تفسير سفر صموئيل الاول ٢٨ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثامن والعشرون
التجاء شاول إلى الجان

التجاء داود إلى أخيش جعله في مركز حرج عندما صار الفلسطينيين ضد إسرائيل… أما شاول فإذ حل به الخطر لم يجبه الرب بسبب شروره المستمرة، فالتجأ إلى صاحبة جان، مع أنه حرم أصحاب الجان والتوابع. لقد تخفى وطلب منها أن تستدعي روح صموئيل ليطلب مشورته، فجاء الشيطان له في شكل صموئيل يتحدث معه… لأنه ليس ممكنًا له أن يستحضر أرواح المنتقلين.

حرب بين إسرائيل والفلسطنيين [1-2].

كان أخيش متيقنًا من ولاء داود وإخلاصه له، وجاءت إجابة داود هادئة يشوبها اللبس. لكنه بلا شك كان مُرّ النفس بالنسبة لشعبه، لا نعرف ماذا كان يعمل لو أنه اشترك في الحرب؟!

إذ جمع الفلسطينيون جيوشهم لمحاربة إسرائيل قال أخيش لداود في ثقة: “أعلم يقينًا أنك ستخرج معي في الجيش أنت ورجالك” [1]. لقد حسب أخيش هذا الأمر لا يحتاج إلى نقاش، كما حسبه كرامة له أن يحارب داود ورجاله ضد بلادهم وشعبهم.

لم يعطِ داود وعدًا صريحًا وإنما قال في لبس: “أنت ستعلم ما يفعل عبدك”؛ وإذ فهم أخيش من الإجابة أن طلبه لا يحتاج إلى نقاش سُرَّ بداود جدًا مظهرًا ثقته في إخلاصه وفي قدرته في الحرب فوعده بتعينه قائدًا لحرسه الخاص “حارسًا لرأسي كل الأيام” [2].

 

التجاء شاول إلى صاحبة الجان [3-20].

الآن ما هو موقف شاول تجاه جيش الأعداء الذي تجمع لمحاربته بينما فارق روح الرب شاول، ومات صموئيل النبي، وهرب منه داود بسبب مضايقاته له؟

يكرر السفر حدثة موت صموئيل هنا في إيجاز لا للحديث عنها ولكن لإيضاح تصرفات شاول القادمة. “ومات صموئيل وندبه كل إسرائيل ودفنوه في الرامة في مدينته؛ وكان شاول قد نفى أصحاب الجان والتوابع من الارض” [3].

من الأعمال الحسنة التي قام بها شاول – غالبًا بإرشاد صموئيل النبي – مقاومته لأعمال السحر والشعوذة لذا نفى أصحاب الجان. وقد جاءت الكلمة الأصلية “أصحاب الجان” تعني الذين يتكلمون كأنه من بطونهم فيتظاهرون بجان حالِّ فيهم يخبرهم بأمور خفية ومستقبلية. كما نفى “التوابع” أي توابع الجان، أي الذين يتبعونه حيثما يذهب كخدم وعبيد لسيدهم، لذا يكشف لهم أمورًا لا يدركها أو ينظرها البشر ويقدم لهم إمكانيات فوق طاقات البشر مثل استدعاء أرواح الموتى[202]. لقد حرمت الشريعة السحر والشعوذة بكل أنواعها لأنها تعني التجاء الإنسان إلى الشر كمرشد له وسند عوض الالتجاء إلى الله والاتكال عليه.

“اجتمع الفلسطينيّون وجاءوا ونزلوا في شونم وجمع شاول جميع إسرائيل ونزل في جلبوع” [4].

اجتمع الفلسطينيون في شونم، مدينة في أرض يساكر تدعى حاليًا سولم على جانب جبل الدوحى الجنوبي الغربي، فيها عين حولها أرض خصبة، يبعد هذا الجبل (التل) 3 من الأميال شمال شرقي يزرعيل و5 أميال شمال غرب نهاية جلبوع و16 ميلاً من جبل الكرمل[203].

