومن فم المسيح، ليسوا يهود التوراة، ولا إسرائيل الله, ولا الشعب المحبوب المختار، بل يهود العالم والسياسة الذين جعلوا «بيت أبي بيت تجارة» (يو16:2)، والذين يصفون عن البعوضة تأففاً من النجاسة, ويبلعون الجمل بما حمل بلا ملامة، الذين ينهبون بيوت الأرامل، ولعلة يطيلون الصلوات, الذين جلسوا على كرسي موسى يعلمون الحق، وعملوا أعمال أبيهم، الذي كان قتالاً للناس منذ البدء!
‏واضح هنا لماذا اشترط المسيح لكي يُسلم نفسه لهم طواعية أن يتركوا التلاميذ يذهبون أحراراً!! لأن المسيح أراد أن يسلم نفسه في سلام, ورفض أن يكون له في الضيق أعوان! كذلك، فإن رد المسيح هنا على بيلاطس يشرح معنى ما قاله القديس متى في إنجيله: «إذا مجوس من المشرق قد جاءوإ إلى أورشثليم قائلين: أين هو المولود ملك اليهود؟» (مت1:2-2). كما يشرح أيضاً معنى «ملكوت السموات» فهي «مملكتي التي ليست من هذا العالم».
خدامي هم خدامكم, وخدام العالم كله، لأنهم كما قلت ليسوا من العالم أصلاً. أسلحتي هي الحق والبر والحب والفرح والسلام؛ جئت لأغزو بها قلب العالم كله. أما وسائلي في الاستيلاء على القلوب عنوة, فهي الوداعة والاتضاع والحب الباذل حتى الموت.
‏حكومتي تقوم على أساس أن السيد هو الذي يخدم, ويغسل أرجل الذين يخدمهم؛ والأول هو الذي يجلس آخر الكل، والعظيم منهم هو أصفرهم. حربي معلنة عل الخطية، ولا مهادنة, والذي يريد أن يسخرنا ويأخذ ثوبنا, فإننا نخع له الرداء أيضا؛ والذي يسخرنا ميلاً نسير معه اثنين.
‏هذه هى مملكتي، وهذه هى سماتها وشروطها.
«والآن مملكتي ليست من هذا العالم».

37:18 فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: «أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهَذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا وَلِهَذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي».

جملة نصفها استفهامي، ونصفها تعجبى, بروح تهكمية نوعا. إجابة المسيح: «أنت تقول»، معناها أن ما قاله بيلاطس يقع في موضع لا يقبل النفي ولا الإيجاب! فلا هو يقبل هذا اللقب من فم بيلاطس, ولا هو يرفضه؛ لأن بيلاطس يضع اللقب في موضع الفهم اليهودي كما سمعه منهم دون أن يلتفت إلى المعنى والشرح الذي قاله المسيح. ثم ابتدأ المسيح يوضح له المعنى الحقيقي لما قاله بيلاطس نفسه:
«لهذا قد وُلدت أنا, ولهذا قد أتيت إلى العالم»: [هنا يورد القديس يوحنا النص الوحيد الذي يفيد ميلاد المسيح].
«لهذا وُلدت أنا», تجعل لملوكيته سبق تعيين. فهو لم يولد كأي إنسان لكي يعيش أولاً، ثم الظروف هي التي تحدد إمكانية أن يكون ملكاً، بل إنه وُلد ليكون ملكاً؛ أو أنه تعين ملكاً قبل أن يولد، فلما وُلد استعلن ملكاً بالضرورة, أي أن ملكونه غير مستحدث ولا هو زمني، فهو معين قبل الزمن، وقائم في الزمن بلا تعيين أي بلا حدود, فهو ملكوت من فوق يستمد وجوده، وهو أزلي! هذا هو الاعتراف الحسن أمام محكمة تمثل أقوى دولة في العالم آنئذ.
«ولهذا قد أتيت إلى العالم»: توضيح ما بعده توضيح، أنه ليس من هذا العالم، وأن كيانه الدائم فوق العالم، ولكن «لهذا», أي «لقيام مملكته أو ملكوته في العالم بين الناس»، هو أتى إلى العالم من خارج ‏العالم: «تجسد».
‏فالمسيح هنا، لا يجيب بكونه ملكاً فقط، بل هو يجيب ليؤكد لبيلاطس أن مملكته قائمة على أسس ثابتة وأزلية، وأنها لا تستمد قوتها أو وجوها من سلطة أرضية، ولا من أي قوة أرضية. علماً بأن كلمة :أتيت» تفيد الإتيان المستمر غير المنتهي، وليس كما جاءت في الترجمة العربية كفعل ماض منته، فهو آت، ويأتي، وسيأتي، ويبقى «آت إلى العالم»: هذا هو الاعتراف الحسن، والجملة كلها تفيد لاهوته.
«لأشهد للحق»: ‏هنا، الحق هو بمفهومه المطلق، أي الحقيقة الكلية، التي هي المجال الذي يحيا ويعمل فيه
المسيح.
‏والإنسان الذي ينفتح قلبه وتنفتح بصيرته لهذا الحق, يدرك في الحال معنى ما يقوله المسيح بمجرد أن يسمعه.
‏والمسيح يشهد للحق، لا كأنه يشهد لشيء خارج عنه، بل هو يشهد للحق باستعلان ذاته، وعلاقته بالله أبيه، لأنه هو الحق! هذا هو الاعتراف الحسن.
«كل من هو من الحق»: ‏أي «كل من يستمد من الحق فكره وقوله وعمله وسلوكه، كل من جعل الحق مصدراً يستمد منه حياته، كل من أحب الحق وعشقه وسار على هداه ووحيه…». هذا، حتماً، يسمع صوت المسيح ويفهمه؛ وصوت المسيح يصير له حياة أبدية: «الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي، ويؤمن بالذي أرسلني, فله حياة أبدية» (يو24:5). المسيح، هنا، يخاطب ضمير بيلاطس وكل ضمير لكل إنسان.
‏«الاعتراف الحسن» الذي شهد به المسيح أمام بيلاطس، شمل عناصر الإيمان جميعاً:
أ‌- أنه وُلد ليعلن ملكوت الله بالحق الذي يقوله، ويملكه، ويملك عليه.
ب‌- أنه نزل من السماء، وأتى إلينا على الأرض، ليؤسس ملكوت الحق.
كل من يسعى ويجد في أثر الحق, يُستعلن له المسيح والحق والحياة.

