البابا يوحنا الحادي عشر

البطريرك رقم 89

رسامته

 ولقد ظلت السدة البابوية شاغرة مدة أربعة أشهر وثمانية أيام اجتمع بعدها المجمع المقدس ودعا إليه الأراخنة للتداول معاً. ومن نعمة الله أن اتفقت كلمة الجميع في هدوء وصفاء إذ قد وقع اختيارهم على القس الأسعد أبي الفرج كاهن كنيسة القديس مرقوريوس ( أبي السيفين ) أحد الذين اشتركوا في الشعائر المقدسة الخاصة برسامة البطريرك الأنطاکی(أنظر تاريخ البابا غبريال الخامسولقد تمت رسامة هذا الكاهن المكرم في 11 مايو سنة ١٤٢٨م باسم يؤنس الحادي عشر أيام أن كانت مقاليد الحكم في يدي الملك الأشرف برسبای .

كاتب قبطي للأمير برسباي

 وحينما كان برسباى أميراً كان في ديوانه كاتب قبطي اسمه تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله توما. فلما تولى السلطنة استمرت ثقته في كاتبة القبطى فقربه إليه وأخذ يرقيه إلى أن جعله ناظرا للاسطبل السلطاني .

غضب الطبيعة

إلا أنه من المؤلم – حين كان السلطان مسالماً واثقاً بکاتب قبطی نافذ الكلمة – أن تعصف الطبيعة بالمصريين في أشكال ثلاثة أصابت بلادنا وقتذاك وهي : زلزال ففیضان ناقص أعقبه هبوط سريع في  ستوى مياه النهر الخالد وغلاء فاحش في سعر الحاجيات ثم تفشي الوباء الذي كان يحصد المئات من الناس يومياً. وأنه لمن عجب العجاب أن تحدث هذه البلايا الطبيعية في وقت حقق فيه الملك برسباى الهدوء والعدالة للشعب المصرى قاطبة . فكان الضيق من مستلزمات الحياة لهذا الشعب في تلك الحقبة من تاريخهم. إذ أنه حتى حين حكم ملك عادل قامت الطبيعة بتنغيص الحياة عليهم ، وكان البلايا الطبيعية لم تكن كافية إذ قد اختل نظام الأمور عند موت برسبای. فتعاقب بعده أربعة من المماليك على الحكم خلال بابوية الأنبا يؤنس الحادي عشر. وفي اثناء حكم جقمق الملقب بالملك الظاهر ثار عدد من أصاغر الأمراء بالجيزة وأقاموا لهم سلطاناً ووزراء. ولكن الملك الظاهر لم يلبث أن قمعهم وباعهم خارج مصر. وفي أعقاب هذه الاضرابات جاء الفيضان ناقصا مرة أخرى ، فغلت الأسعار غلواً فاحشاً استمر سنتين متتاليتين ذاق فيها الشعب مذله الجوع . وضاعف المذله تفشي الطاعون الذي أدى إلى الهبوط بتعداد الشعب هبوطاً عنيفاً. إلا أن المراحم الإلهية بدت واضحة في أن هذا الطاعون المزعج أخذ يتلاشى أثناء الخمسين المقدسة. وهي أيام الفرح التالية لعيد القيامة المجيدة والتي كان القبط إذ ذاك يحيون بعضهم البعض طوالها بتلك الكلمات المليئة بالبهجة وهي : خريستوس آنستي: أليثوس آنستي ، أي المسيح قد قام … بالحقيقة قد قام .

زيارة بطريرك أنطاكية 

 ولقد رأى البطريرك الأنطاکی مار أغناطيوس التاسع ( الذي كانت قد تمت رسامته في مصر ) أن يأتي إلى بلادنا لتهنئة الأنبا يؤنس الحادي عشر بنفسه وبخاصة لأن هذا البابا الإسكندرى كان ضمن الذي قاموا بالشعائر الدينية للرسامة. ولما وصل البطريرك الأنطاكي إلى مصر لاقاه البابا الإسكندرى بالمحبة الأخوية واشترك البطريركان في صلوات القداس الإلهي التي هي أسمى صورة للأخوة المسيحية والتي يحس بها المؤمنون احساساً فعلياً بأنهم أعضاء في جسد الرب المرفوع على المذبح . ففرح الشعب كله لهذه المشاركة الروحية العظمی .

تقديس الميرون

ثم قال البطريرك الأنطاکی لشريكه في الخدمة الرسولية بأنه لم يعد لديه میرون ، بل ولم تعد لديه خميرة للميرون إذ قد نضب ما عندهم من غير أن يفطنوا إلى ذلك . فاتفق معه البابا المرقسي على الاحتفاء بإقامة الشعائر المقدسة الخاصة بالميرون لاعطائه قدر ما يحتاج إليه. وفي أحد الشعانين قصد البطريركان إلى كنيسة السيدة العذراء (المعلقة) حيث صليا معاً احتفاء بهذا اليوم المقدس وظلا في هذه الكنيسة العريقة المليئة بالذكريات الدالة على العناية الإلهية طوال اسبوع الآلام لتأدية صلوات هذا الأسبوع المجيد ، وفي باكر خميس العهد الإلهي قاموا بصلوات الميرون ثم بصلوات اللقان فصلوات قداس ذلك اليوم الذي فيه أعطانا رب المجد عهده بتقديمه جسده ودمه الأقدسين طعاماً روحياً لمن يتناول منه وعلامة مرئية على الصلة الخفية التي تربط المؤمنين به وترفعهم إليه . وكان معهم خلال هذا الأسبوع المقدس مار کیرلس مطران أورشليم ، وقد ظل ضيوفنا الكرام في بلادنا الرحيبة مدة شهور ثم غادروها إلى أرورشليم . وقد صحبهم إلى المطرية عدد من كهنة القبط وأراخنتها بعد أن زود كل من البطريركين أخاه بالبركة الرسولية .

تضييق جديد

 وما أن انتهت هذه الزيارة الأخوية حتى بدأ شئ من التنغيص . فقد قام الشيخ الأمير الأتصرانی – أحد شيوخ المسلمين – بالكشف على الكنائس لمعرفة ما إذا كان قد حدث فيها أي تغيير أو ترمیم أو تجدید ونتيجة لهذا الكشف أمر السيد شهاب الدين أحمد النعمانی المصري باغلاق عدد منها ريثما يتم التحقيق في أمرها. ومن نعمة الله أن أعيد فتح هذه الكنائس بعد انتهاء التحقيق.

مناورات رومانية

 وحدث أن قویت شوكة الترك وانتصروا على امبراطور القسطنطينية الذي اضطر إلى ترك هذه العاصمة القديمة نهائياً. ولما انتهى به الأمر إلى الاستقرار في بلاد اليونان رأى أن يتفاهم مع ملوك الغرب ومع المسئولين عن الكنيسة في البلاد الغربية. ونتيجة لما جرى من مفاوضات وأحاديث انعقد مجمع في مدينة بال ( بسويسرا) ثم انتقل إلى مدينة فيرارا فمدينة فلورنسا (كلتيهما في ايطاليا ) مستهدفاَ إيجاد الوحدة بين الكنيستين الشرقية والغربية . إلا أن الكنيسة الشرقية هنا كانت كنيسة القسطنطينية التي هي الكنيسة الوحيدة الموجودة في أوربا لأن كل الكنائس الشرقية الأخرى أفريقية آسيوية – وهذه المجموعة من الكنائس لا خلقيدونية خلافاً لكنيسة القسطنطينية ، والذي حدث في هذا المجمع الذي انعقد في منتصف القرن الخامس عشر هو أن قام شئ من التآلف بين الكنيستين الأوربيتين : القسطنطينية ورومية. أما الكنائس الأفرو – آسيوية ، فظلت بعيداً كما كان شأنها منذ مجمع خلقيدون المشئوم . لأن الاختلاف في العقيدة الذي هو أساس التباعد من الأول قد أضيفت إليه مطالب البابا الروماني في مغالاة غريبة عن التقاليد الرسولية.

أحكام صارمة

 ثم رأى السلطان إذ ذاك أن يعقد مجلساً بحضور قضاة المسلمين الأربعة ومعهم الأنبا يؤنس الحادي عشر ورؤساء المذاهب اليهودية. فاجتمعوا كلهم. وبعد التداول قرر القضاة المسلمون أن يجتمع الكل عند شيخ الاسلام الأكبر فذهبوا إلى بيته . وقد قرر على كل منهم أن يلزم نفسه الزاما شرعيا أنه لا يجدد في كنيسة ولا في دير ولا في قلاية ولا في صومعة ولا في بيعة مما هو كائن في مملكة السلطان بنفسه ولا بمن يستعين به بناء ولا غيره ولا يرم ما خرب أو تعيب من جدرانها وأخشابها وغير ذلك بالآلات القديمة ولا غيرها . ولا يدفع لمسلم خمراً ببيع أو بغيره ولا يسقيه له . ومتى خالف ذلك أو شيئا منه كان جزاؤه أن يخرب السلطان جميع تلك الكنيسة أو الدير أو القلاية أو الصومعة أو البيعة التي يفعل فيها ذلك ، وأن يفعل فيه ما يقتضيه رأيه …

