تفسير سفر المكابيين الثاني 11 للأنبا مكاريوس أسقف المنيا

حملة ليسياس ومعاهدات الصلح

لا شك أن انتصارات اليهود الُمبهرة قد أثارت حفيظة الحكام في أنطاكية، فقد خشوا من تفاقم أمر اليهود وانتقال الثورة والتمرد إلى المدن الأخرى، ومن ثمّ قرروا القيام بعمل عسكري ضخم لردع اليهود. غير أن الحملة فشلت إذ لحق بالسلوقيين هزيمة منكرة، مما حدا بهم إلى تعديل استراتيجيتهم إلى التفاهم والتصالح وانتهاج الدبلوماسية أسلوبًا في التعامل مع المكابيين.

حملة ليسياس

وبعد ذلك بزمان قليل جدًا، إذ كانت الأحداث قد شقت كثيرًا على ليسياس، وصى الملك وذى قرابته والمقلد تدبير الأمور، 2 جمع نحو ثمانين ألف رجل وفرسانه كلهم، وزحف على اليهود، وفي نيته أن يجعل المدينة مسكنًا لليونانيين، 3ويُخضع الهيكل للضريبة كسائر معابد الأمم، ويعرض الكهنوت الأعظم للبيع سنة فسنة، 4 غير حاسب حسابًا لقدرة الله، بل منتشيًا من ربوات مُشاته وألوف فرسانه وأفياله الثمانين. 5 فدخل اليهودية وبلغ إلى بيت صور، وهي مكان محصن على نحو خمس غلوات من أورشليم، وضيق عليها الخناق. 6 فلما علم أصحاب المكابى أن ليسياس يحاصر الحصون، ابتهلوا إلى الرب مع الجموع بالنحيب والدموع أن يرسل ملاكًا صالحًا ليخلص إسرائيل. 7 ثم أخذ المكابي سلاحه أولًا وحرّض الآخرين على المخاطرة معه لنجدة إخوتهم. فاندفعوا كلهم معًا متحمّسين. 8 وكانوا لا يزالون عند أورشليم، إذ تراءى فارس عليه لِباسُ أبيض يتقدمهم، وهو يلوح بسلاح من ذهب. 9 فجعلوا بأجمعهم يباركون الله الرحيم وتشجعوا في قلوبهم، حتى كانوا مستعدين لأن يطعنوا، لا الناس فقط، بل أضرى الوحوش أيضًا، ويخترقوا أسوار الحديد. 10وأخذوا يتقدمون مصطفين للقتال، وقد أتاهم حليف من السماء برحمة الرب. 11 وحملوا على الأعداء حملة الأسود وصرعوا منهم أحد عشر ألفًا ومن الفرسان ألفًا وست مئة، وألجأوا سائرهم إلى الفرار. 12وكان أكثر الذين نجوا بأنفسهم جرحى وبلا سلاح. وليسياس نفسه نجا بفرار مخجل.

 

هذه الحملة وما تبعها من معاهدات وقعت عقب (8: 36) أي بعد الأصحاح الثامن وقبل موت أنطيوخس أبيفانيوس، ولعل هذا هو المقصود في (الآية1 “وبعد ذلك بزمان قليل”) وقد نجد هناك ما يوحى بالخلط بين أنطيوخس الرابع أبيفانيوس وأنطيوخس الخامس أوباطور بسبب وقوع بعض الحملات والأحداث أثناء الفترة الأخيرة من حياة أنطيوخس الرابع والتي قضاها خارج عاصمة ملكه، والفترة التي كان فيها أنطيوخس الخامس ما يزال طفلًا تنقّل تحت الوصاية ما بين فيلبس وليسياس، ولذلك فبعض القرارات تنسب إلى الشخصية الأولى وبعضها إلى الثانية وبعضها إلى الثالثة. والذي يعنينا هنا هو أن الأحداث وقعت بالفعل، وقد كانت الأخبار تصل ببطء، وتتلاحق مما ينتج عنه الكثير من الخلط والكثير من المشاكل الإدارية والسياسية، كما يؤخذ جيدًا في الاعتبار أنه كثيرًا ما يستخدم المؤرخ تقويمًا غير الذي يتخذه الآخر(1).

وصى الملك وذى قرابته والمقلد تدبير الأمور (آية 2):

جاءت الكلمة “ قريبه ” في اليونانية (suggenhV) بمعنى نسيب، وهذا يطابق ما ورد في (1مكا 10: 89) و”الموكل على الأمور” جاءت في اليونانية (o epi twn praymatwn) وهو يطابق أيضًا ما جاء في (2مكا 7:3) ” هليودوروس قيّم المصالح”.

كان على ليسياس في الفترة التالية لوفاة أنطيوخس أبيفانيوس، أن يقوّى نفوذه في أنطاكية (10: 11-13) وحتى بعد التخلص من منافسيه، لم يكن من السهل عليه أن يترك العاصمة إلاّ لأسباب قهرية، وكانت انتصارات المكابيين مُقلقة لليسياس وهو رئيس وزراء نظام لا يتمتع بالأمن التام. ولكن حملته تنتهي على نحو مفاجئ عندما يتصدى لها اليهود بمساندة الظهور الإلهي، وينهى ليسياس العداوات بشكل رسمي طبقًا لما ورد في (1مكا 3: 38- 4: 35) وكان غزو ليسياس هو أولى الحملات السلوقية ضد اليهود بعد حملة نيكانور وجرجياس(1) بل كانت رد فعل لما وقع على هذين القائدين (1مكا 4: 1-28) إذ فوجئ بما حدث (10: 16-38).

ونعود الآن إلى حملة ليسياس والتي كان الغرض الرئسيى منها هو: محو الهويّة الدينية لليهود في أورشليم وذلك من خلال تحويلها بشكل رسمي إلى مدينة يونانية (آية2) وهو الهدف الذي طالما سعى أنطيوخس الرابع لتحقيقه ولم يفلح، وأما عن الضريبة التي ينوي ليسياس وضعها على الهيكل فلم تكن عادة راسخة، بل خضعت لطبيعة العلاقة بين اليهود والحكام الأجانب الخاضعين لهم، حيث تأرجحت ما بين كرم الملوك وانفاقهم على الهيكل والذبائح، وبين فرض الضرائب الباهظة على الموضع وعلى رئيس الكهنة، وهو المنصب الذي كان يخضع للعرض والطلب: ففي كل عام كان هناك فرصة للمزايدة على رئاسة الكهنوت حيث يُؤهب لمن يدفع أكثر (4: 24).

هذا وكان ليسياس قد حشد جيشًا عظيمًا من الفرسان والمشاة والأفيال الحربية، وما أن وصل إلى “بيت صور” وهي مدينة حصينة (1مكا 4: 29) حتى قام بحصارها والتضييق على اليهود الساكنين داخلها، ومن ثمّ راح اليهود يبتهلون إلى الرب علّه يزيح عنهم هذا الكابوس المزعج.

بيت صور Beth-zur: هنا ملاحظة تاريخية دقيقة، وهي مرور ليسياس على بيت صور، لم تذكر في المكابيين الأول (4: 29) حيث تقع على مسافة 28 كم جنوب أورشليم على الطريق المؤدى إلى الخليل، وإن كانت على مسافة 14 كم فقط على خط مستقيم (أقصر الطرق)(1).

أهداف ليسياس من الحملة:

1- جعل المدينة مسكنًا لليونانيين: كان مستوطنون غرباء قد فُرضوا على أورشليم بالفعل (1مكا 1: 38) ولكنه يود تحويلها إلى مستعمرة يونانية.

2- إخضاع الهيكل للضريبة مثل سائر المعابد: كان الهيكل في ذلك الوقت يعانى من أزمة مالية، عقب حوادث السلب والنهب والتي كانت أسوأ من دفع الضرائب بكثير (4: 32، 39 و5: 15-21) كما كان منلاوس قد اشترى رئاسة الكهنوت (4: 24) وكان مستبعدًا من مزاولة عمله، وإن لم يكن ما يزال شاغلًا لمنصبه.وكان اليونانيين وجامعى الضرائب قد مُنعوا مؤقتًا من دخول أورشليم.

ملاك صالح: مرة أخرى يرسل الله عضدًا من السماء وعونًا من عليائه، وهوذا يظهر من جديد فارس بثياب بيض (سمائى) فعندما تعيي البشر الحيلة فإن الله يتدخل بقوة، فقد كان هذا الفارس كنائب عن الله يحمل بشرى العون والغلبة. هكذا كان وعد الله لشعبه منذ أخرجهم من مصر يتعهدهم من خلال خدامه “ها أنا مرسل ملاكًا أمام وجهك ليحفظك في الطريق ويجئ بك إلى المكان الذي أعددته” (خروج 23: 20).