38:18(أ) قَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: «مَا هُوَ الْحَقُّ؟».

‏لم يرفض بيلاطس كلام المسيح, ولكنه لم يفهمه، ولم يجد في داخله مدخلاً إليه؛ ويلاحظ أن كلمة «الحق» الذي يستفسر عنه بيلاطس لا يأتي قبلها (في الكلمة اليونانية الأصلية) أداة التعريف «ألـ». أما «الحق» الذي يتكلم عنه المسيح فهو «الحق» معرفا بـ «أل» ‏ليعطي ويغطي مفهوم الحق الكلي, وهذا يوضح أنه لم يعثر على مفتاح الحق الحقيقي. سؤال بيلاطس يخلو من الجدية, سؤال من لا يعرف، ومن لا يريد أن يعرف، سؤال نصفه حزين، يمثل العجز والقصور, والنصف الآخر استنكارتي، يمثل الجهل والتمادي فيه، لأن بيلاطس أراد أن يبحث عن الحق في الحياة الأرضية، وفي حياة الإنسان الأرضي. والحق لا يوجد في الزائلات، فكل ما هو متغير ليس حقاً، ولا يؤول إلى حق، وكل ما هو زائل يحكم على نفسه بالخداع والتفاهة. الحق يبقى إلى الأبد، ولا يؤول إلا إلى حق أكثر.
«الحق عند المسيح» هو«كلامك هو حق» مخاطباً الآب (يو17:17). كل ما يصدر من الله هو الحق. ولأن عمل المسيح الأول، هو استعلان الله، وكلمة الله وعمل الله وإرادة الله، لذلك فالمسيح وكل ما يقوله المسيح هو «الحق». لذلك قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة» (يو6:14)؛ ولأنه يوصل إلى الله، فهو الطريق الواحد الوحيد الحقيقي، ولأنه يوصل إلى الله، فهو الحياة الأبدية، وكل من يسمع لصوته، يحيا إلى الأبد.
«معرفة الحق» هي، بآن واحد، الدخول فيه، والحياة به وامتلاكه. لذلك كل من يعرف الحق، يتحرر من كل باطل وفاسد، فالحق يحرر. ولأن المسيح ابن الله، فقد وهبنا أن نتحد به لبلغ إلى بنوة الآب، لذلك «فالابن يحرر»: «فإن حرركم الابن، فبالحقيقة تكونون أحرارا.» (يو36:8)
‏والحق حينما يحرر يقدس، أي يحفظ الإنسان من الشر والعالم، يحفظه في الله لله: «قدسهم في حقك» (يو17:17). فالحق والله, والحق والمسيح، والحق والحرية، والحق والقداسة, والحق والحياة الأبدية، هي متساويات مطلقة. والحق لا ينقسم، ولا يتجزأ، فهو كل مطلق. لذلك، فهو مصدر الوحدة الحقيقية. لذلك أيضاً، فالذين أحبوا الحق وعاشوه, هم واحد، لأنهم صاروا متحدين في الواحد وبالواحد، فالحق يوحد، وهو رجاء الإنسان المتفتت.
‏الحق واحد أحد مطلق. لذلك، كل ما هو قابل للازدواج، وكل ما ينقلب إلى ما هو ضده، هو خداع وزائل.
‏فالنور الذي ينقلب إلى ظلمة، هو خداع، النور والظلمة كلاهما, أما النور الحقيقي، فهولا ينطفىء قط، وليس فيه ظلمة البتة.
‏والفرح الذي ينقلب إلى حزن, هو خداع، الفرح والحزن كلاهما، أما الفرح الحقيقي فهو لا يُنزع قط، ولا يقدر العالم أن يلغيه.
‏والسلام الذي يتحول إلى قلق واضطراب, هو خداع، السلام والقلق كلاهما، لأن السلام الحقيقي يبدد كل قلق واضطراب في العالم.
‏والحياة التي تنتهي بالموت هي خداع، الحياة والموت كلاهما، أما الحياة الحقيقية فليس فيها موت، وهي حياة أبدية.
كل من يعرف الحق ينفتح وعيه المسيحى ويدرك الغش والخداع, والإنقلاب والتقلب هما الأساس الذي يقوم عليه العالم بكل مظاهره وأمجاده، لأن «العالم كله قد وُضع في الشرير» (1يو19:5‏)، ولأن رئيس هذا العالم «ليس فيه حق» (يو44:8). ولا يمكن أن يتآلف الحق مع الخدام، فكأس الله ليس فيها موضع لكأس الشيطان (1كو21:10).
