تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 12 للقديس كيرلس الكبير
الأصحاح الثاني عشر
عظة (86) مفتاح المعرفة لو11: 52 ـ 12: 1-2
(لو11: 52 ـ 12: 1-2) ” ويل لكم أيها الناموسيون لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة. مـا دخلتم أنتم والداخلون منعتموهم. ولما خرج من هناك ابتدأ الكتبة والفريسيون يحنقون جـدا ويصادرونه على أمور كثيرة. وهم يراقبونه طالبين أن يصطادوا شيئا من فمه لكـي يشـتكوا عليه وفي أثناء ذلك إذ اجتمع ربوات الشعب حتى كان بعضهم يدوس بعضا ابتـدا يقـول لتلاميذه: أولا تحرزوا لأنفسكم من خمير الفريسيين الذي هو الرياء. فليس مكتـوم لـن يستعلن ولا خفى لن يعرف، لذلك كل ما قلتموه في الظلمة يسمع في النور وما كلمتم بـه الأذن في المخادع ينادى به على السطوح “.
الذين يفتشون الكتب المقدسة ويعرفون إرادة الله، عندما يكونـون رجـالاً فاضلين، ومهتمين بما هو نافع للناس، وماهرين في قيادتهم باستقامة إلى كـل الأمور الممتازة، سوف يكافأون بكل بركة، إذا أدوا مهامهم بكل اجتهاد. وهذا ما يؤكده لنا المخلص حيث يقول: “فمن هو إذن العبد الأمين الحكــم الـذي يقيمه سيده على خدمه ليعطيهم الطعام في حينه، طوبى لذلك العبـد الـذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا، الحق أقول لكم إنه يقيمـه علـى جميـع أموالـه ” (مت 45:24-47)، ولكن إن كان كسولاً ومهملاً وتسبب في ضرر مـن أوتمـن عليهم، فإنه بإنحرافه عن الطريق المستقيم، يكون في بؤس عظيم وفي خطـر عقاب محقق، لأن المسيح نفسه أيضا قد قال: ” ومن أعثر أحد هؤلاء الصغار المؤمنين بي، فخير له أن يعلق في عنقه حجر حمار ويغرق في لجة البحر” (مت 18: 6).
وقد أثبت المسيح أنهم مذنبون بأخطاء فظيعة أولئك الذين يدعون أنهـم حاذقون في الناموس، أقصد الكتبة والناموسيون، ولهذا يقول لهم: ” ويل لكـم أيها الناموسيون لأنكم أخذتم مفتاح المعرفة”، ونحن نعتقد أن مفتاح المعرفة يقصد به الناموس نفسه، والتبرير بالمسيح وأنا أعني بالإيمان به. لأنه رغم أن الناموس كان ظلاً ومثالاً، إلا أن هذه الرموز ترسم لنا الحقيقة، وتلك الظـلال تصور لنا بر المسيح بطرق متنوعة. كان يقدم حمل ذبيحة بحـسـب نـاموس موسى، وكانوا يأكلون لحمه ويدهنون القائمتين بدمه، وهكذا كـانوا يغلبـون المهلك. ولكن مجرد دم خروف لا يمكن أن يبعد الموت. لقد كان المسيح هـو المشار إليه بمثال في شكل حمل، هو الذي احتمل أن يكون ذبيحة عن حيـاة العالم، وأن يخلص بدمه أولئك الذين يشتركون فيه. ويمكن للإنسان أن يـذكر أمثلة أخرى كثيرة، يمكن بواسطتها أن نميز سر المسيح المرسوم في ظـلال الناموس. والمسيح نفسه لما تكلم ذات مرة لليهود قال: يوجد الـذي يـشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم، لأنكم لـو كـنـتـم تـصدقون موسـى لكنـتم تصدقونني لأنه هو كتب عني” (يو 5: 45- 46)، وأيضا “فتشوا الكتـب لأنكـم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية وهي التي تشهد لي، ولا تريدون أن تأتوا إلـي لتكون لكم حياة” (يو 5: 39)، لأن كل كلمة في الكتب الإلهية الموحى بها تتطل نحوه وتشير إليه. وإن كان موسى الذي يتكلم، فهو على أي حال كـان كمـا رأينا مثالاً للمسيح، وإن كان الأنبياء القديسون الذين تذكر أسماؤهم، فـإنهم أيضا أعلنوا لنا سر المسيح مسبقا عن الخلاص الذي بواسطته.
لذلك كان يجب على أولئك الذين يدعون ناموسـيون، بسبب دراسـت لناموس موسى وكانوا على دراية كبيرة بأقوال الأنبياء القديسين، كان ينبغـي أن يفتحوا أبواب المعرفة لجماهير اليهود، لأن الناموس يوجـه النـاس إلـى المسيح، والإعلانات المقدسة التي للأنبياء القديسين تقود ـ كما قلت لكـم – للتعرف عليه. لكن المدعوين ناموسيون لا يفعلون هكذا، بـل علـى العكـس أبعدوا مفتاح المعرفة، والذي ينبغي أن نعرف أنه إرشاد الناموس. أو هـو بالحقيقة الإيمان بالمسيح، لأن معرفة الحق هي بالإيمان، كما يقـول إشعياء النبي في موضع ما: ” إن لم تؤمنـوا فـلا تفهمـوا” (إش 7: 39 س). وطريقـة الخلاص هذه نفسها بالإيمان بالمسيح أعلنها لنا سابقا بواسطة الأنبياء القديسين قائلاً: “قليلا، بعد قليل سيأتي الآتي ولا يبطئ…” (حب 2: 3 س) ” وإن ارتد لا تسر به نفسي” (عب 10: 37)، والمقصود بارتـداد الـشخص هـو أن يستسلم للتواني، لذلك يقول إنه لا يجب أن يرتد واحد، فالمقصود أنه إذا كان يزداد توانيا في سيره نحو النعمة التي بالإيمان فإن نفسي لن تسر به.
أما كون الآباء قد تزكوا بالإيمان، ففحص أعمالهم يوضح ذلك. خذ علـى سبيل المثال أب الآباء إبراهيم الذي دعي خليل الله، ماذا كتب عنه؟ ” آمن إبراهيم بالله فحسب ايمانه له برا ودعي خليل الله” (يع 2: 23). كما كتب أيضا “بالإيمـان نوح لما أوحي إليه عن أمور لم تر بعد خاف فبنى فلكا لخلاص بيته، الذي فيه خلص قليلون أي ثماني أنفس بالماء” (عب 11: 7، 1بط 3: 20). كمـا أن المبـارك بولس قدم لنا تعريفا، أو بالحرى قانونا عاما بقوله: “بدون إيمـان لا يمكـن ارضاء الله” (عب11: 6)، لأنه قال إن به نال القدماء، شهادة حسنة (عب 11: ۲2). أما هؤلاء المدعوون ناموسيون فقد أخذوا مفتاح المعرفة، ولـم يـسمحوا للناس أن يؤمنوا بالمسيح مخلص الجميع. إنه أجرى عجائب بطرق متنوعـة، فأقام الموتى من القبور، وأعاد البصر للعميان الذين فقدوا الرجـاء، وجعـل العرج يمشون وطهر البرص، وانتهر الأرواح النجسة، أما هم رغم أنه كـان من واجبهم أن ينظروا إليه بإعجاب بسبب هذه الأمور، إلا أنهم احتقروا آياته الإلهية، وجعلوا الشعب الذي أودع أمانة عندهم أن يعثر فيه، إذ قالوا: ” هـذا الإنسان لا يخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين” (مت 12: 24). ها أنت ترى أنهم قد أخذوا مفتاح المعرفة. فهو علم في مجامعهم، وكشف لـسامعيه مشيئة الله الآب الصالحة والمرضية الكاملة (رو 12: 2)، لكنهم لم يتركوا حتـى تعاليمه هذه بدون لوم، لأنهم صرخوا للجموع: به شيطان، وهو يهذي “لماذا تسمعون له؟” (يو 10: 20). حقا إنهم أخذوا مفتاح المعرفة فما دخلوا هم أنفـسهم ومنعوا الآخرين.
وهكذا وقد صاروا ساخطين على هذا التوبيح، فإنهم كما يقول الكتاب: “بدءوا يحنقون عليه” والذي يعني أنهم بدعوا يهاجمونه بمكر ويقاومونه، ويظهـرون بغضهم له، بل وتجاسروا أيـضـا كمـا يقـول: ” أن يفحمـوه علـى أمـور كثيرة”،ومرة ثانية ما هو المقصود بأن يفحموه (يسكتوه)؟
المقصود هو أنهم طلبوا منه فورا، أي بدون إعطائه فرصة للتفكيـر فـي الإجابة على أسئلتهم الشريرة، ومتوقعين بكل تأكيد أن يقع في شباكهم وأن يقول شيئا ما أو شيئا آخر يمكن الاعتراض عليه. ولكنهم لم يعلموا أنه هـو الله، بـل بالحري هم الذين كانوا حقيرين، مغرورين، منتفخـين. ولـذلك قـال المـسيح لأصدقائه، أعنى لتلاميذه: “تحرزوا لأنفسكم من خمير الفريسيين والكتبة”، وهو يقصد بالخمير تظاهرهم الكاذب، لأن الرياء أمر ممقوت لدى الله ومكروه مـن الناس ولا يجلب مكافأة وهو عديم الفائدة تماما لخلاص النفس بل بالأحرى هو سبب هلاكها. وإن اختبأ ولم ينكشف لفترة قصيرة، فلابد أن يفضح بعد زمـن ليس بطويل، ويجلب عليهم الاحتقار، مثل النسوة قبيحات المنظر، عندما تنزع عنهن زينتهن الخارجية التي عملوها بوسائل مصطنعة.
لذلك فالرياء شيء غريب عن أخلاق القديسين، لأنه من المستحيل أن تلـك الأمور التي نفعلها ونقولها، أن تخفى على عين الله، وهذا ما أوضحه بقولـه: ” فليس مكتوم لن يستعلن، ولا خفي لن يعرف”، لأن جميع أقوالنـا وأعمالنـا سوف تنكشف في يوم الدينونة. إن الرياء إذن هو عناء لا لزوم لـه، ومـن واجبنا أن نثبت أننا عابدون حقيقيون، نخدم الله بوجـه طـلـق مـكـشوف، ولا نخضع فكرنا لمن أخذوا مفتاح المعرفة، بل يجب أن نرى حتى في النـاموس سر المسيح، ونمسك بكلمات الأنبياء القديسين لتثبت معرفتنا به. وهذا أيضا ما علمنا به تلميذه بقوله: ” وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسنا إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم ” (2بط 1:19).
فنحن الذين في المسيح قد أشرق إذن علينا النهار، وقد طلع كوكب الصبح العقلي، حاصلين على معرفة صحيحة وبلا لوم لأنه هو نفسه قد وضـع فـي ذهننا وقلبنا المعرفة الإلهية، إذ هو المخلص ورب الكل، الذي بـه ومـعـه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.
عظة (87) عناية الله بمحبيه (لو 12: 4-7)
(لو 12: 4-7): ” ولكن أقول لكم يا أحبائي: لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر. بل أريكم ممن تخافون: خافوا من الذي بعدما يقتل له سلطان أن يلقي في جهنم. نعم أقول لكم: من هذا خافوا! أليست خمسة عصافير تباع بفلسين وواحـد منها ليس منسيا أمام الله؟. بل شعور رؤوسكم أيضا جميعها محصاة! فلا تخافوا أنتم افضل من عصافير كثيرة! “.
الذهن الصبور المحتمل الشجاع، هو سلاح القديسين الذي لا يمكن اختراقه، لأنـه يجعلهم مزكين ومتألقين بمدائح التقوى. أخبرنا أحد الرسل القديسين مـرة قائلاً: ” بصبركم تقتنون أنفسكم ” (لو 21: 19) وفي مرة أخرى: “لأنكم تحتاجون إلى الصبر حتى إذا صنعتم مشيئة الله تنالون الموعد” (عب 10: 16). بمثل هذه الفضائل الرجوليـة نصير مشهورين وجديرين بالثناء، ولنا صيت بين الناس في كل مكـان، ومـستحقين لكل الكرامات والبركات المعدة للقديسين، وحتى تلك البركات التي “لم ترها عين ولم تسمع بها أذن” (1كو 2: 9) كما يقول الحكيم بولس، وكيف لا يجب أن تكون تلك الأشياء جديرة بالإعجاب والاقتناء، وهي تفوق كل فهم وكل عقل؟ لهذا كما قلت، فإن المسيح يهيئ” الذين يحبونه للثبات الروحي فيقول: ” أقول لكم يا أحبائي”. إن حديث المسيح الحالي، كما يتبين، لا يخص كل أحد حتما بل على العكس إنـه فقط لمن يحبونه بوضوح بكل قلبهم، ويستطيعون أن يقولوا بحق: ” من سيفصلني عن محبة المسيح، أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سـيف ” (رو 8: 35). لأن هؤلاء الذين ليست لهم محبة وثيقة للمسيح وأكيدة ومؤسسة جيدا، من الممكن أن يحتفظوا بإيمانهم بالمسيح في الأوقات الهادئة، ولكن متى أزعجـتهم الضيقة أو اضطهاد قليل فإنهم يعرضون عنه ويهجرونه ويفقدون إيمانهم كما يفقدون الدافع الذي حركهم لمحبته. وكما أن النباتات الصغيرة التي أينعت حديثا لا تقدر أن تحتمل عنف الريح العاصفة لأنها لم تكن قد ضربت جذورها في العمق، بينما تلك التي ثبتت بمتانة وتأصلت جذورها تظل آمنة في الأرض حتى ولو هزتها عاصفة من الرياح الشديدة، هكذا أيضا هؤلاء الذين لم تثبت عقولهم بمتانة في المسيح، فإنهم يتركونـه بـسهولة، ويهجرونه بسرعة. أما الذين يختزنون ويمتلكون في عقلهم وقلبهم حبا متينا ثابتا غير متزعزع للمسيح، هؤلاء يكونون غير متغيرين في عقلهم ولهـم قلـب ثابـت غيـر متذبذب. إذ يصيرون أعلى من كل تراخ، وينظرون بازدراء إلى أعظم المخاطر التي لا تحتمل، ويسخرون من الأهوال، كما لو كانوا يهزأون برعبة الموت. فالوصية هنا إذن تخص هؤلاء الذين يحبونه. ولكن من هم هؤلاء الذين يحبونه؟ إنهم المشابهون له في فكرهم وهم مشتاقون أن يقتفوا خطواته. ولهذا فإن رسوله يشجعنا بقوله: ” إذ قد تألم المسيح من أجلنا بالجسد، تسلحوا أنتم أيضا بهذه النية” (1بط 4: 1) إنه وضع نفسه عنا ” وكان بين الأموات غيـر مقيد” (انظر مز 87: 5 س)، لأن الموت لم يهاجمه مثلما هاجمنا بـسبب الخطيـة، لأنـه منفصل بعيدا عن كل خطية، وهو بلا إثم، ولكن بإرادته وحده احتمل الموت لأجلنـا، بسبب حبه غير المحدود لنا، فلننصت إليه وهو يقول بوضوح: “ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه ” (يو 15: 13)، فكيف لا يكون إذن أمرا رديئاً جذا الأ نرد إلى المسيح ـ كدين ضروري علينا ـ ما قد نلناه منه؟
ولكي أضع الموضوع في ضوء آخر، فإنه يجب علينا، كأحبائه، ألا نخاف الموت ولكن بالحري نتمثل بإيمان الآباء القديسين. فإن أب الآباء إبراهيم لما جرب، فإنه قدم ابنه الوحيد إسحق ” حاسبا أن الله قادر على الإقامة من الأموات” (عب 11: 19). فلـذلك أي رعبة من الموت هذه التي يمكن أن تهجم علينا؟ بعد أن “أبطلت الحياة المـوت” (انظر 1تی 1: 10). فالمسيح هو ” القيامة والحياة” (يو 11: 25).
ويجب أيضا أن نضع في ذهننا أن الأكاليل يظفر بها بالجهاد. إن بذل الجهد الشديد متحدا مع المهارة هو الذي يكمل أولئك المصارعين الأقوياء فـي المباريات. إنهـا الجرأة والذهن الشجاع هما النافعان جدا لهؤلاء الماهرين في المعارك، بينما الرجـل الذي يلقي عنه ترسه، فحتى أعداؤه يسخرون منه، وإن عاش الهارب فإنه يعيش حياة ملؤها الخزي، ولكن الذي يصمد في المعركة ويقف بجرأة وشجاعة وبكل قوته ضـد العدو، فإنه يكرم إذا نال النصرة، وإن سقط فإنه ينظر إليه بإعجاب. وهذا ما يجب أن نحسبه لأنفسنا، لأنه عندما نحتمل بصبر ونواصل المعركة بشجاعة فهذا يجلـب لنـا مكافأة عظيمة. وهو أمر مرغوب فيه جدا، وننال منه البركات الممنوحة من الله. أما إذا رفضنا مكابدة الموت في الجسد من أجل محبة المسيح، فهذا سوف يجلـب علينـا عقابا دائما أو بالحري لا نهاية له، لأن غضب الانسان إنما يصيب الجـسـد علـى الأكثر، ، وموت الجسد هو أقصى ما يمكن أن يدبروه ضدنا، ولكن عندما يعاقـب الله، فإن الخسارة لا تصيب الجسد فقط، ولكن النفس التعيسة أيضا تلقى معها في العذابات. ليت نصيبنا إذن يكون بالأحرى هو الموت المكرم، لأنه يجعلنا نرتقي إلى بداءة حياة أبدية، والذي يلحق بها بالضرورة تلك البركات أيضا التي تأتي من الجـود الإلهـي. وليتنا نهرب من حياة الخزى ونحتقرها، تلك الحياة الملعونة، قصيرة الأجل، والتـ تهبط بنا إلى عذاب أبدى مرير.
ولكي يمنح وسيلة أخرى بها يسعف عقولنا، فإنه يضيف بقوة: “أليـست خمـسة عصافير بالكاد ربما تساوى فلسين، ويقول فضلاً. عن ذلك فحتى واحد منها ليس منسيا قـدام الله”. ذلك: ” أيضا شعور رؤوسكم محصاة” تأمل إذن ما أعظـم العنايـة التي يخلعها على هؤلاء الذين يحبونه. لأنه إن كان حافظ الكون يمد معونته إلى أشياء تافهة بهذا المقدار، ويتنازل ـ إن جاز القول ـ إلى أصغر الحيوانات، فكيف يمكنـه أن ينسى هؤلاء الذين يحبونه، لاسيما إذا كان يعتني بهم عنايـة عظيمـة، ويتنـازل ليفتقدهم لكي يعرف بالضبط أصغر الأشياء عن حالتهم، بل وحتى كم عـد شـعور رؤوسهم. أين إذن هو تفاخر الوثنين وثرثرتهم الفارغة الحمقاء؟ “أين الحكيم؟ أين من الكاتب؟ أين مباحث هذا الدهر ألم يجهل الله حكمة العالم؟” (1كو 1: 20). لأن بعـضا منهم ينكر تماما العناية الإلهية، بينما آخرون يجعلونها تصل إلى القمر فقط، ويضعون عليها قيودا كما لو كانت هذه السلطة قد خولت لهم. لمثل هؤلاء نقول: ” هل عناية الله أضعف من أن تمتد إلى ما هو أسفل بل وحتى أن تبلغ إلينا، أم أن خالق الكل متعـب لهذه الدرجة حتى أنه لا يرى ما نفعل؟ إن قالوا إذن إن العناية ضعيفة جدا، فهذا هـو الغباء بعينه ليس إلا. أما إذا صوروا الطبيعة الإلهية أنها خاضعة للكسل، فـإنهم يجعلونها أيضا قابلة للحسد وهذا أيضا هو تجديف وجرم لا يوجد أعظم منه. ولكـنـهم يجيبون أنه إزعاج للإرادة الإلهية والفائقة أن تثقل بالعناية بكل هذه الأمور الأرضية، لأنهم لا يعلمون كم هي عظيمة هذه الطبيعة الإلهية التي لا يمكن للعقل أن يفهمها أو للنطق أن يصفها، والتي تملك على الكل، لأنه بالنسبة لها فإن جميع الأشياء صغيرة، وهكذا يعلمنا النبي المبارك إشعياء حيث يقول: ” حقا إنما جميع الأمم كنقطة دلو وتحسب كغبار الميزان، وتعد كبصاق، فبمن تشبهون الرب؟” (إش 40: 15، 18 س). فماذا تكون نقطة واحدة من دلو؟ وماذا يكون غبار الميزان؟ وماذا يكون البصاق؟ أي تفلة واحدة؟ فإن كان هذا هو وضع جميع الأشياء أمام الله، فكيف يكون أي أمر عظيمـا عليه، أو يكون أمرا يسبب له إزعاجا أن يعتني بكل الأشياء؟ إن مشاعر الـوثنيين الضارة إنما هي عديمة العقل.
ليتنا إذن لا نشك، بل نؤمن أنه بيد سخية سوف يمنح نعمته لهؤلاء الذين يحبونه. لأنه إما أنه لن يسمح لنا أن نقع في تجربة، أو إذا سمح – بقصده الحكيم ـ أن نؤخذ في الشرك لأجل أن نربح المجد بالآلام، فإنه بكل تأكيد سيمنحنا القـوة أن نحتملهـا. وبولس المبارك هو الشاهد لنا ويقول: “الله أمين، الذي لا يدعكم تجربون فـوق مـا تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا” (1كو 10: 13). ! لأنه هو المخلص وهو ربنا جميعا هو رب القوات، الـذي بـه ومعـه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.
عظة (88) الاعتراف بالمسيح وإنكاره لو 12: 8 – 10
(لو 12: 8 – 10) ” وأقول لكم: كل من اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة الله. ومن أنكرني قدام الناس يُنكر قدام ملائكة الله. وكل من قال كلمة علـى ابـن الإنسان يغفر له وأما من جدف على الروح القدس فلا يغفر له”
هنا أيضا يا من تحبون أن تسمعوا، املأوا نفوسكم بكلمات القداسة، اقبلـوا في داخلكم معرفة التعاليم المقدسة لكي إذ تتقدمون بنجاح في الإيمان، فـإنكم تحصلون على أكليل المحبة والثبات في المسيح، لأنه يمنحه لـيـس لـضعاف القلوب التي تهتز بسهولة، ولكن بالأولى لأولئك الذين يستطيعون أن يقولـوا بحق “لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح” (في 1: 21). لأن هـؤلاء الـذين يعيشون بقداسة، يعيشون للمسيح، أولئك الذين يحتملون الأخطار لأجل التقوى يربحون الحياة غير الفاسدة، إذ يكللون معه أمام منبر قضائه. هـذا هـو مـا يعلمنا إياه بقوله: “كل من اعترف بي قدام الناس يعترف به ابن الإنسان أيضا قدام ملائكة الله”.
إذن فهو شيء يعلو فوق كل الأشياء الأخرى وهـو جـدير بانتباهنـا، أن نفحص من هو الذي يعترف بالمسيح، وبأية طريقة يمكن أن يعترف بالمسيح، بأية طريقة يمكن أن يعترف به بحق وبلا لوم، لذلك فإن بولس الحكــم جـدا يكتب لنا: “لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء؟ أي ليحدر المسيح، أو من يهبط إلى الهاوية؟ أي ليصعد المسيح من الأموات، لكن ماذا يقول الكتاب؟ الكلمة قريبة منك، في فمك وفي قلبك، أي كلمة الإيمان التـي نـكـرز بهـا، لأنـك إن اعترفت بفمك بأن يسوع هو الرب وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات فسوف تحيا، لأن بالقلب يؤمن الإنسان للبر وبالفم يعترف للخلاص” (رو 10: 6-10). يشرح الرسول بهذه الكلمات سر المسيح بطريقة ممتازة جدا. فـأول كـل شيء يجب أن نعترف أن الابن المولود مـن الله الآب، هـو الابن الوحيـد لجوهره، وأنه هو الله الكلمة، وهو رب الكل، وليس كمن وهبت له الربوبيـة من الخارج، بالانتساب، بل هو الرب بالطبيعة وبالحق مثل الآب تماما، ويجب بعد ذلك أن نؤمن أن “الله أقامه من الأموات”، أي أنه عندما صار إنسانا، فإنه قد تألم من أجلنا بالجسد، ثم قام من الأموات.
فالابن إذن ـ كما قلت ـ هو رب، ولكن لا يجب أن يحـسـب بـين أولئـك الأرباب الآخرين الذين يعطى لهم وينسب إليهم اسم الربوبية، لأنه ـ كما قلت . هو وحده الرب بالطبيعة، لكونه الله الكلمة، الذي يفوق كل شيء مخلوق، وهذا ما يعلمنا إياه الحكيم بولس بقوله: “لأنه وإن وجد ما يسمى آلهة في السماء أو على الأرض ــ كما يوجد آلهة كثيرون وأرباب كثيرون ـ لكن لنا إله واحـد الآب الذي منه جميع الأشياء ونحن منه، ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميـع الأشياء ونحن به ” (1کو 8: 65).
ولكن رغم أنه يوجد إله واحد الذي اسمه الآب، ورب واحد الذي هو الابن، ولكن لا الآب كف عن أن يكون ربا بسبب كونه الله بالطبيعة، ولا الابن توقف عن أن يكون هو الله بسبب كونه ربا بالطبيعة، لأن الحرية الكاملة الجوهر الإلهي الفائق وحده، وأن يكون بعيدا عن نير العبودية، أو بالأحرى فإن الخليقة تكون خاضعة تحت قدميه. لذلك، رغم أن كلمة الله الوحيد الجنس صار مثلنا، وإذ اتخذ قياس الطبيعة البشرية، فإنه وضع تحت نير العبوديـة، لأنه دفع عن قصد الدرهمين لجباة الضرائب اليهود بحسب ناموس موسی، إلا أنه لم يخبئ المجد الذي سكن فيه، لأنه سأل المغبوط بطرس ” ممن يأخـذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية، أمن بنيهم أم من الأجانب؟ ولما قـال مـن الأجانب، عندئذ أجابه: إذن البنون أحرار” (مت 18: 25 -26).
كذلك فالابن في طبيعته الذاتية هو رب لأنه حر، كما يعلمنا الحكيم بـولس أيضا ويكتب: “ونحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرأة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح” (2کو 3: 18)، ” وأما الرب فهو الروح، وحيث روح الرب فهناك حرية” (2كو 3: 17).
لذلك لاحظ كيف يؤكد أن الروح هو رب. لا كمن يملك البنوة إذ أنه هو الروح وليس الابن، بل لكونه واحدا مع الابن في الجـوهر، الـذي هـو رب وحر، وقد تبرهن بهذه المساواة الطبيعية معه أن له تلك الحرية التي تليق بالله.
إذن، فمن يعترف بالمسيح أمام الناس أنه إله ورب، فسوف يعتـرف بـه المسيح أمام ملائكة الله. ولكن متى؟ واضح أنه في الوقت الذي سوف ينـزل فيه من السماء في مجد أبيه مع الملائكة القديسين عند نهاية هذا العالم، وعندئذ سوف يكلل المعترف الحقيقي به، الذي له إيمان غير متزعزع وأصيل، وهكذا يقدم اعترافه، وهناك أيضا سوف يضيء جماعة الـشهداء القديسين الـذين احتملوا الضيقات كل الحياة وحتى الدم، وكرموا المسيح باحتمالهم وصـبرهم، لأنهم لم ينكروا المخلص، ولا كانوا يجهلون مجده، بل احتفظوا بولائهم لـه.
مثل هؤلاء سوف يمدحون من الملائكة القديسين الذين أيضا سوف يمجـدون المسيح مخلص الجميع، لأنه منح القديسين تلك الكرامات التي تحق لهم بنـوع خاص، وهذا ما يعلنه المرتل أيضا، ” وتخبر السموات بعدلـه، لأن الله هو الديان” (مز 49: 6 س)، وهذا سوف يكون نصيب أولئك الذين يعترفون به.
أما الباقون، الذين أنكروه واحتقروه، فسوف ينكرهم، عنـدمـا يقـول لـهـم الديان، كما تكلم أحد الأنبياء القديسين في القديم: “كما فعلـت سـيفعل بـك، وعملك يرتد على رأسك” (عوبديا 15) وسوف ينكرهم بهذه الكلمـات: “اذهبـوا عنی یا فاعلی الاثم، إنني لست أعرفكم ” (لو 13: 27). من هـم هـؤلاء الـذين سوف ينكرهم؟ أولاً: هم أولئك الذين عندما ضغط عليهم الاضطهاد ولاحقتهم المحن، تركوا الإيمان. إن رجاء مثل هؤلاء سوف يفارقهم تماما من جذوره، ولمثل هؤلاء لا تكفي كلمات بشرية لوصف حالتهم، لأن الغـضب والدينونـة والنار التي لا تطفأ سوف تبتلعهم.
وبطريقة مماثلة، فإن معلمي الهرطقة وتابعيهم ينكرونه لأنهـم يجترئـون ويقولون إن كلمة الله الوحيد الجنس ليس هو الله بالطبيعة وبالحق، ويطعنـون في ولادته التي لا ينطق بها، بقولهم إنه ليس من جوهر الآب، بل وبـالأحرى يحسبون من هو خالق الكل ضمن الأشياء المخلوقة. ويصنفون ذلك الذي هـو رب الكل مع أولئك الذين هم تحت نير العبودية، رغم أن بولس يؤكد أننا يجب أن نقول إن ” يسوع رب”.
كما أن تلاميذ ” ثرثرة نسطوريوس الباطلة ” أيضا ينكرونه بقولهم بـابنين، واحد زائف، والآخر حقيقي: الحقيقي هو كلمة الآب، والزائف هو الذي يملك كرامة واسم ابن بالانتساب فقط. وهو بأسلوبهم هذا فقط هو ابن، ونبـت مـن نسل المبارك داود بحسب الجسد. إن دينونة هؤلاء أيضا هي ثقيلة جدا، لأنهم ” ينكرون الرب الذي اشتراهم” (2بط 2: 1) ولم يفهموا سر تدبيره فـي الجـسد، لأنه يوجد “رب واحد وإيمان واحد” كما هو مكتوب (أف 4: 5).
فنحن لا نؤمن بإنسان وبإله، ولكن برب واحد الكلمة الـذي هـو مـن الله الآب، الذي صار إنسانا واتخذ لنفسه جسدنا. فلذلك فإن هؤلاء أيضا يحسبون ضمن من ينكرونه.
وقد علمنا الرب أن التجديف هو جريمة عظيمة جدا يرتكبها الناس، بقولـه أيضا: “كل من قال كلمة على ابن الانسان يغفر له، وأما مـن جـف علـى الروح القدس فلا يغفر له”. فبأية طريقة يجب أن نفهم هـذا أيـضا، إذا كـان المخلص يقصد هذا، وهو أنه إذ استعملت كلمة احتقار من أي إنسان منا تجاه إنسان عادي فإنه سوف يحصل على الغفران إذا ما تاب، فإن الأمـر يـكـون خاليا من أي صعوبة، لأن الله إذ هو صالح بالطبيعة، فإنه سوف يبرئ من كل لوم جميع الذين يتوبون. ولكن إن كان التجديف موجه إلـى المـسيح نفسه، مخلص الكل، فكيف يمكن أن يتبرأ أو ينجو من الدينونة ذلك الذي يتكلم ضده؟ فما نقوله إذن هو هذا: أي شخص، لم يتعلم بعد معنى سر المسيح، ولم يفهـم أنه إذ هو بالطبيعة الله، وقد وضع نفسه ونزل إلى حالتنا، وصار إنسانا، ثـم يتكلم هذا الإنسان، أي شيء ضده (المسيح)، ويجدف لحد مـا، ولكـن لـيـس بدرجة الشر التي تفقده الغفران، فالله سوف يغفر لأولئك الذين أخطـأوا عـن جهل. ولكي أوضح ما أعنيه بمثال، فإن المسيح قال في موضع ما: “أنا هـو الخبز الحي النازل من السماء والمعطي الحياة للعالم” (يو 6: 51).
لذلك فبسبب أن البعض لم يعرفوا مجده، بل ظنوا أنه إنسان، فإنهم قـالوا ” أليس هو ابن النجار الذي نحن عارفون بأبيه وأمه، فكيف يقول إني نزلـت من السماء؟”. وفي مرة أخرى بينما كان واقفا يعلم في المجمع حتى تعجب منه الجميع، لكن البعض قالوا: “كيف هذا يعرف الكتب وهو لم يتعلم” (يو 7: 15)، لأنهم لم يكونوا يعرفون طبعا أن ” فيه مذخر كل كنوز الحكمة والعلم”(كو 2: 3). مثل هذه الأمور يمكن أن تغفر، إذ قيلت بتهور عن جهل.
أما من جهة أولئك الذين قد جدفوا على اللاهوت نفسه فإن الدينونة محتمة والعقاب أبدي في هذا العالم وفي الآتى. لأنه يقصد بالروح هنـا لـيـس فـقـط الروح القدس ولكن كل طبيعة الألوهة، وكما هو معروف إنها هي طبيعـة الآب والابن والروح القدس. والمخلص نفسه يقول في مكان ما: “الله روح” (يو 4: 24). فالتجديف على الروح هو على كل الجوهر الفائق، لأنه كما قلت، إن طبيعـة الألوهة كما أعلنت لفهمنا هي الثالوث القدوس المسجود له الذي هـو واحـد. ليتنا إذن كما يقول يشوع ابن سيراخ في حكمته: “نضع بابا ومزلاجا للـسان” (يشوع ابن سيراخ 28: 25)، ونقترب بالأكثر نحو الله ولنقل: “ضع يا رب حافظاً لفمي، وبابا حصينا لشفتي، ولا تمل قلبي إلى كلام الـشـر” (مز 140: 3 س). لأن تلك التجاديف هي كلمات رديئة ضد الله. وهكذا إن كنا نخـاف الله حقـا فالمسيح سوف يباركنا، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الـروح القدس إلى دهر الدهور آمین.
عظة (89) تحفظوا من الطمع (لو 12: 13-21)
” وقال له واحد من الجمع: يا معلم قل لأخي أن يقاسمني الميراث. فقال له: يا إنسان من أقامني عليكما قاضيا أو مقسما؟. وقال لهم: انظروا وتحفظـوا مـن الطمع فإنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله. وضرب لهم مثلا قائلا: إنسان غني أخصبت كورتة. ففكر في نفسه قائلا: ماذا أعمل لأن ليس لي موضع أجمع فيه أثمــاري؟ . وقال: أعمل هذا: أهدم مخازني وأبني أعظم وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتـي. وأقـول لنفسي: يا نفس لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة. استريحي وكلي واشربي وافرحي. فقال له الله: يا غبي هذه الليلة تطلب نفسك منك فهذه التي أعددتها لمن تكـون؟. هكـذا الذي يكتر لنفسه وليس هو غنيا لله “.
يوصي القديس بولس كإنسان حكيم بمدوامة الصلاة فيقول: “صــوا بـلا انقطاع” (1تس 5: 17)، وهذا بالحقيقة أمر مليء بالفائدة، ولكني أقول هذا، إن كل من يقترب من الله يجب عليه أن لا يفعل هذا بإهمال، ولا أن يقـدم توسـلات غير لائقة، فيمكن للواحد منا أن يؤكد بحق أنه يوجد عديد من التوسلات غير المناسبة، ومثل هذه ليست مناسبة الله أن يعطيها، كما أن نوالهـا غيـر نـافع بالنسبة لنا. وإذا وجهنا نظرة فاحصة من عقلنا إلى الفقرة التي أمامنا سـوف نرى بدون صعوبة صدق ما قلته، فقد اقترب من المسيح مخلصنا جميعا واحد من الجمع وقال له: ” يا معلم قل لأخي أن يقاسمني الميراث”، ولكن الرب قال له: “يا إنسان من أقامني عليكما قاضيا أو مقسما “؟ إن الابن في الحقيقة عندما ظهر وصار مثلنا، فقد أقيم من الله الآب “كرئيس وملك على صهيون جبـل قدسه” بحسب كلمات المرتل (انظر مز 2: 6)، وطبيعة وظيفته أعلنها هـو نـفـسه بوضوح بقوله “لأني جئت لأكرز بأمر الله”، وما هو هذا؟ إن سيدنا المحـب للفضيلة يريدنا أن نبتعد من كل الأمور الأرضية والزمنية، وأن نهـرب مـن محبة الجسد، ومن هم انشغال الربح الباطل، ومن الشهوات الدنيئة، ولا نلقـي بالا لما في الخزائن، وأن نحتقر الثروة وحب الـربح، وأن نكـون صـالحين ومحبين بعضنا لبعض، وألا نكنز كنوزا على الأرض، وأن نسمو فوق النزاع والحسد، ولا نتشاجر مع الإخوة، بل بالحري نفسح لهم المجال، حتـى ولـو كانوا يسعون لكسب فرصة أكثر منا، لأن الرب يقول: ” ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه” (لو 6: 29)، بل بالأحرى نسعى وراء تلك الأمور النافعة والضرورية لخلاص النفس.
فبالنسبة لأولئك الذين يعيشون هكذا، يضع المسيح لهم قوانين يصيرون بهـا لامعين وجديرين بالمديح، لأنه قال “لا تقتنوا ذهبا ولا فـضة ولا ثـوبين… ولا مزودا، ولا نحاسا في مناطقكم ” (انظر مت 10: 9، 10). ويقول أيضا: “اعملـوا لـكـم أكياسا لا تفنى، كنزا لا ينفد في السموات ” (لو 12: 33). وعندما اقترب منـه شـاب يسأله؟ ” يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ ” أجابه: “اذهب بع كل أملاكـك واعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني ” (مت 19: 16 ـ21).
لذلك، فلهؤلاء الذين يحنون رقاب أذهانهم المطيعة، يعطي وصايا ويعـين لهم قوانين، ويضع لهم تعاليم، ويوزع عليهم الميراث السماوي، ويعطـيهم برکات روحية، ويكون لهم مستودع لمواهب لا تنقص أبدا. بينمـا لأولئـك، الذين يفكرون فقط في الأمور الأرضية، وقد وضعوا قلوبهم علـى الثـروة، ولأولئك الذين تقسى ذهنهم، وصاروا بلا رحمة، بلا لطف أو محبة للفقـراء، فإنه لمثل هؤلاء سوف يقول بعدل: “من أقامني عليكم قاضيا أو مقسما ؟” لذلك فهو يرفض ذلك الإنسان لأنه مزعج ولأنه لا يملك رغبة فـي أن يتعلم مـا يناسبه.
ولكنه لا يتركنا بدون تعليم، لأنه إذ قد وجد فرصة مواتية، فإنه يضع حديثاً نافعا وخلاصيا، ويعلن محذرا إياهم: “انظروا وتحفظوا من الطمع”، إنه يرينا فخ الشيطان، أي الطمع، وهو أمر مكروه من الله، والذي يدعوه الحكيم بولس ” عبادة الأوثان” (كو5:3)، ربما لأنه يتناسب فقط . مع أولئك الـذين لا يعرفـون الله، أو كأنهم متساوون في الدنس مع أولئك الناس الـذين يختـارون عبـادة الأصنام والحجارة. إنه فخ الأرواح الشريرة، الذي بواسطته يحـدرون نفـس الإنسان إلى شباك الهاوية. لهذا السبب فهو يقول بحق تماما، محـذرا إيـاهم: ” انظروا وتحفظوا لأنفسكم من كل طمع”، أي من الطمع كثيره وقليله، ومـن الاحتيال على أي إنسان أيا كان، لأنه كما قلت، هو شـيء بغيض عنـد الله والناس.
لأنه من ذا الذي لا يهرب ممن يستخدم العنف وهو سلاب وطماع، ومستعد للظلم في تلك الأشياء التي لا حق له فيها، والذي بيد جشعه يجمع ما ليس له؟ أي وحش مفترس لا يفوقه مثل هذا الإنسان المحتال في وحشيته؟ وأية أحجار لا يكون هو أكثر قساوة منها؟ لأن قلب الذي يتم الاحتيال عليه يتمزق، بل إنه أحيانا يذوب من الألم الحارق كما لو كان الألم نارا ولكن المحتال يسر بهـذا ويبتهج، ويجعل آلام الذين يعانون سببا لفرحه. ولأن الإنسان المساء إليه هـو بالضرورة وبصفة عامة لا حول له ولا قوة، فإنه لا يستطيع شيئا سـوى أن يرفع عينيه إلى هذا الذي هو وحده قادر أن يغضب لأجل ما قد تألم به، وهـو (الله)، لأنه عادل وصالح، يقبل توسلاته ويشفق على دموع المتـألم ويعاقـب أولئك المخطئين.
وهذا يمكنك أن تتعلمه مما يقوله هو بنفسه بفم الأنبياء القديسين: “لذلك من أجل أنكم تسحقون رؤوس المساكين وتأخذون منهم هدايا مختارة، وبنيتم بيوتا من حجارة منحوتة لكنكم لن تسكنوا فيها، وغرستم كروما شهية ولن تـشربوا خمرها، لأني علمت ذنوبكم الكثيـرة وخطايـاكـم الثقيلـة” (عـاه: ۱۱، ۱۲ س). وأيضا: ” ويل للذين يصلون بيتا ببيت ويقرنون حقلاً بحقل، حتى يأخذوا مـا لجارهم. أتسكنون وحدكم في الأرض؟ لأن هذه الأشياء قد بلغـت أننـي رب الجنود، لأنه مع أن بيوتكم كثيرة فإنها تصير خرابا، ومع أنها كبيرة وحـسنة فإنها ستصير بلا ساكن، لأن الأرض التي يفلحها عشرة فدادين بقر تصنع بثا واحدا، والذي يزرع ستة أرادب سوف يجمع ثلاثة مكابيل” (إش 5: 8 ـ 10)، لأن البيوت والحقول هي ناتجة عن ظلم الآخرين، لهذا يقول عنهـا أنهـا تبـدد وتصير مهجورة (بلا ساكن)، وسوف لا تأتي بأية فائدة لمن يعملون بظلم، لأن غضب الله العادل منسكب عليهم، لذلك فلا فائدة في الطمع من كل ناحية.
ولكي ننظر إليه بمنظار آخر، فإن الطمع لا يفيد شيئا، لأنه كما يقول الرب، ” متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله”، وهذا واضح أنه حقيقـي، لأن سني حياة الإنسان لا تزداد بنسبة ثرائه، كما أن محـصلة حياتـه لا تـسير متوازية مع أرباحه الظالمة، وهذا قد أظهره المخلص وكشفه لنا بوضوح بأن أضاف بمهارة شديدة المثل الذي أمامنا مرتبطا بحجته السابقة فيقول: “رجـل غني أخصبت كورته وأغلت ثمارا كثيرة”، تمعن بدقة، وتعجب من جمال فـن الحديث، لأنه لم يشر لنا إلى مقاطعة أعطى جزء منها فقط حصادا وفيرا، بل كلها كانت خصبة ومثمرة لصاحبها، مما يدل على اتساع ثروته. وهذا يـشبه قول أحد الرسل القديسين: ” هوذا أجرة الفعلة الذين حصلوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ وصياح الحصادين قد دخل إلى أذني رب الجنود” (يـع 5: 4)، لذلك يقول المخلص إن كل كورته قد أغلت محاصيل وفيرة.
لذلك فما الذي فعله الرجل الغني، وهو محاط بوفرة من بركات كثيرة جدا تفوق كل إحصاء؟ إنه ينطق في ضيق وقلق بكلمات الفقر، فهو يقول: ” وماذا أعمل؟”، إن الإنسان الذي في احتياج إلى الضروريات يبث باستمرار هـذه اللغة البائسة، ولكن انظر هنا! إن واحدا من ذوى الأمـوال غيـر المحـدودة يستخدم تعبيرات مشابهة. لقد قرر أن يبني مخازن أكثر اتساعا، وعـزم أن يمتع نفسه بمفرده فقط بتلك الموارد التي كانت تكفي مدينة مكتظة بالناس. إنه لا ينظر إلى المستقبل، ولا يرفع عينيه نحو الله، ولم يحسبه أمرا جديرا بـأن ينفق ماله من أجله ليربح لقلبه تلك الكنوز التي هي فوق في السماء، ولا يهتم بمحبة الفقير، ولا يرغب في التقدير الذي يحصل عليه من جـراء هـذا، ولا يتعاطف مع المتألمين، فهذا أمر لا يؤلمه ولا ينهض فيه الشفقة. وما هو أكثر من ذلك مما هو غير معقول، إنه يقرر لنفسه سني حياته، وكأنه سوف يحصد هذا أيضا من الأرض لأنه يقول: “أقول لنفسي، يـا نـفـس لـك الخيـرات موضوعة لسنين كثيرة، كلي واشربي وافرحي”، ولكن أيها الإنسان الغبـي، يمكننا أن نقول لك، أنت فعلاً تملك مخازن كثيرة لغلالك، ولكـن مـن أيـن تحصل على سنين عديدة لنفسك؟ لأنه بحكم من الله قد قصرت أيامك. لأن الله قال له: “يا غبي هذه الليلة سوف تطلب نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمـن تكون؟ “.
لذلك، فإنه أمر حقيقي أن حياة الإنسان ليست من ممتلكاته، أي ليست بسبب أن له أموالاً كثيرة. بل يكون مغبوطا جدا وله رجاء مجيد ذلك الإنسان الـذي هو غني نحو الله. من هو هذا إذن؟ من الواضح أنه هو الذي لا يحب الثـروة بل بالأحرى يحب الفضيلة، والذي يكفيه القليل، (انظر لو 10: 42)، وهو الذي يده مبسوطة لاحتياجات المعوزين، والذي يريح الفقراء ويعزيهم بحسب إمكانياته وبأقصى ما في طاقته. إنه هذا الذي يجمع في المخازن التي هي فوق، ويكنز كنوزا في السماء، مثل هذا سوف يجد أرباح فضيلته، ومكافأة حياته المستقيمة والتي بلا لوم، والمسيح سوف يباركه، الـذي بـه ومـعـه الله الآب التسبيح . والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.
عظة (90) عدم الاهتمام بالطعام واللباس (لو 12: 22-31)
” وقال لتلاميذه: من أجل هذا أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون ولا للجسد بما تلبسون لأن الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل مـن اللباس. تأملوا الغربان: أنها لا تزرع ولا تحصد وليس لها مخدع ولا مخزن والله يقيتها. كم أنتم بالحري أفضل من الطيور!. ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة؟. فإن كنتم لا تقدرون ولا على الأصغر فلماذا تهتمون بالبواقي؟. تأملوا الزنابق كيف تنمو! لا تتعـب ولا تغزل ولكن أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها. فإن كـان العشب الذي يوجد اليوم في الحقل ويطرح غدا في التنور يلبسه الله هكذا فكم بــالحري يلبسكم أنتم يا قليلي الإيمان؟. فلا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا. فإن هـذه كلها تطلبها أمم العالم. وأما أنتم فابوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه. بل اطلبوا ملكوت الله وهذه كلها تُزاد لكم ؟.
إن ناموس موسى قد رتبه الله للإسرائيليين لكي يرشدهم إلى ما كان واجبا علـيـهم ليفعلوه، ولكي يضع أمامهم بوضوح كل ما كان لمنفعتهم. وهذا جعلوه أمرا ذا بهجـة عظيمة فقالوا: “طوبى لنا نحن أبناء إسرائيل لأن الأمور التي ترضـي الـرب قـد صارت معروفة لدينا ” (باروخ 4:4). ولكني أؤكد لكم أنه يناسبنا نحن ويلائمنا بالأكثر أن نستخدم هذه الكلمات، لأن الذي كلمنا ليس نبيا ولا حتى ملاكا، بل هـو الابـن فـي شخصه الذاتي، الذي هو رب الملائكة القديسين والأنبياء. وهذا ما يعلمنا إياه بوضوح الحكيم بولس خادم أسراره، فيكتب هكذا: ” الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديما بـأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه، الذي جعله وارثا لكل شيء، الذي به أيضا عمل العالمين” (عب1: 1 – 2 ). لذلك، فطوبى لنا نحن، فقد تعلمنا منه هو ذاتـه إرادته الصالحة والمخلصة، والتي بها يرشدنا إلى كل سعي فاضل، وهكذا إذ نكمـل حياة جديرة بالمحاكاة، التي تليق بالمختارين، فإننا سنملك معه.
لذلك، لاحظ كيف أنه بعناية وبمهارة فائقة يصوغ الرب حياة الرسل القديسين نحو الرفعة الروحية، ولكنه يفيدنا نحن أيضا معهم، لأنه يريد أن جميع البشر يخلصون، وأن يختاروا الحياة الحكيمة والأكثر امتيازا. لأجل هذا السبب فهو يجعلهم يتخلون عن الاهتمام غير الضروري، ولا يسمح لهم أن يمارسوا عملاً ما بقلق وباستعجال لأجـل الرغبة في جمع ما يزيد عن ضرورياتهم، ففي هذه الأمور، فإن الزيـادة سـوف لا تضيف شيئا لمنفعتنا، لذلك يقول “لا تهتموا لحياتكم بما تـأكلون، ولا جـسـدكم بمـا تلبسون لأن الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس”. فهو لم يقل ببساطة “لا تهتموا” بل أضاف ” لحياتكم “، ويقصد بذلك لا تنشغلوا باهتمام في هذه الأشياء، بل أعطوا اهتمامكم لأشياء ذات أهمية أعلى بكثير، لأن الحياة في الواقع هي أكثر أهمية من الطعام والجسد أكثر أهمية من اللباس. لذلك، حيث أن هناك خطـر يـحـيط بنـا بخصوص الحياة والجسد كليهما، وهناك ألم وعقاب مقضيا بهما على أولئك الذين لا يعيشون باستقامة، فلنطرح عنا جانبا كل هم من جهة اللباس والطعام.
وبجانب هذا، كيف لا يكون أمرا دنيئا بالنسبة لأولئك الذين يحبـون الفضيلة، والساعين باجتهاد نحو الفضائل السامية والمقبولة من الله، أن يسكروا مزينين بزينـة أنيقة مثل الصبية الصغار، وأن يسعوا وراء الموائد الفاخرة! لأن هذه يتبعها للتو حشد متوحش من الشهوات الأخرى أيضا، وتكون النتيجة الارتداد عن الله، لأنه مكتـوب: “لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم” (1 يو 2: 15)، وأيضا: “ألا تعلمـون أن محبة العالم هي عداوة الله” (يع 4: 4) . فواجبنا إذن أن نحفظ أقدامنا بعيـذا عـن جميـع الشهوات، وأن نجعل بالأحرى لأ تا في الأمور التي ترضي الله.
ولكن ربما تجيب على هذا وتقول: “من سيعطينا إذن ضروريات الحيـاة؟”. وجوابنا على هذا كالآتي: إن الرب جدير بأن يصدق، وهو وعـدك بوضـوح بهـذه الأشياء، وبواسطة الأمور الصغيرة يعطيك تأكيدا كاملاً أنه سيكون صادقا أيضا فـي الأمور العظيمة، فهو يقول: “تأملوا الغربان، إنها لا تزرع ولا تحصد وليس لهـا مخدع ولا مخزن والله يقيتها “. كذلك أيضا عندما كان يقوينا نحو الثبات الروحي، فإنه علمنا أن نحتقر حتى الموت ذاته بقوله “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها ” (لو 12: 4، مـت 10: 28). وبنفس الطريقة لكي يظهر لك عنايتـه، فإنه استخدم أشياء بلا قيمة تماما لكي يثبت بها كلامه فيقـول: “أليس عصفوران يباعان بفلس، وواحد منها لا يسقط بدون أبيكم، وأما أنتم فحتـى شـعور رؤوسـكم جميعها محصاة، فلا تخافوا أنتم أفضل من عصافير كثيرة” (مت 10: 29 -31). هكـذا أيضا بواسطة العصافير وزهور الحقل فإنه يغرس فيك إيمانا ثابتا غيـر متزعـزع. وهو لا يسمح لنا مطلقا بالشك، بل بالتأكيد إنه سيعطينا مراحمه، ويمد يده المريحـة ليهبنا كفاية في كل الأشياء. وبالإضافة إلى ذلك، إنه أمر رديء جدا، أنه بينما أولئك الذين هم تحت نير العبودية الجسدية يعتمدون على سادتهم كمصدر كاف لتزويـدهم بالطعام واللباس، لا نضع نحن ثقتنا في الله ضابط الكل، عنـدما يعـدنا أن يعطينـا ضروريات الحياة.
وأي فائدة توجد على الإطلاق في حياة الترف: ألا تجلب معها بـالأحرى الـدمار الكامل؟ لأنه سريعا ما يدخل مع لذات التنعم، مخازي الشهوانية الوضيعة والحقيرة – الأشياء التي عندما تقترب منا، تكون مقاومتها صعبة. وأيضا أن نكتسي بلباس فخـم أمر لا فائدة له بالمرة، لأنه يقول: “تأملوا الزنابق كيف تنمو لا تتعـب ولا تغـزل، ولكن أقول لكم ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها “. وهذا أيضا حقيقـي لأن كلا من الزنابق والزهور الأخرى التي تنبت في الحقول، فإن بهاء ألوانها يحوي جمالاً بارعا بسبب تنوع درجات الألوان، وبسبب اختلاف ترتيبها، فتتألق في لونهـا الأرجواني الطبيعي، أو تضيء بلمعان ألوان أخرى، ومع ذلك فإن كـل مـا يفعلـه الإنسان بفنه ليحاكي جمالها، إما عن طريق مهارة الرسام أو بفن الزخرفة والتطريز، فانه يعجز تماما عن الوصول إلى الحقيقة، وحتى ولو كان العمل ناجحا كإنتاج فنـي، فإنه نادرا ما يقترب من الحق.
لذلك فإن كانت هذه الإيضاحات عن طريق الفن، هي أدنى كثيرا من مجد الزنابق وجمال ألوان الزهور الأخرى، فكيف لا يكون صوابا أنه ولا سليمان، رغم أنه كـان ملكا عظيما جدا، فإنه في كل مجده لم يكن يلبس كواحدة منها؟ فباطل إذن تعبنا لأجل اللباس الجميل. يكفي الناس العقلاء أن يكون لباسهم كما تقتضيه الضرورة، محتشما، ويسهل اقتناؤه ويصاحب هذا قليل من الطعام الضروري الذي يكفي حاجات الطبيعة. ولتكن وليمتهم في المسيح كافية للقديسين، فتكون وليمـة روحيـة، إلهيـة، وعقليـة بالإضافة للمجد الذي سوف يأتي بعد ذلك. لأنه ” سيغير شكل جسد تواضعنا ليكـون على صورة جسد مجده” (في 3: 21)، وكما يقول الرب نفسه: ” سيضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم” (انظر مت 13: 43). إذن فأي ثياب مهما كانت فإن العظمة التي في المسيح تفوقها جدا في البهاء.
وبنظرة أخرى، لا يليق بأولئك الذين سيصيرون قدوة ومثالاً للآخرين في السلوك المقدس، أنهم بإهمالهم يسقطون هم أنفسهم في تلك الأمور، التي بمجرد أن يصيروا معلمين للعالم، سيكون واجبا عليهم أن يحثوا الآخرين على تركها. لأن تثقل التلاميذ بالاهتمام بالانشغالات العالمية سيكون له ضرر غير قليل يصيب غيرتهم وحماسـهم، يؤثر على فائدة كرازتهم المقدسة. بل على العكس من واجبهم أن يهملوا تماما بعقـل ثابت هذه الأمور، وأن يهتموا بحماس وببساطة بالانتصارات الرسولية. ولهذا السبب فهو يشجب بحق تماما وصراحة الانشغال بالأمور الزمنية، فهو يقول: “إن هذه كلها تطلبها أمم العالم”، وينهضهم إلى الاقتناع الراسخ الذي لا يهتز إنه بالتأكيد وفي جميع الأحوال سيكون عندهم ما يكفيهم، لأن أباهم الذي في السماء يعلم جيدا ما يحتـاجون إليه. وفي مناسبة ملائمة جدا يدعوه ” الأب ” حتى يعلموا أنه لن ينسى أولاده، بل هو شفوق ومحب لهم.
إذن فلنطلب ليس ذلك الطعام غير الضروري والزائد عن اللزوم، بل كل ما يؤدي إلى خلاص النفس، وليس ملابس كثيرة الثمن، بل أن نخلص جسدنا من النار ومن الدينونـة. وليتنا نفعل هذا طالبين ملكوته، وكل ما يساعدنا على أن نصير شركاء ملكوت المسيح، الذي به ومعه لله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.
عظة (91) الكنز السماوي (لو12: 32-34)
“لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم قد سُر أن يعطيكم الملكوت. بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة. اعملوا لكم أكياسا لا تفنى وكنزا لا ينفذ في السماوات حيـث لا يقرب سارق ولا يبلي سوس. لأنه حيث يكون كنزكم هناك يكون قلبكم أيضا”.
يتنازل المخلص مرة أخرى لينعم علينا بطريق يؤدي إلى الحياة الأبدية، ويفتح لنا باب الخلاص بسعة، حتى عندما نسافر على هذا الطريق، ونزين النفس بكل فضيلة، يمكننا أن نصل إلى المدينة التي هي فوق، والتي شهد عنها النبي إشعياء أيضا قائلاً: وستنظر عيناك أورشليم، المدينة الغنية، الخيمة التي لا تقلع أوتادها إلى الأبد” (إش 33: 20 س). لأن تلك الخيمة التي في السماء هي غير متزعزعة، والفرح الذي لا ينتهي هو نصيب أولئك الذين يسكنون فيها. والرب يرينا طبيعة الطريق الذي يقودنا إلى هنـاك بقوله: “لا تخف، ،، أيها القطيع الصغير، لأن أباكم قد سر أن يعطيكم الملكوت”. هـذا، إذن هو حقا العزاء الروحاني، والطريق الذي يقودنا إلى الإيمان اليقيني.
لذلك، أظن أنه يجب على قبل كل شيء أن أوضح لكم السبب الذي لأجلـه تكلـم المخلص بكلمات مثل هذه، لأنه بذلك يصير المعنى الكامل للفقرة التي أمامنـا أكثـر وضوحا للسامعين. لذلك عندما يعلم المخلص تلاميذه أن لا يكونوا محبين للمال، فهو أيضا يحولهم عن القلق الدنيوي، وعن الأتعاب الباطلـة والتـرف وأبهـة الملابـس الفاخرة، وكل العادات الرديئة التي تتبع هذه الأمور، ويحثهم بالحري أن يكونوا جادين بشجاعة في السعي وراء الأمور التي هي صالحة وممتازة جدا، بقوله: “لا تهتمـوا لحياتكم بما تأكلون ولا للجسد بما تلبسون. لأن الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس” وأضاف أيضا إلى هذا: ” إن أباكم الذي في السماء يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه” (لو 12: 22 و 23 و 30).
فقد أعلن كقاعدة عامة ـ نافعة وضرورية للخلاص ـ ليس فقط للرسل القديسين، بل لكل الساكنين على الأرض، أن الناس يجب أن يطلبوا ملكوته، وهم متيقنون أن ما يعطيه هو سيكون كافيا لهم، حتى أنهم لن يكونوا في احتياج إلى أي شيء بالمرة. لأنه ماذا يقول؟ ” لا تخف أيها القطيع الصغير”. وهو يعني بـ” لا تخف”، أنهم ينبغـي أن يؤمنوا بكل يقين، وبلا أدنى شك أن أباهم السماوي سيعطي وسائل الحيـاة للـذين يحبونه. وهو لن يهمل خاصته، بل بالحري سوف يفتح يده لهم (انظر مز 104: 28) وهي التي تشبع دائما الكون كله بالخير.
وما هو البرهان على هذه الأمور؟ هو يقول إن “مسرة أبيكم الصالحة أن يعطـيكم الملكوت”، وذلك الذي يعطي أشياء عظيمة وثمينة بهذا المقـدار، ويعطـي ملكـوت السموات، فكيف يمكن أن تكون إرادته غير مستعدة للشفقة علينا، أو كيف لا يزودنـا بالطعام واللباس؟ لأن أي خير أرضي يتساوى مع الملكوت السماوي؟ أو ما هو الذي يستحق أن نقارنه بتلك البركات، التي سيعطيها الله لنا، والتي لا يستطيع الفهـم أن يدركها، ولا الكلمات أن تصفها ” ما لم تره عين، وما لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب إنسان، الأمور التي أعدها الله للذين يحبونه” (1كو 2: 9). فحينمـا تمـدح الغنـى الأرضي، وتعجب بالسلطان العالمي، فإن هذه الأشياء ليست سوى العــدم بالمقارنـة بتلك التي أعدها الله لنا. لأنه مكتوب: “لأن كل جسد كعشب وكل مجد إنسان كزهـر عشب” (1بط 1: 24). وإن تكلمت عن الغنى الزمني وأسباب الترف وعن الولائم، فهـو يقول: ” العالم يمضي وشهوته” (1يو 2: 17)، لذلك فأمور الله تفوق بدرجة لا تقارن مـا يمتلكه هذا العالم، لذلك فإن كان الله يعطي ملكوت السموات لأولئك الذين يحبونـه فكيف يمكن أن يكون غير راغب أن يعطى اللباس؟
وهو يدعو الذين على الأرض ” القطيع الصغير”.لأننا أقل من جمـوع الملائكـة، الذين لا يحصون، ويتفوقون بغير قياس في القوة على أمورنا المائتة. وهذا أيضا قـد علمنا إياه المخلص نفسه، في ذلك المثل الوارد في الأناجيل، والذي صيغ ببراعـة ممتازة لأجل تعليمنا، لأنه قال: “أي إنسان منكم له مئة خروف وأضاع واحدا منها، ألا يترك التسعة والتسعين على الجبال، ويذهب ليطلب ذلك الذي ضـل، وإذا وجـده فالحق أقول لكم، فإنه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين الذين لم يضلوا” (لو15: 4 -5). لاحظوا إذن أنه بينما عدد المخلوقات العقلية يصل إلى مئة، فإن القطيع الـذي علـى الأرض ليس سوى واحد من مئة. ولكن رغم أنه صغير، في الطبيعة كما في العـدد والكرامة، بالمقارنة بجماعات وفرق الأرواح غير المحصاة التي هـي فـوق، إلا أن صلاح الأب الذي يفوق كل وصف قد أعطى له أيضا نصيبا مـع تلـك الأرواح المتعالية، وأعني نصيبا في ملكوت السموات، لأنه قد أعطى الأذن بالدخول لكل مـن يريد أن يصل إلى هناك.
ونحن نتعلم من كلمات المخلص، الوسائل التي نصل بواسطتها إلى الملكوت، لأنه يقول: “بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة”. هذه ربما تكون وصية قاسية ويصعب علـى الأغنياء أن يحتملوها، لأنه هو نفسه قد قال في موضع ما: ” ما أعسر دخول الأموال إلى ملكوت الله” ” (لو 18: 24). ومع ذلك فالوصية ليست مستحيلة بالنسبة للذين لهم قلب كامل. فهيا بنا، واسمحوا لي أن أوجه كلمات قليلة لأولئك الأغنياء. حول انتباهك قليلاً عن تلك الأمور الزمنية. كف مثل هذا الفكر الدنيوي جدا، وثبت عين عقلك على العالم الآتي فيما بعد، لأنه بلا نهاية. أما هذا العالم فهو محدود وزمنه قصير وفتـرة حياة كل فرد هنا محدودة بمقياس، أما حياته في العالم الآتي فهي غير فانية، بل هـي دائمة. لذلك فليكن سعينا هو الجري وراء الأمور الآتية، بلا تذبذب أو تردد، ولنختزن ككنز لنا، الرجاء فيما سيكون فيما بعد، فلنجمع لأنفسنا مقدما تلـك الأســور، التـي بواسطتها سنحسب عندئذ جديرين بالهبات التي يمنحها الله لنا.
إنه يحثنا أن نعتني بأنفسنا العناية الواجبة، لذلك هيا بنا نفكر في الأمر بيننا وبـين أنفسنا بالرجوع إلى الحسابات البشرية العادية. لنفترض أن واحدا منا أراد أن يبيـع مزرعة خصبة وفيرة الإنتاج، أو إن شئت فعندما يكون هناك بيت جميل جـدا فـي بنائه، فإن واحدا منكم ـ الذي يملك كثيرا من الذهب ووفرة من الفضة ـ تكون لـه الرغبة في شرائه، أفلا يشعر بالسعادة عندما يشتريه، ويقدم في الحال النقـود التـ كانت موضوعة في خزائنه، بل وقد يضيف إلى ما يمتلكه نقودا أخرى يقترضـها؟ لا أظن أنه يمكن أن يكون هناك شك في هذا الأمر، بل سوف يشعر بالسعادة في تقـديم أمواله، لأن الصفقة لن تعرضه للخسارة بل بالحري فإن توقعه للأربـاح المستقبلة ستجعله في نشوة فرح. والآن فإن ما أقوله هو مشابه لهذا إلى حد ما. فإله الكل يقدم لك الفردوس لتشتريه، وهناك سوف تحصد حياة أبدية، وفرحا لا نهاية له، ومسكنا مكرما ومجيدا، ولمجرد وجودك هناك سوف تكون مباركا بحق وسوف تملـك مع المسيح. لذلك تعال واقترب، بحماس واشتياق، واشتر المملكة، واحصل على الأمـور الأبدية بهذه الأشياء الأرضية. أعط ما هو فان، واربح ما هو ثابت ومضمون، أعـط هذه الأشياء الأرضية واربح تلك التي في السماء، أعط ما لابد أن تتركه ولو كان ضد إرادتك، لكي لا تفقد الأمور الآتية. أقرض الله أموالك، حتى تكون غنيا بالحقيقة.
والطريقة التي تقرض بها يعلمنا إياها بقوله: ” بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة. اعملوا لكم أكياسا لا تفنى وكنزا لا ينفد (أي كنزا أبديا) في السموات”. ونفس هـذا الكـلام يعلمنا إياه أيضا داود المبارك في المزامير، حيث يتكلم بالوحي عن كل رجل صـالح ورحوم: “فرق، أعطى المساكين، بره يبقى إلى الأبد” (مز 111: 9 س). لأن الغنـى الدنيوي له أعداء كثيرون، فاللصوص عديدون، وعالمنا هذا مليء بالظالمين الـذين اعتاد بعضهم أن يسلبوا بوسائل خفية، بينما البعض الآخر يستعملون العنف لينتزعوا المال حتى من أصحابه عندما يقاومونهم، أما الكنز الذي يوضع فوق في السماء فـلا يسرقه أحد لأن الله هو حافظه، وهو الذي لا ينام.
وبجانب هذا، فهو أمر سخيف جدا، أنه بينمـا نـحـن نـأتمن عـادة الأشخاص المستقيمين على ثروتنا الأرضية ولا نشعر بالخوف من أي خسارة قد تنتج من ثقتنـا في استقامة أولئك الذين استلموها منا، فإننا لا نأتمن الله عليها وهو الذي يستلم منا هذه الأمور الأرضية، كأنها قرض وهو يعدنا أنه سوف يعطينا أمورا أبدية مضافا إليهـا الأرباح. لأنه يقول: “كيلا جيدا ملبدا مهزوزا فائضا يعطون في أحضانكم” (لو 6: 38). وكون الكيل فائضا، فهذا برهان مباشر على وفرتها (الأشياء الأبدية) العظيمة جدا.
اهربوا إذن بعيدا عن هذا الغنى المحب للذة، الذي هو والد الشهوات الوضيعة، وهو المحرض على الدنس الجسدي، وهو صديق الطمع وصانع الافتخار الباطل، فهو يربط الذهن البشري بأغلال لا تنفك مؤديا به إلى التخنث والتراخي من جهة كل مـا هو صالح، وهو يمد عنقا متصلبة ومتعالية ضد الله، لأنه لا يخضع لذلك النير الـذي يقود إلى التقوى.
كن رقيقا، ورحيما، وراغبا في التواصل مع الآخرين، وبشوشا. لأن الرب صادق، وهو الذي يقول: ” حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضا”. لأن كل أشواق أولئـك الذين يقدرون تلك الأشياء الزمنية هي موضوعة فيها، بينما أولئك الذين يشتهون تلك الأشياء التي في السماء فإنهم يوجهون عين ذهنهم إلى هناك. لذلك، فكما قلت: كـن صديقا لرفقائك ورحوما بهم. وبولس المبارك يجعلني أتحدث إليـك حيـث يكتـب: “أوص الأغنياء في الدهر الحاضر ألا يستكبروا، ولا يلقوا رجاءهم على الغنى غير اليقيني، بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتع، وأن يصنعوا صـلاحا، وأن يكونوا أغنياء في عمال صالحة، مدخرين لأنفسهم كنوزا سوف تكـون أساسـا للمستقبل، لكي يمسكوا بالحياة الأبدية” (1تي 6: 17 و18و19). هذه هي الأشياء التـي إن مارسناها بجدية، فسوف نصير ورثة لملكوت السموات، بالمسيح يسوع، الـذي بـه ومعه الله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القدس، إلى دهر الدهور. آمین
عظة (92) الاستعداد والسهر (لو 12: 35-40)
“لتكن أحقاؤكم ممنطقة وسرجكم موقدة. وأنتم مثل أناس ينتظـرون سيدهم متى يرجع من العرس حتى إذا جاء وقرع يفتحون له للوقت. طوبى لأولئك العبيـد الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين. الحق أقول لكم إنه يتمنطـق ويتكئهم ويتقـدم ويخدمهم. وإن أتى في الهزيع الثاني أو أتى في الهزيع الثالث ووجدهم هكذا فطوبى لأولئك العبيد. وإنما اعلموا هذا: أنه لو عرف رب البيت في آية ساعة يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب. فكونوا أنتم إذا مستعدين لانه في ساعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان “.
يخاطب المرنم المسيح مخلص الجميع في موضع مـا قـائلا: ” وصـيتك واسعة جدا” (مز 118: 96 س). ويمكن لأي إنسان أن يرى إن أراد ـ من الوقائع ذاتها أن هذا القول صحيح، فإن الله لكي يقودنا إلى الخلاص يهيئ لنا سبلاً لا حصر لها غير محصاة، وهو يجعلنا نتعرف على كل عمل صالح، حتى إذا ما ربحنا إكليل التقوى لتتويج رؤوسنا، وتمثلنا بسلوك القديسين الـسامي، فإنـه يمكننا أن نصل إلى ذلك النصيب الذي أعد لهم بحسب ما هو ملائم. لهذا فهو يقول: ” لتكن أحقاؤكم ممنطقة ومصابيحكم موقدة ” ، فهو يكلمهم كأشخاص لهم اهتمام روحاني، ومرة أخرى يصف الأمور العقلية بتشبيهات ظاهرة ومرئية. لا يقل أحد إنه يريد أن تكون أحقاؤنا الجسدية ممنطقة، ولنا مصابيح موقدة في أيدينا. مثل هذا التفسير يناسب الغباء اليهودي فقط، ولكـن قولـه لـتكن أحقاؤكم ممنطقة يعني به استعداد الذهن أن يعمل باجتهاد في كل أمر جـدير بالمديح. مثل أولئك الذين ينكبون على الأتعاب الجسدية، وينشغلون بأعمـال شاقة يلزم أن تكون أحقاؤهم ممنطقة. والمصباح حسب الظاهر يمثل، يقظـة القلب والفرح العقلي. ونقول إن الذهن البشري يكون يقظاً عندما يطرد (عنه) كل ميل إلى الكسل الذي هو غالبا الوسيلة التي تؤدي إلى الاستعباد لكل أنواع الشرور، فحينما يستغرق في السبات، فإن النور السماوي الـذي فـي داخلـه يتعرض للخطر، بل وقد يكون قد وقع في الخطر فعلاً عاصفة ريـح عنيفة، لذلك يأمرنا المسيح أن نسهر، فلهذا تلميذه أيضا ينهضنا بقوله: “اصـحوا واسهروا” (1بط 5: 8)، وأكثر من ذلك فإن بولس الحكيم جدا أيضا يقول: ” استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح” (أف 5: 14).
لذلك، فمن واجب أولئك الذين يريدون أن يكونوا مشتركين فـي الحيـاة الأبدية، وهم يثقون بصورة يقينية أن المسيح سوف ينزل في الوقت المعين من السماء كديان، من واجب هؤلاء ألا يكونوا متراخين ويذوبون متحلّلين في الملذات، ولا يكونون كأنهم منسكبون ومنصهرون بانغماسهم فـي الـشهوات العالمية، بل بالأحرى لتكن إرادتهم ممنطقـة بـشدة، وأن يكونـوا متميـزين بغيرتهم في الاجتهاد في تلك الواجبات التي يسر بها الله كثيرا، ويجب أكثـر من ذلك أن يكون لهم ذهن ساهر ويقظ ويتميزون بمعرفة الحق وأن يكونـوا موهوبين بغني بإشعاع رؤية الله، حتى يحق لهم أن يفرحوا بهذا قائلين: “لأنك أنت يا رب ستضيء سراجي، أنت يا الهي ستنير ظلمتي” (مز 17: 28 س).
إن مثل هذا التعبير غير مناسب بالمرة للهراطقة، سواء كانوا من المتشيعين أو من معلميهم، لأن المسيح نفسه قال: “الظلمة أعمت عيونهم” (يو 12: 40)، وهذا ما يشرحه لنا بولس بقوله إن: ” إله هذا الدهر قد أعمـى أذهـان غـيـر المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة انجيل مجد المسيح” (2كو 4: 4 ). لـذلك فمـن الواجب علينا، أن نتحاشي بحرص كلماتهم الزائفة، وألا نحيد عن تعاليم الحق، وألا نفسح مجالاً في أذهاننا لظلمة الشيطان، بل بالأحرى نقترب مـن النـور الحقيقي، الذي هو المسيح، ونسبحه بمزامير ونقول: “أنر عيني لئلا أنام إلـى الموت” (مز 12: 3 س)، لأنه في حقيقة الأمر فإن السقوط من استقامة التعـاليم الصحيحة واختيار الكذب بدلاً من الحق، هو موت ـ ليس موت للجسد ـ بل هو موت للنفس. فلتكن إذن أحقاؤنا ممنطقة ومصابيحنا موقدة بحسب ما قـد قاله لنا الرب هنا. فلنعرف أيضا أن ناموس موسى الحكــم جـدا قـد أمـر الإسرائيليين بشيء من هذا القبيل، فقد كان يذبح في اليوم الرابع عـشـر مـن الشهر الأول حمل كمثال للمسيح (خر 12: 6)، “لأن فصحنا أيضا، المسيح قـد ذبح لأجلنا ” (1كو 5: 7)، بحسب شهادة المقدس جدا بولس، و”معلـم الأقـداس” موسى، بل بالحري الله نفسه بواسطته، أمرهم عندما يأكلون لحـم الخـروف قائلاً: “لتكن أحقاؤكم ممنطقة وأحذيتكم في أرجلكم وعـصيكم فـي أيـديكم” (خر 12: 11). لذلك أنا أؤكد أنه من الواجب على الذين هم شركاء المسيح، أن يحذروا الكسل العقيم بل بالحري ألا تكون أحقاؤهم غير ممنطقة وسائبة، ولكن أن يكونوا مستعدين بابتهاج أن يقومـوا بكـل الأعمـال والأتعـاب اللائقـة بالقديسين، وإلى جوار ذلك أن يسرعوا بنشاط وفرح إلى حيثما يقودهم ناموس الله. ولهذا السبب فقد أوصى بما هو مناسـب جـدا لهـم أن يلبسوا ثيـاب المسافرين (في الفصح)”.
فقد علمنا المسيح أن ننتظر مجيئه ثانية من السماء لأنه سيأتي فـي مجـد الآب مع الملائكة القديسين، ولذلك قال لنا: “وأنتم تشبهون أناسـا ينتظـرون سيدهم متى يرجع من العرس، حتى متى جاء وقرع يفتحون له الوقـت”. لأن المسيح سوف يرجع كما من عرس، ومن هذا يظهر بوضوح أن الله يسكن في بهجة دائمة كما يليق به. لأنه لا توجد في السماء أي أحزان بالمرة، حيـث لا يستطيع شيء أن يحزن تلك الطبيعة التي لا تقبل التألم، أو التأثر بأي نوع من الأوجاع بالمرة.
لذلك فعندما يأتي ويجدنا ممنطقين وساهرين وقلبنا مستنير، عندئذ فإنه في الحال سوف يجعلنا مباركين، لأنه “يتمنطق ويخدمهم”، ومن هذا نتعلم أنـه سوف يكافئنا على أتعابنا، وبسبب أننا نبدو مجهدين من التعب، فإنه يريحنـا ويضع أمامنا موائد روحانية، ويبسط المائدة السخية لمواهبه الخاصة.
ويقول: ” وإن أتى في الهزيع الثاني أو أتي في الهزيع الثالث فطوبي لهم”. أرجوكم أن تلاحظوا هنا، اتساع الكرم الإلهي وسخاء لطفه مـن نحـونـا، لأنـه يعرف حقا طبيعتنا، والاستعداد الذي به ينحرف عقل الإنسان نحو الخطية. إنـه يعلم أن قوة الشهوة الجسدية تستبد بنا، وأن ارتباكات هذا العالم ـ كما لو كانـت – تجرنا ضد إرادتنا بالقوة، وتقود الذهن إلى كل ما هو غير لائق، ولكن لأنـه هو صالح، فإنه لم يتركنا لليأس بل على العكس، يشفق علينا، وقـد أعطانـا التوبة كدواء للخلاص، لهذا فطوبى لهم. والآن لابد أنكم تريدون فهـم معنـى هذه الكلمات بوضوح. إن الناس عادة يقسمون الليل إلى ثلاث أو أربع فترات (أهزعة). لأن حراس أسوار المدينة، الذين يراقبون تحركـات العـدو، بعـد قيامهم بالحراسة ثلاث أو أربع ساعات، يسلمون السهر والحراسة إلى آخرين. هكذا بالنسبة لنا، فإنه يوجد ثلاث مراحل: الأولى، هي التي نكون فيها أطفالاً، والثانية هي التي نكون فيها شبابا، والثالثة هي التي نصل فيها إلى الشيخوخة. والآن فأول هذه المراحل التي فيها كنا لا نزال أطفالاً، لا نحاسب عنها أمـام الله، بل هي مرحلة تحسب مستحقة للعفو، بسبب أن العقل يكون فيها ناقـصـا، والفهم ضعيفا. أما الثانية والثالثة، اللتان هما مرحلتا الرجولـة والـشيخوخة، فنحن يكون علينا فيهما واجب الطاعة الله والعيشة بالتقوى، بحـسـب مـسرته الصالحة. لذلك، فكل من يوجد ساهرا متمنطقا حسنا ـ سواء كـان لا يـزال شابا أم قد صار شيخاً ـ فإنه سوف يكون مغبوطا، لأنه سوف يحسب مستحقاً للحصول على مواعيد المسيح.
وبوصيته لنا أن نسهر، فإنه يضيف أيضا لأجل سلامتنا، مـثلاً واضـحا بسيطا، وهذا (المثل) يرينا بطريقة رائعة جدا، أنه من الخطر أن نسلك بغيـر ذلك. لأنه يقول: “وإنما اعلموا هذا أنه لو عرف رب البيت في أية ساعة يأتي السارق لسهر ولم يدع بيته ينقب، فكونوا أنتم إذن مستعدين لأنه في سـاعة لا تظنون يأتي ابن الإنسان”. وكما قال تلميذه: ” سيأتي كلص في الليل يوم الرب الذي فيه تزول السموات بضجيج وتنحل العناصر محترقة وتحتـرق الأرض والمصنوعات التي فيها، ولكننا ننتظر بحسب وعده سموات جديـدة وأرضـا جديدة” (2بط 3: 10، 13)، ويضيف إلى هذا: “فبما أن هذه كلها تنحل، فأي أناس يجب أن تكونوا أنتم في سيرة مقدّسة وبلا لوم أمامه؟ ” (2بط 3: 11). لأنه لا يعلم أحد أبدا وقت انحلال كل الأشياء، الذي فيه سيظهر المسيح من فوق، مـن السماء، ليدين المسكونة بالعدل، عندئذ سوف يعطي أكلـيـلاً لا يفنـي للـذين يسهرون، لأنه هو المعطي، وموزع وواهب العطايا الإلهية، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.
عظة (93) الوكيل الأمين الحكيم (لو12: 41ـ 48)
” فقال له بطرس: يا رب ألنا تقول هذا المثل أم للجميع أيضاً؟. فقـال الرب: فمن هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده على خدمه ليعطيهم العلوفة فـي حينها؟. طوبى لذلك العبد الذي إذا جاء سيدة يجده يفعل هكذا!. بالحق أقول لكم إنه يقيمه على جميع أمواله. ولكن إن قال ذلك العبد في قلبه: سيدي يبطئ قدومه فيبتدئ يـضرب الغلمان والجواري ويأكل ويشرب ويسكر. يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظرة وفي ساعة لا يعرفها فيقطعه ويجعل نصيبه مع الخائنين. وأما ذلك العبد الذي يعلـم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيضرب كثيراً. ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات يضرب قليلاً. فكل من أعطي كثيرا يطلب منه كثير ومن يودعونه كثيرا يطالبونه بأكثر”.
إنه أمر صالح ويؤدي إلى خلاصنا أن نوجه نظرة سريعة نفاذة من عقلنا إلى كلام الله، لأنه مكتوب عن الكلمات التي يقولها الله: ” من هو حكيم حتى يفهم هذه الأمور، أو فهيم حتى يعرف معناها ” (هو 14: 9س)، لأن مجرد السماع وقبول الكلمة المنطوقـة في الأذن، هو أمر مشترك بين الناس: للحكماء ولغير الحكماء، لكن عادة النفاذ العميق إلى الأفكار النافعة يوجد فقط لدى من هم بالحق حكماء. لذلك فلنطلب هذا الأمر مـن المسيح، لنقتدي بالطوباوي بطرس ذلك التلميذ المختار، ذلك الوكيل الأمين، والمؤمن الحقيقي، الذي عندما سمع المسيح يقول كلاما له منفعة عظيمة لهم، طلب أن يشرح له (الرب) ما قاله، ولم يدع الأمر يعبر بدون فهم، لأنه لم يكن قد أدرك معناه بوضـوح بعد، لأنه قال: “يا رب ألنا تقول هذا المثل أم للجميع أيضا؟ ” (لو 12: 14). إنه يسأل: هل هذا قانون عام يسري على الكل بالتساوي، أم هو يناسب فقط أولئك الـذين هـم أعلى من الباقين؟ فما الذي أزعج التلميذ الحكيم، أو ما الذي جعله يرغـب أن يتعلم أمورا كهذه من المسيح؟ لذلك فسوف نناقش هذه النقطة أولاً.
إذن توجد بعض وصايا تناسب فقط أولئك الـذيـن قـد وصـلوا إلـى الكرامـات الرسولية، أولئك الذين امتلكوا معرفة أكثر من المعتاد وامتلكوا فضائل روحية أعظم، بينما هناك وصايا أخرى تخص من هم في حالة أدنى، ويمكننا أن نرى ممـا كتبـه المغبوط بولس إلى بعض تلاميذه أن هذا الكلام الصحيح ـ بحسب ما قلته: “سقيتكم لبنا لا طعاما لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون، بل والآن أيضا لا تستطيعون، أمـا الطعام القوي فللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر ” (كو 3: 2)، (عب 5: 14). فمثلاً كما أن الأحمال الثقيلة جـدا يمكـن أن يحملها أشخاص لهم بنية قوية جدا، وهذا ما لا يقدر عليه ذوو البنية الضعيفة، هكـذا يمكننا أن نتوقع بصواب من أصحاب الذهن القـوي أن يتممـوا الوصـايا البسيطة والسهلة جدا والخالية من كل صعوبة، فإنها تناسب أولئك الذين لم يصلوا بعد إلى هذه القوة الروحية. لذلك فإن الطوباوي بطرس إذ فكر في نفسه في قوة الكلام الذي قالـه المسيح، سأل بصواب، هل يشير كلام الرب إلى كل المؤمنين، أم هم وحدهم أي الذين دعوا، وخاصة أولئك الذين شرفوا بعطية السلطات الرسولية؟
وماذا كان جواب ربنا؟ إنه استخدم مثالاً واضحا صريحا جدا، ليظهر أن الوصية موجهة بنوع خاص إلى أولئك الذين يشغلون مركزا أكثر كرامة، وقد قبلوا في رتبـة المعلمين. لأنه يقول: “فمن هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده علـى خدمـه ليعطيهم طعامهم في حينه” (لو 12: 42). إنه يقول: ” لنفترض رب بيت كان مزمعـا أن يسافر في رحلة، أوكل لواحد من عبيده الأمناء مهمة تدبير كل بيته، لكي يعطي أهل البيت (أي خدمه)، الطعام المستحق لهم في حينه. ويقول، لذلك عندما يعود إلى بيته، إن وجده يفعل هكذا كما أمره، سيكون ذلك العبد مغبوطا جدا ويقول إنه سوف يقيمـه على جميع أمواله. ولكن إن كان مهملاً وكسولاً ويسر بضرب العبيد رفاقـه ويأكـل ويشرب مستسلما لأهوائه وشهواته، فحينما يأتي سيد ذلك العبد في يـوم لا ينتظـره، وفي ساعة لا يعرفها فإنه سيشقه من وسطه، أي أنه سيعاقبه بأشر عقوبة”.
هذا هو المعنى البسيط والواضح للفقرة، والآن إن ثبتنا ذهننا بدقـة فـي الـنص، سنرى ما هو المقصود به، وكيف أنه نافع لأولئك الذين دعوا إلى الرسولية، أي إلـى وظيفة المعلم. لقد أقامهم المخلص كوكلاء على خدمه ـ أي على أولئك الـذيـن تـم ربحهم بواسطة الإيمان لكي يعرفوا مجده ـ أناس أمناء ولهم فهم عظـيم ومتعلمـين جيدا في التعاليم المقدسة. وقد أقامهم وأمرهم أن يعطوا العبيد رفقاءهم ما يحق لهم من الطعام، وذلك ليس اعتباطا وبدون تمييز، بل بالأحرى في الوقت المناسب وأقصد به الطعام الروحي كما يكفي لكل فرد ويناسبه، لأنه لا يليق أن نقدم تعليما عن كل النقاط لكل الذين قد آمنوا بالمسيح، لأنه مكتوب: “معرفة اعرف نفوس قطيعـك” (أم 27: 23 س). لأن الطريقة التي بها نثبت في طريق الحق من قد بدأ الآن أن يصير تلميذا هي مختلفة تماما، إذ أننا نستعمل فيها تعليما بسيطا لا يكون فيه شيء عميق أو صعب الفهـم، ناصحين إياه أن يهرب من ضلال تعدد الآلهة، وبطريقة مناسـبة نقنعـه أن يعـرف اسطة جمال الأشياء المخلوقة، الصانع والخالق العام الذي هو واحد بالطبيعة، وهو الله بالحقيقة. وتلك الطريقة تختلف عن الطريقة التي تعلم بها أولئك الذين هم أكثر ثباتا في الذهن، ويقدرون أن يفهموا ما هو الغلو والعمق والطول والعرض، وأن يدركوا تعريفات اللاهوت الفائق. لأنه كما سبق وقلنا: “وأما الطعام القوي فللبالغين”.
لذلك فمن يقسم لرفقائه في العبودية بحكمة، في الوقت المناسب نصيبهم بحـسـب احتياجهم أي طعامهم، فإنه يكون مغبوطا جدا بحسب كلمة المخلص، لأنه سيحسب مستحقا لأمور أعظم، وسوف ينال مكافأة مناسبة لأمانته. إنه يقول ” لأنه يقيمه علـى جميع أمواله”. وهذا قد علمنا إياه المخلص في موضع آخر، حيث يمتدح العبد الأمين والنشيط بقوله: “نعما أيها العبد الصالح والأمين، كنت أمينا في القليل فأقيمك علـى الكثير، أدخل إلى فرح سيدك” (مت 25: 21).
ويقول الرب إنه لو أهمل واجبه في أن يكون مجتهدا وأمينا، وازدرى بالسهر في هذه الأمور كأن السهر ليس مهما، وجعل ذهنه يسكر بالاهتمامات الدنيوية، وسقط في سلوك غير لائق، فيتسلط بالقوة، ويظلم أولئك الخاضعين له، ولا يعطـيـهم نصيبهم، فإنه سيكون في قمة التعاسة. لأني أظن أن هذا هو المقصود بأنـه يقطـع. ويقـول ويجعل نصيبه مع الخائنين”. لأن كل من أساء إلى مجـد المـسيح، أو تجاسـر أن يستخف بالقطيع المؤتمن على رعايته، فإنه لا يختلف من أي ناحية عن أولئك الذين لم يعرفوا الرب أبدا، ومثل هؤلاء الأشخاص سيحسبون بحق ضمن أولئـك الـذين لـم يعرفوا الرب أبدا. ومثل هؤلاء الأشخاص سيحسبون بحق ضمن أولئك الذين ليس لهم محبة نحو الرب، لأن المسيح أيضا قال ذات مرة للمغبوط بطرس: “يا سمعان بن يونا، أتحبني! ارع خرافي، وارع غنمي” (يو 21: 16 ، 17). لذلك إن كان من يرعـى خرافـي يحبها، هكذا بالطبع فمن يهملها ويترك الخراف التي قد أؤتمن عليها بدون رعاية، فإنه يبغضها، وإن أبغضها فسيعاقب، ويكون عرضة للدينونة المحكوم بهـا علـى غيـر المؤمنين (الخائنين)، لأنه يدان بسبب إهماله وازدرائه، وهكذا كان ذلـك الـذي نـال الوزنة ليتاجر بها في الروحيات ولم يفعل، بل بالعكس أحضر ما قد أعطي له بدون ربح قائلاً ” يا سيد عرفت أنك إنسان قاس تحصد حيث لم تزرع، وتجمع من حيث لم تبـذر، فخفت ومضيت وأخفيت وزنتك في الأرض، هوذا الذي لك ” (مت 25: 24 -25). لكن الذين أخذوا الخمس وزنات أو أكثر منها، وتعبوا وأحبوا الخدمة، قد شرفوا بكرامات مجيدة لأن واحدا منهم سمع القول: “ليكن لك سلطان على عشر مدن” (لو 19: 17 ـ19) بينمـا ذلك العبد المستهتر والكسول لاقي أقصى دينونة. لذلك فهو خطر أو بالحري يسبب هلاك الناس، أن يكون الإنسان مهملاً في تأدية واجبات الخدمة، ولكن تأديتها بغيرة لا تكل يجلب لنا الحياة والمجد. وهذا يعني أن نتكلم مع العبيد رفقائنا بطريقـة سـليمة وبدون خطأ في الأمور التي تخص الله، وكل ما من شأنه أن ينفعهم في الوصول إلى المعرفة والمقدرة على السلوك باستقامة. والمغبوط بطرس أيضا يكتب إلـى بعـض الأشخاص قائلاً: “ارعوا رعية الله التي بينكم، ومتى ظهر رئيس الرعـاة تنـالون مكافأتكم” (انظر 1بط 5: 2-4).
ولأن بولس أيضا يعرف أن الكسل هو باب الهلاك، يقول: “ويل لي إن كنـت لا أبشر” (1کو 9: 16).
وكون تلك العقوبة المرة والحتمية تهدد كل من هم كسالي في هذا الواجب، هذا ما أظهره المخلص في الحال بإضافة مثالين واحدا بعد الآخر فقال: “لأن العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته فيضرب كثيرا، ولكن الـذي لا يعلـم ويفعل ما يستحق ضربات يضرب قليلاً”. والآن فإن الذنب لا جدال فيه في حالة مـن عرف إرادة سيده لكنه أهملها بعد ذلك، ولم يفعل ما كان يجب عليه أن يعمله. فإن هذا ازدراء واضح، لذلك يستحق ضربات كثيرة، لكن لأي سبب أوقعت ضـربات قليلـة على من لم يعرف إرادة سيده ولم يفعلها ! لأنه ربما يسأل أحد، كيف يمكن لمن لـم يعرف إرادة سيده أن يكون مذنبا؟ السبب، هو لأنه لم يعرفها رغم أنه كان في مقدوره أن يتعلمها. لكن إن كان الذي توقع عليه ضربات كثير بعدل وهو الذي عـرف إرادة سیده واحتقرها؟ ” فكل من أعطي كثيرا يطلب منه كثيـرا، ومـن يودعونـه كثيـرا يطالبونه بأكثر” (لو 12: 48).
لذلك، فمن يعلمون دينونتهم كبيرة جدا، وهذا أوضحه تلميذ المسيح، بقولـه: “لا تكونوا معلمين كثيرين يا إخوتي عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم” (يع 3: 1). لأن إعطاء المواهب الروحية يكون بسخاء لأولئك الذين هم رؤساء الشعب، لأنه هكذا كتب بولس الحكيم أيضا في مكان ما إلى تيموثاوس المغبوط: “ليعطك الرب فهما في كل شيء” (2تی 2: 7) و ” لا تهمل الموهبة التي فيك التي أعطيت لك بوضع يدي” (انظر 2تی 1: 6). فهؤلاء الذين أعطاهم مخلص الكل كثيرا هكذا، يطالبهم بكثير. وما هي الفضائل التي يطلبها؟ الثبات في الإيمان، سلامة التعليم، أن يكونوا راسخين جـدا فـي الرجـاء، صابرين بلا تزعزع ولهم قوة روحية لا تغلب، فرحين وشجعان في كل إنجاز ممتاز جدا، لكي بذلك نكون أمثلة للآخرين في الحياة الإنجيلية لأننا إن عشنا هكذا، فالمسيح سوف ينعم علينا بالإكليل، الذي به ومعه يليق الله الآب التسبيح والسلطان، مع الروح القدس، إلى أبد الآبدين. آمين.
عظة (94) جئت لألقى نارا على الأرض (لو 12: 49 – 53)
” جئت لألقي ناراً على الأرض فماذا أريد لو اضطرمت؟. ولي صبغة أصطبغها وكيف انحصر حتى تكمل؟. أتظنون أني جئت لأعطي سلاما علـى الأرض؟ كلا أقول لكم بل انقساماً. لأنه يكون من الآن خمسة في بيت واحد منقسمين: ثلاثة على اثنين واثنان على ثلاثة. ينقسم الأب على الابن والابن على الأب والأم على البنت والبنت علـى الأم والحماة على كنتها والكنة على حماتها “.
الله الآب أرسل لنا الابن من السماء لأجـل خـلاص الكـل. لأنـه قـد أعطـى للإسرائيليين الناموس كمعين لهم وذلك بحسب الكتاب، وأيضا تحدث إليهم بواسـطة الأنبياء القديسين عن تلك الأشياء التي كانت نافعة لخلاصهم، وقد وعدهم بـالخلاص الذي بواسطة المسيح. لكن عندما جاء الزمان الذي كان ينبغي أن تتم فيه الأشياء التي تنبأ بها الأنبياء منذ القديم، أشرق علينا الرب الذي هو الله. وهو يخبرنا سـبب ذلـك بهذه الكلمات: ” جئت لألقي نارا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت!”. لذلك تعالوا لنفحص ما هي طبيعة هذه النار التي يتحدث عنها هنا. هل هي نافعة لمن هم علـى الأرض؟ هل هي لأجل خلاصهم؟ أم أنها تعذب الناس وتسبب هلاكهم مثل تلك النار المعدة لإبليس وملائكته؟
لذلك نحن نؤكد أن النار التي أرسلها المسيح هي لأجل خلاص البشر ونفعهم. وقد تفضل الله ومنحنا أن تمتلئ قلوبنا بها. لأن النار هنا رسالة الإنجيـل المخلصة وقوة وصاياه. فنحن الذين على الأرض الذين كنا باردين وأموات بـسبب الخطيـة، ونجهل ذاك الذي هو الله بالطبيعة وبالحق، تضرم فينا هذه النار حياة التقوى ونصير “حارين في الروح”، بحسب تعبير الطوباوي بولس. وبالإضافة إلى هذا نصير نحـن شركاء الروح القدس الذي هو كنار داخلنا، لأننا قد اعتمدنا بالنار والـروح القـدس، لأننا قد عرفنا الطريق إلى هذا بما يقوله المسيح لنا، في هذه الكلمات: ” الحق الحـق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو 3: 5).
علاوة على هذا، فمن عادة الكتاب الموحى به من الله أن يعطي أحيانا اسم النـار للكلمات الإلهية والمقدسة وللفاعلية والقوة التي بالروح القدس، والتي بها نصير كمـا قلت: “حارين في الروح”. لأن أحد الأنبياء القديسين تكلم الله فيه من جهـة المسيح مخلصنا هكذا: ” يأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تـــرون به، هوذا يأتي قال الرب، ومن يحتمل يوم مجيئه، أو من يثبت عند ظهوره، لأنه مثل نار الممحص، ومثل أشنان القصار، فيجلس كمن هو منقيـا وممحـصا… كالفـضة وكالذهب” (ملا 3: 1-3 س). وهو هنا يقصد الجسد المقدس بالحق وغير الدنس، الذي قد ولد من العذراء القديسة بواسطة الروح القدس بقوة الآب، لأنه هكـذا قيـل للعـذراء المباركة: ” الروح القدس يحل عليك وقوة العلى تظللك” (لو 1: 35). وهو دعاه “ملاك العهد” لأنه يعرفنا مشيئة الآب الصالحة، ويخدم هذه المشيئة بالنسبة لنا. لأنه هو نفسه قال لنا: “لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي” (يو15: 15). وأيضا إشعياء النبي يكتب هكذا من جهته: “لأنه يولد لنا ولد نعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه ملاك المشورة العظمى” (إش9: 6س). لذلك كما أن الذين يعرفون كيف يتقون الذهب والفضة، فإنهم يذيبون الشوائب التي فيهما باستخدام النار، كذلك أيضا مخلص الكـلينقى قلوب كل الذين قد آمنوا به، بواسطة تعاليم الإنجيل بقوة الروح.
وفضلاً ذلك قال إشعياء النبي أيضا إنه، ” رأى رب الجنود جالسا على كرسي عال ومرتفع، وحوله وقف السيرافيم يسبحونه” بعد ذلك قال هو لنفسه: “ويل لي اني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينـي قـد رأتا الملك رب الجنود” (إش 6: 1 و2و3و5). ولكنه يضيف إلى هذا أنه “طار الي واحد من السيرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح، ومس بها فمي وقال لن هذه قد مست شفتيك فانتزع ليمك وكفر عن خطينك” (إش 6: 6 و7)، فأي تفسير إذن يجب أن نضعه للجمرة التي مست شفتي النبي وطهرته من كل خطية؟ من الواضح أنهـا عن رسالة الخلاص، وإقرار الإيمان بالمسيح، فإن كل من يعترف به بفمه يتطهر تمامـا وفي الحال. وهذا الأمر يؤكده لنا بولس قائلاً: ” لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت” (رو 10: 9).
لذلك نحن نقول إن قوة الرسالة الإلهية تشبه جمرة حية وتشبه النار. ورب الكـل
قال في موضع ما لإرميا النبي، ” هأنذا جاعل كلامي في فمك نارا”، ” وهذا الـشعب حطبا فتأكلهم” (إر 5: 49) وأيضا “أليس كلامي هكذا كنار يقول الـرب” (إر 23: 29 س).
لذلك فبحق قال لنا ربنا يسوع المسيح، “جئت لألقي نارا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت؟” (لو 12: 49). لأن بعضا من الجمع اليهودي آمنوا به، وباكورة هؤلاء كانوا التلاميذ القديسين. والنار إذ تشتعل مرة فإنها حالاً ما تمسك بكل العالم، وفي الحـال يصل التدبير إلى كماله سريعا، أي أنه قد احتمل آلامه الثمينة على الصليب وأمـر رباطات الموت أن تتوقف. لأنه قام في اليوم الثالث من بين الأموات. وهو يعلمنا هذا بقوله: ” ولي صبغة أصطبغها وكيف أنحصر حتى تكمل!” (لو 12: 50). ويقصد بصبغته، موته بالجسد، ويقصد بكونه ينحصر بسببها، أنه كان حزينا ومضطربا إلى أن اكتملت، لأنه ما الذي كان سيحدث حينما تكتمل؟ الذي كان سيحدث هـو أن رسالة الإنجيل المخلصة يكرز بها ليس في اليهودية فقط. وهو يقارن هذا بالنار عندما يقول: ” جئت لألقي نارا على الأرض”، بل ينبغي أن تنتشر الآن إلى العالم كله، لأن الكرازة بوصايا وبمجد معجزاته الإلهية كان منحصرا في اليهودية فقط قبل صليبه الثمين وقيامته من الأموات، ولكن بسبب أن إسرائيل أخطأوا إليه، إذ قتلـوا رئـيـس الحياة فإنه قام سالبا القبر الغنيمة التي كان قد اغتنمها. وفي الحال أعطى وصية لرسله القديسين قائلاً: ” اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمـدوهم باسـم الآب والابـن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيكم به” (مت 28: 19 ، 20). لذلك ها أنتم ترون أن تلك النار الإلهية والمقدسة قد انتشرت في كل الأمم بواسطة الكارزين القديسين.
وقد تحدث المسيح عن الرسل القديسين والبشيرين، بواسطة أحـد الأنبيـاء فـي موضع ما فقال: ” وسيحدث في ذلك اليوم أني أجعل رؤوس الألوف ليهوذا كمصباح نار بين الحطب وكمشعل نار بين الحزم، فيأكلون كل الشعوب حولهم عن اليمين وعن اليسار” (زك 12: 6). وكأنهم أكلوا الشعوب كنار واغتذوا بالأرض كلها، وأشعلوا كـل ومع سكانها، الذين ـ كما قلت ـ كانوا باردين وكانوا يعانون من موت الجهل والخطية. هل تريد أن ترى تأثيرات هذه النار الإلهية والعقلية؟ اسمع إذن مرة أخرى كلماتـه: ” أتظنون أني جئت لأعطي سلاما على الأرض، كلا أقول لكم، بل انقساما ” (لو 12: 51).
ومع ذلك فالمسيح هو سلامنا بحسب الكتب ” أنه نقض حائط السياج المتوسط،… لكي يوحد الشعبين في إنسان واحد جديد، صانعا سلاما، ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الآب” (أف 2: 4، 15). لقد وحد الأشياء السفلي بالأشياء العليا، فكيف يكون أنه لم يـات ليعطي سلاما على الأرض؟ فماذا نقول إذن عن هذه الأشياء؟ ذلك السلام هو مكرم، وهو بالحق أمر سامي جدا، ذلك أنه معطى لنا من الله لأن الأنبياء أيضا يقولون: “يارب أعطنا سلامك لأن كل شيء قد أعطيتنا ” (إش 26: 12س). لكن ليس كـل سـلام هـو بالضرورة يخلو من العيوب. لأنه يوجد أحيانا سلام غير مضمون، مثل هذا السلام يفصل عن محبة الله أولئك الذين لا تمييز لهم ولا فحص عندهم بل هم يرفعون مـن قيمة هذا السلام أكثر مما يستحق. ومثلاً فإن التصميم على تحاشي الأشرار، وعلى أن نرفض أن تكون في سلام معهم وأعني به أن لا نقبل أن نشاركهم في نفس عواطفهم ـ هو شيء مفيد ونافع لنا. وبنفس الطريقة فإن الاتجاه المضاد هو مـؤذي لأولئـك الذين آمنوا بالمسيح وأدركوا معرفة سره، فمن غير النافع لمثل هؤلاء أن يرتـضوا اتباع نفس المشاعر مثل أولئك الذين ابتعدوا عن الطريق المستقيم، وسقطوا في شبكة الضلال الوثني، أو أمسكوا في حبائل الهرطقات الخبيثة، إنه لأمر كريم أن نقاوم مثل هؤلاء، وأن نتهيا للحرب ضدهم وأن نفتخر بالتمسك بمشاعر عكس مشاعرهم. وحتى إن كان ذلك الذي لا يؤمن هو أب، فيكون الابن غير ملام عنـدما يناقـضه ويقـاوم آراءه.
وبنفس الطريقة أيضا لو كان الأب مؤمنا ومخلصا لله، لكن له ابن عاصـي ولـه دوافع شريرة وهو يقاوم مجد المسيح، فإن الأب يكون أيضا غير ملام لـو تجاهـل العواطف الطبيعية من الأبوة له. ونفس الوضع يكون من جهة الأم والابنـة، والكنـة والحماة. لأنه من الصواب أن أولئك الذين هم في ضلال ينبغي أن يتبعوا ذوي التفكير الصحيح، وليس العكس، إن أولئك الذين اختاروا أن تكون لهم مشاعر صحيحة ولهم معرفة سليمة بمجد الله يجب ألا يستسلموا للأشرار.
وهذا أعلنه المسيح لنا أيضا بطريقة أخرى فقال: ” من أحب أبا أو أما أكثر منـي فلا يستحقني ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني” (مت۱۰: ۳۷). لذلك عنـدما تنكر أباك بالجسد لأجل تقواك تجاه المسيح، فإنك ستقتني لك أبا أي الآب الذي هو في السموات. ولو أنك تخليت عن أخيك لأنه أهان الله برفضه أن يخدمه، فالمسيح سيقبلك كأخ له، لأنه مع إنعاماته الأخرى قد أعطانا هذه العطية أيضا قائلا: “أخبر باسـمك إخوتي” (مز 21: 22 س). اترك أمك بحسب الجسد واتخذ لك تلك التي هي فوق، أورشليم السماوية ” التي هي أمنا جميعا” (غلا 4: 26). وهكذا سوف تجد نسبا مجيدا وعاليا فـي أسرة القديسين. ومعهم ستصير وارثا لمواهب الله، التي لا يمكن للعقل أن يدركها ولا للسان أن يخبر بها، التي يمكن أن نحسب أهلاً لها بنعمة ورأفـة ومحبـة المـسيح، مخلصنا كلنا، الذي به ومعه لله الآب يليق التسبيح والسلطان مع الروح القـدس إلـى دهر الدهور آمین.
عظة (95) تمييز زمن المسيح (لوقا 12: 54 – 59)
“ثم قال أيضا للجموع: إذا رأيتم السحاب تطلع مـن المـغـارب فللوقت تقولون: إنه يأتي مطر، فيكون هكذا. وإذا رأيتم ريح الجنوب تهب تقولون: إنه سيكون حر. فيكون. يا مراؤون تعرفون أن تميزوا وجه الأرض والسماء وأما هـذا الزمـان فكيف لا تميزونة؟. ولماذا لا تحكمون بالحق من قبل نفوسكم؟. حينما تذهب مع خصمك إلى الحاكم ابذل الجهد وأنت في الطريق لتتخلص منه لئلا يجرك إلى القاضي ويسلمك القاضي إلى الحاكم فيلقيك الحاكم في السجن. أقول لك: لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير”.
أولئك الأطباء المدققون في عملهم والذين صاروا ماهرين بالممارسـة الكثيـرة، يشفون المرضى من أمراضهم باستخدام أنواع متعددة من الأدوية، والتي بواسطتها يسكنون الأم الناس المبرحة، جامعين من كل الأصقاع كل ما من شأنه أن يفيـدهم. وهذا ما يفعله المسيح مخلص الكل هنا أيضا، لأنه طبيب الأرواح وهو يخلصنا مـن أمراض النفس، لأنه قال أيضا بواسطة واحد من الأنبياء القديسين: “ارجعـوا أيهـا البنون العصاة فأشفي عصيانكم” (إر 3: 22). وإذ قد عرف النبي إرميا هذا الأمر، قـدم توسلاته إليه بهذه الكلمات: ” اشفني يا رب فأشفى، خلصني فاخلص لأنك أنت مجدي” (ار 17: 14 س).
لذلك لاحظوا كيف يعد لنا دواء النصح، ليس كما اعتاد أن يوجه كلاما مباشرا، بل إن جاز القول يخلطه، وكما لو كان ينسج معه صورا توضيحية مأخوذة مـن أمثلـة، ليجعل الحديث أكثر نفعا جدا، لأنه يكلم الجموع قائلاً: ” إذا رأيتم السحاب تطلع مـن المغرب فللوقت تقولون إنه يأتي مطر فيكون هكذا، وإذا را رأيتم ریح الجنـوب تـهـب تقولون إنه سيكون حر فيكون “. لأن الناس يركزون انتباههم على أشياء مـن هـذا النوع، وبمداومة الملاحظة والممارسة يخبرون مقدما متى سيسقط المطر أو بحـدوث عواصف شديدة. ويلاحظ المرء أن البحارة على الأخص ماهرون جدا في هذا الأمر. لذلك فهو يقول، ألا يليق حسنا بأولئك الذين يمكنهم أن يحسبوا أشياء من هذا النـوع، ويتنبأون إن كانت العواصف على وشك الحدوث، أن يثبتوا نظرة نفاذة من عقـولهم على الأمور ذات الأهمية أيضا وما هي هذه الأمور؟
إن الناموس أظهر مقدما سر المسيح، وأنه بالتأكيد سوف يشرق في الأزمنة الأخيرة على سكان الأرض، وأنه سيصير ذبيحة لأجل خلاص الجميـع. لأن الناموس قـد أوصى أيضا بذبح حمل كمثال له نحو المساء، وعند إضاءة المصابيح (خر 12: 6) نفهم أنه عندما يميل العالم إلى نهايته مثل النهار ـ فإنه ستتم الآلام العظيمة والثمينة والخلاصية حقا، وينفتح باب الخلاص على مصراعيه لأولئك الذين يؤمنـون بـه، ويكون نصيبهم سعادة غامرة. لأننا نجد أيضا المسيح يدعو العروس في نشيد الأنشاد والتي تمثل شخصية الكنيسة ويصفها بتلك الكلمات: “قومي، تعالي يـا حبيبتـي يـا جميلتي، لأن الشتاء قد مضى والمطر مر وزال، الزهور ظهرت في الأرض وبلـغ أوان القضب” (نش 2: 10 -12). لذلك كما قلت، إن سلاما كالنهر الهادئ كان على وشك أن يظهر بالنسبة لمن يؤمنون به. لكن ضد هؤلاء الذين فـي عـظـم خـبـثهم ازدروا بصلاحه ورفضوا المخلص، هناك غضب وشقاء مقضي به، وكما لو كان شتاء مـن العذاب والعقوبة، وذلك من العاصفة التي سيكون من العسير الإفلات منها، لأنهم كما يقول المزمور: “نار وكبريت، وريح السموم، نصيب كأسهم” (مز 10: 6 س). ولمـاذا هذا؟ لأنهم كما قلت رفضوا النعمة التي هي بالإيمان، ولذلك فذنب خطاياهم لا يمكن أن يمحى، وينبغي لهم أن يتحملوا ـ كما يستحقون ـ العقوبة اللائقة لمـن يحبـون الخطية. لأنه هكذا عندما يكلم اليهود يقول: ” الحق أقول لكم إن لم تؤمنوا إني أنا هو تموتون في خطاياكم” (يو8: 24).
وكون الأنبياء الطوباويون أيضا بشروا بسر المسيح بطرق متنوعة، فهـذا مـا لا يمكن لأحد أن يتشكك فيه. لأن واحدا منهم هكذا يتكلم باسم شخص الله الآب قائلاً: ” ها أنا واضع في صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة وكل من يؤمن به لا يخـزى” (رو 9: 33 ، إش 8: 14). لأن أولئك الذين هم في خطاياهم، هم مملوؤن خزيا، لأنه هكـذا قيل في موضع ما عن الإسرائيليين الذين انتهكوا ناموس موسى: “كخزي السارق إذا وجد هكذا يكون خزي بني إسرائيل” (إر 2: 26). لكن الذين هم في المسيح بالإيمـان، ويفلتون من دنس الخطية هؤلاء يكونون ليس فقط غير مملوءين بالخزي، بل تكـون لهم تلك الدالة التي تليق بالأحرار.
لذلك يقول، كان من واجبهم، نعم من واجبهم، لكونهم يملكون الفهم ويقدرون أن يميزوا وجه السماء والأرض أن يفحصوا الأمور المستقبلة أيضا، وألا يدعوا تلـك العواصف التي تأتي على هذا العالم أن تفلت من ملاحظتهم، لأنه ستكون ريح جنوبية ومطر، أي عذاب ناري لأن ريح الجنوب ساخنة وإنزال تلك العقوبة شديد وحتمـي، مثل المطر النازل على من يباغتهم فجأة. لذلك لا ينبغي لهم أن يدعوا زمن الخلاص يعبر عليهم دون أن ينتبهوا له، ذلك الزمن الذي جاء فيه مخلصنا، الزمن الذي فيـه وصلت معرفة الحق الكاملة إلى البشرية، وأشرقت النعمة التي تطهر الخطاة. وذلك، ليس بواسطة الناموس، لأن ” الناموس لا يكمل شيئا ” (عب 7: 19)، إذ له فقـط الأمثلـة والظلال، بل بالأولى بالإيمان بالمسيح، غير رافضين الناموس بل متممينـه بـعبـادة روحية. لأن الحكيم جدا بولس الرسول كتب يقول: “أفنبطل الناموس بالإيمان، حاشا ” ذلك الذي قد أعلن عنه بطرق عديدة مسبقا بواسطة موسی والأنبياء.
لذلك فمن واجبنا أن نسهر ونسعى بسرعة كي نصل إلى الخلاص من خطايانا، أما الوسيلة للإفلات من اللوم قبل أن نصل إلى نهاية حياتنا الطبيعية، فإنه أظهرها بقوله: ” ولماذا لا تحكمون بالحق من قبل نفوسكم. حينما تذهب مع خصمك إلى الحاكم، ابذل الجهد وأنت في الطريق لتتخلص منه، لئلا يجرك إلى القاضي، ويسلمك إلى الـحـاكم فيلقيك الحاكم في السجن. أقول لك لا تخرج من هناك حتى توفي الفلس الأخير ” (لو 12: 57 – 59).
ربما يتخيل البعض أن معنى هذا النص عسير الفهم، لكنه سيصير سهلاً جدا لو فحصنا هذا التشبيه بما يحدث بيننا. وهو يقول، لنفترض أن أحدهم قدم ضدك شكوى أمام أحد المسئولين إلى المحكمة، وجعلك تؤخذ إلى هناك. لذلك بينمـا أنـت ” فـي الطريق” أي قبل أن تصل إلى القاضي ” اجتهد” أي لا تمل من استخدام كـل جـهـدك حتى تتخلص منه، وإلا سيسلمك للقاضي، وأنذاك عندما يثبت أنك مدين لـه، فإنـك ستسلم إلى الحاكم، والحاكم سيلقي بك في السجن حتى توفي الفلس الأخير.
نحن كلنا بلا استثناء الذين على الأرض مدانون بالآثام، والذي له قضية ضـدنا ويلومنا هو الشيطان الخبيث، لأنه هو ” العدو والمنتقم” (مز 8: 2). لذلك بينما نحن فـي الطريق أي لم نصل بعد إلى نهاية حياتنا هنا (على الأرض)، لنخلص نفوسـنـا منـه لنتخلص من الخطايا التي نحن قد أذنبنا بها، فلنغلق فمـه، ولنتمـسك بالنعمـة، أي بالمسيح. هذه التي تحررنا من كل دين وعقوبة، وتخلصنا من الخوف والعذاب، لـئلا إن لم نتطهر من دنسنا، فإننا نقف أمام القاضي ونسلم إلى الحاكم، أي المعذبين الذين لا يمكن لأحد أن يفلت من قساوتهم، بل بالحري سينتقمون انتقاما دقيقا عن كل خطية، سواء كانت كبيرة أم صغيرة.
إن الذين يفتشون عن زمن مجيء المسيح ولا يجهلون سره بل يعرفون جيـدا أن الكلمة مع أنه إله، أشرق على سكان الأرض وأنه صار مثلنا كواحد منا، هؤلاء هـم بعيدون تماما عن هذا الخطر، فالمسيح يحررهم من كل لوم. وهو يبارك بغبطة زائدة أولئك الذين يؤمنون به ويعترفون به كاله وابن الله، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان، مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين.
تفسير إنجيل لوقا – 11 | إنجيل لوقا – 12 | تفسير إنجيل لوقا | تفسير العهد الجديد | تفسير إنجيل لوقا – 13 |
القديس كيرلس الكبير | ||||
تفاسير إنجيل لوقا – 12 | تفاسير إنجيل لوقا | تفاسير العهد الجديد |