القديسة دميانة

في عصر الإضطهاد لم يكن الاستشهاد وقفًا على الرجال، إذ قد شاركتهم النساء مجده لأن الأباطرة قد بطشوا بعدد غير قليل منهن فقد وجب التأمل في سير الشهيدات أيضا. وأعظم شهيدة من بنات مصر هي القديسة دميانة. وقد ولدت هذه القديسة من أبوين مسيحيين. وكان أبوها مرقس واليا على البرلس. وقد أحسن هو وزوجته تربية ابنتهما وبخاصة لأنها كانت وحيدتهما. فكرسا حياتهما لتهذيبها وتثقيفها ونفخا فيها روح التفاني في سبيل الإيمان. فلما بلغت الخامسة عشرة من عمرها أراد أبواها أن يزوجاها ليفرحا بتربية أولادها. ولكن ما كادا يفاتحانها في هذا الموضوع حتى أعلنت لهما رغبتها في أن تحيا حياة البتولية فرحبا بهذه الرغبة على الفور مما يقطع في الدلالة على أنهما كانا صادقى الإيمان محبين للكنيسة حباً خالصاً . ولكى يحققا لدميانة رغبتها بنيا لها قصراً في جهة الزعفران تنفرد فيه للعبادة وصحبها في عزلتها أربعون من العذارى اللواتي نذرن بتوليتهن للرب أسوة بها. وقد عشن جميعا في سلام شامل بضع سنين، فلما أثار الامبراطور ديو قلديانوس الإضطهاد على المسيحيين طلب إلى مرقس – وغيره من الولاة – أن يصحبه إلى الهيكل ليبخر للأصنام معه . وخشي مرقس أن يفقد مركزه أو حياته أو كليهما فانقاد لرأى الامبراطور وذهب معه إلى المعبد حيث اشترك في التبخير للآلهة . ولما سمعت العذراء دميانة خبر نكران أبيها الإيمان بالسيد المسيح هالها أن يجبن أبوها فتركت عزلتها وبادرت إلى مقابلته وأعربت له عن حزنها العميق لما ارتكبه من اثم . ثم قالت له : « كان الأهون على نفسى أن أسمع خبر انتقالك إلى دار الخلود من أن – أسمع أنك أنكرت فادينا الحبيب . . فألهبت هذه الكلمات قلب مرقس أبيها الذي تركها وذهب على الفور لمقابلة الامبراطور ديو قلديانوس وجهر أمامه بندمه على ما ارتكب من أثم . فثارت ثائرة هذا الطاغية وأمر بقطع رأسه فنال اكليل الشهادة .

ولم يمض على استشهاد مرقس غير أيام معدودات حتى علم ديوقلديانوس أن السبب في رجوعه إلى الإيمان بالسيد المسيح إنما يرجع إلى ابنته دميانة فتحرى الامبراطور عن هذا الأمر، ولما تحقق صحته أمر جنده بأن يقصدوا إلى قصر الزعفران حيث يلتقون بدميانة وزميلاتها، ويعرضون عليهن التبخير للأصنام، ويحاولون بجميع الوسائل تحقيق هذه الأمنية فإذا فشلوا أعملوا السيوف في رقابهن جميعاً . فنفذ الجند ما أمروا به . وعندما سمعت دميانة أصوات الجنود خارج قصرها قالت لزميلاتها: “إن من ترغب منكن أن تستشهد معى فلتبق هنا، ومن تخشى الموت فلتبادر بالخروج من القصر”. فقلن لها : “إننا جميعا سنقف إلى جانبك لننال إكليل الشهادة معك”. وعبثًا حاول الجند أن يثنوا هؤلاء العذارى عن التمسك بإيمانهن ، فأعملوا السيوف في رقابهن بعد أن أذاقوهن العذاب الواناً. وقبل أن يهوى السيف على رقبة العذراء دميانة قالت: “اني اعترف بالسيد المسيح، وعلى اسمه أموت ، وبه أحيا حياة الأبد”.

وكان هناك جمهور يزيد عدده على أربعمائة شخص من أهالي تلك الضاحية تجمعوا ليروا ما يكون من أمر هؤلاء العذارى . فلما شهدوا البسالة التي أبدينها في ملاقاة العذاب والموت فى سبيل الإيمان الأرثوذكسي ، قدموا أعناقهم للجلادين معلنين أنهم يرحبون بالموت على اسم السيد المسيح الذي يمنح العذارى قوة هذا مقدارها فيمكنهم من تحمل العذاب عن رضى وحبور.

وبعد مضى نصف قرن على هذا الإضطهاد الشنيع أعلن الامبراطور قسطنطين الكبير المسيحية ديناً رسمياً للامبراطورية الرومانية. وذهبت أمه الملكة هيلانة إلى أورشليم لحضور تكريس كنيسة القيامة التي أمر ابنها بتشييدها حول القبر المقدس . وعند عودتها من القدس الشريف مرت بمصر، وذهبت لزيارة المكان الذى دفنت فيه الشهيدة دميانة وزميلاتها العذارى ، ثم شادت فوق ذلك المكان كنيسة باسم هذه العذراء وزميلاتها[1].

ولا تزال كنيسة الشهيدة دميانة قائمة للآن يتجدد بناؤها كلما تقادم ويذهب الناس للتبرك بزيارتها من مختلف الجهات، وأهم موسم لزيارتها يقع ما بين ٤ – ١٢ بشنس (۱۲ – ۲۰ مايو). ومن يمنحه الله تعالى بركة زيارة القبر المقدس فى أورشليم، وزيارة قبر الشهيدة دميانة في البراري ببلقاس، ويرى أن تصميم البناء متشابه في الحالتين رغم عظم الفارق في الحجم. فكما أن القبر الذي رقد فيه الفادى الحبيب يتوسط كنيسة القيامة، هكذا قبر القديسة دميانة يتوسط كنيستها الأثرية وقد أقيم في كل من الكنيستين مذبح ملاصق للقبر تقام عليه الصلوات. أما المشاعر والوجدانات التي تستثيرها رؤية هذه الأماكن المقدسة فلا يمكن لإنسان أن يصفها لأنها مزيج عجيب من الفرح والخوف والرهبة والنشوة.

  1. راجع المخطوط العربى كتبه الأنبا يؤنس أسقف البرلس سنة ١٤٨٢ش (١٧٧٦م) . وهو محفوظ بكنيسة الشهيد استفانوس الملاصقة للكنيسة المرقسية الكبرى بالبطريركية بالقاهرة .

زر الذهاب إلى الأعلى