‏لذلك، فأولاد النور يبغضون أعمال الظمة، وأولاد الحق يقاومون إبليس فيهرت منهم!
‏وتماماً تماماً، كما لا يمكن أن يتعامل النور مع الظلمة، فالنور أيضاً يبدد الظلمة أينما وكيفما كانت، والظلمة لا تدرك النور قط. لذلك، إن قلنا أننا في الحق أو أن لنا شركة مع اللهه، ثم سلكنا في الظلمة، نكذب وليس الحق فينا (راجح ايو6:1).
‏والقديس يوحنا أقوى من أدرك قطبي الحق والخداع: «نعلم أننا نحن من الله، والعالم كله قد وُضع في الشرير» (ايو19:5‏). أما الحق فقد أسسه المسيح: «ونعلم أن ابن الله قد جاء، وأعطانا بصيرة (الوعي المسيحي) لنعرف الحق. ونحن في الحق، في ابنه يسوع المسيح، هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية.» (ايو20:5)
‏وبسؤال بيلاطس للمسيح: «ما هو الحق؟», يتضح أنه نسي, إلى حين, أن من يسأله عن الحق هو متهم مقدم للاعدام. ولكن المسيح أنشأ بوجوده أمام بيلاطس مجالاً ذا تأثير على فكره, جعله يسرح ببصره فيما هو أعلى من قامته: ما هو؟ ما هو الحق؟
‏وإلى هنا فقد بيلاطس صبره تجاه تجني اليهود على المسيح، وإزاء هذه الإتهامات الهابطة التي لا تتناسب قط مع هذا الإنسان الشامخ والمتعاظم في تفكيره، الذي جاء ليشهد للحق! لقد عيل صبره، وتحركت فيه أحاسيس العدالة، فانفجرت فيه غضبة الحاكم الروماني، وصمم أن ينتزع من هؤلاء الملفقين حق إطلاقه

الجزء الثالث من سير القضية
خارج دار الولاية (38:18(ب)-40‏)
‏الإعلان الأول عن براءة المسيح

38:18 (ب) وَلَمَّا قَالَ هَذَا خَرَجَ أَيْضاً إِلَى الْيَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً.

‏كان حديث المسيح مع بيلاطس، هو الذي أقنع بيلاطس أن يخرج إلى اليهود ويعلن لهم عن براءة المسيح من كل التهم التي وُجهت إليه. فكانت هذه صفعة غير متوقعة لرؤساء الكهنة، الذين كانوا قد أحكموا كل الخطط كى ينتهوا من المسيح بأسرع ما يمكن.
‏وكان رد فعل رؤساء الكهنة واليهود سريعاً ومنسقاً:
+ «فدعا بيلاطس رؤساء الكهنة والعظماء والشعب، وقال لهم : قد قدمتم إلي هذا الإنسان كمن يفسد الشعب، وها أنا قد فحصت قدامكم، ولم أجد في هذا الإنسان علة مما تشتكون به عليه، ولا هيرودس أيضاً، لأني أرسلتكم إليه، وها لا شيء يستحق الموت صُنع منه! فأنا أؤدبه وأطلقه. وكان مضطراً أن يطلق لهم كل عيد واحداً».
‏«فصرخوا بجملتهم قائلين: خذ هذا, وأطلق لنا باراباس»!…
«فناداهم أيضاً بيلاطس، وهو يريد أن يطلق يسوع. فصرخوا قائلين: اصلبه اصلبه» .
«فقال لهم ثالثة: فأي شر عمل هذا؟ إني لم أجد فيه علة للموت! فأنا أؤدبه وأطلقه».
«فكانوا يلجون بأصوات عظيمة طالبين أن يُصلب».
‏«فقويت أصواتهم، وأصوات رؤساء الكهنة.» (لو13:23-23‏)
‏لم يكن الشعب, من نفسه، يطلب باراباس ولا أن يُصلب المسيح، ولكن كان هذا قد لقنه لهم رؤساء الكهنة: «فهيج رؤساء الكهنة الجمع لكى يطلق لهم بالحري باراباس» (مر11:15)
‏المفارقة هنا شاسعة بين هدوء واتزان ورجاحة فكر بيلاطس، في مقابل هياج وخبث وعنف وفقدان أعصاب رؤساء الكهنة، ممثلى الله والشعب المختار.

وقفة قصيرة

‏مراجعة قانونية في أسلوب الاتهام: كيف يطلب رؤساء الكهنة أن يطلق لهم باراباس، وهو متهم مسجون بالفعل ومدان كفاعل شر، بنفس التهم وأكثر مما يلصقونها بالمسيح؟
‏«وذاك كان قد طُرح في السجن، لأجل فتنة حدثت في المدينة وقتل» (لو19:23). (فتنة أدت إلى إزهاق أرواح، وتعني نوعاً من المظاهرات أو الثورات المحدودة، سياسية أو اجتماعية، من نوع تلك التي يقوم بها أرباب المهن أو الصناعات أو أحزاب الأمة من أجل مبادىء عامة). كما يتضح من رواية القديس مرقس الرسول أن باراباس سجين سياسي: «وكان المسمى باراباس موثقاً مع رفقائه في الفتنة, الذين في الفتنة فعلوا قتلاً» (مر7:15)
‏وكان الهياج والصخب المصطنع المغالى فيه جداً، من جهة شكله وأسبابه إزاء صمت المسيح وهدوئه وسكوته، سبباً لإقناع بيلاطس أكثر ببراءة المسيح . لقد أدرك بيلاطس، في هدوء وذكاء، الحقيقة التي أعلنها القديس متى: «لأنه علم أنهم أسلموه حسدا.» (مت18:27)



39:18- 40 وَلَكُمْ عَادَةٌ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ وَاحِداً فِي الْفِصْحِ. أَفَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟». فَصَرَخُوا أَيْضاً جَمِيعُهُمْ: «لَيْسَ هَذَا بَلْ بَارَابَاسَ». وَكَانَ بَارَابَاسُ لِصّاً.

[اليهود يعطون الكرامة للص قاتل، ويلحون إلحاحاً في قتل البار!!].
«أفتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود»: ‏هذا تعبير خطير يمس الاتهام الذي ترجى اليهود أن يٌصلب المسيح بسببه! بيلاطس هنا يسخر، لا من ملك اليهود ولا من اليهود، بل من رؤساء الكهنة الذين ألبسوه هذه التهمة!! وكون بيلاطس يقول, بعد فحصه على أساس بنود الاتهام كلها, أنه يطلق هذا الملك، فهذا معناه مباشرة أن المسيح ليس ملكأ بحسب إتهام رؤساء الكهنة بأنه ملك يمنع جباية الضرائب لحساب قيصر (أي ينادي بالتحرر من نير الرومان). فلو كانت مثل هذه التهمة محتملة مجرد احتمال، لكان قد احتحزه لتكميل الفحص، ولكنه الأن برأه تماماً من كل تهمة, وأهمها أنه «ملك سياسي» يطالب بملك.
‏ولكن واضح أن بيلاطس وهو يسعى لإطلاق المسيح، لم يتخذ الطريق القانوني, ولا استخدم سلطاته كقاض يقطع بالأمر بدون مشورة الشعب. لقد انزلق بيلاطس وراء فكرة الاستعانة بالشعب ضد رؤساء الكهنة, يستفتيه في أمر إطلاق المسيح في العيد حسب عادة اليهود في إطلاق أحد السجناء، وكان كأنه يستجدي الشعب، وهذا ضعف ورخاوة قضائية معيبة. ولكن الشعب, وبسرعة، تلقن من فم رؤساء الكهنة ماذا يقول، وبعكس ما يطلب بيلاطس، أي أن يطلق لهم باراباس، ويصلب المسيح. لقد أسقط بيلاطس بين يدي نفسه، وفوت عليه رؤساء الكهنة هذه المحاولة التي خرج منها خاسراً مُضعضعاً.

فاصل

فاصل

تفسير يوحنا 17 تفسير إنجيل القديس يوحنا
الأب متى المسكين
تفسير يوحنا 19
تفسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى