رو8: 6 لأن إهتمام الجسد هو موت…
“لأَنَّ اهْتِمَامَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ، وَلكِنَّ اهْتِمَامَ الرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ.“(رو8: 6)
+++
تفسير القديس يوحنا ذهبي الفم
” لأن إهتمام الجسد هو موت ولكن إهتمام الروح هو حياة وسلام ” (رو6:8).
لم يقل لأن طبيعة الجسد، أو جوهر الجسد، لكن قال “اهتمام (تدبير) الجسد”، أي الأمر الذي من الممكن أن يصحح أو ينهار. والرسول بولس هنا يتعرض للحديث عن شهوة الذهن الأكثر حماقة، داعيا إياها بالشيء الأكثر سوءا (يقصد اهتمام الجسد)، كما اعتاد مرات كثيرة أن يدعو كل الإنسان جسدا ، على الرغم من أن فيه نفسا.
أيضا إهتمام الروح ” يقصد الرسول بولس هنا الفكر الروحي، تماما كما قال فيما بعد “لكن الذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الروح” ويوضح أن الخيرات التي تأتي من هذا الفكر الروحي هي كثيرة في الحاضر وفي المستقبل. لأنه مقابل الشرور التي يحملها اهتمام الجسد، فإن اهتمام الروح يمنح خيرات كثيرة. هذا ما أعلنه بالضبط بقوله: ” هو حياة وسلام “. الثاني مضاد للأول “لأن اهتمام الجسد هو موت “. بينما الآخر هو مضاد لما سيأتي بعد ذلك. لأنه بعدما قال “سلام”، أضاف:
” لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله ” (رو7:8).
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“فإن الذين هم حسب الجسد فيما للجسد يهتمون،
ولكن الذين حسب الروح فيما للروح،
لأن اهتمام الجسد هو موت،
ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام،
لأن اهتمام الجسد هو عداوة الله،
إذ ليس هو خاضعًا لناموس الله،
لأنه أيضًا لا يستطيع،
فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله،
وأمّا أنتم فلستم في الجسد بل في الروح،
أن كان روح الله ساكنًا فيكم…” [5-9].
يلاحظ في حديث الرسول بولس عن اهتمام الروح واهتمام الجسد الآتي:
أ. لا يقارن الرسول هنا بين جوهر الجسد أي الجسم بأعضائه وبين الروح، وإنما بين اهتمام الجسد واهتمام الروح، فيقصد باهتمام الجسد شهوات الجسد واهتماماته واشتياقاته الجسدانيّة، ويقصد باهتمام الروح اشتياقات الروح واهتماماتها الروحيّة.
مرة أخرى نؤكد أن الإنسان بجسده وروحه يمثل وحدة واحدة، إن ترك لجسده العنان يتلذّذ بشهوات جسدانية، يتعدّى الجسد حدوده فيُحسب جسدانيًا، إذ يسلك الإنسان ككل بفكره ونفسه وجسده، بطريقة جسدانيّة، وكأنه قد صار جسدًا بلا روح. وعلي العكس إن سلّم حياته كلها تحت قيادة الروح القدس تتقدّس روحه الإنسانيّة، ويتقدّس جسده بكل أحاسيسه وعواطفه، فيسلك الإنسان ككل، كما لو كان روحًا بلا جسد، إذ يتصرف حتى الجسد بطريقة روحية.
خلال هذه النظرة يمكننا أن نعرف اهتمام الجسد، بمعنى ترك الإنسان الجسد على هواه ليتعدّى حدوده، فتخضع حتى النفس لتحقيق هوى الجسد، أمّا اهتمام الروح فيعني خضوع الإنسان لروح الله، فيسلك كإنسان روحي، يحقّق هوى الروح. الأول يثمر موتًا للنفس والجسد على مستوى أبدي، والثاني يهب حياة وسلاما أبديًا [6]. الأول يخلق عداوة لله [7] إذ يطلب الإنسان ملذاته على حساب صداقته مع الله، أمّا الثاني فيجد رضّا في عيني الله.
بهذا الفهم يفسّر القدّيس يوحنا ذهبي الفم العبارة: “فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله” [8]، قائلاً: هل نقطع جسدنا إربًا حتى نرضي الله، هاربين من طبيعتنا البشريّة؟ هذا التفسير الحرفي غير لائق، فهو لا يقصد الجسم الإنساني ولا جوهره، إنما يعني الحياة الحيوانيّة العالميّة المستهترة التي تجعل الإنسان جسدانيًا، حتى النفس تصير جسدانية، فتتغيّر طبيعتها ويتشوّه نبلها.
وأيضًا حين نسمع: “أمّا أنتم فلستم في الجسد بل في الروح“، لا نفهم بهذا أننا خلعنا الجسم الإنساني، لكنّنا ونحن في هذا الجسم قد تركنا تيّار الشهوات الجسدانيّة، فصرنا كمن هم بلا جسد من جهة الشهوات. استخدم السيد المسيح نفسه هذا التعبير حين قال لتلاميذه: “أنتم لستم من هذا العالم”، بمعنى أنهم لا يحملون فكر العالم الأرضي وشهواته الزمنيّة بالرغم من وجودهم في العالم.
بنفس المعنى يقول القدّيس إيريناؤس: [بهذه الكلمات لا يجحد مادة الجسم، وإنما يظهر ضرورة أن يكون الروح القدس منسكبًا فيه. فهو بهذا لا يمنعهم من الحياة وهم حاملون الجسد، إذ كان الرسول نفسه في الجسد حين كتب لهم هذا، إنما كان يقطع شهوات الجسد التي تجلب الموت للإنسان.] كما يقول: [لا يتحقّق هذا بطرد الجسد وإنما بشركة الروح، لأن من يكتب إليهم ليسوا بدون جسد، إنما تقبّلوا روح الله الذي به نصرخ: “أبا الآب” (8: 15).]
ويرى القدّيس إكليمنضس السكندري أن التعبيرين “في الروح” و“ليسوا في الجسد” إنما يعني أن الغنوسيّين أي أصحاب المعرفة الروحيّة الحقّة يرتفعوا فوق أهواء الجسد: [إنهم اسمى من اللذّة، يرتفعون فوق الأهواء، يعرفون ماذا يفعلون. الغنوسيّيون أعظم من العالم.]
ب. إن اهتمام الروح ليس من عنديّاتنا، إنما هو ثمر سكنى السيد المسيح فينا، الذي بسكناه يُميت الحياة الجسدانيّة الطائشة، فيحيا الإنسان بكلّيّته، جسمًا ونفسًا، في انسجام كعضو في جسد المسيح، إذ يقول الرسول: “وإن كان المسيح فيكم، فالجسد ميّت بسبب الخطيّة، وأمّا الروح فحياة بسبب البرّ [10]
السالك بالروح القدس إنما ينعم بالمسيح أيضًا ساكنًا فيه، إذ يقول الرسول: “وإن كان المسيح فيكم…” وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ينطق (الرسول) بهذا لا ليؤكّد أن الروح هو نفسه المسيح، حاشا، وإنما ليُظهر أن من له روح المسيح، يكون له المسيح نفسه. فإنه لا يمكن إلا حيث يوجد الروح يوجد المسيح أيضًا، لأنه حيث يوجد أحد الأقانيم الثلاثة يكون الثالوث القدوس حالاً، لأن الثالوث غير منقسم على ذاته، بل له وحدة فائقة للغاية… الآن تأمّل عظمة البركات التي ننعم بها بنوالنا الروح: بكونه روح المسيح، يكون لنا المسيح نفسه، ونصير مناظرين للملائكة، وننعم بالحياة الخالدة، ونتمسّك بعربون القيامة، ونركض بسهولة في سباق الفضيلة.]
يكمل القدّيس الذهبي الفم تعليقه على العبارة الرسولية مظهرًا أن الجسد الذي لم يكن خاملاً فحسب بسبب الخطيّة بل كان ميتًا، ها هو بالمسيح الساكن فينا صار رشيقًا يركض بسهولة في ميدان الفضيلة لينال الجعالة… الجسد بذاته ميّت بالخطيّة لكن بالله الروح تمتّع بالحياة التي لا تنحلّ، وصار له برّ المسيح.
هكذا إذ يتحدّث عن سكنى المسيح فينا يُعلن عن “برّ المسيح” الذي لا يقف عند إماتة الحياة الشهوانيّة الجسدانيّة وإنما ينعم بتجلّي الحياة بحسب الروح [10]… يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول بولس يشجّع السامع معلنًا عن البرّ كمصدر للحياة، لأنه حيث لا توجد خطيّة لا يوجد الموت، وحيث لا موت تكون الحياة غير قابلة للانحلال.
رابعًا: التمتّع بالقيامة
إن كان ناموس الخطيّة قانونه الموت الأبدي، فإن ناموس الروح الذي يهبه لنا المسيح قانونه القيامة من الأموات، على مستوى أبدي. يهبنا السيد المسيح روحه القدوس ساكنًا فينا، الروح الذي أقام السيد المسيح من الأموات، إذ هو قادر أن يقيم طبيعتنا الساقطة، فينزع عنها ناموس الخطيّة أو الحياة الجسدانيّة الشهوانيّة ليهبنا الطبيعة الجديدة، الطبيعة المُقامة في المسيح يسوع، يسودها ناموس القيامة والحياة. هذا ما أعلنه الرسول بقوله: “وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات، سيُحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم” [11].
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (6): “لأن اهتمام الجسد هو موت ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام. “
لأَنَّ = هذه عائدة على (آية 3) ليكون المعنى أن الله أرسل ابنه ليدين الخطية التي فينا. فالله لمحبته للبشر وجد أنهم عاجزين أمام سلطان الخطية التي في الجسد، وأنهم منقادين لشهوات الجسد (آية5) والنتيجة أنهم سيموتون = اهْتِمَأمَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ، فأرسل ابنه الذي بفدائه وبعمل الروح القدس (النعمة) تضمحل الخطية في أعضائنا فتتحقق غاية الناموس فينا أي أن نسلك بالبر(آية 4). فقد كنا سالكين بحسب شهواتنا الجسدية بسبب الخطية الساكنة فينا قبل المسيح. والمسيح أرسل الروح القدس ليكون لنا اهتمامات روحية بدلًا من الخطية (آية 5) والنتيجة = اهْتِمَأمَ الرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ.
اهْتِمَأمَ الْجَسَدِ = إرضاء الشهوات والمتع والملذات، هذا ينطبق أيضًا على من يهتم بعمله كل الوقت، ولا وقت عنده لله. ولكن مثل هذا الإنسان ينفصل عن الله، فيموت= اهْتِمَأمَ الْجَسَدِ هُوَ مَوْتٌ. ولاحظ أن هذا الإنسان لا يهتم سوى بما سوف يفنى، فكل ما للجسد سوف يفنى. ولو ترك الإنسان شهواته تقوده تموت نفسه ثم جسده (1تي6:5) ثم يخسر أبديته. وَلكِنَّ اهْتِمَأمَ الرُّوحِ هُوَ حَيَاةٌ وَسَلاَمٌ = من يهتم بأن يرضي الله ويعمل من أجل أبديته يفرح بالصلاة والصوم، فالروح يسكب فيه فرح وسلام ويصير حيًا أمام الله، يختبر سلام الله الذي يفوق كل عقل ثم تكون له حياة أبدية، إذ بجهاده هذا ظل ثابتًا في المسيح، والعلامة أن الروح سكب فيه سلام (رو1:5).
- تفسير رسالة رومية 8 – القديس يوحنا ذهبي الفم
- تفسير رسالة رومية 8 – القمص تادرس يعقوب ملطي
- تفسير رسالة رومية 8 – القمص متى المسكين
- تفسير رسالة رومية 8 – القمص أنطونيوس فكري
- تفسير رسالة رومية 8 – الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف
- تفسير رسالة رومية 8 – د/ موريس تاوضروس
- تفسير رسالة رومية 8 – كنيسة مارمرقس مصر الجديدة