هذا وقد أكسبتهم هذه الرؤيا ثقة كبيرة بأنفسهم وشجاعة عظيمة، إذ أدركوا أن الرب لن يتخلى عنهم في تلك المجابهة فهوذا حليفه يتقدّمهم (آية 10). وتعد هذه الرؤيا هي الرابعة التي تُذكر في هذا السفر خلال كفاح المكابيين(1)، وهكذا استطاع اليهود مواجهة هذا الجيش الجرار مُلحقين به هزيمة مخزية، حيث يبدو ذلك من عدد القتلى والجرحى وهروب ليسياس نفسه.

وهكذا صرح عدد كبير من الأعداء، ومن كان سيصبح جامع جزية لاذ بالفرار إذا أصبح فرسانه بلا جدوى، وقد رأى اليهود في ذلك تحقيقًا لنبوات: (زكريا 9: 15 و 10: 4-5 وأشعياء 31: 8-9).

وهكذا استطاع اليهود مواجهة هذا الجيش الجرار مُلحقين به هزيمة مخزية، حيث يبدو ذلك منعدد القتلى والجرحى وهروب ليسياس نفسه.

وهكذا صرح عدد كبير من الأعداء، ومن كان سيصبح جامع جزية لاذ بالفرار إذا أصبح فرسانه بلا جدوى، وقد رأى اليهود في ذلك تحقيقًا لنبوات: (زكريا 9: 15 و 10: 4-5 وأشعياء 31: 8-9).

التصالح مع اليهود

13 ولم يكن ليسياس عديم الفطنة، فأخذ يفكر فيما أصابه من الهزيمة، وأدرك أن العبرانيين قوم لا يقهرون، لأن الله القدير يناصرهم، فأوقد 14 يعرض عليهم المصالحة في كل ما هو حق، ويعدهم بأن يرغم الملك على مصادفتهم. 15 فرضى المكابى بكل ما اقترح ليسياس، ابتغاء للمصلحة العامة. وكل ما أبلغه المكابى إلى ليسياس بالكتابة في أمر اليهود، أجابه الملك إليه.

 

سواء أكان قرار التصالح مع اليهود قد جاء قسرًا أو حكمة، فقد أدت بعض الاضطرابات في عاصمة المملكة بأنطاكية إلى تغيير خطة ليسياس، وللرب طرق عديدة في تحقيق مشيئته، فقد بلغت ليسياس الأخبار باستيلاء فيلبس على العرش، ومن ثمّ فقد تحوّل بفكره وقواته عن اليهودية إلى أنطاكية، ويذكرّنا ذلك بما حدث مع أنطيوخس أبيفانيوس حين أزعجته أخبار من الشرق ومن الشمال “وتفزعه أخبار من الشرق ومن الشمال فيخرج بغضب عظيم ليخرب ويحرم كثيرين” (دانيال 11: 44) راجع أيضًا (إشعياء 28: 19).

هذا وقد كان من السهل على ليسياس استصدار القرارات الخاصة بالمصالحة مع اليهود من الملك، إذ كان الأخير ما يزال صبيًا في ذلك الوقت وليسياس نفسه سيصبح الوصيّ عليه، أما اليهود أنفسهم فقد قبلوا العرض، فإذا كان ليسياس قد حُسب حكيمًا في نظرهم (ليس عديم الفطنة /آية 13) فإن اليهود في المقابل كانوا حكماءً بقبولهم العرض السلوقي، مما يؤكد أن ميولهم حتى ذلك الوقت ليست عدوانية كما لم تكن لهم سياسات توسعية بل دفاعية، وأن كانوا قد انحرفوا عن هذا النهج لاحقًا بالسعي إلى مزيد من السلطة والأراضي.

(1) رسالة ليسياس إلى اليهود

16 وهذه فَحْوى الرسالة التي كتب بها ليسياس إلى اليهود: “من ليسياس إلى شعب اليهود سلام. 17 قد سلم يوحنا وأبشالوم الموفدان من قبلكم الوثيقة المنسوخة أدناه، وسألانا أن نبرم ما تتضمنه. 18 فشرحت للملك ما ينبغي أن يرفع إليه، ووافقت على ما هو في إمكانى. 19 وإن بقيتم على ولائكم للدولة، فإني أبذل جهدى فيما بعد لأن أتوخى ما فيه خيركم. 20 وأما تفصيل الأمور، فقد أوصينا الموفدين ومن أرسلنا من قبلنا بأن يفاوضوكم فيه. 21 والسلام. في السنة المئة والثامنة والأربعين، في الرابع
من شهر ديوسقورس”.

 

كتب ليسيّاس إلى يهوذا المكابى يعرض عليه اتفاقية الصلح (أو بمعنى أدق الهدنة، إذ لم تنته الحرب عند هذا الحد) ومن ثمّ فقد كتب يهوذا بدوره إلى ليسياس يبلغه بمطالب بلاده، هذا وقد أُشير إلى مضون هذه الرسالة في (1مكا 6: 58، 59) وقد عقد اجتماعه هذا في الرابع والعشرون من شهر كسنتكس.وإن كان ليسياس قد نقض هذا الاتفاق لاحقًا.

يوحنا وأبشالوم: ربما كان يوحنا هو: يوحنا المكابى، الابن البكر لمتتيا الكاهن، كما يذكر اسم يوحنا في عائلة من السفراء اليهود (2مكا 4: 11 و1مكا 8: 17). بينما أبشالوم هو شخصية دبلوماسية مرموقة، وقد أصبح لابنيه متتيا (متتيا بن أبشالوم 1مكا 11: 7) ويوناثان (يوناثان بن أبشالوم 1مكا 13: 11) مراكزًا قيادية عسكرية هامة.

ولم يكن اسم أبشالوم شائعًا كما هو الحال مع اسم يوحنا ربما بسبب ارتباط الاسم بما حدث بين داود وابنه أبشالوم؛ وفي التعليق على سفر حبقوق كما ورد في مخطوطات قمران يدين الكاتب “بيت أبشالوم” بسبب عدم سماعهم لتبكيت “معلم البر” ضد “رجل الكذب” مما يعنى أنهما أي الضابطان المنتميان إلى بيت أبشالوم، من اليهود الأتقياء وأن اسرتهما كانت تقية ذات نفوذ، تعاونت مع الحشمونيين.

هذا وبينما احتوت وثيقة المعاهدة على الخطوط العريضة للاتفاقية، فقد تُركت التفاصيل الأقل أهمية للوفدين السلوقى واليهودي، مثلما يعبّر عنها الآن ب “لقاء القمة” بالنسبة للرؤساء وتفاهمات وزراء الخارجية والوفود الدبلوماسية. ويظهر من الوثيقة كيف كان ليسياس صادقًا وموضوعيًا، إذ يَعِد بما في إمكانه بينما يترك الباقي مرتبطًا بمدى التزام اليهود وولاءهم.

كان اليهود قد قدموا التماسًا إلى ليسياس يتضمن طلباتهم وذلك قبل عدة شهور من ذلك التاريخ، وكان الإجراء المتبع في مثل هذه الحالة هو التعليق على الالتماس أسفله (في هذه الحالة أعلاه آية 17) فأعاد إليهم نسخة منها وفي أعلاها وضع تعليقاته، ومن الوثائق البطلمية نفهم أن الناتج عن الالتماس ثم التعليق عليه كان يسمى Chrinatismos، وكان على ليسياس إقناع الوزراء الأقوياء الآخرين بتعديلاته (بدلًا من الملك الصغير السن آنئذ) يضاف إلى ذلك تفاصيلا أخرى شفاهية من خلال الموفدين.

ملاحظة حول تاريخ الوثيقة:

من المحتمل أن تكون هذه الوثيقة قد صدرت عقب وصول نبأ وفاة أنطيوخس الرابع وأما شهر ديسقورس الذي كُتبت فيه فقد جاءت الكلمة “ديسقورس” في الأصل العبري “ديوس كورنثي” بدون كلمة شهر، وتجيء الكلمة في كل النسخ والمخطوطات باليونانية هكذا (Dioscorinqiou) ولا يوجد شهر بهذا الاسم، ولكن الكلمة عبارة عن كلمتين، حسبما يقرّ بهذا جميع خبراء اللغة: (corinqiou) و (DioV) وقد وردت هكذا في المخطوطة اللاتينية B: “iovis corinthii ” ووردت في بقية المخطوطات اللاتينية “Dioskori ” وهو الشهر الثالث للكريتيين (نسبة إلى كريت) فهو اسم بديل للإسم اليوناني “ديوس قورنتى” Dios Corinthius (1) وكان يأتي في بداية الخريف. وبالتالي فقد أُبرمت الرسالة في خريف سنة 164ق.م.

رسالة من أنطيوخس الخامس إلى ليسياس

 22 وهذه صورة رسالة الملك: “من الملك أنطيوخس إلى أخيه ليسياس سلام. 23 منذ أن انتقل والدُنا إلى الآلهة، لم يزل همنا أن يكون أهل مملكتنا في مأمن من الاضطراب ومنصرفين إلى شؤونهم. 24 وبلغنا أيضًا أن اليهود غير راضين بما أمرهم والدنا من التحول إلى سنن اليونانيين، بل أنهم يفضلون مذهبهم الخاص ويسألون أن يباح لهم العمل بسننهم، 25 ونحن نريد لهذا الشعب أن يكون كغيره خاليًا من الاضطراب. فإننا نحكم بأن يرد لهم الهيكل وأن يعيشوا بحسب عادات آبائهم. 26 فإنك تحسن عملًا إن أرسلت إليهم ومددت يمناك إليهم، حتى إذا علموا بما عزمنا عليه اطمأنوا وانصرفوا بسرور إلى شؤونهم”.

 

أخيه: جاءت في العبرية ” للأخ “، وهي صفة تطلق لحبيب الملك ومن أخلص له، وهو الشخص الذي أراد الملك قربه، ونعلم أن ملك سوريا السلوقي أعطى يوناثان الحشموني هذه الصفة (1مكا 10: 18).

انتقل والدُنا إلى الآلهة: جاءت في العبرية (نِفطَر أبينو إِل بين ها إلوهيم) بمعنى (غادر أبينا إلى الآلهة). وجاءت في اليونانية (eiV qeouV = إلى الآلهة) ولم يقل (proV qeouV = عند الآلهة). والفارق خطير بين الاثنين هذا لأن أبيفانيوس كان يعتبر نفسه (qeoV = إله) وفي موته عبر ليسكن بين بقية الآلهة أصدقائه إذ هو ليس بشر يستودع لدى الآلهة عند موته .!!

كانت عادة الملوك قديمًا إذا ما اتّخذوا قرارًا بشأن جماعة من رعاياهم، أن يحرّروا خطابًا إلى أحد المسئولين يُصدروا إليه فيه تعليماتهم، بجعل القرار موضع التنفيذ، وكذلك يكلفونه بإرسال نسخة من القرار إلى تلك الجماعة.

يتدارك الملك هنا بمعاونة مستشاريه الخطأ الجسيم الذي ارتكبه أبوه أنطيوخس الرابع، من حيث اكراه اليهود على اعتناق الحضارة الهيلينية، ومن ثم فهو يعلن عن عهد حكم جديد باستراتيجية جديدة، يمنح اليهود بموجبها الحريات، كما يسعى إلى نشر الوفاق والسلام فيما بين رعاياه. وهي عادة مألوفة لدى الحكام الجدد حال توليهم الحكم، من إعلان سياسات جديدة وتصحيح بعض الأوضاع، وقد تبنّى أنطيوخس الصغير هنا نبرة ودّ تجاه اليهود ولكن الملك في الواقع هنا يقرر ما يعدّ تحصيل حاصل، إذ كان اليهود قد قاموا بشكل منفصل بتطهير الهيكل وإعادة تدشينه، وبالتالي فالرسالة تأكيد وتوثيق لهذا الحق.

أمّا عن تاريخ ذلك الخطاب فهو أواخر سنة 164 أو أوائل سنة 163 ق.م. فإذا اعتبرنا نبوة دانيال (8: 14) تشير إلى هذا الحدث، فقد أعلن دانيال أن القدس سوف يتبرّأ بعد 2300 صباح ومساء (أي 1150 يومًا) من التدنيس الذي حدث في يوم 25 كسلو، وبذلك يكون الخطاب قد حُرّر يوم: 8 فبراير سنة 163 ق.م.، وهكذا جاءت التبرئة التي تحدث عنها الرائي من خلال خبر موت المضطهِد، ثم رفض سياساته على لسان ابنه شخصيًا. وربما كان إعلان فحوى هذه الرسالة هو التأكيد الرسمي الأول في أورشليم لموت الملك الوالد.

هذا وتحتوى (الآيتان 24، 25) على الأسباب الحقيقية لتمرُّد اليهود واندلاع الثورة المكابية في عهد كل من أنطيوخس أبيفانيوس وابنه. فقد أمرهم الأول بالتحوّل إلى سنن اليونانيين، بينما سار أنه في ذات المضمار. هذا وقد شمل القرار هنا منح اليهود حق الاحتفاظ بالهيكل والذي كان بحوزتهم بالفعل من عام 167 ق.م. وما هذا إلاّ تصديق على ذلك. وهكذا حوّل الله قلوب الأعداء إلى خير اليهود، مثلما حدث مع “كورش” الملك الفارسى والذي ردّ الأواني التي كانت قد سُلبت من بيت الرب (عزرا 1: 1-4).

