تفسير سفر صموئيل الثاني أصحاح 19 للقمص أنطونيوس فكري
الآيات (1-8)
“فَأُخْبِرَ يُوآبُ: «هُوَذَا الْمَلِكُ يَبْكِي وَيَنُوحُ عَلَى أَبْشَالُومَ». فَصَارَتِ الْغَلَبَةُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ مَنَاحَةً عِنْدَ جَمِيعِ الشَّعْبِ، لأَنَّ الشَّعْبَ سَمِعُوا فِي ذلِكَ الْيَوْمِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْمَلِكَ قَدْ تَأَسَّفَ عَلَى ابْنِهِ. وَتَسَلَّلَ الشَّعْبُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ لِلدُّخُولِ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا يَتَسَلَّلُ الْقَوْمُ الْخَجِلُونَ عِنْدَمَا يَهْرُبُونَ فِي الْقِتَالِ. وَسَتَرَ الْمَلِكُ وَجْهَهُ وَصَرَخَ الْمَلكُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «يَا ابْنِي أَبْشَالُومُ، يَا أَبْشَالُومُ ابْنِي، يَا ابْنِي!». فَدَخَلَ يُوآبُ إِلَى الْمَلِكِ إِلَى الْبَيْتِ وَقَالَ: «قَدْ أَخْزَيْتَ الْيَوْمَ وُجُوهَ جَمِيعِ عَبِيدِكَ، مُنْقِذِي نَفْسِكَ الْيَوْمَ وَأَنْفُسِ بَنِيكَ وَبَنَاتِكَ وَأَنْفُسِ نِسَائِكَ وَأَنْفُسِ سَرَارِيِّكَ، بِمَحَبَّتِكَ لِمُبْغِضِيكَ وَبُغْضِكَ لِمُحِبِّيكَ، لأَنَّكَ أَظْهَرْتَ الْيَوْمَ أَنَّهُ لَيْسَ لَكَ رُؤَسَاءُ وَلاَ عَبِيدٌ، لأَنِّي عَلِمْتُ الْيَوْمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَبْشَالُومُ حَيًّا وَكُلُّنَا الْيَوْمَ مَوْتَى، لَحَسُنَ حِينَئِذٍ الأَمْرُ فِي عَيْنَيْكَ. فَالآنَ قُمْ وَاخْرُجْ وَطَيِّبْ قُلُوبَ عَبِيدِكَ، لأَنِّي قَدْ أَقْسَمْتُ بِالرَّبِّ إِنَّهُ إِنْ لَمْ تَخْرُجْ لاَ يَبِيتُ أَحَدٌ مَعَكَ هذِهِ اللَّيْلَةَ، وَيَكُونُ ذلِكَ أَشَرَّ عَلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَرّ أَصَابَكَ مُنْذُ صِبَاكَ إِلَى الآنَ». فَقَامَ الْمَلِكُ وَجَلَسَ فِي الْبَابِ. فَأَخْبَرُوا جَمِيعَ الشَّعْبِ قَائِلِينَ: «هُوَذَا الْمَلِكُ جَالِسٌ فِي الْبَابِ». فَأَتَى جَمِيعُ الشَّعْبِ أَمَامَ الْمَلِكِ. وَأَمَّا إِسْرَائِيلُ فَهَرَبُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خَيْمَتِهِ.”
اعتبر يوآب حزن داود المفرط على ابنه العاق إبشالوم إهانة للشعب الذين خاطروا بحياتهم في الحرب من أجله، وكانوا يتوقعون كلمة شكر واحتفالًا بالانتصار بفرح وبهجة، لذلك دخل يوآب إلى الملك ليتحدث معهُ ولكن بكلمات جارحة وفي غير لياقة بل بالغ في كلامه إذ قال أن داود أبغض محبيه (6) فهذا لم يحدث وداود لم يبغض أحدًا ولكنه صدق في أنه أحب مبغضيه= فإبشالوم ورجاله أبغضوا داود ولو كان إبشالوم قد انتصر لقتل داود وكل رجاله ونساؤه وأولاده. والحقيقة أن داود كان يليق به أن يتخلى عن المشاعر الشخصية والعائلية فحزنه الشديد على ابنه حطّم نفسية رجاله فهم ما كانوا يتوقعون ذلك. ولقد خشي يوآب أن تصرفات داود هذه تتسبب في أن يهجره كل رجاله. لذلك هو هدد قائلًا لا يبيت أحد معك هذه الليلة (7)= أي سنتخلى عنك كملك ونتركك. وفي (8) حين قام الملك وجلس كعادته عند الباب أتى جميع الشعب أمام الملك= ليفرحوا معهُ والمقصود بالشعب هنا مؤيدوه وجيشه الذين حاربوا إبشالوم. وأمّا إسرائيل فهربوا= المقصود بإسرائيل باقي الشعب الذي ناصر إبشالوم من يهوذا أو من الأسباط.
الآيات (9، 10)
“وَكَانَ جَمِيعُ الشَّعْبِ فِي خِصَامٍ فِي جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ قَائِلِينَ: «إِنَّ الْمَلِكَ قَدْ أَنْقَذَنَا مِنْ يَدِ أَعْدَائِنَا وَهُوَ نَجَّانَا مِنْ يَدِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ، وَالآنَ قَدْ هَرَبَ مِنَ الأَرْضِ لأَجْلِ أَبْشَالُومَ وَأَبْشَالُومُ الَّذِي مَسَحْنَاهُ عَلَيْنَا قَدْ مَاتَ فِي الْحَرْبِ. فَالآنَ لِمَاذَا أَنْتُمْ سَاكِتُونَ عَنْ إِرْجَاعِ الْمَلِكِ؟»”
وكان جميع الشعب في خصام= كل يلقى اللوم على الآخر ويحملهُ مسئولية الموقف المربك الذين هم فيه الآن. فهم تذكروا الآن دور داود منذ صباه وكيف دافع عنهم ثم خدماته للشعب كملك ومع هذا إذ ثار عليه إبشالوم إنضموا إليه. وهم قد مسحوا إبشالوم رافضين داود. ولقد كان أكثرهم غيرة في رفض داود سبط يهوذا نفسه والآن مات إبشالوم وداود غير موجود والأرض بلا ملك. والكل الآن في حيرة كيف يتصرف وهم في خجل من داود كيف يقابلونه بعد الذي فعلوه والفتنة التي أشعلوها. وكان داود قادرًا أن يدخل أورشليم على رأس جيشه المنتصر ويأخذها بالقوة ولكنه فضّل أن يدخل كملك محبوب وليس كملك يملك عنوة، وهذا هو موقف المسيح بعد أن انتصر لنا على إبليس “هأنذا واقف على الباب وأقرع، إن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معهُ وهو معي (رؤ20:3). وفضل داود أن يدخل في سلام ويملك في حب لشعبه ومن شعبه وهذا لا يأتي بالسيف فهو حررهم ولا يكون مناسبًا أن يستعبدهم ثانية حتى وإن كان لهُ. هو يتمنى أن يدخل دون أن يجد مقاومة من الشعب. يدخل في كرامة وليس على رأس جيش بل بين أذرع شعبه. ونلاحظ هنا أن إسرائيل (الأسباط العشرة) كانوا أسبق من يهوذا في قرارهم بعودة داود وقبوله ملكًا عليهم. ولقد شعر الملك بهذا فماذا يفعل الملك الحكيم ليجذب شعبه؟ (آية 11) (نش4:5).
الآيات (11-15)
“وَأَرْسَلَ الْمَلِكُ دَاوُدُ إِلَى صَادُوقَ وَأَبِيَاثَارَ الْكَاهِنَيْنِ قَائِلًا: «كَلِّمَا شُيُوخَ يَهُوذَا قَائِلَيْنِ: لِمَاذَا تَكُونُونَ آخِرِينَ فِي إِرْجَاعِ الْمَلِكِ إِلَى بَيْتِهِ، وَقَدْ أَتَى كَلاَمُ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ إِلَى الْمَلِكِ فِي بَيْتِهِ؟ أَنْتُمْ إِخْوَتِي. أَنْتُمْ عَظْمِي وَلَحْمِي. فَلِمَاذَا تَكُونُونَ آخِرِينَ فِي إِرْجَاعِ الْمَلِكِ؟ وَتَقُولاَنِ لِعَمَاسَا: أَمَا أَنْتَ عَظْمِي وَلَحْمِي؟ هكَذَا يَفْعَلُ بِيَ اللهُ وَهكَذَا يَزِيدُ، إِنْ كُنْتَ لاَ تَصِيرُ رَئِيسَ جَيْشٍ عِنْدِي كُلَّ الأَيَّامِ بَدَلَ يُوآبَ». فَاسْتَمَالَ بِقُلُوبِ جَمِيعِ رِجَالِ يَهُوذَا كَرَجُل وَاحِدٍ، فَأَرْسَلُوا إِلَى الْمَلِكِ قَائِلِينَ: «ارْجعْ أَنْتَ وَجَمِيعُ عَبِيدِكَ». فَرَجَعَ الْمَلِكُ وَأَتَى إِلَى الأُرْدُنِّ، وَأَتَى يَهُوذَا إِلَى الْجِلْجَالِ سَائِرًا لِمُلاَقَاةِ الْمَلِكِ لِيُعَبِّرَ الْمَلِكَ الأُرْدُنَّ.”
لقد فعل داود ما يفعلهُ الروح القدس الآن عن طريق خدام الله فهو يدعو كل نفس قد أخطأت في حق المسيح وفي حالة خجل من الرجوع، يدعوها للمصالحة مع الله (2كو5: 18-21). لذلك أرسل داود الكاهنين صادوق وأبياثار [المسيح يرسل كهنته وخدامه من أجل نفس المهمة] فيهوذا في موقف حرج لكن داود يبدأ ويزيل الحرج. بل يرسل لعماسا قائد الجيش الذي حاربهُ يتصالح معهُ وواعدًا أن يعينه قائدًا مكان يوآب. هو يريد أن يتصالح مع الجميع ويحاول أن يستميل قلوب الجميع. ويذكر الكل أنه من عظمه ولحمه (وهكذا يقول المسيح لنا) ولقد استجاب يهوذا وتحرك الملك للأردن.
ملحوظة:- ربما أراد داود أن يتخلص من يوآب لقتله أبنير وإبشالوم ثم حديثه معهُ بطريقة خشنة، ولأنه يحمل ذلة على داود في موضوع أوريا أعطته أن يفعل هذا.
تأمل:- من كان فينا كعماسا لهُ دور قيادي شرير لحساب إبليس (إبشالوم) فالمسيح قادر على أن يحولهُ بنعمته الإلهية ليصير قائدًا لحساب ملكوت المسيح. هكذا فعل المسيح مع بولس الرسول.
الآيات (16-23)
“فَبَادَرَ شِمْعِي بْنُ جِيْرَا الْبَنْيَامِينِيُّ الَّذِي مِنْ بَحُورِيمَ وَنَزَلَ مَعَ رِجَالِ يَهُوذَا لِلِقَاءِ الْمَلِكِ دَاوُدَ، وَمَعَهُ أَلْفُ رَجُل مِنْ بَنْيَامِينَ، وَصِيبَا غُلاَمُ بَيْتِ شَاوُلَ وَبَنُوهُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَعَبِيدُهُ الْعِشْرُونَ مَعَهُ، فَخَاضُوا الأُرْدُنَّ أَمَامَ الْمَلِكِ. وَعَبَرَ الْقَارِبُ لِتَعْبِيرِ بَيْتِ الْمَلِكِ وَلِعَمَلِ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ. وَسَقَطَ شِمْعِي بْنُ جِيْرَا أَمَامَ الْمَلِكِ عِنْدَمَا عَبَرَ الأُرْدُنَّ، وَقَالَ لِلْمَلِكِ: «لاَ يَحْسِبْ لِي سَيِّدِي إِثْمًا، وَلاَ تَذْكُرْ مَا افْتَرَى بِهِ عَبْدُكَ يَوْمَ خُرُوجِ سَيِّدِي الْمَلِكِ مِنْ أُورُشَلِيمَ، حَتَّى يَضَعَ الْمَلِكُ ذلِكَ فِي قَلْبِهِ، لأَنَّ عَبْدَكَ يَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ، وَهأَنَذَا قَدْ جِئْتُ الْيَوْمَ أَوَّلَ كُلِّ بَيْتِ يُوسُفَ، وَنَزَلْتُ لِلِقَاءِ سَيِّدِي الْمَلِكِ». فَأَجَابَ أَبِيشَايُ ابْنُ صَرُويَةَ وَقَالَ: «أَلاَ يُقْتَلُ شِمْعِي لأَجْلِ هَذَا، لأَنَّهُ سَبَّ مَسِيحَ الرَّبِّ؟» فَقَالَ دَاوُدُ: «مَا لِي وَلَكُمْ يَا بَنِي صَرُويَةَ حَتَّى تَكُونُوا لِيَ الْيَوْمَ مُقَاوِمِينَ؟ آلْيَوْمَ يُقْتَلُ أَحَدٌ فِي إِسْرَائِيلَ؟ أَفَمَا عَلِمْتُ أَنِّي الْيَوْمَ مَلِكٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ؟» ثُمَّ قَالَ الْمَلِكُ لِشِمْعِي: «لاَ تَمُوتُ». وَحَلَفَ لَهُ الْمَلِكُ.”
ومعهُ 1000 رجل= شمعي بن جيرا= هو الذي شتم داود في محنته نجده الآن معهُ 1000 رجل إذًا هو كان زعيم قوي. وصيبا وأولاده خاضوا الأردن أمامه = عبروا من الغرب إلى الشرق حيث داود ليكونوا في صحبة داود وهو عائد إلى الغرب. وقطعًا هم فعلوا هذا لأن شمعي خائف من انتقام داود وصيبا خائف من انكشاف خدعته لداود في موضوع مفيبوشث [في يوم مجيء المسيح في مجده نجد أن الخطاة الذين أنكروه والذين أهانوه يقولون للجبال والصخور اسقطي علينا وإخفينا عن وجه الجالس على العرش (رؤ6: 16،17)]. ولقد رأى أبيشاي أن الوقت مناسب للانتقام من شمعي، أمّا داود فحسب أن الوقت هو وقت فرح وتضميد للجراح وقت حب وسماحة وعفو وهو بعفوه عن شمعي اكتسب قلوب كل شعب بنيامين. واستراحت قلوب الأسباط الأخرى لأنه لو بدأ داود بالانتقام ممن شتمه فسينتقم من كل من أثار الفتنة ولصارت حرب أهلية دموية، هذه هي حكمة الملوك المملوءين من روح الله فهم لا يحولون كل نجاح أو انتصار لطلب سلطة بل يحول السلطة إلى حب ورعاية ويثور هنا سؤال. ولماذا إذ عفا داود هنا عن شمعي بن جيرا يعود ويطلب من سليمان ابنه حين ملك أن يقتل شمعي عقابًا لهُ. (1مل2: 8،9).
1- داود سامح بشخصه أي سامح شمعي على الإهانة التي لحقت بشخصه ولكنه كمسيح الرب لا يجوز إهانته فإهانته إهانة للرب. فهنا العقوبة لأنه سب مسيح الرب (لو16:10 + جا20:10). وهكذا عاقب الله مريم أخت موسى مع أن موسى سامحها. داود يرمز للمسيح على الأرض الذي قال ما جئت لأدين أحد وسليمان يرمز للمسيح في مجده في السماء والآب قد أعطى كل الدينونة للأبن.
2- من الناحية الرمزية:- لقد طلب سليمان بحكمته (التي أخذها من الله) أن يقيم شمعي داخل أورشليم وإن خرج منها يُقتل. فحين خرج قُتِلَ. هنا نرى أن داود حين سامح شمعي يمثل المسيح الذي سامح صالبيه قائلًا: “يا أبتاه إغفر لهم” فهل غفر الله لكل من سامحهُ المسيح على الصليب؟ قطعًا لا. فالمسيح أعطى إمكانية الغفران بدمِه لمن يستحق. ومن هو الذي يستحق؟ هو من يتوب توبة حقيقية. وهل تاب شمعي؟ بالقطع لا فهو يفعل ما يفعله مجرد خوف وتظاهر بالاحترام للملك فقط خوفًا من بطش الملك ربما وصل للملك داود أخبار عن رفض شمعي لهُ بعد ذلك أو سخريته منهُ. وداود حين طلب أن يعاقب شمعي يمثل المسيح في مجده كديان للجميع يعاقب كل من لم يحيا حياة التوبة. فهو على الصليب أعطى إمكانية الغفران وأمّا حين يطلب العقاب في مجده حين يأتي على السحاب كديان فهو سيعاقب كل من لم يستفيد بإمكانية هذا الدم. وكيف نستفيد؟ أن نبقى داخل جسد المسيح ثابتين “اثبتوا فيَّ وأنا أيضًا فيكم” ورمز ذلك هنا أن يبقى شمعي داخل أورشليم وتكون عقوبته إن خرج.
الآيات (24-30)
“وَنَزَلَ مَفِيبُوشَثُ ابْنُ شَاوُلَ لِلِقَاءِ الْمَلِكِ، وَلَمْ يَعْتَنِ بِرِجْلَيْهِ، وَلاَ اعْتَنَى بِلِحْيَتِهِ، وَلاَ غَسَلَ ثِيَابَهُ، مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي ذَهَبَ فِيهِ الْمَلِكُ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي أَتَى فِيهِ بِسَلاَمٍ. فَلَمَّا جَاءَ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِلِقَاءِ الْمَلِكِ، قَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «لِمَاذَا لَمْ تَذْهَبْ مَعِي يَا مَفِيبُوشَثُ؟» فَقَالَ: «يَا سَيِّدِي الْمَلِكُ إِنَّ عَبْدِي قَدْ خَدَعَنِي، لأَنَّ عَبْدَكَ قَالَ: أَشُدُّ لِنَفْسِيَ الْحِمَارَ فَأَرْكَبُ عَلَيْهِ وَأَذْهَبُ مَعَ الْمَلِكِ، لأَنَّ عَبْدَكَ أَعْرَجُ. وَوَشَى بِعَبْدِكَ إِلَى سَيِّدِي الْمَلِكِ، وَسَيِّدِي الْمَلِكُ كَمَلاَكِ اللهِ. فَافْعَلْ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ. لأَنَّ كُلَّ بَيْتِ أَبِي لَمْ يَكُنْ إِلاَّ أُنَاسًا مَوْتَى لِسَيِّدِي الْمَلِكِ، وَقَدْ جَعَلْتَ عَبْدَكَ بَيْنَ الآكِلِينَ عَلَى مَائِدَتِكَ. فَأَيُّ حَقّ لِي بَعْدُ حَتَّى أَصْرُخَ أَيْضًا إِلَى الْمَلِكِ؟» فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «لِمَاذَا تَتَكَلَّمُ بَعْدُ بِأُمُورِكَ؟ قَدْ قُلْتُ إِنَّكَ أَنْتَ وَصِيبَا تَقْسِمَانِ الْحَقْلَ». فَقَالَ مَفِيبُوشَثُ لِلْمَلِكِ: «فَلْيَأْخُذِ الْكُلَّ أَيْضًا بَعْدَ أَنْ جَاءَ سَيِّدِي الْمَلِكُ بِسَلاَمٍ إِلَى بَيْتِهِ».”
هنا تكشفت خدعة صيبا لداود. فهو ترك مفيبوشث العاجز دون دابة يركبها أو يعينه فهو أعرج وذهب ليكذب على داود. وداود عاتب مفيبوشث على عدم خروجه معهُ ومن محبته أعطاه الفرصة للدفاع عن نفسه. وحينما أدرك داود ما حدث لم يُصّر على موقفه بل أعاد تقسيم الحقول بينهما وداود لم يعاقب صيبا بل أعطاه نصف الحقول لأنه لم ينحاز لصف إبشالوم بل حمل لهُ طعامًا وتبعه في ضيقته. فهو إذ صنع معهُ معروفًا وقت شدته يذكرهُ لهُ حتى وإن استعمل الخداع. ولاحظ محبة مفيبوشث لداود فهو لم يعتني برجليه العاجزة ولا بلحيته حزنًا على ما حدث لداود وها هو يستقبله فَرِحًا مفضلًا أن يذهب كل شيء لصيبا لكن أن يكون داود سالمًا.
الآيات (31-39)
“وَنَزَلَ بَرْزِلاَّيُ الْجِلْعَادِيُّ مِنْ رُوجَلِيمَ وَعَبَرَ الأُرْدُنَّ مَعَ الْمَلِكِ لِيُشَيِّعَهُ عِنْدَ الأُرْدُنِّ. وَكَانَ بَرْزِلاَّيُ قَدْ شَاخَ جِدًّا. كَانَ ابْنَ ثَمَانِينَ سَنَةً. وَهُوَ عَالَ الْمَلِكَ عِنْدَ إِقَامَتِهِ فِي مَحَنَايِمَ لأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا عَظِيمًا جِدًّا. فَقَالَ الْمَلِكُ لِبَرْزِلاَّيَ: «اعْبُرْ أَنْتَ مَعِي وَأَنَا أَعُولُكَ مَعِي فِي أُورُشَلِيمَ». فَقَالَ بَرْزِلاَّيُ لِلْمَلِكِ: «كَمْ أَيَّامُ سِنِي حَيَاتِي حَتَّى أَصْعَدَ مَعَ الْمَلِكِ إِلَى أُورُشَلِيمَ؟ أَنَا الْيَوْمَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً. هَلْ أُمَيِّزُ بَيْنَ الطَّيِّبِ وَالرَّدِيءِ؟ وَهَلْ يَسْتَطْعِمُ عَبْدُكَ بِمَا آكُلُ وَمَا أَشْرَبُ؟ وَهَلْ أَسْمَعُ أَيْضًا أَصْوَاتَ الْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ؟ فَلِمَاذَا يَكُونُ عَبْدُكَ أَيْضًا ثِقْلًا عَلَى سَيِّدِي الْمَلِكِ؟ يَعْبُرُ عَبْدُكَ قَلِيلًا الأُرْدُنَّ مَعَ الْمَلِكِ. وَلِمَاذَا يُكَافِئُنِي الْمَلِكُ بِهذِهِ الْمُكَافَأَةِ؟ دَعْ عَبْدَكَ يَرْجعُ فَأَمُوتَ فِي مَدِينَتِي عِنْدَ قَبْرِ أَبِي وَأُمِّي. وَهُوَذَا عَبْدُكَ كِمْهَامُ يَعْبُرُ مَعَ سَيِّدِي الْمَلِكِ، فَافْعَلْ لَهُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ». فَأَجَابَ الْمَلِكُ: «إِنَّ كِمْهَامَ يَعْبُرُ مَعِي فَأَفْعَلُ لَهُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ، وَكُلُّ مَا تَتَمَنَّاهُ مِنِّي أَفْعَلُهُ لَكَ». فَعَبَرَ جَمِيعُ الشَّعْبِ الأُرْدُنَّ، وَالْمَلِكُ عَبَرَ. وَقَبَّلَ الْمَلِكُ بَرْزِلاَّيَ وَبَارَكَهُ، فَرَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ.”
داود هنا كرمز للمسيح نراه يهتم بكل النفوس:-
1- يهوذا:- الكنيسة ككل التي هي جسده من لحمه ومن عظمه.
2- عماسا:- كل من تمرد ضده حتى وإن كان قائدًا لفتنة يريد أن يجعله خادمًا لهُ.
3- شمعي:– ويمثل النفوس الساقطة التي تابت.
4- صيبا :- ويمثل النفوس التي كذبت وخدعت وها هي آتية بالتوبة.
5- مفيبوشث :- ويمثل النفوس المحطمة والمظلومة.
6- برزلاى :- ويمثل النفوس التقية المنشغلة بخروجها من هذا العالم.
7- كمهام :- ويمثل النفوس حديثة الإيمان.
وبالنسبة لبرزلاى فقد أراد داود أن يكافئه على حسن صنيعه معهُ (2صم17: 27-29) ولكن برزلاي اعتذر لكبر سنه وأرسل ابنه كمهام عوضًا عنهُ. وقد أوصى داود به سليمان (1مل7:2) ويبدو أنه جعلهُ حاكمًا في بيت لحم (أر17:41).
الآيات (40-43)
“وَعَبَرَ الْمَلِكُ إِلَى الْجِلْجَالِ، وَعَبَرَ كِمْهَامُ مَعَهُ، وَكُلُّ شَعْبِ يَهُوذَا عَبَّرُوا الْمَلِكَ، وَكَذلِكَ نِصْفُ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ. وَإِذَا بِجَمِيعِ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ جَاءُونَ إِلَى الْمَلِكِ، وَقَالُوا لِلْمَلِكِ: «لِمَاذَا سَرِقَكَ إِخْوَتُنَا رِجَالُ يَهُوذَا وَعَبَرُوا الأُرْدُنَّ بِالْمَلِكِ وَبَيْتِهِ وَكُلِّ رِجَالِ دَاوُدَ مَعَهُ؟». فَأَجَابَ كُلُّ رِجَالِ يَهُوذَا رِجَالَ إِسْرَائِيلَ: «لأَنَّ الْمَلِكَ قَرِيبٌ إِلَيَّ، وَلِمَاذَا تَغْتَاظُ مِنْ هذَا الأَمْرِ؟ هَلْ أَكَلْنَا شَيْئًا مِنَ الْمَلِكِ أَوْ وَهَبَنَا هِبَةً؟» فَأَجَابَ رِجَالُ إِسْرَائِيلَ رِجَالَ يَهُوذَا وَقَالُوا: «لِي عَشَرَةُ أَسْهُمٍ فِي الْمَلِكِ، وَأَنَا أَحَقُّ مِنْكَ بِدَاوُدَ، فَلِمَاذَا اسْتَخْفَفْتَ بِي وَلَمْ يَكُنْ كَلاَمِي أَوَّلًا فِي إِرْجَاعِ مَلِكِي؟» وَكَانَ كَلاَمُ رِجَالِ يَهُوذَا أَقْسَى مِنْ كَلاَمِ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ.”
لقد تأخر رجال يهوذا حتى أرسل لهم داود ربما لخجلهم ولكن حين قرروا رجوعه تعجلوا وأتوا وأخذوه قبل أن يصل شيوخ إسرائيل (10 أسباط) ممّا تسبب في فتنة جعلت شيوخ الأسباط يقولون أنتم سرقتموهُ لأنهم حسبوا ذهاب يهوذا وعبور الملك مع يهوذا نهر الأردن دون انتظارهم إهانة لهم واستخفافًا بهم. وكان رد رجال يهوذا قاس جدًا سجله الكتاب لسببين:- 1- الله لا يحب الردود القاسية ويسجلها لنعرف عدم رضائه عن ذلك.
2- الردود القاسية تسبب شقاقًا بين الأخوة وهذا ما حدث. وكان هذا بداية لشقاق بين يهوذا وباقي الأسباط. لأن الملك قريب لي هو من سبط يهوذا سبطنا فهو قريب لنا بالجسد. هل أكلنا شيئًا من الملك أو وهبنا هبة= إننا لم نَسْتفِدْ منهُ شيئًا شخصيًا ولا هو أطعمنا بزيادة. هو رد جاف مثير للغيظ وقد حدث.