خطاب من ملك الحبشة

وحضرت في تلك الفترة بعثة موفدة من ملك الحبشة درع يعقوب وعلى رأسها شخصية من كبار رجال الملك ومعه عبد الرحمن ( وهو تاجر معروف) ، وأحضروا معهم هدایا مؤلفة من سبعين جارية وطشت وأبريق من ذهب وسيف مذهب ومهماز وعدد من الأواني الذهبية . كذلك حملوا خطابا من الملك الحبشي إلى سلطان مصر . وقد استهل خطابه بالتحيات والمبالغة في عبارات التكريم ثم قال : (… وقصدنا تجدید ما سبق من العهود من الملوك المتقدمين من بلادكم وبلادنا اتباعا لآثارهم المشكورة . وقصدنا اعلامكم ذلك بشارة لكم ليكون ذلك العهد مستمرة بلا انحراف والاتفاق بيننا وبينكم بلا خلاف … وأنهم كانوا قايميين بالعدل خصوصاً بإخوتنا النصاری مترصين ويرجعوا عنهم القوم الرائدين وهن كنائسهم والقتل على من كان فيها من الأقسة والرهابين … وقد بلغنا الآن أن هذه القواعد تغيرت من قبل قوم كانوا عن طريق العدل حائدین وفي طريق الظلم خائضين . والآن إذا مات أحد من أخوتنا النصارى لا يدفن إلا بعد مشقة كبيرة لأهله وأقاربه . ويؤخذ منهم ما لم تجر به عادة في أيام الملوك السالفين … ثم بلغنا أيضا أن ثم من يتعرض إليهم في كنائسهم في أوقات صلاتهم وفي أيام أعيادهم يقطع مصانعاتهم وأخذ ما لا يستحقون أخذه . أنهم في غاية الضيق من ذلك … وإخواننا النصارى الذين هم الآن تحت عز سلطانكم وملكتكم الشريفة نفر قليل لا يمكن أن يكونوا قدر قيراط من المسلمين القاطنين باقليم واحد من بلادنا … ولم نزل نحسن إليهم في كل وقت وحين … سامعين لأقوالهم رادعين من يتعرض لهم … فاسألوا التجار المترددين إلى بلادنا يخبرونكم بذلك بالحق والصدق . ومن نقل إليكم غير ذاك فهو من الكاذبين الذين يقصدون رمی الفتن التي هي أشد من القتل عند العارفين … والقصد من عظمة سلطانكم أن تتوصوا غاية التوصية بإخوتي النصارى لتصير بيننا المودة وتفرح في أيام سلطنتكم الرعية بعد السلام الوافي التام على المجلس الشريف السلطاني . وعلى محبيه وعلى أمرائه وقضاة الشرع وعلى كل من حوت مملكته العالية.

إلا أن السلطان وأمراء غضبوا غضبة جامحة لما جاء في هذا الخطاب إذ أحسوا بأن مظالمهم قد شاعت خارج الحدود المصرية ، ولكن السلطان رغم غضبه أرسل الهدايا النفيسة إلى الملك درع يعقوب ومعها خطاب يرفض فيه الرجاء بحسن معاملة القبط زعما منه أنهم هم الذين أذاعوا أخبار ظلمه وأنهم في الوقت عينه يجددون في أبنية كنائسهم وأديرتهم من غير إذن . فلما وصل رد السلطان استشاط الملك غضبا بدوره واحتجز الرسل السلطانية في بلاده . ثم حارب شهاب الدین بن سعد ملك المسلمين في الحبشة وقتله وحكم على رئيس وفد السلطان أن يركب معه وأخذه إلى المكان الملقي فيه الرجل المقتول ليرى بعينيه ما حدث.

 ووصلت هذه الأنباء إلى مصر كما وصل خبر احتجاز الوفد السلطاني فثارت ثائرة السلطان ولم يجد من يصب عليه ثورته غير البابا نفسه . فأرسل واستدعاه وأصدر الأمر بضربه فضربوه ضربا مبرحا بلا احتشام ، ثم فرض عليه أن يكتب خطابا إلى الملك الحبشي يعرفه فيه بكل ما أصابه من ضرب واهانة كما يوضح فيه تهديد السلطان بإبادة القبط انتقاماً لكل ما قد يصيبه من تضييق على مسلمي بلاده ، ويطالبه باعادة الوفد السلطاني إلى مصر بغير تعویق . وحين وصل الخطاب البابوى إلى ملك الحبشة استدعى رئيس الوفد وأغدق عليه العطايا ولكنه ماطله في الأذن بالعودة . ولما طال المطال وامتلأت نفوس مندوبي السلطانی ساما قال رئيسهم في صراحة : إن كنت تريد قتلى فأنا على استعداد لذلك . وإلا فما داعى المماطلة؟، وتركه الملك دون جواب ثم أرسل إليه في اليوم التالي رسولا يحمل إليه الأذن بالعودة إلى مصر . وقد صحبه في سفره مندوب من لدن درع يعقوب فوصلوا القاهرة بعد غياب دام أربع سنوات.

إلا أن عودة رسل السلطان لم تهدأ من غضبه ضد البابا يؤنس الحادی عشر وشعبه . فعقد مجلساً رأسه شخصياً وحضره القضاة المسلمون الأربعة .

ثم استحضر البابا المرقسی فحكم السلطان بضربه وحبسه في المقشرة وأخذ كل ما لديه من مال . وزاد على ذلك بأن فرض عليه أن لا يكاتب ملك الحبشة اطلاقا ، بل ولا يرسم لهم مطراناً ولا كاهناً إلا بعد استئذانه . فإن خرج على هذا الحكم في أي يوم تضرب عنقه فوراً. وكتب خمس نسخ بهذه الأحكام احتفظ كل من قضاة الإسلام الأربعة بنسخة والنسخة الخامسة أعطيت للبابا الإسكندری .

 وكأن هذه البلايا كلها لم تكن كافية . فقام عشرون مملوكاً من المفسدين وهاجموا بيوت القبط رغبة منهم في الاستيلاء على ما لديهم من خمر. ولكن القبط وقفوا في وجوههم وقاتلوهم وتغلبوا عليهم إذ قد سقط ثلاثة من المماليك صرعى ففر الآخرون. 

مراسيم ظالمة

 وبعد ذلك أصدر السلطان بعض مراسيم خاصة بغير المسلمين أهمها أنه لا يجوز لطبيب قبطي أو يهودي أن يعالج المسلمين . إلا أن عقلاء المسلمين رفضوا أن يعملوا بهذا المرسوم واستمروا يلجأون للأطباء الذين يثقون في مهارتهم بغض النظر عن دينهم . كذلك طلب ناظر الجوالي (ضريبة مفروضة على المسيحيين بالإضافة للضريبة العامة) أراخنة القبط وأخذ يدقق في سؤالهم عما إذا كان في بيوتهم جاریات مسلمات . وضيق عليهم في السؤال حتى اضطرهم إلى عرض جواريهم عليه ليتأكد من أنه لا توجد مسلمة بينهن .

فيضان شحيح

 وعاد شعور القلق يسيطر على المصريين جميعاً ولو أن نصيب القبط منه كان مضاعفاً .. ذلك لأن الأنباء تواترت بأن الأحباش يجهزون جيشهم ومراكبهم لغزو الحجاز وأنهم ينوون بعد ذلك قطع مياه النيل عن مصر ، وحدث أن الفيضان جاء ناقصاً للغاية فبدأت القلوب تضطرب . وضاق الرزق . واستمر نقصان المياه فأخذت الأسعار ترتفع وشح الخبز. ثم سرى القلق إلى قلب السلطان فأرسل إلى الخليفة يرجو منه الابتهال إلى الله ليرفع غضبه ويجعل النيل يفيض. كذلك وزع الصدقات والاحسانات الكثيرة . ولكن النيل بدلاً من أن يزيد أخذ يتناقص أكثر فأكثر ، وعندها نودي على الشعب بالصلاة في الصحراء . فخرجت جموعهم تتزاحم : القضاة والعلماء والمشايخ والرجال والنساء والأطفال . وكان الشعور بالضيق شديدة إلى حد أنهم رضوا بخروج القبط معهم للصلاة . واستمر هذا الجمع الحاشد يصلى عدة أيام متتالية إلى أن تعطف الله عليهم واستجاب  دموعهم وابتهالاتهم . والعجيب أن النيل بدأ يتزايد في شهر توت – وهو الشهر الذي يبلغ فيه الفيضان منتهاه .

 ومن المؤلم أن عددا من كبار القبط جحدوا إيمانهم وأعلنوا اسلامهم إذ قد استهوتهم المناصب واستمالهم حب المال لأنهم جميعا نالوا الرتب العليا ووصلوا إلى مراكز مرموقة من النفوذ . وعلى الرغم من ذلك فإن جحودهم لم يكن واقياً لهم من غضب السلطان إذا ما ثار : فمثلا كان هناك رجل اسمه ابن كاتب المناخ ولي الوزارة عدة مرات . وذات مرة حمى غضب السلطان فأمر بمصادرة أمواله وبضربه حتى الموت.

وعلى النقيض برز بعض الآباء الساهرين اليقظين أمثال أنبا قرياقص أسقف البهنسا وغيره…

نياحته

بعد كل هذه الضيقات أنتقل البابا يؤنس الحادي عشر إلى الدار الآخرى بعد أن قضى على الكرسي المرقسي أكثر من 24 عاماً. ودفن في دير الخندق.

فاصل

البابا غبريال الخامس  القرن الخامس عشر العصور الوسطى البابا متى الثاني 
تاريخ البطاركة
تاريخ الكنيسة القبطية

 

زر الذهاب إلى الأعلى