تفسير صموئيل الثاني ٦ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح السادس
إحضار تابوت العهد
إذ كان داود يتعظم وكان رب الجنود معه يهبه النصرة والغلبة حتى استقر في أورشليم كعاصمة لمملكته، أراد أن يؤكد أن الرب هو الملك الحقيقي مدبر أمور الشعب وواهبهم الغلبة، لذا فكر في إحضار تابوت العهد إلى أورشليم كعلامة منظورة لقوة الله غير لمنظورة.
١. موكب التابوت [١-٥].
٢. ضرب عُزة [٦-١١].
٣. إحضار التابوت إلى أورشليم [١٢-١٥].
٤. احتقار ميكال لداود [١٦-٢٣].
جمع داود ثلاثين إلفًا من المنتخبين، لا ليحاربوا، بل ليحتفلوا بأحضار التابوت إلى أورشليم. اشترك هذا العدد الضخم في الاحتفال تكريمًا لله سر فرح شعبه. هنا تبرز حكمة داود الروحية، إذ لم يرد أن ينشغل الشعب بالنصرة على الأعداء كمجد شخصي له وإنما سحب قلوبهم إلى الله نفسه، لكي تتهلل بالرب مخلصهم الحقيقي.
تابوت العهد كممثل للحضرة الإلهية حمل إسم رب الجنود كقائد حقيقي لشعبه الأبطال روحيًا، الرب الجالس على الكروبيم [٢]؛ يظهر مجد الله خلال الكاروبين ليعلن رحمته لشعبه كما من عرش الرحمة أو كرسي الرحمة.
الله هو رب الجنود المهوب، مركبته سماوية هم جماعة الكاروبيم الملتهبون نارًا، يحل وسط شعبه برحمته أبًا مترفقًا يسندهم ويُفِّرح أعماقهم.
بدأ الموكب من “بعلة يهوذا” أو “بعلة” أو “قرية بعل” أو “قرية يعاريم” وهي إحدي مدن الجبعونيين (يش ٩: ١٧) على تخم يهوذا وبنيامين، وُضع فيها التابوت بعد إرجاعه من أرض الفلسطينيين (١ صم ٦: ١٩؛ ٧: ٢)، يرجح أنها قرية العنب أو أباغوش، تبعد حوالي ٨ أميال شمال غربي أورشليم[34].
وضعوا التابوت على عجلة جديدة، ربما مقتدين بما فعله الفلسطينيون (١ صم ٦: ٧)، لكنهم بهذا خالفوا الناموس إذ كان يجب أن يحمله بنو قهات (عد ١: ١٥؛ ٤: ١٥) على الأكتاف و ليس على عجلة.
كان عُزة وأخيو ابنا أبيناداب (غالبًا كانا حفيديه) يسوقان العجلة؛ أخيو يتقدمها ليقودها بينما كان داود وكل بيت إسرائيل يلعبون بفرح ورقص يعزفون بكل أنواع آلات الطرب أمام الرب، بالرباب والدفوف والصنوج والجنوك (الجنك آلة موسيقية لها طوق من نحاس فيه ثقب، وبالثقب أسلاك معدنية تمتد من جانب إلى جانب، وللطوق مقبض يمسك باليد لتتحرك الأسلاك حيث الثقب واسع[35]).
تحرك الموكب حتى بلغ بيدر ناخون أو كيدون (١ أي ١٣: ٩)، عند موضع دراسة غلال رجل يُدعى ناخون أو نكون أو كيدون. هناك انشمصت الثيران، أي ذعرت وأخذت تركض وترفس، فمدّ عُزة يده إلى تابوت الله وأمسكه كي لا يسقط، فضربه الله هناك ومات.
لماذا أماته الرب؟ أما تُحسب هذه قسوة في التأديب؟
أ. كان يجب أن يُحمل التابوت على أكتاف اللاويين لا على عجلة. لقد سمح الله للوثنيين أن يضعوه على عَجلة جديدة تجرها بقرتان، إذ كانت ترمز لكنيسة العهد الجديد الحاملة لشخص المسيح في داخلنا بكونه رأسها، تضم الكنيسة شعبين: من اليهود ومن الأمم. لم يكن الوثنيون في ذلك الوقت قد تهيأو لحمل تابوت العهد، إذ لا شركة بين الله وبليعال (٢ كو ٦: ١٤). أما بنو قهات فكانوا يمثلون جماعة المؤمنين الذين تأهلوا ليكونوا سماءً ثانية يحملون الله في داخلهم، لذلك كان يلزمهم أن يُصروا على التمتع بحقهم في حمل التابوت دون العَجلة الجديدة.
الله لا يطلب عجلة جديدة ولا تقدمات هذا العالم بل الأكتاف الداخلية المقدسة التي تصير كالشاروبيم تحمل الله. الله يُريد قلوبنا لا إمكانياتنا.
ب. كان يجب على عُزَّة أن يعرف الناموس، خاصة وأن التابوت وُجد في بيت أبيه وجدّه لمدة حوالي ٧٠ سنة، وأنه لا يليق لمسه. قيل: “لا يمسّوا القدس لئلا يموتوا” (عد ٤: ١٥).
ج. ربما اعتاد عُزَّة أن يمد يده إلى التابوت بغير وقار، وقد تجاسر بالأكثر حين فعل ذلك علانية أمام كل الجماعة.
د. أراد الله تأكيد الحاجة إلى “مخافة الرب” جنبًا إلى جنب مع “الحب الإلهي”، كي يعيش داود وكل الشعب في مخافة ووقار مع حب ودالّة.
لقد كان الدرس قاسيًا لكي يتعلم الجميع منه، وذلك كما حدث مع حنانيا حين كذب على الرسل (أع ٥: ٥). يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [عوقب ذلك الإنسان (حنانيا) وانتفع الغير بذلك… عُوقب عُزَّة فقع خوف على الكل[36]].
اغتاظ داود لأن فرح الجماعة تحول إلى حزن وخوف، ولأن ارتباكًا ملأ الجميع واضطر الكل أن ينصرفوا… وخاف داود أن ينتقل التابوت إلى مدينته قبل التيقن من سر غضب الله على عُزَّة.
مال داود بالتابوت إلى بيت عوبيد آدوم الجتي، غالبًا من جت رمون في نصيب دان في الجنوب (يش ١٩: ٤٥) أعطيت لبني قهات (يش ٢١: ٢٤). كان عوبيد آدوم (إسمه يعني “آدوم يعبد”) من القورحيين من نسل قهات (عد ١٦: ١)، تمتع ببركة بقاء التابوت في بيته لمدة ثلاثة أشهر.
نود هنا أن نشير إلى أن داود لم يستشر الرب عدنما رغب في نقل التابوت إلى مدينته، مع أنه اعتاد أستشارته في كل صغيرة وكبيرة، حاسبًا أن هذا الأمر يُسرَّ به الرب قطعًا ولا حاجة إلى طلب مشورته، أو ربما أن شدة فرحه بنقل التابوت ورغبته في نوال البركة الإلهية أفقداه التفكير في ذلك. لو أنه استشار الرب، لكشف له خطأ نقل التابوت على عجلة… وبالتالي ما كان قد مات عُزَّة، ولما تحول فرح الشعب إلى حزن ورعب.
لقد أدرك داود النبي أن موت عُزَّة لم يكن لمجرد لمسه للتابوت وإنما وراء هذا اللمس وُجد عصيان وفساد، لذلك وضع المزمور ١٥ حيث يقول:
“يارب من ينزل إلى مسكنك (خيمتك)؟!
من يسكن في جبل قدسك؟!
السالك بالكمال، والعامل الحق، والمتكلم بالصدق في قلبه…”.
قَبِل عوبيد آدوم تابوت العهد في بيته بوقار وخشوع لذلك بارك الرب بيته (١ أي ١٣: ١٣-14؛ ٢ صم ٦: ١٢)، وبارك كل ما له، لذلك فكر داود النبي في إحضاره إلى أورشليم كما ورد ذلك بالتفصيل في (١ أي ١٥).
كلما ساروا ست خطوات ذُبح ثور وعجل (أي كبش) معلوف، وذلك سبع مرات (١ أي ١٥: ٢٦). في كل مرة إذ يعبرون ست خطوات يقدمون ذبيحة شكر لله الذي أعانهم ولم يصبهم ما حل بعُزّة.
ارتدى داود أفودًا من الكتان، كانت تُلبس تحت الجبة، إذ لم يكن ممكنًا له أن يرقص وهو يرتدي الجبة. لقد كانت الجبة علامة العظمة أما الأفود الكتانية فعلامة النقاوة؛ وكأن داود قد خلع كل مظاهر الأبهة لكي يعلن في اتضاعه عن نقاوة داخلية وعن تهليله بحضرة الرب.
لقد رقص داود أمام التابوت معبرًا بذلك عن أعماقه الداخلية التي تهتز في تهليل أمام الرب، لكننا لم نسمع عن صموئيل النبي أنه فعل ذلك ليس لأن الأخير لم يكن متهللاً في أعماقه إنما كل مؤمن يعبر عن حبه وفرحه بما يناسب ظروفه. لذا يقول القديس أمبروسيوس: [رقص داود أمام التابوت وأما صموئيل فلم يرقص. داود لم يُلَم ومُدح صموئيل[37]].
عبّر الطوباوي داود عن فرحه بالتابوت في مزموره الثلاثين (٢٩ حسب الترجمة السبعينية)، جاء فيه:
“لأن للحظة غضبه، حياة في رضاه.
عند المساء يبيت البكاء و في الصباح الترنم.
حولت نوحي إلى رقص لي.
حللت مسحي ومنطقتي فرحًا.
لكي تترنم لك روحي ولا تسكت.
يارب إلهي إلى الأبد أحمدك” (مز ٣٠: ٥-١١).
كشفت هذه العبارات العجيبة عما في أعماق قلب داود من فرح وتهليل، مصدره ليس فقط الأحداث التي عاش فيها بنقله التابوت إلى مدينته وإنما أيضًا وبصورة أعظم لحلول المسيَّا المخلص نفسه في نفس مدينة النفس الداخلية، أو سكنى الرب في القلب لإقامة ملكوته داخلنا (لو ١٧: ٢١).
يقول داود المرتل: “لأن للحظة غضبه، حياة في رضاه” مشيرًا إلى الغضب الإلهي الذي تحقق إلى لحظة عندما سقط عُزَّة ميتًا أمام التابوت لأنه تجاسر فلمسه، كان ذلك للحظة، لكن خلال هذا التابوت تمتع الشعب بالحياة إذ نالوا رضى الله. كان ذلك رمزًا لما حدث مع رب المجد يسوع عندما حمل الغضب الإلهي على الصليب إذ قيل “إما الرب فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن. أن جعل نفسه ذبيحة إثم… حمل خطية كثيرين” (إش ٥٣: ١٠، ١٢)؛ كما إلى لحظة غضبه إذ وُضع إثمنا عليه، لكنه قام فأقامنا معه واهبًا إيانا الحياة في رضاه.
ما حدث مع عُزّة كان كما عند ظلام المساء، وما تحقق مع داود في نقله التابوت كان كما في نور الصباح: “عند المساء يبيت البكاء وفي الصباح الترنم”. تحقق ذلك بقوة عندما أسلم الرب الروح على الصليب فحل البكاء في المساء، لكن في فجر الأحد تهللت الكنيسة بقيامته لتبقى تنعم بالحياة المقامة فيه.
يقول داود المرتل: “حولت نوحي إلى رقص لي”… فقد ناح داخليًا عندما مات عُزّة وارتبك للغاية، لكنه رقص في أعماقه كرقصات يوحنا المعمدان في أحشاء أمه اليصابات عندما أدرك المسيح المتجسد في أحشاء البتول مريم. رقص داود أمام التابوت لأنه رآه رمزًا للمسيح القادم إلى العالم، ليحل بين البشرية ويرد لهم الحياة بعد الموت، والفرح عوض النوح.
يقول “حللت مُسحي ومنطقتي فرحًا”؛ إن كان قد خلع جبة العظمة وتمنطق ليرقص أمام التابوت، فإنه في ذلك رمزًا لخلعه أعمال الإنسان العتيق أو الطبيعة الفاسدة لينعم بمِنطقة الفرح أو الإنسان الجديد أو تجديد الطبيعة الإنسانية.
هكذا في المزمور الثلاثين يربط المرتل داود بين فرحه بتابوت العهد ورقصه أمامه وبين تهليله بمجيء المسيَّا مخلص العالم ومجدد الطبيعة البشرية خلال تمتعها بقيامته فيها. يقول القديس إغسطينوس في شرحه للمزمور: [إنه مزمور فرح القيامة والتغيير وتجديد الجسد إلى حالة الخلود، ليس فقط بالنسبة للرب إنما أيضًا لكل الكنيسة[38]]. كما يقول: [“حللت مُسحي ومنطقتي فرحًا”. حللت حجاب خطاياي، حزن موتي، ومنطقتني بالثوب الأول، بالفرح الخالد[39]].
لقد وضع داود النبي مزمورًا خاصًا بالإحتفال بقدوم تابوت العهد إلى مدينته، افتتحه بالصيغة التقليدية التي كانت الجماعة ترددها كلما نصبوا الخيمة: “يقوم الله. يتبدد أعداؤه، ويهرب مبغضوه من أمام وجهه (مز ٦٨: ١؛ عد ١٠: ٣٥). عبَّر هذا المزمور بقوة عن بركات حلول الله في وسط شعبه كسرّ فرح وتهليل (مز ٦٨: ٣-٤)، ورعاية واهتمام لشعبه خاصة اليتامى والأرامل بكونه أبا اليتامى وقاضي الأرامل (مز ٦٨: ٥)، مُشبع احتياجات المساكين (مز ٦٨: ١٠)، واهب الخلاص (مز ٦٨: ١٩) والقوة والشدة (مز ٦٨: ٣٥). إنه كنار يبدد الشر كالشمع قدامه ويذريه كدخان (مز ٦٨: ٢)، أمامه ترتعد الأرض (مز ٦٨: ٦) ويهرب الملوك (مز ٦٨: ١٢).
وضع أيضًا المزمور ٢٤ ليعلن أن بهجته الشديدة بتابوت العهد لا تعني حصر سكنى الرب في موضع معين، إنما هو رمز لرعاية الرب للبشرية كلها، إذ يقول: “للرب الأرض وملؤها؛ المسكونة وكل الساكنين فيها” (مز ٢٤: ١) الخ… في ختام هذا المزمور الرائع يرى داود النبي في دخول التابوت إلى أورشليم صورة رمزية لصعود السيد المسيح إلى أورشليم العليا بعد نصرته في معركة الصليب، إذ يقول:
“ارفعن أيتها الأرتاج رؤوسكن وارتفعن أيتها الأبواب الدهريات فيدخل ملك المجد.
من هو ملك المجد؟
الرب القدير الجبار، الرب الجبار في القتال… رب الجنود هو ملك المجد” (مز ٢٤: ٧-١٠).
أُدخل التابوت إلى مدينة داود، وهي القسم الأعلى من الجنوب الغربي لأورشليم حيث يوجد الحصن الذي استولى عليه داود من اليبوسيين، هناك وُجد بيت داود وأيضًا مسكن التابوت حتى انتقل إلى الهيكل الذي بناه سليمان.
كانت ميكال تحب داود (١ صم ١٨: ٢٠)، أنقذته من يد أبيها (١ صم ١٩: ١٣)، لكن شاول أعطاها لفلطيئيل زوجة، ثم أُعيدت ثانية إلى رجلها الأول داود… لكنها لم تكن قادرة أن تشاركه حبه لله وغيرته وإيمانه. لذا رأت في خلعه لجبته الملوكية ورقصه أمام التابوت نوعًا من السفاهة. استقبلته باحتقار قائلة له: “ما كان أكرم ملك إسرائيل اليوم حين تكشَّف اليوم في أعين إماء عبيده كما يتكشَّف أحد السفهاء” [٢٠].
ما أبعد الفارق بين داود وميكال؛ الأول انسحب بكل كيانه الداخلي ليرى خلال التابوت تجسد الكلمة وحلول المسيا بين شعبه وتقديم عمله الخلاصي، أما ميكال فتعلق قلبها بالجبة الملوكية التي خلعها داود فرأته سفيهًا وعاريًا كما قالت له!!!
يبدو أن ميكال كانت تنتظر من رجلها كملك أن يبقى في قصره ويأتي إليه الكل يهنئونه بوصول التابوت، لا أن ينزل من القصر ويخلع جبته الملوكية ويرقص أمام التابوت في حضرة الجماعة. ميكال تمثل الأنا القابعة في داخل النفس، المتقوقعة والمغلقة، تطلب ما للأنا، ولا تنفتح على الله والناس، لذا أصيبت بعمى البصيرة الداخلية وتحجر القلب وفقدان الحس الداخلي تجاه العمل الإلهي الفائق. أما داود الطوباوي فيمثل النفس التي تخلع حب العظمة الزمنية، وتنفتح بالاتضاع المملوء حبًا نحو الله والناس، فتتحول عن مسوح الحزن إلى منطقة الفرح، وتعبر من بكاء المساء إلى فرح صباح القيامة!
بحضور التابوت قدمت محرقات وذبائح سلامة (لا ١: ٣)، وكان تجسد الكلمة غايته ذبيحة الصليب التي هي موضع سرور الآب والقادرة على خلاصنا.
بارك داود الشعب وأعطى كل واحد رغيف خبز وكأس خمر وقرص زبيب. رغيف الخبز يشير إلى وحدة الكنيسة وتبادل الحب بين أعضائها إذ تجتمع الحنطة معًا في رغيف خبز؛ وكأس الخمر يشير إلى شركة الفرح بالروح، أما قرص الزبيب فيشير إلى عذوبة الكنيسة وحلاوتها باتحادها[40].
لم ينس داود بيته فجاء يباركه، لكن ميكال انتهرته. أما هو ففي حزم وبخها على نظرتها غير الإيمانية.
يُختم الأصحاح بالقول بأنه لم يكن لميكال ولد من داود، وكان ذلك عارًا في العهد القديم، علامة غضب الله، إذ تترقب كل مؤمنة أن يأتي المسيا من نسلها. فعقر ميكال ربما كان ثمرة تمردها على الرب ولكبريائها.