ورغم أن التصريحات الواردة في الرسالة مطمئنة ومتعقّلة وواقعية) إلاَ أن الملك لم يفِ بكل ذلك، بل لم يعش طويلًا، إذا اغتيل لاحقًا.

(3) رسالة الملك إلى اليهود

وهذه رسالة الملك إلى الأمة: “من الملك أنطيوخس إلى مشيخة اليهود وسائر اليهود سلام. 28 إن كنتم في خير فهذا ما تحب، ونحن أيضًا في العافية. 29قد أطلعنا منلاوس على رغبتكم في العودة إلى منازلكم. 30 فالذين يعودون إلى اليوم الثلاثين من شهر كسنتكس يكونون في أمان. 31 وقد أبحتا لليهود أطعمتهم وشرائعهم، كما كانوا عليه من قبل وكل من هفا منهم فيما سلف فلا يضايق. 32 وانا مرسل إليكم منلاوس ليطمئنكم. 33 والسلام. في السنة المئة والثامنة والأربعين، في الخامس
عشر من شهر كسنتكس”.

 

بينما كانت الرسالة السابقة تتضمن تكليفًا من الملك إلى وزيره ووصيّه ليسياس بالقيام بما يلزم وما يتفق مع مصالح اليهود، فإن هذه الرسالة موجّهة إلى اليهود مباشرة، فهي خطاب الملك إليهم، حيث يعود فيؤكد لهم من جديد الحريات والامتيازات التي أوصى بها ليسياس.

مشيخة اليهود:

من الُملفت مخاطبة اليهود بهذه الصفة فالنظام المحيط بالملك الصغير يعترف بالمشيخة ولا يعترف باليهود كأمة متمتعة بالامتيازات، ولعلّ الملك يقصد رئيس الكهنة منلاوس وأتباعه لكي يمنحهم مصداقية، باعتبارهم المتحدثون الرسميون عن اليهود، ورغم أن المشيخة اليهودية، كانت قد فقدت كل وضعيتها الرسمية إلاّ أن كثيرين من أعضائها كانوا ما يزالون على قيد الحياة، وربما يكون منلاوس قد اتّصل بالصفوة الحاكمة في أنطاكية لا ليلتمس العفو العام فقط، بل ليحتج على اعتراف ليسياس بالزمرة المتمردة (يهوذا وأتباعه) وقد رأى الملك أن العفو العام سوف يحمل يهوذا ذاته وأتباعه إلى الكف عن القتال، وحمل المتدينين على الإيمان بأن الله ذاته حرم التمرّد ضد الملك.

وأما عن الدور المنسوب هنا إلى “منلاوس” والذي يمقته اليهود بشدة، فإنه لا يعني سوى رغبة الملك في تثبيته في رئاسة الكهنوت، مما يعنى ضمنًا بالتالي عدم اعتراف الملك بالمكابيين وقائد ثورتهم “يهوذا المكابى”. ولكن ذلك لم يكن له وزنًا كبيرًا لدى المكابيين إذ كانوا قد حققوا هدفهم من الثورة، أي إعادة العمل بالشريعة واستئناف العبادة في الهيكل، ثم كيف يُرسل منلاوس ليطمئن اليهود على الحرية الدينية وهو الذي له الدور الكبير في نشر الهيلينية ونهب الهيكل؟

في هذه الرسالة أيضًا يُصدر الملك عفوًا عامًا عن اليهود الذين اعترضوا على سياسة السلوقيين في عهد سلفه، مما شكّل ما يشبه جماعات المعارضة داخل أورشليم وخارجها، وقد صرّح الملك لهم بالعودة إلى بلادهم في غضون أسبوعين (من الخامس عشر إلى نهاية شهر كسنتكس والذي هو نفس الشهر ديوس كورنتى / آية 21) وذلك أملًا في أن تستقر الأمور في المملكة وتكفل حركة التنقل بين البلاد.

المهلة المحددة لليهود: بينما يرى البعض أن مدة الخمس عشر يومًا غير كافية لتصل يها الرسالة الملكية من أنطاكية إلى الأقاليم اليهودية، فإن اليهودية كانت منطقة متضامنة، بحيث يمكن للخبر الانتشار على نحو سريع، وفي قسم تاعنيت Ta’anit من التلمود يرد في يوم 28 آذار (كسنتكس) الآتي “في ذلك اليوم ورد النبأ السار لليهود بأن لا يفرض عليهم ترك التوراة” (1) مما يعنى أن الخطاب المرسل يوم 15 قد وصل إلى اليهودية في يوم 28 وهو أمر مقبول، إذ لم ترد الحكومة آنئذ منح مزيد من الوقت للتفكير في الأمر بل رغبت في الحصول على قرار سريع.

كان هذا العفو يحمل في طياته توفير الأمان لليهود الذين يرغبون في التحرك من أورشليم إلى أنطاكية والعكس، لا سيما بعد الانتهاء من احتفالات الفصح التي كانت تجرى في ذلك الوقت، إذ أن شهر كسنتكس يقابل شهر نيسان حيث يقع الفصح في الرابع عشر منه.

(4) رسالة الرومان إلى اليهود

34 وأرسل الرومانيون إلى اليهود رسالة هذه صورتها: “من قونتس مميوس وطيطس منليوس، رسولي الرومانيين، إلى شعب اليهود سلام. 35 ما رخص لكم فيه ليسياس، نسيب الملك، فمنحكم إياه أيضًا، 36 وما استحسن أن يرفع إلى الملك، انظروا فيه وبادروا إلى إرسال واحد لنعرضه على الملك بما يوافقكم، لأننا ذاهبون إلى أنطاكية. 37 فعجلوا في إرسال من ترسلون، لنكون على علم بما تبتغون. 38 والسلام. في السنة المئة والثامنة والأربعين، في الخامس عشر من شهر كسنتكس”.

 

تؤّرخ هذه الرسالة في نفس يوم رسالة أنطيوخس الخامس أوباطور إلى اليهود ويعترض بعض الشراح بأن أول تعاون بين الرومان ويهوذا المكابى كان في سنة 161 ق.م. وليس قبل ذلك التاريخ، ولكن مفاوضات ما غير رسمية، ربما تكون قد جرت بين الطرفين قبل ذلك التاريخ، ويقول يوسيفوس أن يهوذا قد أجرى اتصاله بروما فيما بين وفاة متتيا أبو المكابيين وغزو تالٍ لليهودية بواسطة أنطيوخس الرابع، كما رأى البعض منهم أن اسمي المندوبَين الرومانيَين محرّف، ولكن كثير من المواطنين الرومان في ذلك الوقت كان لهم اسمان: شخصي وعائلى، وأماّ المندوبان فهم:

قونتس (كونتس) مميوَس Quintus Memmius: ولا يُعرف عنه شيئًا إذ لم يرد سوى في هذا المكان، ومن الممكن أن يكون مميوس هو تهجئة للاسم مليوس Mallius أو Manilius وهو الاسم الثالث للسفير الثاني، والآخر هو:

طيطس منليوس Titus Menius: والذي من المحتمل أن يكون هو “مانليوس توركراتوس”، والذي عمل سفيرًا في مصر سنة 164 ق.م. وُيحتمل أن يكون قد تلقّى تكليفا من حكومته يتعلّق بالشئون السلوقية(1).

وكان يجب أن يكون السفير أو أي مسئول مهم في روما من عائلة عريقة، أو أن يكون هو ذاته ذا مكانة متميزة.

في ذلك الوقت كانت روما تعطى نفسها حق التدخل في شئون الدول الأخرى، حيث تبادر هنا بالإرسال إلى اليهود مؤيدة انعامات أنطيوخس الخامس ووصيّه ليسياس، ثم يخبرهم السفيران بأنهم سيكونا متواجدين بأنطاكية، وعلى اليهود إرسال سفراء عنهم إلى أنطاكية يحملون رغباتهم حتى يؤيداها أثناء تواجدهما هناك، راجع التعليق على (2مكا 5: 1-4) حيث يتضح دور مندوبي وسفراء روما في مصر.

وهكذا يتضح لنا من رسائل السلوقيين الثلاث، كيف أرادوا ضمان موالاة اليهود لهم في ظلّ التهديد البطلمى للشمال السلوقى. كما يتضح أيضًا أن اليهود لم يلقوا السلاح بموجب هذه الرسالة ليتحولوا إلى الدبلوماسية، فما لبث أن تحرك السكان الوثنيين من حولهم خوفًا من تحقيق نبوات مجد إسرائيل، مما حدا باليهود إلى خوض حروب كثيرة ضدهم وردت تفاصيلها في سفر المكابيين الأول الإصحاح الخامس.