نزل شاول وجيشه إلى جلبوع مقابل شونم. “جلبوع[204] اسم عبري ربما كان معناه “عين متفجرة”، ويطلق عليه اليوم “جبل فقوع”، تقع بالقرب منه قرية جلبون. هذا الجبل يكون الجزء البارز في الشمال الشرقي من جبل أفرايم، كما يكوّن مساقط المياه بين حوض نهر قيشون ووادي نهر الأردن. ويطلق هذا الاسم على سلسة جبال مرتفعة تكون قوسًا شرقي وادي يزرعيل يبلغ طولها 8 أميال وعرضها من 3 إلى 5 أميال تقسمها الأودية العميقة الضيقة إلى عدة هضاب. أعلى نقطة فيها عند “الشيخ يرقان” يبلغ ارتفاعها 1696 قدمًا فوق سطح البحر.

لما “رأى شاول جيش الفلسطينيين خاف واضطرب قلبه جدًا” [5]، أما سر خوفه الحقيقي فهو تخلي اللهعنه لأنه عصاه وأصر على العصيان؛ على خلاف داود النبي الذي لم يخش جيشًا ما إذ يقول: “الرب نوري وخلاصي ممن أخاف؛ إن نزل عليّ جيش لا يخاف قلبي” (مز 27: 1).

بسبب شره فقد شاول كل إمكانية للنصرة، فقد أعلن الرب أنه رفضه، ومات صموئيل غاضبًا على تصرفاته، وفارقه داود تاركًا له البلاد، وقتل كهنة نوب الخ… لهذا عندما سأل الرب بخصوص الحرب لم يجبه لا بالأحلام (عد 12: 6) ولا بالأوريم ولا بالأنبياء.

نحن نعلم أن أبيأثار الكاهن سبق أن هرب من نوب والتجأ إلى داود وبيده الأفود (23: 6)، لذلك يبدو أن شاول أقام كاهنًا آخر وعمل أفودًا أخرى…

لعل ما حدث كان بالنسبة لشاول فرصة جديدة من بين الفرص الكثيرة التي قدمها له الله لكي يراجع نفسه ويدرك سر فشله، فيعود إلى الله بالتوبة القلبية الصادقة… لكنه على العكس أساء استخدام هذه الفرصة فقد اسودت الحياة في وجهه وبدأ يفكر في امرأة صاحبة جان؛ فأهانَ الله إذ أقام هذه المرأة الكاذبة الجاهلة موضع الله.

عجبًا! ملك إسرائيل يطلب من عبيده أن يبحثوا له عن امرأة صاحبة جان لتكون له مشيرة في أمر مصيري يمس حياته وحياة الشعب كله! أية غباوة هذه!

لقد أخبروه عن وجود صاحبة جان في عين دور، تبعد حوالي 10 أميال من جلبوع على الجانب الشمالي من جبل دوحي.

شاول الذي قطع أصحاب الجان والتوابع من الأرض [9] تنكر وذهب إلى صاحبة جان لتصعد له صموئيل يستشيره بعد أن أقسم لها أنه لن يلحقها إثم في هذا الأمر. هكذا انحرف شاول من ضعف إلى آخر حتى ارتكب هذا الشر الخطير. لهذا يحذرنا الآباء من فتح الباب للخطايا التي تبدو تافهة والتي تقودنا تدريجيًا إلى ما كنا نظن أننا لن نرتكبه.

v     أتوسل إليكم… أن تغلقوا مداخلهم (مداخل الخطايا)، فإن الشيطان في دناءته يستخدم مكرًا عظيمًا وجهدًا وخنوعًا لإهلاك البشر إذ يبدأ هجومه عليهم بأمور تافهة للغاية. لاحظ كيف أتى بشاول إلى الاعتقاد بالخرافات مستخدمًا صاحبة الجان، فلو أشار عليه بذلك من البداية لما اهتم شاول بمشورته، إذ كيف يقبل هذا من قطع أصحاب الجان؟! لقد قاده الشيطان إلى ذلك قليلاً قليلاً…

القديس يوحنا الذهب الفم[205]

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن ما وصل إليه شاول من انحطاط وانهيار حتى التجأ إلى صاحبة جان جاء كثمرة لانفصاله عن داود كقائد عظيم وقوي، فبفقدانه خسر الكثير، إذ يقول: [إلى أن انفصل عن داود لم يسقط (شاول) في حرب ما، فكان كلاهما في أمان ومجد، إذ كان مجد القائد يعبر إلى الملك[206]].

 ما هو رأي الآباء في الروح الذي ظهر لشاول؟

يرى القديس هيبوليتس أن شاول لم يرى صموئيل، إنما كان ذلك خداعًا. أما ما أنبأ به الشيطان فهو نتيجة طبيعية (هزيمة شاول) لغضب الله عليه، وكأنه بطبيب ليس له معرفة بعلم الطب رأى المريض في حالة خطيرة فأنبأه بموته. هكذا عرف الشيطان غضب الله على شاول من تصرفات شاول نفسه مقدمًا له المشورة خلال الجان، مخبرًا إياه بهزيمته وموته، لكنه أخطأ في تحديد يوم موته[207].

v     استشار شاول الميت بعد فقدانه الله الحيّ. حاشا لنا أن نظن أن نفس أي قديس- بالأكثر نفس نبي – تُستدعى (من مكان راحتها في الجحيم) بواسطة شيطان. “إننا نعلم أن الشيطان نفسه يغير شكله إلى ملاك نور” (2 كو 11: 14)، فبالأكثر إلى رجل نور، بل وسيُظهر نفسه في النهاية أنه هو الله (2 تس 2: 4) ويعطي آيات وعجائب” حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا” (مت 24: 24). في الحالة السابقة تردد بقوة ليثبت نفسه أنه نبي الله خاصة بالنسبة لشاول الذي كان يقطن فيه.

العلامة ترتليان[208]

يرى القديس باسيليوس الكبير أن شاول رأى أرواحًا شريرة دعيت آلهة كما جاء في (مز 96: 5، مز10: 11 الترجمة السبعينية).

لقد ظهر ضعف شاول الشديد وانهياره إذ:

أ. خاف واضطرب قلبه جدًا عندما رأى جيش الفلسطينيين [5].

ب. انهار أمام عبيده الذين يعرفون أنه سبق أن نفى أصحاب الجان، وها هو يطلب منهم أن يفتشوا عن امرأة صاحبة جان؛ موقف مخز أمام عبيده!

ج. خاف لئلا تخشاه المرأة فتنكر ولبِس ثيابًا أخرى [8]؛ صورة مخزية!

د. ذهب إليها في عين دور، سار نحو عشرة أميال، محتملاً التعب ومتعرضًا للخطر حيث كان أعداء في شونم بين جلبوع وعين دور.

هـ. غالبًا ما عرفته المرأة بسبب طول قامته عن كل الشعب، فتظاهرت بعدم ممارستها هذه الأمور، أما هو فبجهل حلف بالرب أنه لن يؤذيها [10].

و. ظهر الشيطان في شكل صموئيل النبي مُغطى بجبة فصرخت المرأة توبخ شاول: “لماذا خدعتني وأنت شاول” [12]. أما هو فلم يرتدع بل كمّل هذا الطريق الشرير؛ دخل في حوار مع الروح الظاهر له والمتحدث باسم صموئيل، فخّر شاول على وجهه إلى الأرض وسجد، وبعد الحوار سقط على الأرض بطوله وخاف جدًا… إنها سلسلة من الانهيارات والمتاعب عاشها شاول في آخر حياته.

ز. أشفقت عليه المرأة صاحبة الجان بسبب انهياره الشديد وهو ملكها وقدمت له أفضل ما عندها طعامًا بعد إلحاحها هي وعبديه.

ما أبعد الفارق بين مواجهة شاول الملك للموت إذ ختم حياته بصورة مخزية بعصيانه الرب حتى آخر أيام حياته، ومواجهة بولس الرسول له، إذ يقول: “وقت انحلالي قد حضر، قد جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيرًا قد وضع لي إكليل البر” (2 تي 4: 6-8).

الإنسان الفاسد داخليًا يجمع لنفسه مرارة من يوم إلى يوم حتى اللحظات الأخيرة من حياته، وأما الروحي فيخزن في أعماقه أمجادًا متلاحقة تملأ أعماقه فرحًا حتى نهاية حياته على الأرض. ومع هذا فإن الله لا يغلق الباب أمام الأول طالبًا توبته ولو في النفس الأخير كما حدث مع اللص اليمين، ولا يليق بالآخر أن يتهاون لئلا يسقط.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى