العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

المسيح يرسم صورته فينا ويداوي نفوسنا

‏العظة الأولى من العظات الخمسون

[النفس المزمعة أن تدخل الملكوت يلزم أن تولد من الروح القدس، وباية طريقة يحدث هذا]

+++

[ 1 ] غاية مجيء الرب أن يلدنا من روحه

 1 – إن الذين يسمعون الكلمة ينبغي لهم أن يظهروا فعل الكلمة في نفوسهم، لأن كلمة الله ما هي بالكلمة الخاملة، بل لها فعلهـا الصـائر في النّفس، فلأجـل هـذا تُدعى أيضا فعلًا “ لكيما يوجد الفعل في الذين يسمعون. فيا ليت الرب يمنح فعل الحق في الذين يسمعون، لكي توجد الكلمة مثمرة فينا. لأنه كما أن الظل يتقدم الجسد – إذ الظل يشير فقط إلى الجسد، أما الحقيقة فهي الجسد – بنفس الطريقة أيضا الكلمة هي بمثابة ظل للحقيقة أي للمسيح، فالكلمة تتقدم الحقيقة. فإن الآباء على الأرض يلدون بنين من طبيعتهم، من أجسادهم ونفوسهم ، وحين يولد هؤلاء فبكل نشاط واجتهاد يؤدبونهم كبنيهم إلى أن يصيروا رجالا بالغين وخلفاء ووارثين لهم. فإن مرام الآباء وكل اجتهادهم منذ البدء هو أن يلدوا بنين ويكون لهم ورثة. فإن لم يلدوا انتابهم حزن جسيم جدا ووجع، على قدر ما يغشاهم الفرح أيضا إذا ما ولدوا، ويفرح معهم أقاربهم وجيرانهم.

 2 – على نفس المنوال أيضـا ربنا يسوع المسيح، إذ غـني بخلاص الإنسان، أكمل في سبيل ذلـك كـل تـدبير واجتهاد، ففي البدء بواسطة الآباء ورؤساء الآباء، ثم بواسطة الناموس والأنبياء، وأخيرا أتى هو نفسه واحتمـل المـوت مستهينا بخزي الصليب. وقـد كـان عـمـلـه هـذا كله واجتهاده لكي يلد من نفسه، من طبيعته، بنين من الروح القدس، إذ قد شر بأن يولدوا مـن فـوق، من لاهوته. وكما أنّ هؤلاء الآباء إذا لم يلـدوا يشملهم الحزن، هكذا الرب أيضا لأنه أحـب جنس البشـر كـصـورته الخاصة، أراد أن يلدهم من زرع لاهوته، فإن كان أناس لا يشاءون أن يأتوا إلى مثل هذا الميلاد ويولدوا من “رجم” روح اللاهوت، يلم بالمسيح حزن بليغ، كونه تجشم الألم من أجلهم وصبر لكي يخلصهم.

3 – فإن الرب يريد أن جميع الناس يحسبون أهلا لهذا الميلاد، لأنه من أجل الجميع قد مات، والجميع قد دعا إلى الحياة، وأما الحياة فهي الميلاد من فوق، من الله. لأنه بدون هذا الميلاد لا يمكن للنفس أن تحيا، كما يقول الرب: «إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله» (يو 3: 3)، بينما كل الذين يؤمنون بالرب ويتقدمون إليه فيحسبون أهلا لهذا الميلاد، يجلبون فرحا وابتهاجا عظيما جدا في السّماوات للوالدين الذين ولدوهم، فكل الملائكة والقوات المقدسة تفرح بالنفس التي ولدت من الروح القدس وغدت روحا. لأن هذا الجسد هو على شبه النفس، أما النفس فهي صورة الروح، وكما أنّ الجسد بدون النفس ميت لا قدرة له على فعل شيء؛ هكذا بدون النفس السماوية، أي الروح الإلهي، تكون النفس ميتة عن الملكوت، إذ لا قدرة لها على فعل شيء مما الله بدون الروح القدس.

[ب] فلشخص إلى الرب ليرسم صورته فينا

4 – كما أن الرسام يحدق في وجه الملك ويرسمه، فحين يكون وجه الملك مقابل راسمه فإن الأخير يصور الصورة في سهولة ويحسن تصويرها، أما متى أدار الملك وجهه فلا يمكن للرسام أن يرسم لأنّ الوجه لا يشخص إليه؛ على ذات المنوال أيضا المسيح، المصور الصالح، يصور للحال أولئك الذين يؤمنون به والذين يشخصون إليه في كل حين – يصورهم على صورته إنسانا سماوي. فمن روحه ومن جوهره ومـن نـوره الذي لا ينطق به، يرسم صورة سماوية، ويهبها عريسها البهي الصالح. فإن كان أحد لا يشخص إليه في كل حين، غاضا الطرف عن كل شيء، فلن يرسم الرب فيه صورة ذاته ومن نوره. فمن ثم ينبغي لنا أن نشخص إليه، مؤمنين به ومحبين إياه وطارحين كل شيء (سواه) ومحدقين فيه، حتى إذا ما رسم صورته السماوية يبعثها في نفوسنا. وهكذا لما تحمل المسيح، ننال الحياة الأبدية ومذ ذاك نظفر بالراحة واثقين تمام الثقة.

5 – فكما أن العملة الذهبية ما لم تنل الصورة الملكية وتدمغ بها، فلا هي تزوج في التجارة ولا هي توضع في خزائن الملك بـل تكـون مرفوضة؛ هكذا النّفس أيضا ما لم يكن لهـا صـورة الروح السماوي، أي المسيح منطبعا فيها بنور لا ينطق به، فلا نفع منها في الخزائن العليا، بل تكون مرفوضة من تجار الملكوت،أي الرسل الصالحين. فإن ذاك الذي كان قد دعي ولم يكن لابسا لباس الغرس طرد كغريب إلى الظلمة الخارجية لأنه لم يكـن لابسا الـصـورة السماوية. فإن علامـة الـرب وسمته المنطبعـة في النفوس، إنما هي روح الثور غير المنطوق به الحال فيهم. وعلى غرار الميت في مدينة لا فائدة منه ولا يرجى منه نفع بالكلية للذين هناك، ولهذا يحملونه خارج المدينة ويدفنونه؛ هكذا أيضا النفس التي لا تحمل صورة النور الإلهي السماوية، التي هي حياة النّفس، تصير كمرذولة ومرفوضة من جميع الوجوه، لأن نفسا ميتة لا تحمل الروح المنير الإلهي لا تُجدي نفعا لمدينة القديسين. فكما أنّه في هذا العالم النفس حياة الجسد، كذلك أيضا في العالم الأبدي السماوي روح اللاهوت هو حياة النّفس، فبدون ”روح‘ النفس تكون هذه النفس ميتة بالنسبة لما هو فوق وتبقى بلا نفع. 

6 – فينبغي إذا لمن يطلب الإيمان والتقدم إلى الرب أن يتوسل لكيما ينال منذ الآن الروح الإلهي، لأنه هو حياة النفس. ومن أجل هذا أكمل الرب مجيئه، لكي يهب للنفس منذ الآن الحياة أي روحه. لأنّه يقول: «ما دام لكم الثنور، آمنوا بالنور. يأتي ليل حين لا تستطيعون أن تعملوا» (يو 12: 36 ، 9: 4 حسب النص). فإن كان أحد لم يطلب لنفسه منذ الآن الحياة، أي النّور الإلهي الذي للروح القدس، ولم ينلها، فعند خروجه مـن الجـسـد يـفـرز للوقت في مواضـع الظلمـة اليسارية ولا يدخل إلى ملكوت السماوات، بل يكون مصيره جهنّم مع «إبليس وملائكته». فكما حين يلقى الذهب أو الفضة في النار يصير أكثر نقاوة وتمحيصا، ولا شيء يقدر أن يضيره، لا خشب مثلا ولا عشب، إذ إنه يأكل كل الأشياء التي تقترب منه فتصير هي أيضا نارا؛ هكذا أيضا النفس التي تعيش في نار الروح وفي النور الإلهي، لن تنغلب لشيء من قبل أي من الأرواح الشريرة، بل وحتى إن دنا منها شيء فإنه يحترق بنار الروح السماوية. وكمثل الطائر إذا ما طار في الغلو يكون بلا هم لكونه لا يخشى شيئا، لا صيادين ولا وحوشا شريرة، لأن الذي في الموضع المرتفع يهزأ بكـل الأشياء؛ هكذا أيضا النفس التي قد اتخذت لها أجنحة الروح القدس محلقة في أعالي السماء، فلأنهـا تكـون أعلـى مـن الجميع، تهزأ بكـل الأشياء.

[ج] المسيح الطبيب الحق يقرع أبدا أبواب قلوبنا

7 – فإن «إسرائيل حسب الجسد»، حينما شق موسى البحر كانوا يجتازون أسفل، أما أولئك فلكونهم أولاد الله، فإنّهم يمشون في العلاء، فوق بحر مرارة القوات الشريرة، لأن أجسادهم ونفوسهم قد أضحت منزلا لله.

 فإنه في ذلك اليوم الذي سقط فيه آدم، أتى الله ماشيا في الفردوس وبكى – إن جاز القـول – لما رأى آدم، قائلًا: “مـن أيـة خـيرات سقطت وأية شرور اخترت؟ من أي مجد تعريت وبأي خزي تسربلت؟ ما بالك مظلما هكذا؟ ما بالك دميما؟ ما بالك منتنا؟ من أي نور هربت وأية ظلمة غشيتك؟»[1] فحين سقط آدم ومـات عـن الله، بكاه الخالق والملائكة وكل القوات والسّماوات والأرض، وناحت كل الخلائق على موته وعلى سقطته، لأن الذي قد أعطي لهم ملكا رأوه وقد أمسى عبدا للقوات المعادية الشريرة. فلقد اكتسى إذا في نفسه بالظلمة – الظلمة المرة الشريرة، وتملك عليه رئيس الظلمة؛ هذا هو الذي جرحه اللصوص فصار بين حيّ وميت بينما هو نازل «من أورشليم إلى أريحا». 

8 – ولعازر أيضا الذي أقامه الرب، الذي أفعم رائحة جد كريهة حتّى إن أحدا لم يكن يستطيع أن يدنو من قبره، كان رمزا لآدم الذي اقتبـل في نفسه رائحة كريهة شديدة الكراهة وامتلأ قتاما وظلمة. لكن حين تسمع أنت عن آدم وعن ذلك المثخن بالجراح وعن لعازر، فلا تُطلق ذهنك كما إلى القفـار، بـل كـن في الداخل في نفسك، لأنك أنت أيضا تحمل ذات الجراح وذات الرائحة الكريهة وذات الظلمة. لأننا نحن جميعا أولاد ذلك الجنس المظلم، وجميعنا نتشارك في الرائحة الكريهة عينها. فالألم الذي كابده ذاك، كابدناه نحن جميعا لأنّنا من زرع آدم إذ قد عمنا مثل هذا الألم، كما يقول إشعياء: «ليس جُرح ولا كدمة ولا ضربة ملتهبة لها مرهم ليوضع ولا زيت ولا ضمادات» (إش 1: 6 س – حسب النص). هكذا نحـن قـد جرحنا بجرح عديم البرء، والرب وحده هو القادر أن يداويه. فإنه من أجل هذا قد جاء هو بنفسه، لأن أحدا من القدماء لم يستطع أن يداوي هذا الجرح؛ فلا الناموس نفسه ولا الأنبياء، بل هو وحده حين جاء داوى ضربة النفس عديمة الشفاء.

9 – ألا فلنقبل إذا إلهنا وربنا، الشافي الحقيقي، الذي وحده القادر، حين يأتي، أن يشفي نفوسنا، لأنه قاسي كثيرا من أجلنا. فإنه أبدا يقرع أبواب قلوبنا لكيما نفتح له، وحين يدخل يستريح في نفوسنا، فنغسل قدميه وندهنهما ويصنع عندنا منزلا. فإن الرب ههنا يوبخ  ذاك الذي لم يغسل قدميه، ويقـول في موضع آخـر أيضا: «ها أنا ذا واقف على الباب وأقرع، إن فتح أحد لي، سأدخل إليه» (رؤ 3: 20 – حسب النص). لأنه لأجل هذا احتمل أن يتألم كثيرا، مسلما جسده إلى الموت ومفتـديا إيانا من العبودية، لكيما يأتي إلى نفوسنا ويصنع فيها منزلا. لهذا ففي الدينونة يقول الرب لأولئك الذين عن يساره، المرسلين من قبله إلى جهئم مع إبليس: «كنت غريبا فلم تأووني، وجوعانا فلم تطعموني، وعطشانا فلـم تـسـفـوني» (مـت 25: 42 ن 43 – حسب النص). لأنّ طعامه وشرابه ولباسه ومنزله وراحته إنما هي في نفوسنا، لذلك فهو يقرع على الدوام مريدا أن يدخل إلينا. فلنقبله إذا وللدخله داخلنا، لأن طعامنا نحن أيضا وشرابنا وحياتنا الأبدية إنّما هي هو ذاته. وكل نفس لا تقبله في داخلها منذ الآن وتهبه الراحـة، بل بالأحرى تجـد راحتها هي فيه، فليس لها ميراث في ملكوت السماوات مع القديسين، ولا يمكنها أن تدخل إلى المدينة السماوية. لكـن أنـت، يا ربي يسـوع المسيح، أدخلنا إليها لنمجد اسمك مع الآب والروح القدس إلى الدهور، آمين.

.

  1.   شيء مثل هذا الرثاء من الله على آدم نجده في موضع ما من صلوات الكنيسة (انظر : طرح الساعة التاسعة من يوم الاثنين من البصخة المقدسة).

زر الذهاب إلى الأعلى