رأينا في هذا الإصحاح أربع رسائل لمباحثات السلام، مختصة بالوضع الجديد لليهود الذي نعموا به بعد موت أنطيوخس أبيفانس وانتصارات يهوذا المكابي، ونعرض هنا ترتيب مفاوضات السلام:

1- رسالة أوباطور إلى ليسياس (21 – 26):
بعد موت أبيفانس أبو أوباطور، أراد أوباطور أن ينعم اليهود بالسلام فأعطاهم حريتهم الدينية واسترددوا الهيكل رسميا بإعطائه لهم قرار رسمي بممارسة حقوقهم الدينية.

2- رسالة أوباطور لمجلس شيوخ اليهود (27 – 33):
عندما علم أوباطور من منلاوس أن اليهود يريدون العودة لبيوتهم وأعمالهم أباح لهم حتى اليوم الثلاثين من شهر كسنتكس وأباح لهم أن يحيوا حسب شريعة آبائهم.

3- رسالة ليسياس لليهود (16 – 21):
أُرِّخ لها في 24 من ديوس الكورنثي (مرحشوان اليهودي) لسنة 148 لليونان، ونرى من الرسالة أن مفاوضات السلام بين ليسياس ويوحانان وأبشالوم اقتربت من النهاية.

4- رسالة المرسلين الرومانيين (24- 38):

وهم من كانوا في يافا أو في معسكر ليسياس، وقد كُتبت في الخامس عشر من كسنتكس في النسخة اليونانية، لكن في النسخ اللاتينية L,B,M,P ونسخة الفولجاتا كتبت (Dioscoridis) وهي على ما يبدو من الكلمة اليونانية DioV corinqiou.

_____

(1) الرجاء الرجوع إلى “التأريخ” في كتاب مدخل إلى سفري المكابيين للمؤلف، حيث يلقى الضوء على هذه القضية

(1) هناك إشارة إلى حملتى ليسياس على اليهود في كتاب نبوة أخنوخ (الأصحاح التسعون) وهو سفر غير قانوني كتب في تلك الفترة (مخطوطات البحر الميت).

(1) مئة وخمسون غلوة – جاءت في العربية خمس غلوات -: جاءت في النسخة المعتمدة نحو خمس إستاديونات أي خمس غلوات (كالعربي تمامًا) (wsei stadiouV pente) – يرى الرابي كاهانا أنها مئة وخمسون غلوة، لأن حصن بيت صور على حدود أدوم، يبعد نحو عشرين ميلا رومانيا (وطبقا ليوسابيوس: 160 غلوة من أورشليم). لذلك جاءت في كلا المخطوطتان (راجع تعليق العالم swete على ذلك) هكذا (scionouV) بدلا من (stadiouV)، حيث (scionouV) هي وحدة قياس تبلغ ثلاثين غلوة أي ثلاثين إستاديون (stadiouV)، وإذ ذاك تبعد بيت صور عن أورشليم نحو 150 إستاديون وهو الأمر الذي أورده يوسابيوس.

(1) راجع قائمة تلك الرؤى في التعليق على الأصحاح الخامس عشر.

(1) ديوس قورنتى هو أحد الآلهة المذكورة بضع مرات في الأدب اليوناني، أما الاسم ديسقورس فقد ورد ضمن جدول تاريخى من عهد الإمبراطورية الرومانية على أنه اسم الشهر السادس من العام الكريتى والذي يبدأ بعد الاعتدال الخريفى مباشرة، وربما يكون الاسم ديسقورس Dioskours اسم أُطلق على الإلهين التوأم Dioskouroi واللذين كانا يعبدان على نطاق واسع في اليونان وتظهر صورهم على العملات السلوقية القديمة. ربما يكون أنطيوخس ابيفانيوس قد أطلق الاسم على أحد الشهور المقدونية ربما تكريمًا لمدينة طرابلس Tripolis.

وطبقا ليوسيفوس (الآثار كتاب فصل 3:3) كانت (DioV) = شهر مرحشوان (مرحشوان: هو الشهر الثامن في التقويم العبري) وهو كذلك في الترجمة الآرامية: (بأربعا وعسرين بتِشري أحري = في الرابع والعشرين من تشرين الثاني)، حيث شهر تشرين الثاني عند الآراميين هو شهر مرحشوان، وهو الشهر الثامن لدينا.

(1) Jonathan A. Goldsten, II Macc.

(1) جاء اسما السفيران في الأصل العبري (كوينتُس مميوس، تيطس مانيوس) وفي اللاتينية القديمة (Quintus Memmius Titus Manilius) ولا نعرف عنهم أية معلومات في أي موضع آخر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى