تفسير رسالة فيلبي اصحاح 1 للقديس يوحنا ذهبي الفم
العظة الأولى (فيلبي1 : 1-7)
بولس وتيموثاوس عبدا يسوع المسيح، إلى جميع القديسين في المسيح يسوع، الذين في فيلبي، مع أساقفة وشمامسة نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح. (في1:1، 2)
إن بولس هنا وهو يكتب لمن هم ذوي كرامة متساوية ، لا يحط من قدر مركزه كمعلم، بل دعا نفسه بلقب آخر عظيم. فما هو هذا اللقب؟
إنه يدعو نفسـه عبداً وليس رسـولاً. لأن هذه الرتبة هي أيضاً عظيمة بالحق وجامعة كل الأشياء الحسنة أن تكون عبداً للمسيح (بالفعل) وليس مجـرد أن تُدعى هكذا (إسماً). إن عبد المسيح هـو بالحق حر من جهة الخطية، وإذ هو عبد حقيقي (حر)، فهو ليس عبداً لأي شخص آخر، وإلا لن يكون عبدا للمسيح بصورة كاملة بل جزئياً. وهو أيضاً يكتب لأهل رومية ويقول «بولس عبد ليسوع المسيح» (رو1: 1).
لكـن عندما كتـب إلى أهل كورنثوس وإلى تيموثاوس فإنه دعا نفسـه «رسـولا»، فعلى أي أساس كان هذا؟ ليس لأنهم كانوا متفوقين (روحيا في شـيء) على تيموثاوس ، حاشا أن يكون هذا. بل بالأحرى هو يكرمهم (يقصـد أهل فيلبي ورومية) ويظهر لهم اهتماماً يفوق كل الآخرين الذين كتب لهم. ولأنه أيضاً يشهد لفضيلة عظيمة لديهم. وفضلاً عن ذلك فقد كان يريد في تلك الرسائل أن يوصي بأشياء كثيرة، ولذلك اتخذ رتبته كرسـول ، ولكنه هنا لا يعطيهم توصيـات ، بل (يوصيهم) بما يمكنهم أن يدركوه من تلقاء ذاتهم.
«إلى جميع القديسين في المسيح يسوع الذين في فيلبي»
لقد كان من المحتمل أيضاً أن يدعو اليهود أنفسهم «قديسين» استناداً علـى مـا جاء في العهد القديم بأنهم «أمة مقدسـة، وشـعب مُقتنى لله» (تث6:7؛ خر6:19). لهذا السبب أضاف قائلا «إلى جميع القديسين في المسيح يسـوع». لأن هؤلاء فقط هم المقدسـون أما أولئك فهم بدءاً من الآن دنسون.
مع أساقفة وشمامسة
ما هذا؟ هل كان يوجد أساقفة عديدون لمدينة واحدة؟ بالتأكيد لا ، إنما كان يدعو شيوخ الكنيسة (الكهنة) أيضاً أساقفة[1]، لأنه آنذاك كان يتم تبادل الألقاب، وكان الأسقف يدعي خادماً[2] (حرفياً شماس). لأجل هذا السبب كتب إلى تيموثاوس قائلا «تمم خدمتك» (2تي4: 5) ، )، بينما كان تيموثاوس أسقفا. ويظهر ذلك من قول بولس له «لا تضع يدك على أحـد بالعجلة» (1تي5: 22). أما الشيوخ (الكهنة) فلا يضعون أيديهم على أسقف. وأيضاً في الرسالة إلى تيطس يقول «من أجل هذا تركتك في كريـت لكي تكمل ترتيب الأمور الناقصة وتقيم في كل مدينة شيوخاً كمـا أوصيتك، إن كان أحد بلا لـوم بعل امرأة واحدة» (تي1: 5، 6)، وهـذا مـا يقوله أيضاً عن الأسقف، لأنـه بعد هذا ، أضـاف في الحال «لأنه يجب أن يكون الأسقف بلا لوم كوكيل لله غير معجب بنفسـه (تي1: 7). وهكذا كان الشيوخ في القديم يدعون أساقفة وخداما للمسيح ، وكان الأساقفة يدعون شيوخاً، ومن ثم فإن كثيرين من الأساقفة حالياً يكتبـون قائلين «إلى شـريكي (في الخدمة) الشيخ…»، «إلى رفيقي في الخدمة» ولكن بطريقة أخرى فإن الاسـم الصريح اختص بطريقة واضحة الأسقف والشيخ، إذ يقول أساقفة وشمامسة».
نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح
لماذا يكتب بولس الرسـول هنا على وجه التحديد إلى الإكليروس ، مع أنه في كل رسائله الأخرى كان يكتب على العموم إلى « كل القديسين والمؤمنين الأحياء»؟ السبب لأن الاكليروس هم الذين أرسـلوا إليه لسـد حاجته وتشـاركوا معه في حساب العطاء والأخذ (في4: 15- 16). وهم الذين أرسلوا إليه ابفرودتس على وجه السرعة.
«اشكر إلهي عند كل ذكري إياكم» (3:1).
يقول بولس الرسول في رسالة العبرانيين «أطيعوا مرشديكم وأخضعوا لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يعطون حسابا لكي يفعلوا ذلـك بفرح لا آنـين» (عـب 13: 17). إذا إن كان الأنين سببه رداءة التلاميذ، فإن إتمام الخدمة بفرح يرجع الفضل فيه إلى تقدمهم.
وبولس يقول هنا : كلمـا أتذكركم فإننى أمجـد الله. وهو يفعل هذا لإدراكه الأشياء الحسـنة الكثيرة التي فيهم. إنه يقول : إنني أمجد الله وأصلـي (لأجلكم). ليـس لأنكم تقدمتم في الفضيلة فإنني سأتوقف عن الصلاة لأجلكم، بل يقول «أشكر إلهي عند كل ذكري إياكم».
”دائماً في كل أدعيتي مقدماً الطلبة لأجل جميعكم بفرح” (1 : 4)
«دائماً» أي ليس فقط بينما أنا أصلي بفرح، لأنه يمكن أن يفعل هذا بحـزن أيضاً كما يقول في موضع آخر الأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة» (2كو2: 4).
«لسبب مشاركتكم في الإنجيل من أول يوم إلى الآن» (1 : 5)
عظيم أن يشهد لهم هنا، وعظيم جداً أن يشـهد للإنسـان الرسـل والإنجيليون.
وكأنه يقول لهـم : ليس لأنه أوكل إليكم أمر الاهتمام بمدينة واحدة (وهي مدينة فيلبي)، فتنشغلون بها فقط، لكن لم يكن هناك شـيء لم تعملوه لتشاركونني أتعابي.
لقد كنتم في كل مكان حاضرين وعاملين معي ومشاركين في الكرازة (بالإنجيـل)، ليس مـرة أو مرتين أو ثلاث، بل دائماً منذ آمنتم إلى الآن أخذتم على عاتقكم الاستعداد الرسولي. لكنه يقول عن الذين كانوا في روما : «أنت تعلم هذا أن جميع الذين في آسيا ارتدوا عني» (2تي1: 15)، أيضاً «ديماس قد تركني» (2تي4: 10)، و في احتجاجي الأول لم يحضر أحـد معي، بل الجميع تركوني» (2تي 4: 16). لكن هؤلاء (الفلبيين) رغـم أنهم كانوا بعيدين شاركوا في ضيقاته، إذ أرسـلوا له أناسـاً من عندهـم وخدمـوه على قدر طاقتهم ، ولم يتخلوا أبدأ عن عمل أي شـيء كان باستطاعتهم أن يعملوه. وهو يقول : وهذا تصنعوه ليس فقط الآن بل دائما و تساعدونني بكل طريقة ، لذلك فإن خدمتكم هذه هي «مشاركة في تقدم (حرفياً تعزيز) الإنجيل»، لأنه عندما يكرز أحدهم بالإنجيل وهناك أسرة تخدمه فإنها تشـاركه أكاليله. لأنه حتى في المسابقات الدنيوية لا تكون الجائزة فقط للمتسابق بل أيضاً للمدرب ولكل من ساهم في إعداد اللاعب، لأن الذين يساندونه ويناصرونه يشاركون بعدل في النصر الذي حققه. وفي الحروب أيضاً لا يفوز المحارب فقط بجائزة البسالة ، بل أيضاً كل الذين يخدمونه يمكنهم أن يطالبوا عن حق بالمشاركة في الانتصارات والمجد، لكونهم شاركوا في نضاله بخدمتهم له. لأنه نفع ليس بقليل أن تخدم قديسين، بل هو نفع عظيم جداً. لأن خدمتنا تجعلنا مشاركين في المكافأة المعدة لهم.
وهكذا، فلنفترض أن أحدهم تخلى عـن مقتنياته الكثيرة لأجل الله واستمر في تكريس نفسه لله ممارسا فضيلة عظيمة ومراعيا الدقة الشديدة في الكلمـات والأفكار في كل شـيء. فحتى لو لم تكن تشاركه مثل هذا التدقيق الشـديد، فإنه سيكون من حقك أن تشـاركه في المكافأة المعدة له لأجل هذه الأشياء. كيف؟ لو أنك سـاعدته بالقول والفعل، لو أنك شجعته بتلبية كل احتياجاته وتقديم كل خدمة ممكنة له. لأنه ستكون أنت نفسك آنذاك الممهد لذلك الطريق الوعر.
لذلك لو أبديت إعجابك بالذين تبنوا الحيـاة الملائكية في الصحراء والذين يمارسون نفس الفضائل معهم في الكنائس، لو أبديت إعجابك وحزنت لأنك متخلف عنهم (في هذا الأمر)، فإنه يمكنك أن تشاركهم بطريقة أخرى وذلك بخدمتهم ومساعدتهم. لأنه من مراحم الله أن يحضر من هم أقل سعياً وغير قادرين على عيش الحياة الصادقة والصعبة والوعرة بطريقة أو بأخرى إلى نفس مستوى الذين يمارسونها. وهذا ما يقصده بولس بـ «المشـاركة». إنهم يشـاركوننا في الجسديات ونحن نشركهم في الروحيات، لأنه إن كان الله لأجل أشياء قليلة وبسيطة يمنح الملكوت ، فإن خدامه أيضاً لأجل أشياء مادية وقليلة يشاركون في الروحيات، أو بالأحرى هو يعطي الماديات والروحيات بواسطتهم.
ألا يمكنـك الصوم (طويلاً) أو التوحد (في مغارة) أو النوم على الأرض أو السهر الليل كله؟ يمكنك أن تنال مكافأة كل هذه الأشياء، لو أنك سعيت لهذا الأمر عـن طريق خدمة هؤلاء للأشخاص الذين يجاهدون وإنعاشهم ودهنهم بالزيت وتخفيف أتعاب هذه الأعمال (الشاقة). إن هذا الشخص واقف يحارب ويتلقى الضربات، فهل تخدمه عندما يعود من القتال وتستقبله في أحضانك وتمسح عرقه وتنعشه وتعزيه وتجدد نفسه المتعبة وتسكنها. لو أننا نخدم القديسين بمثل هذا الاستعداد وحسب ، فإننـا سنشـاركهم مكافآتهم. وهذا ما يخبرنا به المسيح بقوله «اصنعوا لـكـم أصدقاء بمال الظلم، حتى إذا فنيتـم يقبلونكم في المظال الأبدية (لو16: 9) ألا ترى أنهم قد صاروا مشاركين؟
إن بولس يقول «من أول يـوم إلى الآن» (في1: 5)، ويقول “وأنا أفرح” ليس فقط لما مضى، بل أيضاً لأجل المستقبل، لأنه من الماضي يمكن أن أخمن المستقبل أيضاً.
«واثقاً بهذا عينه أن الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحاً يكمل إلى يوم يسـوع المسيح» (1: 6).
انظر كيف يعلمهم أيضاً ألا يكونوا مرائين، حيث إنه قد شهد لشيء عظيم لهم (وهو المشاركة في الإنجيل)، فلكي لا يشعروا كبشر أنهم أهل للعمـل، فإنه يعلمهم في الحال أن ينسبوا كل الأعمال الصالحة إلى المسيح. كيف؟ هل بقوله «بألا تكونوا واثقين أنه كما ابتدأتم سـتكملون أيضاً؟ كلا بل يقول «الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحاً يكمله». إنه لم يسلب منهم ما تعبوا في إنجازه وتحقيقه (لأنه قال «أفرح لسبب مشاركتكم في الإنجيل» موضحاً أنه ينسـب تعبهم وعملهم إليهم)، ولم ينسب أعمالهم الحسـنة إليهم وحدهم، بل هي مبدئياً الله، إذ يقـول واثقاً بهذا عينه أن الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحاً يكمل إلى يوم يسوع المسيح» أي يكمله بمشيئة الله. وكأن كلامه يعني : إنني لا أتكلم عنكم، بل أشـعر بهذا مـن جهل الأقل منكم في المستوى الروحي لأنـه أن يعمل الله مع المرء فهـذا امر ليس بقليل. لأنـه إن كان الله «لا يحابي الوجوه» ، بل ينظر إلى نياتنا عندما يساعدنا في الأعمال الصالحة، فمن الواضح أن لنا دوراً في أن نجعلـه يعمـل فينا، لذلك حتى من وجهة النظر هذه لا يسلبهم مديحهم (المستحق لهم). لأنه لو كانت أعماله فينا بدون قصد، لكان قد عمل حتى في غير المؤمنين، وفي كل البشر، فيحركنا مثل كتل الحجارة والأخشاب دون أن يطلب مساهمتنا. لذلك عندما يقول «الله يكمله» فهذا أيضاً يؤول لمدحهم لكونهم يطلبون نعمة الله، حتى إنه بهذا يساعدهم في تخطي الطبيعة البشرية. وبطريقة أخرى فإنه يمدحهم على أن أعمالهم الحسنة لا يمكن أن تأتي من إنسان بل تحتاج إلى دفعة إلهية. لكن إن كان الله سيكمل، إذا لن يكون هناك عناء كثير بل بالأحرى يكون الإنسان متشجعاً إذ أنه سيتمم كل شيء بسهولة لأن الله يعينه.
”كما يحق لي أن أفتكر هذا من جهة جميعكم لأني حافظكم في قلبي وفي وثقي وفي المحاماة عن الإنجيل وتثبيته، أنتم الذين جميعكم شركائي في النعمة” (7:1).
أمر عظيم هنا أن يظهر عاطفته القوية نحوهم في أنه يحفظهم في قلبه وأنه يتذكر الفيلبيين رغم قيوده في السجن؛ وأن مدح هؤلاء الناس ليس بالأمر الهين، إذ أن هذا القديس لم يتولد حبه لهم عن محاباة أو منفعة ، بل لأسباب وجيهة وعن تبصر. لأنه أن تكون محبوباً عند بولس بهذه الشدة، فهذا دليل على أن الإنسان لديه الصفات التي تؤهله لذلك.
هنا يقول «وفي المحاماة عن الإنجيل وتثبيته». وما العجيب في أنهم كانـوا في قلبـه وهو في السجن؟ لكنه يقول ما معنـاه «لكن ولا حتى في اللحظة التي سأقف فيها أمام المحكمة لأقدم احتجاجي قد غبتم عن ذاكرتـي». لأن الحـب الروحي حب طاغ لا يعطي فرصة ، بل يمسـك دائما بنفس من يحب ولا يدع الاضطراب أو الألم يهزم هذه النفس. وكما في حالـة أتـون بابل، عندما كان اللهب مرتفعـا هكذا، كان هناك ندى للثلاثة فتية المباركين، كذلك أيضاً تحتل الصداقة نفس من يحب ومن يرضـي الله، فتنفض عنه كل لهب (أي ضغـط كل ظروف غير مواتية) وتنتج ندى عجيباً (فيحيا ويتصرف بسلام كما لو كانت كل الأمور على خير ما يرام).
”وفي تثبيت الإنجيل”
لقد كانت قيوده تثبيتـاً للإنجيل ودفاعاً عنه. كيـف؟ لأنه لو كان قد تجنب القيـود (بأن هرب منها مثلاً) لكانوا ظنوه مخادعاً، أما كونه احتمل كل شيء من قيود وضيق، فهذا يظهر أنه لم يكابد كل هذه الآلام بسـبب علة بشـرية، بل لأجل الله الذي يجازي. لأنه لا أحد يقبل أن يموت أو أن يتجشم مثل هذه الأخطار العظيمة أو يختار أن يتصادم مع ملـك كهذا، أقصد نيرون، ما لم يكن قد تطلع إلى ملك أعظم منه جدا. لقد كانت قيوده حقاً «تثبيتا للإنجيل».
أنظر كيف أنه كان ينجح كثيراً في قلب كل الأمور إلى عكسها. لأن ما كانـوا يظنونه ضعفا ونقيصة يدعوه هو تثبيتا، ولو لم يحدث لكان هناك ضعف[3]!
بعـد ذلك يظهر بولس الرسـول أن حبه لم يكن له غرض بل عن إفراز. لماذا؟ فيجيب «لأني حافظكم في قلبي وفي وثقي، وفي دفاعي (عن الإنجيل) بسـبب أنكم «مشـاركون لنعمتي». ما هـذا؟ هل كانت نعمة الرسول تستطيع أن تقيد وتطرد وتواجه شروراً كثيرة؟
نعـم، لأن الله يقول «تكفيك نعمتي. لأن قوتـي في الضعف تُكمل» (2كو12: 9). ونتيجة لذلك يقول بولس الرسـول «لذلك أسر بالضعفات والشتائم» (2كو12: 10)، لذلك حينما أراكم تبرهنـون على فضيلتكم بأعمالكم ، واستعدادكم للمشاركة في هذه النعمة، فإنني منطقياً افترض هكـذا الكثير من جهتكـم، لأني أنا الذي اختبرتكـم وعرفتكم أكثر من أي شخص آخر وعرفت أعمالكم الحسنة كيف أنكم اجتهدتم رغم بعد المسافة، ليس لأن تكونوا أقل منا في أتعابنا، بل أن تشاركوا في ضيقاتنا لأجل الإنجيل، وبنصيب لا يقل عني أنا المنخرط في الجهاد على الرغم من بعدكم مكانياً (عن الحلبة التي أصارع فيها)، فأنا لا أقول إلا الحق عندما أشهد لهذه الأعمال.
لماذا قال «شرکائي في النعمة» ولم يقل «مشاركين في النعمة» ؟
إنه يقصد : أنا نفسي أيضاً اشـترك مع آخر حتى أكون شريكاً في الإنجيل، أي حتى أشـارك في الخيرات المعدة للبشارة بالإنجيل. والأمر العجيب أنهم كانوا جميعاً مهتمين جداً، لأنه يقول «أنتم الذين جميعكم شركائي في النعمة». فمن هذه البدايات الواعدة أنا متيقن أنكم ستكونون هكـذا للنهاية. لأنه لا يمكن أن تنطفئ بداية بهذا البهاء وتخيب، بل هي (على العكس) تشير إلى نتائج عظيمة (في المستقبل).
لذلك حيث أنه من الممكن أيضاً أن نشارك بوسائل أخرى في النعمة والضيقات والأتعاب ، ليتنا أيضاً أتوسل إليكم نكون مشـاركين (لأهل فيلبي ولبولس الرسـول). كم شـخصاً من الواقفين هنـا أو بالأحرى من كل الناس، سيرتضي أن يشارك بولس الرسول في الخيرات الآتية! إنه في مقدوركـم إذا رغبتم أن تسـاندوا وتعينوا من خلفوه في الخدمة عندما يعانون أي مشقة لأجل المسيح.
هل رأيت أخاك في محنة؟ مد له يد العون !
هل رأيت معلمك في ضيقة؟ قف إلى جانبه !
ربمـا هنـاك من يقول : لكن لا يوجد أحد مثـل بولس ! آه جاء وقت الازدراء! جاء وقت النقد! أهكذا لا يوجد أحد مثل بولس؟
حسناً أنا أوافق (ولن اعترض على كلامك). لكن السيد المسيح يقول «من يقبل نبيا باسم نبي فأجر نبي يأخذ» (مت10: 41).
فهـل أكرم هـؤلاء لكونهم عملوا مع بولس؟ كلا ، بل أكرموا لأنهم تعاونوا مع من باشـر الكرازة. إن بولـس كان مكرماً لأجل أنه قد عانى هذه الآلام لأجل المسيح.
بالتأكيـد لا يوجـد أحد مثل بولس، ولا حتى مـن يقترب قليلا من مستوى هذا الطوباوي، لكن الكرازة هي هي كما كانت آنذاك.
وهم (يقصد الفيلبيين) شاركوه ليس فقط في قيوده، بل بدأت مشاركتهم منـذ البدء. إذ أسمعه يقول «وأنتم أيضاً تعلمـون أيها الفيلبيون أنه في بداءة الإنجيل لما خرجت من مكدونية، لم تشاركني كنيسة واحدة في حساب العطاء والأخذ إلا أنتم وحدكم» (في4: 15).
وبعيـداً عـن المحن، فإن المعلـم كان له كد كثير، سـهر، تعب في الكلمة، التعليم، شكايات، ملامات، واتهامات وحسـد. وهل هو أمر قليل أن يحتمل المرء عشرة آلاف لسان، بينما تكفيه همومه الخاصة؟
وآسـفاه! ما عساي أن أفعل؟ لأني محصور بين شيئين : إنني أرغب في أن استحثكم وأشجعكم على تعضيد ومساعدة قديسي الله، لكني أخشـى لئلا يظن البعض شيئا آخر في أنني أقول هذا ليس لأجلكم بل لأجلهـم!. لكن اعلموا (تماماً) إنـني أقول هذا الكلام ليس لأجلهم، بل لأجلكـم. وإن أردتم أن تصغـوا فأنا أقنعكم بكلماتي ذاتها بأن المكسـب ليس واحداً لكم ولهم.
لأنه إن أعطيتم، ستعطون من تلك الأشياء التي حتما . ستتركونهاسواء شئتم أم أبيتم بعد الموت وتعطونهـا لآخرين، لكن ما تنالونه هو أعظم وفائـق . أم أنكم هكذا غير مهيأين لقبول المجازاة التي ستنالونها إن أعطيتهم إياها؟
لأنه لو لم تكونوا هكذا غير مهيأين، فأنا لا أرغب حتى في أن تعطوا. لأني أبعد ما أكون عن أن أتكلم لصالحهم! ما لم يهيء الإنسـان نفسـه أولا بأنه يأخذ أكثر مما يعطي، يأخذ عشرة آلاف ضعف وأنه يستفيد أكثر مما أعطاه، فليته لا يعطي! لأنني لا أهتم كثيراً بأن ينال القديسون تعضيداً (مادياً).
لأنه حتى لو لم تعط أنت، فغيرك سيعطي. لأن ما أريده هو أن تنال عتقـاً مـن خطاياك. لكن الذي لا يعطي هكـذا لا ينال راحة أو عتقاً من خطايـاه. لأن التصدق ليس هو في مجـرد العطاء، بل هو العطاء بتلقائية وفرح والشعور بالعرفان لمن نال الصدقة، وهذا يؤكده قول بولس «ليس عن حزن أو اضطرار لأن المعطي المسرور يحبه الرب» (2کو9: 7).
إن لم يعط الإنسـان بهذه المعايير فليته لا يعطى، لأنه بخلاف ذلك ستكون خسـارة وليس صدقة. لذلك إن علمت أنك أنت الذي ستكسب وليس هم، فسيكون مكسبك أعظم ( من الآخذ منك).
لأنه بالنسبة لهم فإن الجسـد هو الذي يطعم، بينما نفسـك يرضى الله عليها. بالنسبة لهم ولا حتى خطية واحدة سُـتغفر عندما ينالون ، بينمـا أنت قد غفرت معظم خطاياك. لذلك ليتنا نشاركهم في مكافأتهم العظيمة.
عندمـا يعطى الناس للملوك (بأن يجعلوهم هدفا لعطاياهم) فلا يظنون هدفاً أنهـم يعطون أكثر مما يأخذون (إذ يأخذون كرامات وأمجاداً منهم)، أما أنت فأعط المسيح (في شخص المحتاج أو الكارز) وسيكون لك طمأنينة عظيمة. هل تريد أيضاً أن تشـارك بولس؟ ولماذا أقول بولس بينما المسيح هو الذي يأخذ (ما تتصدق به)؟
لكن لكي تعلموا أن كل ما أقوله وأفعله هو لأجلكم وليس اهتماماً مني براحة الآخرين، لو كان هناك أحد من رؤساء الكنيسة يعيش في رغد ولا يحتاج إلى شيء، فلا تعطه حتى لو كان قديساً. بن فضل عليه من هو في احتياج ولو كان غير جدير بإعجابك (ذاك المحتاج). ولماذا؟ لأن المسيح أيضاً يريد هذا ، كما يقول «إذا صنعت غداء أو عشـاء، فلا تدع أصدقـاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك بل الجدع والعرج والعمي، إذ ليس لهم حتى يكافئوك» (لو13:14-15).
لأنه ليس بدون سبب أنه يجب على المرء ألا يوجـه انتباهه إلا للجوعان والعطشـان والذين يحتاجون الكسـاء والغرباء ولمن افتقروا بعد غنـى. لأن الرب حقـاً لم يقل «أنـا أطعمت» ، بل قال «لأني جعت» وذلك حين قال «رأيتموني جائعاً فأطعمتموني» (مت25: 35، 37). إن القضية هنا مضاعفة إذ أنه قديس وجوعان، لأنه إن كان ينبغي إطعام من كان جائعاً فحسب ، فكم بالأولى من هو أيضاً قديس وجوعان !
إذا لو كان قديسـاً وليس له احتيـاج، فلا تعطه ، لأن هذا لا منفعة منه. لأن المسيح لم يوحي بهذا، أو بالأحرى لا يكون قديسـا من يحيا في رغد ويأخذ صدقة.
هـل ترون أن هذه الأقوال قيلت لكم ليس ابتغاء لربح قبيح بل لأجل منفعتكم؟
أطعم الجوعان حتى لا تطعم نار جهنم (بجسدك ونفسك في العالم الآخر). إن من يأكل مما هو لك يقدس أيضا ما تبقى (انظر لو11: 41).
تأمـل كيف أن الأرملة عالت إيليا وأنها لم تطعمه أكثر مما أطعيت هي بواسطته ولم تعط أكثر مما أخذت. وهذا يحدث الآن في شيء أعظم جدا. لأنه ليس بعد كوار دقيق أو كوز الزيت (1مل17: 14)، بل ماذا؟ «مائة ضعف وحيـاة أبدية» (مت20:19، 29)، هذه هـي المكافأة لمثل هذه (الصدقة)، فتنال رحمة الله والطعام الروحي.
لقد كانت أرملة والمجاعة كانت شديدة جداً ولم يعقها شيء من هذا. كان لها أيضاً أولاد، لكن ولا حتى هذا منعها (1مل17: 12).
إن هـذه المرأة مثل الارملة التي ألقت الفلسين (في خزانة الهيكل)، فهي لم تقل لنفسها: وماذا عساي أن آخذ من هذا الإنسان؟ فهو المحتاج إلي. لو كانت لديه قوة لما جاع ولكان قد أنهى الجفاف ولما كان قد خضع لمثل هذه المشقات. ربما هو أساء إلى الله.
إنها لم تفكر في شيء من هذا. هل ترى كيف أنه أمر عظيم أن تصنع الخير ببساطة ولا تكون كثير الفضول من جهة الشخص الذي ينال منك الصدقة؟ لو اختارت هي أن تكون فضولية، لكانت قد شـكت وما كانت آمنت (أو صدقت).
كذلك أيضاً إبراهيم لو فضل أن يكون فضولياً لما استضاف ملائكة. لأنه لا يمكن أبداً لمن يدقق كثيراً في هذه الأمور أن يلتقي بالملائكة. فمثل هذا الإنسان يقع عادة في المحتالين، أما كيف ذلك، فهذا سأخبركم به. إن الإنسان التقي لا يرغب في أن يظهر تقياً، ومن المرجح أنه يرفض من النـاس. أمـا المخادع إذ يجعل الاحتيال مهنته يرتـدي قدرا من التقوى التي يصعب اكتشـافها. وهكذا بينما الذي يفعل الخير حتى لمن لا يبدو أنهم أتقياء، سيصادف من هم أتقياء بالفعل، لكن الذي يفتش عمن هم أتقياء، غالباً ما يصادف من هم ليسوا أتقياء.
لذلك أتوسل إليكم ليتنا نعمل كل شـيء ببساطة. لذا فلنفترض أن الآتـي (إليك) هو محتال، فأنت غير مطالب بأن تكون فضولياً من جهة هذا الأمر. لأن المسيح يقول «كل من سـألك فأعطيه» (لو6: 30). وقيل «لا تمتنع عن تخليص المنقادين إلى الذبح» (أم11:24). لأننا هكذا سنشـابه الله، وهكذا سنكون محل إعجابه وسنحصل على تلك البركات الخالدة التي نظن أننا أهل لها بنعمة ورأفة يسوع المسيح ربنا الذي له مـع الآب والروح القدس المجد والقـوة والإكرام الآن وكل أوان وإلى دهر أيضاً الدهور آمين.
العظـة الثانية (فيلبي1: 8-19)
“فإن الله شاهد لي كيف أشتاق إلى جميعكم في أحشاء يسوع المسيح. وهذا أصليه : أن تزداد محبتكم أيضا أكثر فأكثر في المعرفة وفي كل فهم،. حتى تميزوا الأمور المتخالفة، لكي تكونوا مخلصين وبلا عثرة إلى يوم المسيح، مملوئين من ثمر البر الذي بيسوع المسيح لمجد الله وحمده . .(1: 8-11)
إنه هنا لا يدعو الله كشاهد كما لو كان ينبغي الشك في صدق كلامه ، بل هو يتصرف هكذا من واقع محبته العظيمة واقتناعه المفرط وثقته. لأنه بعـد أن قال إن لهم شـركة معه (في النعمة) أضـاف أيضاً هذا القول «في أحشاء يسوع المسيح» لئلا يظنوا أن شوقه لهم كان لهذا السبب ولم يكن لأجلهم وحسب. وماذا تعني هذه الكلمات «في أحشـاء يسوع المسيح»؟ إنها تعني «بحسب المسيح» لأنكم مؤمنون، لأنكم تحبون المسيح، لأجل الحب الذي بحسب المسيح.
إنه لا يقول «حب» (بحسب المسيح) ولكنه يستخدم تعبيراً أكثر دفئاً «في أحشـاء المسـيح» كما لو كان يقول : صرت أباً لكم من خلال العلاقة التي في المسيح، لأن هذا يعطينا انطباعاً عن أحشـاء حانية ومتأججة. لأن الرب يعطي مثل هذه الأحشاء لعبيده الحقيقيين.
يقـول بولس الرسـول « في هذه الأحشـاء كما لو كان يقول إننى أحبكم ليس بأحشـاء بشرية، بل بأحشاء أكثر حنوا ودفئاً، أي بأحشاء المسيح.
كيف أشتاق إلى جميعكم
إنني أشتاق إلى الكل، وحيث إنكم جميعا من هذه الطبيعة، فأنا عاجز عن أن أعبر لكم عن اشتياقي بالكلمات، لذلك يصعب علي أن أخبر بها. لهذا السبب أنا أترك هذا الأمر لله ليعرفه لأن القلب في متناوله. ولو كان بولس يتملقهم لما جعل الله شاهداً له لأنه لو كان يتملقهم فإن هذا الأمر سوف يعرضه للخطر.
«وهذا أصليه أن تزداد محبتكم أيضاً أكثر فأكثر» (1 : 9).
لأن المحبة ليس لها حد ولا يمكن الشبع منها، و لأنه كان محبوباً فقـد رغب في أن يكون محبوباً أكثر فأكثر، لأن الذي يحب، يرغب ألا يتوقف عند حد معين من الحب، لأنه يستحيل أن يوجد هناك حد للمحبـة . إن بولس يرغب في أن يبقى دين الحب دائمـاً «لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلا بأن يحب بعضكم بعضا» (رو13: 8).
إن معيـار الحـب (الحقيقي) هو أن لا يتوقف عند حد معين، ولذا يقول الرسـول «أن تزداد محبتكم أيضاً أكثر فأكثر». تأمل هذا التعبير «أن تـزدادوا أكثر فأكثـر» فعندما يضيف إليه «في المعرفة وفي كل فهم» فإنـه لا يمجد مجرد الصداقة أو مجرد المحبـة، بل يمجد ما يأتي من المعرفة (والفطنة) بمعنى أنه ليس لكم أن تحبوا الكل بمعيار واحد، لأن هذا لا ينبع من المحبة بل من عوز في الشعور والإحساس.
مـاذا يقصد هو بعبارة «في المعرفة»؟ إنـه يقصد بإفراز، بعقل وفطنة. يوجد من يحبون بدون تعقل وبسذاجة وكيفما اتفق، ومن ثم تكون مثل هذه الصداقة ضعيفة.
وهـو يقول : هـذا أقوله ليس لأجل نفسـي بل لأجلكـم، لأن هناك خطورة لئلا يفسـد أحد بحب الهراطقة، لأنه يشير إلى كل هذا وانظر كيـف أحضره أمامهم، فيقول : ليس لأجلي أقول هذا، بل أقوله لتكونوا مخلصين أي لا تقبلوا تعليماً مزوراً تحت زعم الحب .
فكيف يقول بولس الرسـول «إن كان ممكناً فحسـب طاقتكم سـالموا جميـع الناس» (رو12: 18)؟ إنه يقول «سـالموا» وليس «أحبوا» حتى لا تتضرر من هذه الصداقة.
يقول السيد المسيح «إن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنـك» (مـت5: 29) لكي تكون مخلصـاً، أمام الله، «وبـلا عثرة» أمام الناس، لأن هناك صداقات كثيرة للناس غالباً ما تكون مضرة لهم.
يقول الرسول : حتى ولو لم تعثرك أنت، فلربما يعثر منها آخر.
إلى يوم المسيح
أي لكي توجدوا آنذاك أنقياء لم تسببوا عثرة لأحد.
«مملوئـيـن مـن ثمر الـبر الذي بيسوع المسيح لمجـد الله وحمده» (11:1)
أي تتمسكون بالتعليم الصحيح مع الحياة المستقيمة، وليس مجرد استقامة بـل «مملوئين من ثمر الـبر». لأنه يوجـد في الواقع بر ليس بحسب المسيح مثل الحياة ذات الأخلاق الفاضلة.
«الذي بحسب المسيح لمجد الله وحمده»
انظروا فأنا (بولس) أتحدث عن مجدي بل عن بر الله.
وبولس الرسـول مراراً ما يدعو أيضـاً – الرحمة ذاتها – برأ. ويقول (أيضا) : لا تدعوا حبكم يجرحكم بطريقة غير مباشرة، وأن يعوق مدارككم عن الأمور المفيدة وانتبهوا لئلا يسقطكم حبكم لشخص ما. لأني أود أن حبكم يزيد، لكن لا أود أن تجرحوا بواسطته. لسـت أود أن يكون حباً نابعا عن تحيز أعمى بل عن دليل (أي سبب معقول) سواء كنت أتكلم حسناً أو لا أتكلم.
وهو لا يقـول «حتى تأخذوا برأيي» بل يقـول «حتى تميزوه». ولا يقول «لا تربط نفسك بهذا الإنسان أو ذاك» على طول الخط، بل يقول : أود أن يكون حبكم له توقيراً لما هو مفيد وألا تكونوا عادمي الفهم. لأنها حماقة لو لم تصنع البر لأجل المسيح وبه.
لاحظ «به» في كلمة «بیسوع» ، فهل هو يستخدم الله كمجرد مساعد؟
حاشا ! بل إنه يقول: ليس لكي أنال أنا المجد بل لكي يتمجد الله.
“ثم أريد أن تعلموا أيها الإخوة أن أمـوري قد آلت أكثر إلى تقدم الإنجيل، حتى إن وثقي صارت ظاهرة في المسيح في كل دار الولاية وفي باقي الأماكن أجمع” (12:1-13).
كان من المحتمل أنهم سيحزنون عندما يسمعون أنه كان مقيداً ويتخيلون أن الكرازة ستتوقف. فماذا عمل بولس؟
لقد لاشـى هذا التصور في الحـال. وهذا أيضاً يبين محبته بأن أعلن لهم الأشياء التي حدثت له لأنهم كانوا قلقين من جهته.
مـاذا تقول يا بولـس؟ أتقول إنك مقيد! وإنك معـوق ! فكيف يتقدم الإنجيل؟
فيجيب «حتـى إن وثقـي صـارت ظاهـرة في المسيح في كل دار الولاية».
وهـذا الأمر لم يسكت باقي الإخوة ولا أخافهم، بل على العكس فقد شجعهم. فإن كان الذين بالقرب من المخاطر لم يتضرروا بل نالوا جرأة أعظـم، فكم بالأولى ينبغي أن تكونوا أنتم هكذا. لو كان بولس عندما قيد قـد قبل الأمر بمشـقة وكف عن الكرازة لكان مـن المحتمل أن الإخوة يتأثرون بنفس الطريقة. لكن حيث إنه تكلم بجرأة أكثر عندما قيد، فإنه أعطاهم جسارة أكثر مما لو كان غير مقيد. وكيف أن قيوده «آلت أكثر إلى تقـدم الإنجيل»؟ هنا يقصد القول : لأن الله في تدبيره قد أمر بعدم إخفاء قيودي التي كانت في المسيح ولأجله.
في كل دار الولاية
لأنـه إلى ذلك الوقت كان يطلق على القصر الإمبراطوري «دار الولاية».
وبقوله «في باقي الأماكن أجمع» يقصد في سائر أرجاء المدينة.
«وأكثـر الإخوة وهم واثقون في الرب بوثقي يجترئون أكثر على التكلم بالكلمة بلا خوف» (1: 14)
هذا يبين أن الإخوة كانوا ذوي شجاعة حسنة قبل ذلك وتكلموا (فيما مضى) بجسـارة، لكنهم الآن يتكلمون بجسارة أكثر. وهنا يقول: إذا لو أن آخرين تشجعوا بسبب قيودي، فكم بالأولى أنا، وإن كنت أنا سبب ثقة لآخرين، فكم بالأولى لنفسي.
«وأكثر الإخوة… في الرب»
«كما لو كان شيئاً عظيماً القول إن قيـودي أعطتهم ثقة» لذلك أضاف قائلاً «في الرب».
هل ترون كيف أنه حتى عندما يرى نفسـه مجبراً على التحدث عن أمـور عظيمة فإنه لا يتخلى عن الاعتدال؟ إنه يقول «يجترئون أكثر على التكلـم بالكلمـة بلا خوف» إن كلمه «أكثر» تعـني أنهم قد بدأوا الكلام بالفعل (من قبل).
«وأما قوم فعن حسـد وخصام يكرزون بالمسيح وأما قوم فعن مسـرة».(15:1)
ومـا يعنيه هذا الكلام جدير بالمناقشـة. حيث إن بولس كان تحت التحفـظ وكان هناك كثيرون من غير المؤمنين يرغبون بحماس شـديد في استثارة الإمبراطور لبدء اضطهاد، لذلك كانوا يكرزون هم أيضاً بالمسيح ، لكي يزداد سخط الإمبراطور من سرعة انتشار الإنجيل فيصب كل غضبه على رأس بولس.
(وكأن بولـس هنا يواصل الكلام فيقول): لذلك أسـفرت قيودي عن نوعين من العمل : فجماعة تشجعت جداً لهذا السبب والأخرى تشجعت بهدف تدميري فأقاموا أنفسهم للكرازة بالإنجيل. «أما قوم فعن حسد» أي حسـدوا شهرتي ومثابرتي، وعن رغبة في تدميري وبروح الخصام (النزاع) يعملون معي، أو لكي يتم تقديرهم متوقعين أن يأخذوا لأنفسهم بعضاً من مجدي. «وأما قوم فعن مسـرة» أي بـدون رياء وبكل اجتهاد يكرزون بالمسيح.
«فهؤلاء عن تحزب ينادون بالمسيح لا عن إخلاص ظانين أنهم يضيفون إلى وثقي ضيقا» (1: 16).
أي أنهم ينادون بالمسيح ليس عن دوافع نقية وليس عن اهتمام للأمر نفسه بل لماذا؟ «ظانين أنهم (بذلك) يضيفون إلى وثقي ضيقاً» فإذ يظنون أنني هكذا سأقع في مخاطر أعظم، يضيفـون ضيقا إلى ضيقاتي الأخرى الكثيرة.
يا للوحشية !
يا للتحريض الشيطاني !
لقد رأوه مقيداً وملقى في السجن، ومع ذلك لا يزالون يحسدونه. هم يزيدون بلاياه ويجعلونه معرضاً لغضب أعظم، فيقول هو حسناً «ظانين» لأن النتيجة لم تكن هكذا. لقد ظنوا بهذا أنهم سيحزنونني لكنني فرحت لأن الإنجيل قد انتشر.
«وأولئك عن محبة عالمين أني موضوع لحماية الإنجيل» (۱۷:۱).
ما معني «أني موضوع لحماية الإنجيل»؟
يقصد بهذا أنهم يعدون كشـف الحسـاب الذي يلزمني أن أقدمه لله ويساعدونني.
ما معنى «لحماية»؟
لقد عينت للكرازة ويلزم أن أعطي حساباً وإجابة للعمل الذي تعين لي، وهم يساعدونني حتى يسهل دفاعي، لأنه لو كان هناك كثيرون تم إرشـادهم وآمنوا فإن دفاعي سيكون سهلا. لأنه يمكن القيام بعمل جيد مـن دافع ليـس جيداً. ومن يتصرف هكذا لا توجـد مكافأة في انتظاره ، لكن هناك عقوبة تنتظره. لأنهم إذ يكرزون بالمسيح رغبة في توريط كارز المسيح في مخاطر أعظم، فهم لن ينالوا مكافأة، لكنهم أيضاً سيتعرضون للانتقام والعقوبة.
«وأولئك عن محبة» أي أنهم يعلمون أنه يلزمني أن أعطى حساباً عن (الكرازة) الإنجيل.
«فماذا غير أنه على كل وجه سـواء كان بعلة أم بحق ينادي بالمسيح».(1: 18)
أنظـر إلى حكمـة بولس. فإنه لم يلمهم بشـدة، بـل ذكر المحصلة فيقول : ماذا يفرق عندي سواء تمت الكرازة بهذه الطريقة أو تلك؟
«فماذا غير أنه على كل وجه سواء كان بعلة أم بحق ينادي بالمسيح» .
لم يقـل هنا «لينادي بالمسيح» كما يفترض البعض أنه بهذا يفتح الطريـق للهرطقات، بل قال «ينادي بالمسيح» أي انـه لم يضع قانونا أو يعـط تصريحا بالكرازة التي تفتح الباب أمام الهرطقات ، ولكنه تكلم عما هو حادث بالفعل. وحتى لو كان قـد وافق على الكرازة التي كانوا يكرزون بها فإن هذا الأمر ايضا لن يفتح الباب أو الطريق أمام الهرطقات. لمــاذا؟ لأنهـم لو كرزوا بطريقة سليمة رغم أن الهدف والغرض الذي عملوا لأجله كان فاسداً، لكن الكرازة نفسـها لم تتغير، ولكنهم كانوا مجبرين على الكرازة هكذا. لماذا؟ لأنهم لو كرزوا بطريقة مخالفة لكرازة بولس وعلموا بتعليم غير تعليمه لما كانوا قد زادوا من سخط الإمبراطور. لكنهم عندما روجـــوا لكرازته، وعلموا بنفس الطريقة وصنعوا تلاميذ كما فعل ، فقـد أصبحت لهم قوة لإغاظة الإمبراطور عندما يرى جموعاً غفيرة مـن التلاميذ. لكن لو كان لأحد الأغبياء الأشـرار أن يقول : بالحق كان ينبغي لهم أن يعملوا العكس فيشتتوا الذين آمنوا بالفعل بدلا من زيادتهم لو كانوا يريدون مضايقة الإمبراطور، فبماذا سنجيب؟
لقد تطلعوا لهذا الشيء فقط وهو كيف يورطون بولس في الخطر الحاضر ولا يدعون له مفراً للإفلات منه، وهكذا ظنوا أنهم بالطريقة التي يعملون بها أي الكرازة بالإنجيل سوف يوغرون صدر الإمبراطور فتنطفىء شرارة الإنجيل.
ولـو قاوموا الإنجيل وعملوا ضد بولس فإنهم كانوا سيطفئون غضب الإمبراطور ولكانوا (بذلك) سيدعون بولـس يمضي بحرية ويكرز ثانية ، أما بهذا السـعي فقد ظنوا أنهم لو فقط دمروه، فكل شيء بالتالي سوف لكن لم يكن للكثيرين هذه النية (الخبيثة)، بل لبعض الأشـرار ينتهي. فقط.
بعد ذلك قال «وبهذا سأفرح، بل سأفرح أيضاً» (تابع ۱۸:۱).
ما معنى «بل سأفرح أيضاً»؟ يقصد حتى لو عملوا أكثر من هذا . لأنهم يتعاونون معي رغما عن إرادتهم، وسينالون عقوبة عن تعبهم، بينما أنا الذي لم أساهم في هذا بشيء سأنال مكافأة.
هل هناك ما يفوق هذه الدناءة التي للشيطان في أن يوجد وسيلة عقوبة للكرازة وانتقام من الأتعاب (فيها)؟ انظروا كم من شرور كثيرة يطعن بها ذاته ! من رتب كل هذا غير الشيطان البغيض وعدو خلاصهم؟ هل ترون كيف أن الذي يشن حرباً ضد الحق لا تكون لديه قوة بل بالأحرى يجرح نفسه كمن يضرب ضد المناخس؟
«لأنـي أعلم أن هذا يؤول لي إلى خلاص بطلبتكم ومؤازرة روح يسـوع المسيح» (1: 19).
لا يوجد من هو أكثر سـفالة من إبليس. فهو في كل مكان يورط الذين له في أتعاب غير مفيدة ويمزقهم. وهو لا يتيح لهم الحصول على المكافآت فقط بل يعرضهم للعقوبات أيضا. لأنه لا يأمرهم بالكرازة بالإنجيل فقط، بل وبالصوم والتبتل أيضاً، بالطريقة التي بها لن يحرمهم من مكافآتهم ، بل أيضاً سينزل بهم شـروراً ثقيلة. وهو يقول أيضـاً في موضع آخر من جهتهم «موسومة ضمائرهم» (1تي4: 2).
لذلك أتوسل إليكم أيها الأخوة، ليتنا نشكر الله على كل شيء لأنه خفـف تعبنـا وزاد مكافأتنـا. لأن الذين يعيشون في البتولية بينهم لن ينالوا المكافآت التي سينالها من يعيشـون بيننـا متعففين في الزيجة ، بل إن الذين يحيون في البتولية من الهراطقة سيتعرضون لدينونة الزناة. وكل هذا لا ينبع من تصرفهم بغرض مسـتقيم، بل كمن يلوم خلائق الله وحكمته التي لا ينطق بها.
لذلك ليتنا لا نكون متكاسلين. إن الله أقام أمامنا جهاداً بحدود ليس فيها تعب. لكن ليتنا لا نحتقره لأجل هذا. لأنه إن كان الهراطقة يبذلون أقصـى جـهـدهـم في أتعاب غير مجدية، فأي عذر لنا إن لم نحتمل نحن الأتعاب التي هي أقل ولها مكافأة أعظم؟ لأنه أياً من وصايا المسيح هي شـاقة؟ وأيها مكررة؟ هل أنت غير قادر على أن تحيا متبتلاً؟ مسموح لك أن تتـزوج. هل أنـت عاجز عن أن تتجرد من كل مـا تملك؟ متاح لك أن تزود الآخريـن باحتياجاتهم مما لـك. دع «فضالتك لأعوازهم (2كو8: 14). إن هذه الأشياء تبدو متعبة ! فمـا هي؟ أقصد أن تزدري بالمال وأن تتغلب على شهوات الجسد. لكن وصاياه الأخرى لا تتطلب ثمناً أو تغصباً. أخبرني أية مشـقة تكابدها في عدم التحدث بكلام شرير والامتناع عن النميمة؟ أية صرامة توجد في عدم حسد خيرات الآخر؟ أية شـدة تعانيها في عدم الانجراف للمجد الباطـل؟ أن تتألم وتحتمل فهذا أمر يرجع إلى القوة. إن ممارسة الفلسفة (أي الحكمة) هو أمر يرجع إلى القوة (التي للعزيمة العاملة فيها النعمة). أن تحتمل الفقر في الحياة فهذه قوة. أن تصـارع مع الجوع والعطش فهذا أمر نابع من القوة. أية صرامة هناك حيث لا يوجد أي من هذه الأشياء، بل أنت تستمتع بما لك كما يليق بمسيحي؟
من هذا المصدر ينبع الحسـد، بل كل الشرور الأخرى هي بالأحرى لا تنبـع من مصدر آخر سـوى هذا ، وهو أننا نلتصـق بالأرضيات. لأنه لو اعتبرت أن المال ومجد هذا العالم لا شـيء فلن تنظر نظرة شـريرة إلى مالكيهـا. لكن حيث إنك تعجب بهذه الأشياء وتعشـقها وتمتدحها، فلهذا السبب يزعجك الحسد والمجد الباطل، وكلها أمور تنشأ من عشق الأرضيات. هل تغار لأن هناك شخصاً آخر غنيـاً؟ لا تغر، فمثل هذا الإنسـان الغني محتاج للشفقة ولدموع (تنسكب لأجله). لكن إن سخرت وإن أجبـت في الحـال بسخرية قائلا : لا بل أنا الذي يحتاج للدموع (لأجل فقري) وليس هو! فأنت أيضاً تحتاج لمن يبكي عليك، ليس لأنك فقير، بل لأنك تظن نفسـك تعيساً. نحن نبكي لأجل الذين ليس لديهم هموم و (مع ذلك) فإنهم متذمرون، ليس لأن لا هموم لهم بل لأنهم يظنون أن لديهم هموماً. لنفترض مثلاً أن أحدهم شـفي من الحمى ولا يزال قلقاً ويتقلب وهو راقد سليما في فراشه ، ألا يبكي الإنسان عليه أكثر من الذين هـم بالفعل محمومون، لأن ليس فيه مـرض ومع ذلك يظن أنه مريض؟ وأنت تحتاج لمن يبكي عليك لأنك تظن أنك تعيس وليس لأجل فقرك.
لماذا تحسد الإنسان الغني؟ هل لأنه عرض نفسه لهموم كثيرة؟ لعبودية قاسية؟ هل لأنه مربوط مثل كلب بعشـرة آلاف سلسلة أقصد لأمواله؟ المسـاء يباغته ، الليل يباغتـه، لكن وقت الراحة بالنسبة له هو وقت الاضطراب والخـوف والألم والقلق. عندما تحدث ضوضاء (في الخارج) ، يقفز في الحال (من فراشـه ، خوفا على ماله). هل سُـلب جاره؟ ورغم أنه لم يفقد شيئاً يكون مهموماً أكثر من جاره المسـلوب. لأن الإنسـان المسلوب فقد ما فقده مرة، و كابد الألم لفترة تم تخلى بعد ذلك عن همه (بعـد حين)، أما الآخـر دائماً همه معه. الليل يأتـي وهو ميناء (راحة مـن) أتعابنا، عزاء (من) بلايانا، دواء جروحنا. لأن الذين تثقلوا بحزن مفـرط غالباً ما لا يعطـون آذاناً صاغية لأصدقائهم وأقاربهم والقريبين إلى قلوبهم، ومراراً لا يسمعون حتى لأبيهم عندما يريحهم بكلمات تعزية ، بل يستاءون من ذات هـذه الكلمات، لأن مرارة الحزن تؤذي نفوسنا بطريقة أسـوأ من أي حرق. وكما أن الجسـد عندما ينهك من المصارعة ضد شـدة أشعة الشمس، ثم ينقل إلى مكان فيه ينابيع كثيرة تسـوده نسمات الهواء المنعشة (لملاشاة تأثير أشعة لشمس الحارقة)، كذلك الليل فإنه يسلم نفوسنا إلى النوم (ليشفينا من جراحات النهار). بل بالأحرى يجب أن أقول، ليس الليل أو النوم هما اللذان يعطيان هذه (الراحة) بل الله الذي يعرف جنسـنا المبتلى بالتعب ، فقد جلب لنا هذه (الراحة)، بينما نحن لا نشـفق على نفوسنا، كما لو كنا نعادي نفوسنا، واخترنا أن نبقى أسـرى لقوة تحل محل الاحتياج الطبيعي للراحة، وأقصد بها الأرق الذي يأتي من الثروة. لأنه قيل «هموم الثـروة تدفع النوم بعيداً» (بن سيراخ ۱:۳۱ بحسـب النص). انظر كم هو عظيم اهتمام الله، لكنه لم يخضع الراحة لمشيئتنا ولا الاحتياج للنـوم لاختيارنا، بل ربطهما بضروريات الحياة، حتى يعمل معنا خيراً رغماً عن إرادتنا. لأن النوم هو (شـيء مغروس) في طبيعتنا. ولكننا كمبغضين أشداء لنفوسنا بنفس قدر عداوتنا واضطهادنا لآخرين اخترعنا طاغية أعظم من احتياج الطبيعة هذا، وهو الطغيان الذي يأتي من المال.
وعندمـا تشـرق شمس يوم جديد، يكون هذا الإنسان في رعب من احتمال سماع أخبار سيئة عن ممتلكاته، وعندما يأتي الليل يرتعب من اللصـوص. وعندما ترد على ذهنه فكرة الموت، يرتعب لا من الموت فقط بل من فكرة أنه سيترك ثروته لآخرين. وعندما يرزق بابن فإن رغبته في اقتناء الثـروة والممتلكات تزداد وإذا لم يكن قـد رزق بأبناء فإن متاعبه تزداد أكثر.
هل تعتبر الذي هو عاجز عن نوال بهجة من أي جانب سـعيداً؟ هل يمكنك أن تغار ممن هو في خضم العاصفة، بينما أنت مستقر في الميناء الهـادئ الذي للفقـر؟ بالحقيقة هذا نقص (معيب) في الطبيعة البشرية لأنها لا تقدر جيداً ما هو لخيرها بل تستاء من نجاحها ذاته.
وكل هذا يحدث على الأرض، لكن عندما نرحل إلى السماء اسمع مـا يقوله الغني الذي له خيرات كثيرة كما تقول (إذ أنني من جانبي لا أدعـو هذه الممتلكات خيراً بل هي أشياء قليلـة الأهمية)، إذ يهتف قائلاً «يا أبي إبراهيم ارحمني وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه ويبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب» (لو16: 24). لأنه حتى لو لم يعاني ذلك الغني شيئاً مما ذكرته، ولو أمضى كل حياته بدون مخاوف وهموم ولمـاذا أقـول كل حياته بالحري تلك اللحظة (لأنها لحظـة وحياتنا كلهـا مـا هـي إلا لحظة لو قورنت بالأبدية التي ليس لهـا نهاية)، لو كانت كل الأمور قد سـارت بحسب رغبته ، ألا يلزم أن نرثي له لهذه الكلمـات، بل بالأحـرى لهذه الحالة التي آلت إليهـا الأمور؟ ألم تكن مائدتك فائضة بالخمور؟ الآن أنت لا تحتكم ولا على قطرة ماء وأنت في قمـة احتياجاتك. ألم تهمل ذلك الفقير المملوء قروحا؟ لكنك الآن تلتمس نظـرة منـه ولا أحد يعطيك هذا . إنه كان راقداً عند بابك ، لكنه الآن في حضـن إبراهيم. أنت كنت آنذاك راقداً تحت سقف بيتك الفخم ، أما الآن تقبع في نار جهنم.
ليت الأغنياء يسمعون هذا الكلام، لا ليس الأغنياء بل قساة القلوب. لأنه لم يعاقـب لكونه غنياً، بل لأنه لم يظهر شـفقة. لأنه يمكن لمن هو غني وشـفوق بآن واحد أن ينال كل خير. ولهذا السبب فإن عيني الغني لم تكونا مثبتتين على شخص آخر سـوى من كان يطلب صدقته حتى يعرف من تذكره لأعماله السابقة أن عقوبته كانت عادلة. ألم يكن يوجـد فقراء عديدون كانوا أبـراراً غير لعازر؟ لكن ذاك الذي كان آنذاك مطروحاً عند بابه، هو الوحيد الذي رآه ليعلمه ويعلمنا كم هو خير عظيم أن لا نضـع ثقتنـا (وقلوبنا) في الغنى (والمال). إن الفقر لم يعق لعازر عن الحصول على الملكوت ، بينما لم يساعد الغني الآخر على تحاشي جهنم. أين الحد الذي عنده يكون الإنسـان فقـيرا؟ أين الحد الذي عنده يهبط الإنسان حتى إلى الفقر المدقع؟ لا يكون فقيرا من لا يملك شيئاً، بل الفقير هو الذي يشتهي أشياء كثيرة!. ليس غنيا من يملك مقتنيات كثيرة ، بل الغني هو من لا يقف في موقف الاحتياج إلى شـيء. لأن ما المنفعة أن تمتلك العالم كله تحيا في كآبة أعظم من الذي لا يملك شيئا؟ إن ومع استعدادات قلوب الناس وليس فيض المال أو العوز إليه هو الذي يجعل الناس فقراء أو أغنياء.
هـل تود يا مـن أنت فقير أن تصير غنياً؟ يمكنك أن تصير هكذا بإرادتك ولا يمكن لأحد أن يعيقك. احتقر غنى العالم واعتبره لا شيئا ولا يمكن لأحد (آنذاك) أن يعيقك. احتقر غني العالم واعتبره لا شيئاً كما هو بالفعل هكذا. اطرح عنك شهوة المال وأنت في الحال تكون غنياً !
غـني هو الذي لا يرغب في أن يصير غنياً، ومن لا يرتضي بأن يكون فقيراً (في المال) هو فقير. كما أنه معتوه من كان في كامل صحته ويندب حالـه (بتوهمه أنه مريض)، وليس الـذي يحتمل مرضه بخفة أكثر من الصحة السليمة، كذلك أيضاً يكون فقيراً من لا يستطيع احتمال الفقر، بل في وسـط غناه يظن نفسـه أفقر من الفقير، وليس الذي يحتمل فقره بخفة أكثر ممن يحتملون غناهم، لأنه رجل أغني.
لكن أخبرني : لماذا تخاف الفقر؟ لماذا ترتعب منه؟ أليس لأجل الجوع؟ أليـس لأجل العطش؟ أليس لأجل البرد؟ أليس لأجل هذه الأشياء؟ لا يوجد من هو أبدأ في عوز لهذه الأشياء «تأملوا في الأجيال الأولى وانظروا من توكل على الرب فخزي. أو من ثبت بخشيته فأهمل. أو من استغاثه فرفضـه؟» (بن سيراخ2: 10). وأيضاً «انظروا إلى طيور السماء. إنها لا تـزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن. وأبوكم السماوي يقوتها (مت 6: 26). لا يمكن لأحد أن يسارع ويشير إلى شخص اتكل على الرب وهلـك من الجوع والبرد. فلماذا ترتعبـون من الفقر؟ لا يمكنكم أن تقولوا (لماذا). لأنه لو كان لديك أموال كفاية فلماذا ترتعب منه؟ أ لأنه لا يوجد لديك خدم كثيرون؟ هذا تحرر من السيادة. هذه سـعادة دائمة. هذا هو التحرر من الهم. هل لأن آنيتك وسريرك وأثاثك غير مصنوعة من الفضة؟ وأي تلذذ يشعر به أكثر منك من يملك هذه الأشياء؟
لا يوجد فرق على الإطلاق. إن الاستعمال هو نفس الاستعمال سواء كانت هذه المشغولات مصنوعة من الفضة أو خلافه. هل لأنك غير مهاب من الكثيريـن؟ ليتك لا تصير هكذا أبداً ! لأنـه أية لذة في أن يقف أحد أمامك وهو مرتعد منك؟
هل لأنك خائف من آخرين؟ لكن يمكنك أن لا تخاف. لأن «أتريد أن لا تخاف السلطان؟ أفعل الصلاح فيكون لك مدح منه» (رو13: 4).
هل هناك من يقول : لأننا قد تتعرض للازدراء فهل نعاني من الشـر؟ ليس الفقر هو الذي يسبب هذا بل الشـر، لأن فقراء كثيرين قضوا كل حياتهم في هدوء، بينما الحكام والأغنياء والأقوياء أنهوا حياتهم في تعاسة أكثر من فاعلي الشر ومن قطاع الطرق ولصوص المقابر.
لأن ما الذي يجلبه الفقر في حالتك ويجلبه الغنى في حالتهم؟ لأن ما يصنعه الذين يسيئون إليك، يصنعونه بك من خلال حالتك المزرية ، هم يعملونـه للغني من باب الغيرة والنظرة الشريرة التي يلقونها عليه، بل إن الغني يعامل بازدراء أكثر منك ، لأن الاشتياق إلى إساءة معاملة الآخر تكون أكثر شـدة في حالته. الذي يحسـد يفعل كل شيء بأقصى جهده ، بينمـا غالباً ما يشـفق المزدري بالمزدرى به وكثيراً ما يكون فقره وعوزه الشديد للقوة سببا في إنقاذه.
ولو قلنا : أية منفعة جزيلة ستجنيها لـو قتلت الفقير، لهدئنا بهذا من غضبه. لكن الحسـود يجعل نفسه ضد الغني ولا يتوقف حتى يعمل مـا يريد ويسكب كل سمه. هل ترى أن لا الفقـر ولا الغنى هو خير في حد ذاته، بل هذا يتوقف على استعداداتنا للأسلوب الحسن والتعامل معهما بحكمة.
لو أن هذا تم حسناً، فلا الغنى يمكنه أن يطرحنا من الملكوت ولا الفقر ا يجعلنا نخيب (نفشـل). بل سنحتمل الفقر بوداعة ولن نخسر من جهة التلذذ بالخيرات الآتية ولا حتى من الخيرات التي هنا على الأرض، بل سنستمتع بما هو خير على الأرض ونحصل على الخيرات السماوية التي نتعشـم الحصول عليها بنعمة ورأفة ربنا يسوع المسيح الذي له مع الآب والروح القدس، المجد والقوة والإكرام الآن وإلى دهر الدهور آمين.
العظة الثالثة (فيلبي1: 18-24)
“وبهذا أنا أفرح. بل سأفرح أيضاً. لأني أعلم أن هذا يؤول لي إلى خلاص بطلبتكم، ومؤازرة روح يسوع المسيح، حسب انتظاري ورجائي أني لا أخزى في شيء، بل بكل مجاهرة كما في كل حين، كذلك الآن يتعظم المسيح في جسدي، سواء كان بحياة أم بموت”(۱۸:۱-۲۰).
لا شيء من الأمور المحزنة التي في هذا العالم يمكنه أن ينشب مخالبه في تلك النفس السامية التي هي بالحق تعيش بحسب الحكمة، سواء كانت هذه الأمور عداوة أو اتهامات أو نميمات أو مخاطر أو مكائد. إنها تطير لتتحصن في قلعة قوية وتكون هناك في حماية أمينة من الهجمات التي تأتيها من الأرض السفلية.
هكذا كانت نفس بولس، فهي امتلكـت موضعا أعلى من أي قلعة ، إذ امتلكت مقعد الحكمة الروحية التي هي الفلسفة الحقيقية. لأن فلسفة الذين من خارج ، أي غير المؤمنين، هي مجرد كلام ولهو أطفال. لكننا لا نتكلم عن هذا الآن، بل عما يختص ببولس. هذا الطوباوي كان يعاديه كل من الإمبراطور وأعداء ألداء كثيرون آخرون كانوا يؤذونه بطرق شتى، بـل وبنميمـة مرة. وماذا يقول هو؟ إنه يقـول : لن أحزن أو أخور تحت ثقل هذه الأمور، بل «أنا أفرح، بل سأفرح أيضاً» ليس لفترة معينة بل دائماً سأفرح لهذه الأمور، «لأني أعلم أن هذا يؤول لي إلى خلاص» هذا الذي يحدث عندما تساهم عداوتهم أيضاً وغيرتهم من نحوي في نشـر الإنجيل.
ثم أضاف قوله «بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح حسب انتظاري ورجائي .
انظـر إلى الذهن المتواضـع لهذا الطوباوي. إنـه كان يجاهد في الحلبة ، واقترب الآن من إكليله وحقق انتصارات كثيرة، وماذا يمكن للإنسان أن يضيف لهذا؟
لا يـــزال يكتـب إلى أهـل فيلبي قائلاً «هذا يؤول لـي إلى خلاص بطلبتكـم» أنا الذي نلت الخلاص عن طريق إنجـازات لا حصر لها. ويقول «ومؤازرة روح يسوع المسيح». إنه كما لو كان يقول : إن كنت أظن أنني جدير بصلواتكم، أظن أيضاً أنني سأكون جديراً لنعمة أكثر. لأن معنـى «مؤازرة» هو هـذا : إن كان الروح قد آزرني، فهو يعطي لي بفيض أكثر. أو هو يتحدث عن نجاة «إلى خلاص» أي «سأفلت أيضاً من الخطر الحاضر كما نجوت من السابق. وعن نفس هذا الأمر يقول «في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي بـل الجميع تركوني. لا يحسـب عليهم. ولكــن الرب وقف معي وقوانـي» (2تي4: 16، 17)، لذلك يتنبأ الآن قائلاً «بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح. حسب انتظاري ورجائي»(في1: 19، 20). لأن هـذا مـا أرجوه. ولكي يقنعنا بـأن لا نترك الأمر كله للصلوات المرفوعة عنا ولا نسـاهم بشـيء من عندنا، انظر كيف قدم مـا عليه، الذي هـو الرجاء مصدر كل الخيرات كقـول النبي «لتكن يا رب رحمتك علينا حسبما ترجيناك» (مز22:33). وكما هو مكتوب في موضع آخر «تأملوا في الأجيال الأولى وانظروا من توكل على الرب فخزي أو من ثبت بخشيته فأهمل. أو من استغاثه فرفضه؟» (بن سيراخ2: 10). وأيضـاً نفس هذا الطوباوي يقـول «الرجاء لا يخزى» (رو5: 5). هذا هو رجاء بولس : الرجاء بأني لن أخزى أبداً.
يقول الرسول «حسب انتظاري ورجائي أني لا أخزى في شيء» .
هل ترى كم أنه شـيء عظيم أن يكون لك رجاء في الله؟ (فلسـان حاله) يقول : مهما حدث فلن أخزى، فلن يسودوا عليّ «بل بكل مجاهرة كما في كل حين، كذلك الآن يتعظم المسيح في جسدي» .
إنهـم توقعوا أن يمسكوا ببولس في هـذه المصيدة ويخمـدوا الكرازة بالإنجيـل كما لو كانت حيلتهم لها أية قوة. لذلك هو يقول : هذا لن يكون هكذا فلن أموت الآن «كما في كل حين كذلك الآن يتعظم المسيح في جسدي». كيف هذا؟
مراراً ما سقطت في مخاطر، عندما تخلى كل الناس عني، بل وما هو أكثر من هذا عندما خرت أنا نفسي ، ، لأنه «كان لنا في أنفسنا حكم الموت» (۲و۱ : ۹)، لكن الرب نجاني من كل المخاطر، كذلك الآن أيضاً يتعظم المسيح في جسدي. فماذا؟ لئلا يظن أحد ويقول : إن حكم عليك بالموت يا بولس أفلا يتعظم المسيح؟ فيجيب بولس : نعم، أنا أعلم أنه سيتعظم ، لهذا السبب لم أقل إن حياتي وحدها ستعظمه ، بل موتي أيضاً. وهو يقصد الآن «بحياة» إنهم لن يقتلوني، وحتى لو فعلوا هذا فالمسيح بهذا أيضاً يتمجد. كيف هذا؟
بالحيـاة لأنه نجاني (من المخاطر)، لكن «بموتي» لأنه حتى الموت نفسه لا يمكنه أن يجعلني أنكره، لأن المسيح أعطاني مثل هذا الاستعداد وجعلني أقوى من الموت. فمن ناحية لأنه نجاني من الخطر، ومن ناحية أخرى لأنه لم يسمح لي أن أخاف من طغيان الموت ، وهكذا يتعظم المسيح في جسـدي سـواء كان بحياة أو بموت. وهذا لا يقوله وكأنه كان على وشـك أن يموت ، لكن لئلا يتأثر البعض لموته، لأن الناس معرضون لهذا (التأثر السلبي). لكن لكي تعلموا أن كلماته هذه لا تشير إلى موت وشيك ، وهـو الفكر الذي يؤلمهم كثيراً، انظـر كيف يريحهم من هذا الفكر وكأنه يقـول لهم: «أنا أقـول هذا الكلام، ليس كمن هو على وشـك الموت» ، لذلك أضاف في الحال «فإذ أنا واثق بهـذا أعلم أني أمكث وأبقى مع جميعكـم» (في١ : ٢٥). إنه يقول «إني لا أخزى في شـيء» (في١ : ٢٠)، أي أن الموت لن يخزيني، بل بالأحرى سيجلب لي ربحاً عظيماً. لماذا؟ لأنني غير خالد، لكني سألمع ببهاء أكثـر مما لو كنت خالداً، لأنه لن يحدث نفس الشيء لمن هو خالد ومن هو مائت عندما يزدري بالموت إذ ، رد فعلهما مختلف، فإني لا أخزى في شـيء لا في الحياة ولا في الموت . لأني سأحتمل كليهما بنبل سواء الحياة أو الموت، فهذا هو دور النفس المسيحية !
لكنه يضيف «بكل مجاهرة».
ألا ترى كيف أنني خال تماماً من كل خزي؟ لأنه لو أن الخوف من الموت قد قلل من مجاهرتي، لكان الموت يستحق الخزي، لكن لو كان المـوت قريباً مني ومع ذلك لم يرعبني فلا خزى هنا، سـواء كان بحياة فلن أخزى لأنني لازلت أبشـر بالإنجيل، أو بموت فلن أخزى فالخوف لـن يعيقني إذ أنني لازلت أظهر نفس المجاهـرة. ألم تفكروا في الأمر علـى أنه مخـزي عندما ذكرت قيودي، لكن قيودي كانت سببا لخير متعدد الأوجه في أنها أعطت ثقة لآخرين. لأنه أن تقيد لأجل المسـيح ، فهـذا ليـس بخزي، لكن أن تخاف القيود التي لأجل المسيح فهذا هو الخزي.
عندما لا يوجد مثل هذا الخوف، فالقيود تكون بالأولى سبباً للجسارة. لكن حيث إنني مراراً أفلت من المخاطر وكان هذا سبب افتخار لي أمام غير المؤمنين فلا تظنوا سريعاً أنني خزيت، إذ أن الحال ليس هكذا الآن. فالإفلات من المخاطر يعطيني جسارة لا تقل عن عدم الإفلات منها.
لاحـظ كيف أنه يقدم هذا في شخصه، الأمر الذي يعمله في مواضع أخرى كما في رسالة رومية إذ يقول «لأني لست أستحي بإنجيل المسيح» (رو1: 16)، وأيضاً في رسالة كورنثوس الأولى يقول «فهذا أيها الإخوة حولته تشبيها إلى نفسي وإلى أبلوس» (1كو4: 6).
«سواء كان بحياة أم بموت»
لا يقول هذا كما لو كان عن جهل (لأنه علم أنه لن يموت الآن، بل بعد ذلك بفترة)، لكنه الآن أيضاً يعد نفوسهم.
“لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح” (۲۱:۱)
إنه يقصد : لأنه حتى بالموت لن أموت لأن حياتي في، إذ سيقتلونني حقاً لو كانت لديهم القوة عن طريق هذا الخوف لنزع الإيمان من نفسي. لكن طالما أن المسيح في ، فحتى لو أدركني الموت، فإنني لازلت عائشاً ، وفي هذه الحياة الحاضرة، ليست هذه حياتي بل حياتي هي المسيح. لذلك حيث إنه ولا في الحياة الحاضرة الأمر هكـذا «فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان» (غلا۲ : ۲۰). كذلك أقول في تلك الحالة أيضاً «فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في» (تابع غلا٢ :٢٠). هكذا ينبغي للمسيحي أن يكون ! .
يقول الرسول : أنا لا أحيا الحياة العادية.
فكيـف تعيش أيها الطوبــاوي بولس؟ ألا ترى الشمس؟ ألا تتنفس الهواء؟ ألا تتغذى بنفس الطعام مثل آخرين؟ ألا تسير على الأرض مثلنا؟ ألا تحتاج إلى الطعام والملبس والحذاء؟ ماذا تقصد بعبارة «أحيا لا أنا» ؟ كيف لا تحيا أنت ؟ لا: تفتخر بنفسك؟
لا يوجد افتخار هنا. لأنه إن كانت الحقائق تشـهد له، فكيف يكون هـذا افتخاراً ؟ لذلك لنتعلم هنا كيف أنه لا يحيا هو، لأنه هو نفسـه يقـول في موضع آخر «صلب العالم لي وأنـا للعالم» (غلا6: 14). اسمع إذا كيـف يقول «أحيا لا أنا» (غلا2: 20)، وكيف يقول «لي الحياة هي المسيح» (في1: 21).
أيها الأحباء إن كلمة «حياة» لها أهمية أكثر مثلها مثل كلمة «موت». توجد حياة للجسد وتوجد حياة للخطية، كما يقول هو نفسه في موضع آخـر «نحن الذين متنا عن الخطية كيف نعيش بعد فيها؟» (رو6: 2). إذا يمكن أن يحيا الإنسان حياة الخطية.
أتوسـل إليكـم أن تنصتوا باجتهـاد لئلا يضيع تعـبي عبثاً. توجد حيـاة خالدة مع حياة أبديـة سماوية «فإن سيرتنا (وطننا) نحن هي في السموات» (في20:3). توجد حياة للجسـد والـتي عنها يتكلم «به نحيـا ونتحرك ونوجد» (أع17: 28). إذا فهو لا ينكر أنه يحيا الحياة الطبيعيـة، لكنـه لا يحيا حياة الخطية التي يحياهـا كل الناس. الذي يريد الحياة الحاضـرة فكيف يحياها؟ الذي يسرع إلى حياة أخرى كيـف يحيا هذه الحياة؟ الذي يزدري بالمـوت كيف يحيا هذه الحياة؟ الذي لا يريد شيئاً كيف يحياها؟ لأن ما هو مصنوع من الماس فحتى لو ضـرب ألـف ضربة لن بتأثر أبدأ بهذا الضرب، وبولس أيضاً (لن يعيره انتباهـا). ويقول «أحيا لا أنا» أي «لا يحيا الإنسان العتيق في بعد» ، كما يقول أيضاً في موضع آخر: «ويحي أنا الإنسـان الشقي. من ينقذني من جسـد هذا الموت» (رو7: 24). كيف يحيا من لا يعمل أي عمل من أجل الطعام، ومن أجل الملبس، ومن أجل أي من هذه الأمور الحاضرة؟ إنسان مثل هذا لا يحيا الحياة الطبيعية : الذي لا يهتم بشيء مما يقوت الحيـاة الحاضـرة لا يحيا. نحن نحيا هذه الحيـاة التي لابد أن نعمل فيها حتى نعيش. لكن بولس لم يحيا ولم يشـغل نفسـه أبداً بشيء من الأشياء هنا. فكيف عاش؟ تماماً كما اعتدنا القول في الأمور العامة «إن مثل هذا الإنسـان (باله) ليس معي. عندما لا يعمل شيئا يختص بي» ، أيضاً وبطريقة مماثلة «إنسـان مثل هذا لا يحيا لأجلي». وفي موضع آخر يبـين بولـس أنه لا يلفظ الحيـاة الطبيعية إذ يقول فمـا أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلـي» (غلا2: 20)، أي أنا أحيا نوعاً مختلفاً من الحياة الجديدة، وهـو بالحقيقة ذكر كل هذه الأقوال ليريسح أهل فيلبي. وكأنه يقول : لا تظنوا أنني سأحرم من هذه الحياة، لأنه حتى وأنا عائش، لم أعش هذه الحياة، بل عشت الحياة التي أرادها المسيح. أخبروني هل الذي يحتقر المال، الترف، الجوع، العطش، والأخطار، الصحة، الأمن00 يحيا هذه الحيـاة؟ الذي لا ممتلكات لديه هنا ويرتضي مراراً أن يتخلى عن الحياة لو طلب منه ذلك ، وهو غير متعلق بها، هل هو يحيا هذه الحياة؟ لا على الإطلاق.
هـذا يلزمني أن أوضحه لكـم بمثال. لنتخيـل أن أحدهم لديه ثروة عظيمة مع خدم كثيرين وذهب وفير ولا يستفيد من كل هذه الأشياء ، فهل مثل هذا الإنسان غني لأجل كل ثروته؟ لا على الإطلاق.
لندعه يرى أولاده يبذرون ماله ، يتسكعون بتكاسل، ولندعه لا يتألم عندما يضربون، فهل ندعوه إنساناً غنياً؟ لا على الإطلاق مع أن ثروته هي ملكه .
إن بولس يقول «لي الحياة هي المسيح» فإن سألت عن حياتي (أنا بولس)، أجيب إنه هو حياتي «والموت هو ربح لي» لماذا؟ لأني سـأكون موجـوداً معه ، حتى إن موتـي هو بالأحرى انتقال إلى الحياة، الذين يقتلونــي لـن يعملوا لي أمراً فظيعا، (بل) هم فقط يرسلونني مباشـرة (حرفيا إلى الأمام) إلى حياتي الأصلية ويحرروني من الحياة التي ليست لي. فمـاذا، فبينما كنت هنا، هل لم تكن حياتي للمسيح؟ نعم كانت هكذا وبدرجة عالية.
«ولكن إن كانت الحياة في المسيح هي ثمر عملي فماذا أختار؟ لسـت أدري» (٢٢:١)
لئلا يقول شـخص ما : إن كنت تقول إن المسـيـح هـو حياتك فلماذا تركك هنا؟
فيجيب بولس : إن الحياة هنا (في الجسد) «هي لي ثمر عملي، حتى إنه من الممكن استخدام الحياة الحاضرة لغرض حسن بينما أنا لا أحياها (كما يعمل أهل العالم). لئلا تظنوا أن الملامة ملقاة على الحياة، لأنه إن لم نجن منفعة هنا، فلماذا لا ننتحر ولا نقتل أنفسنا (كما يقول البعض ممن هم خارجاً)؟
فيجيب بولس رداً عليهم: أبداً، فإنه متاح لنا أن نربح حتى هنا إن لم نعش هذه الحياة (بحسب مفاهيم أهل العالم)، بل حياة أخرى (تليق بأولاد الله).
لكن ربما من يتساءل: هل تجلب لك هذه الحياة ثماراً؟
فيجيب بولس : نعم !
فأين الهراطقة الآن؟ لينظروا الآن قوله إن حياته في الجسـد هي ثمر عمله «ما أحياه الآن في الجسد، إنما أحياه في الإيمان» لذلك «ثمر هو عملي» .
«فماذا اختار؟ لست أدري»
کلام مدهش !
كم كانت فلسفته عظيمة !
كيف أنه طرح عنه شهوة الحياة الحاضرة، ومع ذلك لم يلق عليها ملامـة ! لأن بقولـه «الموت هو ربح» فقد طرح عنه شـهـوة الحياة، لكن بقولـه «الحياة في الجسـد هي لي ثمـرة عملي» فهنا أظهـر أن الحياة الحاضـرة هي أيضاً مطلوبة، إن استخدمناها كمـا ينبغي ، إن أثمرنا ، لأنها إن كانت غير مثمرة فهي لم تعد حياة. لأننا نزدري بتلك الأشجار التي لا تحمـل ثمراً، و نطرحهـا في النار. إن الحيـاة ذاتها تقع ضمن الأشياء الحيادية بينما أن تحيا بطريقة حسنة أو سيئة، فهذا أمر يتوقف
علينا.
إذا نحن لا نكره الحياة، لأنه يمكننا أيضاً أن نحياها بطريقة حسنة. لذلك حتى لو أسـأنا استخدامها، فنحن مع ذلك لا نلقي الملامة عليها. لماذا؟ لأن الحياة في حد ذاتها غير ملومة، بل الملوم هو الإرادة الحرة لمن أساءوا استخدامها. لأن الله قد جعلك حياً لكيما تحيا له، لكنك بحياتك في الفساد والخطية، جعلت نفسك مسئولا عن كل ملامة (بشأنها).
أخبرني ماذا تقول (يا بولس الرسول)؟ ألا تعرف ماذا تختار؟
إن بولس هنا قد أظهر سـراً عظيماً في أن رحيله كان في متناول يده ، لأنـه حيث يكون الاختيار، هناك يكون لنا سـلطان. هـو يقول «فماذا أختار؟ لست أدري .
هل هذا الاختيار في مقدورك؟
فيجيب: نعم، فلو أردت، سأطلب من الرب هذه النعمة.
«فإني محصور بين الاثنين. لي اشـتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل جدا» (۱ : ۲۳).
انظر إلى حنان هذا الطوباوي، فهو بهذه الطريقة أيضاً يريحهم (يعزيهم) ، عندما یرون أنه متحكم في اختياره، وهذا يتم ليس بخطية إنسان (أي لا يتوقف على خطية إنسـان أو كنتيجة لها)، بل بتدبير الله. وهو (كأنه) يقول : لماذا تنتحبون لموتي؟ إنه من الأفضل جداً لي أن أعبر إلى هناك.
ويواصل كلامه قائلا:
«أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً. ولكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم» (١: ٢٤).
إن هـذه الكلمات كانـت تعدهم لهذا الموت عندما يحدث حتى يحتملوه بشجاعة، وهذا كان لتعليمهم الحكمة الحقيقية. إنه خير لي أن «أنطلق وأكون مع المسيح» لأن الموت نفسـه هو شيء حيادي، إذ الموت في حد ذاته ليس شراً، بل الشر هو أن تُعاقب بعد الموت. وليس الموت خيراً (في حد ذاته)، بل الخير بعد الموت هو أن نكون مع المسيح. ما يعقب الموت يكون إما خيراً أو شراً.
لذلك ليتنا لا نحزن وحسب لأجل الميت، ولا نفرح لمجرد أننا نحيا. لكن كيف (نفرح أو نحزن)؟
لنحـزن لأجل الخطـاة، ليس فقط عندما يموتون، بل أيضاً وهم لا يزالون أحياء. لنفرح لأجل البار ليس فقط بينما هو حي، بل أيضاً عندما يموت. لأن الخطاة أموات رغم أنهم لا يزالون أحياء (بالجسـد)، بينما الأبرار ولو أنهم أموات (بالجسد) لا زالوا أحياء (بالروح). ولنا أن نرثي للخطاة حتى وهم هنا (على الأرض) لأنهم في عداوة مع الله، بينما الأبرار مطوبون حتى لو رحلوا إلى السماء، لأنهم انطلقوا إلى المسـيح. الأشـرار حيثما وجدوا، بعيدون عن الملك (المسيح)، لذلك هم الذين ينبغي البكاء عليهم ، بينما البار، سواء كان هنا (على الأرض) أو هناك (في السماء)، فهو مع الملك، وهناك في درجة أعلى وأقرب ، ليس في مرآة أو بالإيمان ، بل «وجها لوجه» (1کو13: 12).
لذلك ليتنـا لا ننتحب للموتى وحسب، بل ننتحب لمـن ماتوا في الخطيـة، فهم مستحقون للنحيب وقرع الصدور والبـكاء. أخبرني إذا أي رجـاء لنـا عندما تصطحبنـا خطايانا إلى هناك حيـث لا يوجد لها غفــران؟ وطالما كان الخطاة موجودين هنا،كان يوجد رجاء عظيم في أنهم سيتغيرون وأنهم سيصيرون أفضل، لكن إذ قد ذهبوا إلى الجحيم حيث لا يمكـن أن توجد أبدأ منفعـة من الندم لأنه مكتوب «ليس في الجحيم من يشكرك» (مز6: 5) ] أفلا يكونون مستحقين لنحيبنا؟ لننتحب لأجل أولئك الذين رحلوا من هنا وهم في مثل هذا الحـال، لننتحب لأجلهم وأنا لن أعيقكم عن ذلك لكن ليس بطريقة غير لائقة، ليس بنتف شعرنا أو تعريـة أذرعنا أو تجريح وجهنا أو لبس ملابس سوداء، بل ننتحب بالـــروح ذارفين عليهم دموعا حارة في هدوء. لأنه يمكننا أن نبكي بمرارة دون كل هذه المظاهر. ولا نبكي لمجرد اللهو، لأن النحيب الذي يصنعه الكثيرون لا يختلف في شيء عن اللهو. لأن الأحزان العلنية لا تنبع من تعاطف بل من مظهر، من افتخار ومجد باطل. كثير من النساء يعملن هذا کمحترفات. البكاء بمرارة والنحيب في البيت عندما لا يراك أحد، هذا هو مجال التعاطف الحقيقي، بهذا أنت تنفع نفسـك أيضاً. لأن الذي يبكي على آخر بمثل هذه الطريقة، سيجتهد جدا ألا يقع في نفس الخطايا، إذ أن الخطية ستكون من الآن سبب رعب لك . ابك لأجل غير المؤمنين ، ابك لأجل الذين لا يختلفون عنهم في شـيء، ولأجل الذين يرحلون من هنا غير معتمدين وبدون الختم. إنهم بالحق يستحقون نحيبنا وتأوهنا. إنهم خارج القصر (السماوي) مع المجرمين والمدانين «الحق أقول لك إن كان أحـد لا يولـد من المـاء والروح لا يقدر أن يدخـل ملكوت الله » (يو3: 5). ابك لأجل الذين ماتوا أغنياء ولم يفكروا في أي عزاء لنفوسهم مـن ثروتهم والذين كان بمقدورهـم أن يزيلوا خطاياهم (بالصدقة وأعمال الرحمة) ولم يفعلوا. لنبك لأجل كل هؤلاء سراً وعلانية لكن بلياقة ووقار وليس لكي نستعرض أنفسنا، ولنبك لأجل كل هؤلاء ليس ليوم أو يومين بـل كل حياتنا. مثل هذه الدموع تنبع من حب حقيقي. النوع الآخر من الدموع (الاستعراض) ينبع من انفعال لا معنى له. لهذا السبب تنتهى هذه الدموع بسرعة، بينما التي تنبع من مخافة الله تبقى معنا دائماً. لنبك لأجل هؤلاء ولنسـاعدهم بقدر استطاعتنا، ولنفكر في تقديم بعض المساعدة لهم حتى ولو كانت ضئيلة لكن مع ذلك فلنساعدهم. كيف وبأية طريقة؟ بالصلاة والتوسـل لآخرين أن يصلوا لأجلهم، باستمرار التصدق علـى الفقير لأجلهم. هـذا العمل له بعض التعزية، إذ أسمع كلمات الله نفسه عندما يقول «سأحامي عن هذه المدينة من أجل نفسي ومن أجل داود عبدي» (2مل20: 6). إن كان مجرد تذكار إنسـان بار له مثل هذه القوة العظيمة، فإن صنعت أعمالاً لأجل واحد، فكم لا تكون القوة أعظم؟ ليـس اعتباطاً أن الرسـل قد أوصـوا بأن يصنع هذا التذكار في الأســرار المقدسة (القداس الإلهي).
إنهـم يعلمـون أن ربحاً عظيماً ينتج لهم وأن منفعـة عظيمة تتأتى عندما يقف الشعب كله بأيد ضارعة في اجتماع كهنوتي وتلك الذبيحة المهيبة بادية للعيان، فكيف لا نجعل الله يستجيب لتوسلاتنا لأجلهم؟ وهـذا نصنعه لأجل الذين ماتوا في الإيمان، بينما نظن أن الموعوظين غير جديرين حتى بهذه التعزية، بل هم محرومون من كل سبل المعونة عدا وسيلة واحدة. ومـا هي؟ وهي أن تتصدق على الفقير لأجلهم. إن هذا العمل ينعشـهم بطريقة ما. لأن الله يريدنا أن نتبادل المعونة وإلا فلماذا أمرنا بالصلاة لسـلام وخير العالم؟ لماذا نصلى نيابة عن كل الناس؟ لأن اللصـوص ومنتهكي حرمة القبور، السارقين ، والناس المحملين بجرائم لا حصـر لها يندرجون ضمن هذا العـدد، ولكن نحن نصلي لأجل الكل لعلهـم يتوبون. لذلك كما نصلي لأجل أولئك الأحياء الذين لا يفرقون في شـيء عن الموتى، كذلك أيضاً نحن نصلي للموتى. إن أيوب قدم ذبيحة عـن أولاده وعتقهم مـن خطاياهم، فهو (كان) يقـول «ربما أخطأ بني وجدفـوا عـلـى الله في قلوبهم، (أي1: 5). وهكذا يقدم الإنسان لأولاده (صلـوات تفيدهم وقـدوة روحية تثيرهم بما يـؤول لخلاصهم). ولم يقل (أيوب) كما يقول كثيرون في هذه الأيام : سأترك لهم الثروة. ولم يقل : وأحصل لهم على الشرف أو يقول : سأدبر (حرفياً سأشتري) لهم وظيفة ، أو يقول : سأشتري لهم أرضاً، بل قال «ربمـا أخطأ بني وجدفوا على الله في قلوبهـم». لأنـه أية منفعة هناك من هذه الأشياء؟ لا منفعة على الإطلاق في الأشياء التي تبقى هنا. إني سأجعل (الله) ملك الكل راضياً عنهـم وعندئذ لن يكونوا بعد في حاجة إلى شـيء، والمزمور يقول «الرب راعي فلا يعوزني شيء» (مز23: 1). هذه ثروة عظيمة، هذا كنز. لو أن لنا مخافة الله فلن نحتاج إلى شيء، وإن لم تكن لنا هذه المخافة، فحتى لو كان لنا عرش المملكة ذاته، فنحن أفقر الناس. لا يوجد شـيء يماثل من يخاف الرب. لأنه قيل «مخافة الرب تفوق كل الأشياء» (بن سيراخ ١١:٢٥ بحسب النص).
لذلك فلنحصل على هذه المخافة ولنعمل كل شيء في سبيل نوالها. لو احتاج الأمر أن نبذل حياتنا ولزم أن يقطع جسدنا إرباً، فليتنا لا نشفق عليهما بل لنعمل كل شيء للحصول على هذه المخافة.
لأنه بهذا سنقتني أكثر من كل الناس، وسنحصل على الخيرات الآتية في المسيح يسوع ربنـا الذي لـه مـع الآب والـروح القدس ، المجـد والإكـرام والقـوة الآن وكل أوان وإلى دهـر الدهـور آمـين.
العظة الرابعة (فيلبي1: 22-30)
”فماذا أختار؟ لست أدري! فإني محصور من الإثنين: لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدا لكن أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم. فإذ أنا واثق بهذا أعلم أني أمكث وأبقى مع جميعكم لأجل تقدمكم وفرحكم في الإيمان، لكي يزداد افتخاركم في المسيح يسوع في، بواسطة حضوري أيضاً عندكم” (٢٢:١-٢٦).
لا ليس هناك ما هو أكثر تطويباً من روح بولس لأن لا شيء أكثر منها نبـلا. إني اعتدت القول : إننا جميعا نرتعب من الموت، البعض لسـبب الخطايا الكثيرة وأنا واحد منهم، والبعض الآخر بسبب محبة الحياة والجبن، وأنا لسـت من هذا الصنف أبـداً. لأن الذين هم واقعون تحت سـطوة هذا الخوف هم مجرد حيوانات. إذاً فهذا (الموت) الذي نرتعب منه كلنا هو يرجوه ويسرع نحوه قائلاً «أن أنطلق ، ذاك أفضل جداً».
ماذا تقول أيها الطوباوي؟ عندما أنت موشك أن تنتقل من الأرض إلى السماء وتكون مع المسيح، ألا تعلم ماذا تختار؟
كلا، فهذا أبعد ما يكون عن روح بولس، لأنه لو قدم مثل هذا العرض لأي شخص بضمانات أكيدة، أفلا ينتهز في الحال هذه الفرصة ويمسك بهـا؟ نعـم، إذ كما أنه ليس بمقدورنا «أن ننطلق ونكون مع المسيح» ، كذلك ليس بإمكاننا أن نبقى هنا حتى لو كان بإمكاننا أن ننطلق ونكون مع المسيح. لكن كلاهمـا كانا في مقدور بولس وروحـه. إنه كان مقتنعاً (بهذا الاختيار) بمنتهى الثقة.
ماذا (تقول يا بولس)؟ هل أنت موشك أن تكون مع المسيح؟ وهل تقول «ماذا اختار، لست أدري؟». وليس هذا فقط، بل هل تختار الإقامة هنا «أن أبقى في الجسـد»؟ ما هذا يا ترى؟ ألم تعش حياة ممتلئة بالمرارة في «أسـهار، غرق السفينة ثلاث مرات، في جوع وعطش، في برد وعري ، في هموم وقلق؟ «مع الضعيف تضعف وتلتهب لمن يعثر» (2کو11: 27-29)، في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات. في ضربات ، في سجون، في اضطرابات، في أتعاب، في أسهار، في أصوام، في طهارة (2کو5:6، 6)، «خمس مـرات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة، ثلاث مـرات ضربت بالعصـي. مرة رجمت. ليلاً ونهــاراً قضيت في العمق. بأخطار سيول. بأخطـار لصوص، بأخطـار في المدينـة، بأخطار في البرية، بأخطار من إخوة كذبة» (2كو11: 24-26).
عندمـا ارتد كل أهل غلاطية إلى العيش بحسب الناموس، ألم تصح بصوت عال قائلاً «أيها الذين تتبررون بالناموس سـقطتم من النعمة (غـل5: 4)، كم كان حزنك عظيما آنذاك، أفلا تزال ترغب هذه الحياة الفانيـة؟ لو لم يكن قد أصابك شـيء من كل هـذا بل قد نجحت وكان النجاح حليفك وكنت بدون خوف وممتلئا بهجة، ألا ينبغي لك مع ذلك أن تسارع إلى ميناء ما خوفاً من مستقبل غير مؤكد؟ أخبرني عن أي تاجر تكون سفينته مملوءة بثروة لا حصر لها هل عندما يمكنه أن يسارع إلى الميناء ويكون في راحة يفضل أن يبقى في (عرض) البحر؟ أي مصارع عندما يمكنه أن يتوج يفضل أن يستمر في منازلة خصمه؟ أي ملاكم عندما يمكنه أن يلبس إكليله يفضل أن يدخل الحلبة من جديد ويعرض رأسـه للجـــروح؟ أي قائد عندما يمكنه أن يتخلص من الحرب بتقرير حسـن وانتصارات (رائعة) ويمكنه أن ينعش نفسـه مع الملك في قصره، لا يزال مع هذا يفضل التعب والوقوف في صفوف القتال في المعركة؟ فكيف يا مـن تعيش حياة ممتلئة بالمرارة لا تزال ترغب في أن تبقى هنا؟ ألم تقل أنـا مرتعب «حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً (1کو9: 27).
حـتـى لـو كان الحاضر مملـوءا بخيرات لا حصر لهـا ينبغي لك أن تشتهي انطلاقك ، إن لم يكن لسبب آخر، فليكن بسبب رغبتك الشديدة للقاء المسيح حبيب نفسك.
یا لروح بولس هذه! لم يكن شيء أبدا مثلها ولن يكون !
أنت تخاف المستقبل (1کو27:9)، ومحاط بأشياء كثيرة مميتة ، أفلا تريد أن تكون مع المسيح؟
فيجيـب : لا ، وهذا لأجل المسيح، حتى أرد لـه بحب أكثر أولئك الذيـن جعلتهم عبيده، ولكي أجعل الحقل الذي زرعته يأتي بثمر كثير (1كو3: 9). ألم تسمعوني عندمـا أعلنت أنني «غير طالـب ما يوافق نفسـي » (1کو33:10)، بل طالب ما يوافق (يفيد) قريبي؟ ألم تسمعوا هذه الكلمات «كنت أود لو أكون أنا نفسي محروما من المسيح» (رو9 : 3) لكـي يأتي كثيرون إليه؟ أنا الذي اخترت ذاك القـدر (النصيب)، ألن أختار بالأولى هذا، أن أضر نفسـي بمسـرة بهذا التأخير والتأجيل حتى يخلصوا؟
«من سينطق بأعمالك الجبارة يا رب» (مز106: 2) لأنك لم تسمح لبولس أن يكون مخفياً، لأنك أظهرت للعالم إنساناً كهذا؟ «كل ملائكة الله تسبحك باتفاق عندما صنعت الكواكب» (أي7:38)، وكذلك بالتأكيد عندما صنعت الشـمس، لكن ليس كثيراً كما عندما أظهرت بولس للعالم كلـه. ببولس جعلت الأرض أكثر بهاء من السـماء (المرئية)، لأنه أكثر بهاء من ضياء الشـمس، فهو قد أطلق أشـعة أكثر بهاءاً وقد بعث أشعة مفرحة أكثر. أي ثمر حمله هذا الإنسـان لنا! ليس بازدياد قمحنا، ولا بتغذية رماننا، بل بإنتاج وتكميل ثمر القداسة، وعندما تتحطم يستعيدها دوماً. لأن الشمس ذاتها لا يمكن أن تفيد الثمار التي فسدت بينما الذين بهم أعطاب متنوعة خلصهم بولس من خطاياهم. والشمس تخلي مكانها لليل، لكن بولس ساد على إبليس (الذي هو الظلمة عينها). لا شيء أبداً أخضعه، لا شيء ساد على بولس. إن الشمس عندما تكون في كبد السماء ترسل أشعتها، بينما بولس بمجرد قيامه من تحت لم يملأ الفضاء الوسيط للسماء والأرض بالنور، بل بمجرد أن فتح فاه، ملأ الملائكة بفرح غامر. لأنه «إن كان هناك فرح في السماء بواحد يتوب» (لو7:15)، بينما هو في أول عظـة اصطاد كثيرين، أفلا يملأ بالفرح القوات السماوية؟ وماذا أقول؟ يكفي فقط أن يذكر اسم بولس فتطفر السموات بالفرح. لأنه إن كان عند خروج إسرائيل من مصر، الجبال قفزت مثل الكباش (مز1:114، 4)، ففي اعتقادك كم كان الفرح عظيماً عندما صعد البشر (وعلى رأسهم بولس) من الأرض إلى السماء.
لهذا السبب «أن أبقى في الجسد ألزم من أجلكم» (1: 24).
وأي عـذر لنا؟ يحـدث مراراً أن من يملك القليل في مدينة صغيرة يرفض أن يرحل إلى موضع آخر مفضلا راحته هو. كان بإمكان بولس أن ينطلق إلى المسيح (الذي هو يشتهيه جداً) ولكنه لا يريد بل أن يظل باقياً في الحلبة لأجل الإنسان (غير المؤمن). أي عذر سيكون لنا؟
أنظر إلى أعماله. لقد بين أن الموت كان أفضل، مقنعاً نفسه ألا يحزن ، وأظهـر لـهـم أنه لو بقى، فإنه باق لأجلهم، فبقاؤه ليس نابعاً من شـر الذيـن تآمروا ضده (بل هو ألزم من أجلهم). لقد وضح لهم سبب بقائه أيضاً حتى يؤمن إيمانهم. لأنه إن كان هذا ضرورياً فسأبقى بكل وسيلة ولن يكون مجرد بقاء، بل «وأبقى مع جميعكم» (في1: 25). لأن هذا هو معنى «وأبقى مع»، أي سأراكم. لأجل أي سبب يا تُرى؟ «لأجل تقدمكم وفرحكم في الإيمان». هنا أيضا ينهضهم لينتبهوا لنفوسهم.
يقول بولس الرسـول : لو سأبقى لأجلكم، فاحرصوا (حرفياً انظروا) ألا تخزوا بقائي. عندما كنت على وشك أن أرى المسيح فضلت أن أبقى لأجـل تقدمكـم». لقد اخترت أن أبقى، لأن حضـوري يجعل إيمانكم وفرحكم يتقدمان. فماذا؟ هل هو بقى لأجل أهل فيلبي فقط ؟ إنه لم يبق لأجلهم فقط، بل يقول هذا حتى يظهر اهتمامه بهم. وكيف كان لهم أن يتقدموا في الإيمان؟ يقصد هنا أن يتقووا أكثر مثل طير صغير في حاجة إلى أمه حتى يتكون ريشه. إن هذا دليل على حبه العظيم. وعلى هذا النمط نحن أيضاً نستنهض البعض منكم عندما نقول : إنني بقيت لأجلكم حتى أجعلكم فاضلين.
«لكي يزداد افتخاركم في المسيح يسوع في بواسطة حضوري أيضاً عندكم».(26:1)
(ها) أنتم ترون أن هذه الآية تشرح معنى «أبقى مع». انظروا تواضعه . فإذ قال الأجل تقدمكم»، يظهر أن هذا كان لمنفعته هو أيضاً. وهذا أيضاً مـا يعمله عندما يكتب إلى أهل رومية «أي لنتعزى بينكم» (رو1: 12)، إذ قد قال قبلاً «لكي أمنحكم هبة روحية» (رو1: 11).
وما معنى «لكي يزداد افتخاركم»؟ هذا الافتخار كان رسـوخهم في الإيمان، لأن الحياة المستقيمة هي افتخار في المسيح. وهل تقول «افتخاركم في بواسطة حضوري أيضاً عندكم ؟
فيجيـب بولس : نعم الأن من هو رجاؤنا وفرحنا وإكليل افتخارنا. أم لستم أنتم أيضاً» (1تـس2: 19)، لأجل «أننا فخركم كما أنكم أيضاً فخرنا» (2كو1: 14)، أي لكي يمكنني أن أفرح بكم فرحا عظيما.
كيـف تقول «لكي يـزداد افتخاركـم»؟ إنني سأفتخر أكثر عندما تتقدمون.
«بواسطة حضوري أيضاً عندكم» .
فماذا؟ هل حضر عندهم؟
ابحث أنت إن كان قد ذهب إليهم أم لا.
«فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح» (1: 27)
هـل ترون كيـف أن كل ما قاله كان هدفه تحويلهم إلى هذا الشـيء الوحيد وهو تقدمهم في الفضيلة؟
«فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح»
- ماذا تعني كلمة «فقط»، سوى هذا الشيء وليس آخر سواه – أن يكون هو الشيء الوحيد الذي نسعى له؟ إن كان لنا هذا، فلن يصيبنا شيء هذا محزن
«حتى إذا جئت ورأيتكم أو كنت غائباً أسمع أموركم» (تابع ۱ : ۲۷)
وهـذا يقولـه كما لو كان قـد غير قصده ولم يعد ينـوي أن يفتقدهم . فيقول : لو أن هذا حدث ، فحتى في غيابي أستطيع أن أفرح (إذ) «أنكم تثبتون في روح واحد بنفس واحدة» (تابع ٢٧:١). هذا هو الذي فوق كل شيء يوحد المؤمنين ويحفظ الحب سليما «ليكونوا واحدا» (یو۱۷ : ۱۱)، لأنه «إن انقسمت مملكة علـى ذاتها لا تقدر تلـك المملكة أن تثبت» (مر٣ : ٢٤). لأجل هذا السبب فإن السيد المسيح في كل موضع ينصح تلاميذه كثيراً بأن يكونوا متفقين. والمسيح يقول «بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضا لبعض» (يو13 : 35). فلا تتطلعوا مترقبين إياي، ومن ثم تنعسون انتظارا لمجيئي وعندما ترون أنني لم آت تخورون. لأنه يمكنني ولو عن طريق الخبر أن أفرح كذلك. ما المقصود «في روح واحد»؟
بنفـس هبة النعمـة، أي بالاتفاق والغيرة، لأن الروح هو واحد وهو يظهـره، لأنه آنذاك يمكننا أن نثبت «في روح واحد» وأيضاً عندما يكون لنا كلنا «روح واحد».
انظر كيف أن نفوسهم رغم أنها كثيرة فقد دعيت «نفس واحدة» وهذا كان منذ القديم، لأنه مكتوب «وكان لجمهـور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة» (أع ٤ : ٣٢).
«مجاهدين معاً لإيمان الإنجيل» (تابع ٢٧:١)
إنه يقصد بهذا ساعدوا بعضكم البعض في جهادكم لأجل الإنجيل.
«غير مخوفين بشيء من المقاومين، الأمر الذي هو لهم بينة للهلاك وأما لكم فللخلاص وذلك من الله» (۱ : ۲۸)
حسـناً قال مخوفين، لأن هذا هو ما يصيبنا مـن أعدائنا ، هو يقول «غير مخوفين بشـيء» مهما حدث سواء أخطار أو مؤامرات. لأن هذا هو نصيب القائمين، فإن العدو لا يمكنه أن يصنع لهم شيئا بل يخيف فقط. لأنه كان من المحتمل أنهـم انزعجوا جداً عندما عانى بولس شـروراً بلا حصر كهذه، وهو يقول لهم: أنا أنصحكم فهم فقط يخيفون. لذلك ليـس فقط ألا تنزعجوا بل أيضاً ألا تخافوا، بل بالأحرى أن تزدروا بهم من كل قلوبكم، لأنه لو تصرفتم هكذا سـتبرهنون في الحال بهذه الوسيلة على هلاكهم وخلاصكم. لأنه عندما يرون أنهم عاجزون عن إخافتكم رغم مؤامراتهم التي لا تُحصى فسيعتبرون هذا دليلاً على هلاكهم. لأنه عندما لا يسود المضطهدون على المضطهدين منهم، والمتآمرون على من هم هدف لمؤامرتهم والمتسلطون على من هم خاضعين لسلطانهم، ألا يدل هذا على أن هلاكهم وشيك وأن قوتهم لا شيء وأنهم هم الأضعف؟
وهو يقول «وذلك من الله» (تابع ۲۸:۱)
«أنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضاً أن تتألموا لأجله» (۱ : ۲۹).
مـــرة أخرى يعلمهم الإتضاع بأن يحيل كل شـيء إلى الله، فيقول إن الآلام لأجل المسيح هي نعمة وعطية النعمة هي هبة مجانية. إذا فلا تخزوا من هبة النعمة، لأنها مدهشـة أكثر من إقامة الموتى أو صنع المعجزات ، لأنه هناك أنا مدين، أما هنا فالمسيح مدين لي. لذلك يلزمنا ليس فقط ألا نخـزى بل أيضاً أن نفرح أن لنا هـذه الهبة، إنه يدعو الفضائل هبات ، لكن ليس بنفس الطريقة مثل الأشياء الأخرى، لأن تلك الأشياء هي من الله كليا، لكننا في هذه لنا (أي لإرادتنـا) نصيب. لكن حيث إن الدور الأعظم هنا أيضاً هو لله، لذلك فقد نسبه كله له، ليس لكي يلغي إرادتنا الحرة، بل ليجعلنا متضعين ومهيئين بطريقة صحيحة.
«إذ لكم الجهاد عينه الذي رأيتموه في (1 : 30)
يقدم بولس نفسه لهم مثالاً. وهنا أيضاً يرفعهم بأن أظهر لهم في كل موضـع أن جهادهم كان مثل جهاده ونضالهـم كان مثل نضاله، وأنهم اتحـدوا معه في تحمل التجارب. إنه لم يقـل «الذي سمعتموه» بل قال «الـذي رأيتموه» لأنه جاهد أيضـاً في فيلبي. وبالحق هذه فضيلة فائقة. لذلك عند كتابتـه لأهل غلاطية قال أيضا «أهذا المقدار احتملتم عبثا إن كان عبثـاً» (غلا3 : 4). وأيضاً عنـد كتابته إلى العبرانيين قال «ولكن تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعد ما أنرتم، صبرتم على مجاهدة آلام كثيرة. من جهة مشـهورين (أي مشهر بكم) بتعييرات وضيقات ومن جهة صائرين شـركاء الذين تصرف فيهم هكذا» (عب۱۰ : ۳۲، ۳۳). وأيضـاً في كتابته إلى المكدونيين، أي إلى أهل تسالونيكي قال «لأنهم هم يخبرون عنـا أي دخول كان لنا إليكم» (۱ تس1 : 9). وأيضاً الأنكم أنتـم أيها الإخوة تعلمون دخولنا إليكم أنه لم يكن باطلا» (۱ تس۲ : ۱) وبنفس الطريقة يشهد لنفس الأشياء لهم كلهم من أتعاب وجهاد. لكنكم لن تجدوا الآن مثل هذه الأشياء بيننا، فالآن يكون كثيراً لو أن واحداً عاني القليل من الخسارة في ممتلكاته بمفرده. بينما من جهة ممتلكاتهم يشـهد بولس أيضاً لأعمالهم العظيمة ، فيقول للبعض لأنكم قبلتم سلب أموالكـم بـفـرح» (عـب 10 : 34)، ولآخرين يقول «لأن أهـل مكدونية وأخائية استحسنوا أن يصنعوا توزيعا لفقراء القديسين» (روه1 : ٢٦)، ولغيرهم يقول «غيرتكم قد حرضت الأكثرين» (۲کو۹ : ۲)
. هم كانوا بي هـل ترون المدح الذي كان لأنـاس ذلك العصر؟ لكننا نحن لا نحتمل القليل من الصفعات أو اللكمات أو الإهانة أو فقدان ممتلكاتنا. تلقائيين في غيرتهم وكلهم جاهدوا كشهداء ، بينما نحن قد فترت محبتنا للمسيح. وأنا مجبر أيضاً أن ألوم أموراً حاضرة، فماذا سأفعل؟ إن هذا يحدث رغما عني. لو كنت أستطيع أن أزيلها بصمتي عن الأشياء التي عملت وركوني إلى السكوت لكان يليق أن أكون صامتاً. لكن لو أن العكس حدث، ولم تتم إزالة هذه الأعمال، بل آلت إلى حالة أكثر سوءاً فنحن مجبرون على الكلام. لأن الذي يوبخ الخطاة لن يتيح لهم التمادي حتى وإن لم يفعل شيئاً آخر. لأنه لا توجد نفس وقحة ومتهورة لا ترجع وتعدل عن المغالاة في أفعالها الشريرة عند سماعها من يوبخها باستمرار. حتى في النفس الوقحة هناك بعض من الحياء. لأن الله قد بذر في طبيعتنا بـذار الحياء، إذ أن الخوف غير كاف ليأتي بنا إلى الصواب، لذلك هو أعد أيضا طرقا كثيرة لتجنب الخطية. ومنها على سبيل المثال : توجيه الملامة للإنسان، الخوف من القوانين المشروعة، محبة الصيت الحسن ، الرغبـة في تكويـن صداقـات)، لأن كل هذه قنوات لتحاشـي الخطية. إن (الصـلاح) الـذي لم يعمل لأجل الله ،كثيراً ما عمل بسبب الخزي والخجل، والذي لم يعمل لأجل الله عمل لأجل الخوف من البشر. وما نسعى إليه هو أنه : أولاً ألا نخطئ، وبعد ذلك سننجح في عمل هـذا (تنفيـذ وصايا الله) لأجل الله، وإلا لماذا نصـح بولس أولئك الذين كانوا على وشك أن يجعلوا أعداءهم في متناول أيديهم (أي ينتقموا منهم) ليس بواسطة خوف الله بل بدافع الانتظار للنقمة”؟ ويقول بولس الرسول «لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسـه» (رو١٢ : ٢٠) لأن هذه هي رغبـة بولس الأولى : ينبغي أن نمارس فضيلتنا (عملياً). إذاً كما قلت توجد فينا لمسة حياء. نحن لدينا عواطف طبيعية حسنة كثيرة تؤدي إلى الفضيلة، كلنا كبشر نتحرك نحو الشفقة؛ طبيعياً، وليس هناك شيء آخر يلازم طبيعتنا إلا الشفقة فقط. من أين يعقل لأحد أن يسـتفهم لماذا هذه البذار قد غرست في طبيعتنا فوق كل شيء إذ بها نذوب لدموع الآخرين وبها نتحول إلى الرحمة ونكون مستعدين للشفقة، بل إن الشفقة مغروسة في أعماق طبيعة كل واحد مهما كان عنيفاً وقاسياً. وما العجب في هذا؟ نحن نشفق على الوحوش، فهذا الفيض من الشفقة مغروس في أعماقنا. لو رأينا شبل الأسد (ينزف دما) فنحن إلى حد ما نتأثر، فكم بالأولى شخص من جنسنا. انظر كم من مشوهين كثيرين هناك ! وهذا يكفي لأن يقودنا إلى الشفقة. لا شيء يرضي الله كثيراً مثل الرحمـة. لذلك كان الكهنة والملوك والأنبياء يمسحون بهذا، لأنه كان لهم في الزيت نوع من محبة الله للإنسان، وهم تعلموا أيضاً أن الرؤسـاء ينبغي لهم مشاركة أعظم في الرحمة. لقد أظهرت أن الروح (القدس) يأتي للبشـر (يحل عليهم) عن طريق الرحمة لأن الله شـفوق وعطوف على الإنسان. لأنه مكتوب «أنت ترحم الكل لأنك قادر على عمل كل الأشياء» (حكمة سليمان 11 : ٢٤ بحسب النص). لأجل هذا السبب قد دهنوا بالزيت وهو (أي الله) قد عين الكهنوت رحمة منه. والملوك مسحوا بالزيت، ولو أراد أحد أن يمتدح الرئيس فلا يمكنه أن يذكر شيئا يليق به مثل الرحمة. لأن الشفقة من خصائص السلطة.
اعتبر أن العالم أقيم على الشفقة (أي بدافع منها)، وبعد ذلك اقتد بآلهك. «رحمة الإنسان على قريبه، وأما رحمة الرب فهي على كل ذي جسـد» (بن سيراخ ٨: ١٣). كيف أن رحمة الـرب هي «على كل ذي جسد»؟
أنت تقصد الجميع سـواء كانوا خطـاة أو أبراراً، كلنا نحتاج لرحمة الله، وكلنا نتمتع بها حتى لو كان هذا الشخص هو بولس أو بطرس أو يوحنا.
(وتأييداً لكلامي) اسمع لكلماتهم إذ لا حاجة هناك لكلماتي، فماذا يقول هذا الطوباوي (بولس)؟
«ولكني رحمت لأني فعلت بجهل» (اتي١ : ١٣).
فماذا؟ هل بعد ذلك لم يكن هناك احتياج للرحمة بالنسبة له؟ اسمع مـا يقوله «بل أنا تعبـت أكثر منهم جميعهم. ولكن لا أنا بل نعمة الله الـتي معي» (١كوه1 : 10). وعن أبفردوتس يقول «فإنه مرض قريبا من الموت، لكن الله رحمـه، وليس إياه وحده بل إياي أيضاً لئلا يكون لي حـزن على حزن» (في٢ : ٢٧). وأيضاً يقول «إننا تثقلنا جداً فوق الطاقة حتى أيسنا من الحياة. لكن كان لنا في أنفسنا حكم الموت لكي لا نكون متكلين على أنفسنا بل على الله الذي يقيـم الأموات. الذي نجانا من موت مثل هذا وهو ينجي» (٢كـوا : ۸-۱۰). وأيضاً قوله «فأنقذت من فم الأسـد وسينقذني الرب» (٢تي17:4 ، ۱۸). وسنجده في كل موضع يفتخـر بأنـه قد نجا برحمة الله. وبطرس أيضاً صـار هكذا عظيماً، لأن الله قد أظهر له الرحمة. اسمع المسيح يقول له «هوذا الشيطان طلبكم لكـي يغربلكم كالحنطة. ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفني إيمانك» (لو۳۱:۲۲، ۳۲). ويوحنـا أيضاً صار هكذا عظيمـا من خلال الرحمة وبالاختصـار صاروا كلهم هكذا. اسمع المسيح عندمـا يقول «ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم» (يو15 : 16). لأننا كلنا نحتاج لرحمة الله كما هو مكتوب «رحمة الرب هي على كل ذي جسد» (سيراخ ۱۸ : ۱۳).
لكـن إن كان هـؤلاء الناس (الممجدون) احتاجـوا لرحمة الله، فماذا ينبغي للإنسـان أن يقول عن بقية الناس؟ أخبرني لماذا يشـرق شمسـه على الأشرار والصالحين (مته : 45)؟ لو أنه منع المطر لمدة عام ألا يهلك الكل؟ وماذا لو أنه جعل المطر فائضاً؟ ماذا لو أمطر ناراً؟ ماذا لو أرسـل الجرادة؟ لكن ماذا أقول؟ لو كان سيفعل هذا كما عمل من قبل (الجفاف أو الطوفان) أما كان يهلك الكل؟ لو كان سيزلزل الأرض أما كان يهلك الكل؟ إنه من المناسب القول الآن «ما هو الإنسان حتى تذكره» (مز8 : 4). لو كان له فقط أن يهدد الأرض (بكارثة كونية) لصار كل البشر في مقبرة واحدة. إنه مكتوب «هوذا الأمم كنقطة من دلو وكغبار الميزان تحسب» (إش15:40). لقد كان سهلا على الله أن يلاشي كل الأشياء ويصنعها من جديد كسهولة قلبنا للميزان (لتنظيفه من الغبار). إذا الذي له مثل هذا السلطان علينـا ويرانا نخطئ كل يوم ومع ذلك لا يعاقبنا ، كيف يحتملنا هو إلا برحمته؟ والبهائم أيضاً توجد برحمته «أنت يا رب تحفظ الناس والبهائم» (مز6:36 بحسب النص). إنه تطلع إلى الأرض وملأها بالكائنات الحية. ولماذا؟ من أجلك.
ولماذا خلقك؟
من فيض صلاحه خلقك.
لا يوجد شيء أفضل من الزيت. إنه سبب النور، وهناك أيضاً الرحمة6 هي سبب النور (الروحي). فإن أظهرت شـفقة لقريبك «حينئذ ينفجر مثـل الصبح نورك» (إش٥٨ : ٨) كقول النبي. وكما أن الزيت الطبيعي يحـوي النور، فهكـذا الرحمة (الصدقة) تمنحنا نـوراً عظيماً وعجيباً. وبولـس أيضاً ذكر كثيراً صنع هذه الرحمة. اسمعه في أحد المواضع يقول «غير أن نذكر الفقـراء» (غل۲ : ۱۰)، وفي مكان آخـر يقول «وإن كان يستحق أن أذهب أنا أيضا» (اكو16 : 4). اقلب صفحات الرسائل في أي موضع شـئت، ستراه متلهفاً لهذا الموضوع. وأيضاً «وليتعلم من لنا أيضاً أن يمارسوا أعمالاً حسنة» (تي3: 14)، وأيضاً «أن هذه الأمور هي الحسنة والنافعة للناس» (تي3: 8). اسمع شخصاً أخر يقول «الصدقة تنجـي من الموت» (طو۱۲ : ۹). لو أزلت الشـفقة (أي الرحمة) «فمن يا رب يثبـت» (مز130: 3). وقيل لو دخلت «في المحاكمة مع عبدك (لن يتبرر قدامك حي)» (مز١٤٣ : ٢). «شـيء عظيم هو الإنسان» (أم٢٠ : ٦ بحسب النص). لماذا؟ «وشيء مكرم هو الإنسان الرحوم» (تابع أم٢٠ : ٦). لأن هـذه هي الصفة الحقيقية للإنسان أن يكون رحوما بل بالأولى صفة الله هي إظهار الرحمة.
هـل ترى كم قويـة هي رحمة الله؟ هذه الرحمة صنعت كل شـيء، هذه الرحمـة كونت العالم، هذه الرحمة صنعت الملائكة، وكل هذا كان من خلال الصلاح المحض. لهذا السبب أيضاً هدد بجهنم لكيما ندرك الملكوت، وسندرك الملكوت من خلال الرحمة. لماذا خلق الله كل هذه الكائنات الكثيرة؟ ألم يكن هذا بصلاحه؟ ألم يكن لمحبته للبشـر؟ لو سـألت لماذا تلك الأشياء، ستجد إجابتك دائما في صلاح الله. فلنظهر رحمة لأقربائنا (في البشرية عموما) حتى يظهر الله لنا رحمة. إن أعمال الرحمة لا نظهرها لهم بقدر ما ندخر منها رصيداً لأنفسنا ضد ذلك اليوم الرهيب. عندما يكون لهيب النار عظيما، فهذا الزيت (الرحمة) هو الذي يطفئه ، وهو الذي يجلب لنا النور. وهكذا بهذه الوسيلة سننجو من نار جهنم. إذ من أين سيشفق علينا ويرحمنا؟ الرحمة تأتي من الحب! لا شـيء يغيظ الله كثيراً مثل أن تكون قاسي القلب. «إنسـان أحضر إليه كان مدين بعشرة آلاف وزنة فتحرك بالشفقة وعفا عنه. وكان مديناً لهذا الإنسـان رفيق له عليه مئة فلس، فأمسـك بخناقه. لذلك أسـلمه سیده إلى المعذبين حتى يوفي الفلـس الأخير». ليتنا عنـد سماعنا هذا الكلام أن نكـون رحومين لمن هم مدينون لنـا بالمال أو بالخطايا. ليت لا يتذكر أحد الشرور، إن كان على الأقل لا يرغب في أذية نفسـه ، لأنه لا يكدر الآخر بقدر ما يكدر نفسـه. لأنه (أي الله) سينتقم (لك) منه، أما إذا لم يتصرف هكذا، بل انتقمت أنت لنفسـك (ولم تنتظر انتقام الله)، فهل تطلـب الملكـوت بينما أنت لم تغفر لقريبك خطايـاه؟ فلنغفر للكل لئلا يحدث هذا لنا حتى يغفر الله لنا خطايانا، وهكذا نحصل على الخيرات المنتظرة بنعمة ورأفة ربنا يسوع المسيح الذي له مع الآب والروح لقدس المجد والإكرام الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين.
- انظر (اع17:20) «استدعى بولس قسوس الكنيسـة»، ثم (أع28:20) بقوله لهم أيضاً «.. التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة.
- هنـا يعتمد ذهبي الفـم على (2تي5:4)، وعلى (أع24:20) «والخدمة التي أخذتها» إذ أن الخدمة في كلا الاثنين وردت في كلمة يونانية مشتق منها كلمة ذياكون التي تعني خادم أو شماس.
- يبدو لي أن ذهبي الفم يود القول أن ما يعتبره الآخرون علامة ضعف (لكون الرسـول يتم حبسـه والكرازة بهذا تتقلص)، يعتبره الرسول علامة على صحة المسيرة وقوة الكرازة، والواقع العملي يؤكد هذا فحينما تكون الكنيسة في حماية الدولة ولا تجد مقاومة تُذكر تضعف وتدب فيها علامات الاضمحلال، بينما المقاومة للمسيحية وللكنيسـة تزيل ما في أولاد الله من ضعف روحي…