تفسير سفر الخروج ٢١ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاحات 21-23
الشريعة
خرج الشعب من مصر كأمة بلا خبرة، لهذا التزم الله بكل احتياجاتهم ليس فقط الخاصة بتحريرهم من بيت العبودية فحسب، وإنما برعايتهم ماديًا أيضًا إذ كان يهتم بِقوتهم اليومي، ويظلل عليهم نهارًا، وينير لهم ليلاً، كما اهتم بالتشريع لهم في أمور العبادة والحياة المدنية والأمور الجنائية بل حتى في الأمور الطبية والهندسية والزراعية. إذ أنه كشعب بدائي صار الله بالنسبة لهم الأب والقاضي والطبيب والمهندس المدني والمهندس الزراعي يتكفل بكل التزاماتهم. هذا ما سبق أن أوضحناه في الكتيب الذي سبق أن صدر عن سفر اللاويين، والذي أرجو أن أعود إليه فيما بعد بشيء من التفصيل.
- جاءت التشريعات في الأصحاحات الثلاثة (خر 21-23) أشبه بتطبيق عملي للوصايا العشر لتناسب الظروف التي كان يعيشها اليهود في ذلك الوقت، وهي تقدم لنا فهمًا إيمانيًا حيًا عن علاقتنا بالله، وعلاقتنا بإخوتنا بل وبالحيوان والأرض!! لهذا فنحن لا ندرس هذه الأصحاحات بطريقة تفصيلية كقوانين وشرائع، إنما نُريد أن نتعرف على النظرة الإلهية للحياة البشرية. كمثال نجد بعض القواعد التي تحكم العلاقة المتبادلة بين العبيد وسادتهم، أما الآن إذ لا يوجد عبيد لا نتجاهل هذه القواعد، لأنها تحمل روح العلاقات المتبادلة بين البشر وبعضهم البعض.
- في هذه القوانين ظهرت العداله واضحة، فلا محاباة لغني أو شريف، بالرغم مما كان عليه الإنسان بوجه عام في ذلك الحين، حيث انحط البعض ليضطجع مع بهيمة (22: 19) أو يذبح لوثن (22: 20).
- لم يهتم الله فقط بعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان خاصة إن كان عبدًا أو يتيمًا أو أرملة أو فقيرًا، لكنه كان يهتم حتى بعلاقته بحيوانات الحقل إذ أمره أن يعطيها يومًا كل أسبوع للراحة (23: 12)، كما ألزمه أن يهتم بحمارعدوّه المتعثِّر (23: 5)، ويعطى الأرض راحة لمدة سنة كل سبعة سنين لتستريح ويأكل منها الفقير ووحوش البرية (23: 11).
إلى هذه الدرجة الله يهتم ليس فقط بالعبد والفقير واليتيم والأرملة والغريب، وإنما حتى بالحيوانات والأرض؟! فكم بالأحرى يكون اهتمام الله بأولاده؟!
يرى القدِّيس بولس الرسول أن هذه القوانين حملت معانٍ خفية تخص شعب الله وحياتنا الداخلية، إذ يقول: “مكتوب في ناموس موسى لا تُكمّ ثورًا دارسًا” (تث 25: 4)، ألعل الله تهمه الثيران؟! أم يقول مطلقًا من أجلنا. إنه من أجلنا مكتوب. لأنه ينبغي للحرّاث أن يحرث على رجاء، وللدارس على الرجاء أن يكون شريكًا في رجائه…” (1 كو 9: 9-10). لهذا اهتم العلامة أوريجانوس وغيره من الآباء الرمزيين أن يبحثوا عن المعاني الخفية وراء هذه القوانين… وإذ لا يتسع المجال هنا سأُعطي بعض الأمثلة.
- في الوصايا العشر بدأ بالوصايا التي تخص علاقة الإنسان بالله، ثم تلاها بالوصايا الخاصة بعلاقة الإنسان بأخيه، حتى لخص السيِّد المسيح الوصايا في عبارة واحدة “تحب الله والقريب”، أما هنا فبدأ بالوصايا أو القوانين الخاصة بالقريب مثل العبيد والمقتولين والمظلومين والمديونين والغرباء والأرامل واليتامى… الخ. تلاها بعد ذلك بالوصايا الخاصة بالأعياد ثم علاقتنا بالله. فإن كانت هذه القوانين تفسيرًا للوصايا العشر، كأن الله أراد أن يوضح عدم الفصل بين وصايا خاصة بعلاقتنا بالله وأخرى خاصة بعلاقتنا بإخوتنا في البشرية، فهي تمثل وحدة واحدة، أو حياة واحدة، فلا نظن أننا نسترضي الله بالعبادة والعطاء على حساب علاقتنا بالآخرين، كما لا نظن أن معاملتنا الحسنة مع إخوتنا تكفر عن إهمالنا في العلاقة مع الله!
محتويات الشريعة:
تحدثت هذه الأصحاحات عن:
- العبد العبراني [21: 1-11].
- القتل والضرب [12-36].
- السرقة [22: 1-15].
- الزنا [16-20].
- الظلم [21-27].
- السب [28].
- سلب حق الله [29-31].
- النفاق [23: 1-3].
- مساعدة الآخرين [4-6].
- العدالة وعدم الرشوة [7-9].
- السبت وحقوق الغير [10-13].
- الأعياد [14-19].
- الحضرة الإلهية [20-23].
- عدم مخالطة الأمم [24-33].
الأصحاح الحادي والعشرون
الشريعة (يتبع)
- العبد العبراني [1-11].
- القتل والضرب [12-36].
1. العبد العبراني:
يتحدث هذا الأصحاح عن حقوق العبد العبراني، إذ تُميز الشريعة بين العبد العبراني والعبد الغريب (الأممي). ولكي نتفهم ما ورد في الشريعة يلزمنا أن نتفهم نظرة الوثنية لنظام الرق، وما هو موقف الشريعة اليهودية؟ وما هو دور المسيحية في ذلك الشأن؟
الوثنية ونظام الرق:
عرفت الشعوب الوثنية نظام الرق، يستوي في ذلك الشعوب المتخلفة مع المتحضرة كالإغريق والرومان… وقد أيَّد بعض فلاسفة العالم الوثني هذا النظام، كنظام طبيعي وضروري، وأعلن أرسطو أن جميع البرابرة (غير المتحضرين) عبيد بالمولد، ولا يصلحون إلاَّ لهذا العمل. ولم يعطِ القانون الروماني للعبيد أي حق مدني أو إنساني… إذ لا يُعاقب السيِّد أو يُحاسب إن عذب عبدًا (أو أمَة) أو قتله، أو صنع معه الفحشاء أو اغتصب منه زوجته لتكون محظيته أو لتصير عاهرة![307]
اليهودية ونظام الرق:
لم يكن ممكنًا للشريعة اليهودية أن تمنع هذا النظام دفعة واحدة، لهذا التزمت بتقديم قواعد ونظم تحفظ للعبد حقه الإنساني، وتنزع عنه -إلى حد كبير- جانب الإذلالي، ليعيش كإنسان وأخ تحت ظروفه القاسية. وقد عرف اليهود نوعين من العبودية: عبودية العبرانيين، وعبودية الأمميين.
أولاً: عبودية العبرانيين:
كانت تتم في أحد الظروف التالية:
أ. بسبب الفقر قد يبيع الإنسان نفسه (لا 25: 29)، أو أولاده (2 مل 4: 1).
ب. بسبب السرقة، إن لم يكن له ما يوفي فيباع بسرقته (خر 22: 3).
ج. قد يبيع الإنسان ابنه عبدًا أو ابنته أمَة (خر 21: 7، 17، نح 15: 5).
د. قد يصير الإنسان عبدًا بالميلاد إذا كان والده عبدًا.
أما الحقوق التي قدمتها الشريعة للعبد العبراني والأمَة العبرانية فهي:
أ. يُعامل العبد العبراني كأخٍ، ليس في مذلة “لا تُستعبده استعباد عبد، كأجير كنزيل يكون عندك… لأنهم عبيدي الذين أخرجتهم من أرض مصر لا يباعون بيع العبيد. لا تتسلط عليه بعنف، بل إخشَ إلهك” (لا 25: 39-43). بذلك قدمت الشريعة نظرة جديدة للعبد، أنه أخْ، شريك في العبودية لله الواحد.
ب. يتمتع العبد بالعتق من العبودية في السنة السابعة من عبوديته (أي بعد ست سنوات)، أي إن صح التعبير، في السنة السبتية، سنة الراحة. هذه إشارة إلى الحرية التي صارت لنا جميعًا بمجيء الرب في السنة السبتية، أي في ملء الزمان وقدم لنا ذاته “سرّ الراحة الحقيقية”، واضعًا حدًا لعبودية الخطية. في هذا يقول “إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا” (يو 8: 36).
للعبد حق الخيار أن يترك بيت سيِّده أو يطلب أن يبقى معه كل أيام حياته، فإن كان العبد يُحب سيِّده وزوجته وأولاده عليه أن يستعبد نفسه لسيِّده بمحض إرادته إلى النهاية، فيقدمه سيِّده إلى الباب ويثقب أذنه، علامة الطاعة الكاملة، كقول داود المرتل “أذني فتحت (ثقبت)” (مز 40: 6). هذا ما صنعه السيِّد المسيح الذي وهو الابن صار من أجلنا عبدًا، أحب أباه وعروسه وأولاده (أف 5: 25-27)، فحمل في جسده جراحات الصليب لأجل خلاصنا. صار عبدًا لكي يرفعنا من العبودية إلى البنوة لله.
ج. في سنة اليوبيل (لا 25: 39-40) يتحرر جميع هؤلاء العبيد حتى الذين لم يكملوا السنوات الست في خدمتهم لسادتهم، لأن اليوبيل يتم في السنة الخمسين، رمزًا لعمل الروح القدس الذي يهب الكنيسة كمال الحرية في استحقاقات دم المسيح. وبالروح القدس ننال غفران الخطايا، ونتمتع بالشركة مع الله في ابنه، ونحمل روح التبني الذي به نُنادي الله كأب لنا.
د. لا يخرج العبد فارغًا بعد تحرره، بل يأخذ معه من الغلات والقطيع ومن البَيْدر والمعصرة (لا 25: 43)، هكذا لم يحررنا السيِّد المسيح فحسب لكنه وهبنا غنى روحه القدوس، فننطلق حاملين بره وقداسته فينا.
هـ. يمكن للعبد أن يتزوج ابنة سيِّده (1 أي 2: 35)، كما يمكن للسيِّد أن يتزوج الأمَة أو يعطيها زوجة لابنه، ولا يحق له أن يبيع العبد العبراني أو الأمَة لسيِّد أجنبي (خر 21: 7-11)… بهذا تصير الأَمَة من أهل البيت لها كل الحقوق كأحد أفراد الأسرة. هذه صورة حيّة لعمل الله معنا الذي قدمنا نحن عبيده كعروس لابنه، فصار لنا شركة أمجاده السماوية.
و. إن أهمل السيِّد أو ابنه في حق الأمة التي تزوجها، من جهة الطعام أو الملابس أو حقوقها الزوجية تصير الأمَة حرة!
أخيرًا، فقد أُلغيت عادة العبيد العبرانيين وحُرمت بعد العودة من السبي.
ثانيًا: عبودية الأممي:
غالبًا ما يكونون من أسرى الحرب (عد 31: 9، 2 مل 5: 2)، أو مشترين (تك 17: 27، 37: 28، 36؛ خر 27: 13؛ يؤ 3: 6، 8)، أو بالميلاد (تك 17: 12). لكننا لا نشتم من الكتاب المقدس ولا من التاريخ أنه وُجد سوق للرق عند اليهود[308].
قبل الشريعة الموسوية قدم لنا إبراهيم أب الآباء مثلاً حيًا في التعامل مع العبيد، فقد وضع في قلبه إن لم ينجب يترك ميراثه لأحد عبيده “اليعازر الدمشقي” (تك 15: 20)، الذي جعله وكيلاً على كل أمواله. وفي زواج اسحق برفقة (تك 24) ظهرت ثقة إبراهيم في عبده، وكان العبد في تصرفاته يكشف عن استحقاقه أن يكون موضع هذه الثقة.
وإذ جاءت الشريعة الموسوية قدمت للعبيد حقوقًا تحفظ لهم آدميتهم، منها:
أ. من يسرق إنسانًا ويبيعه أو يوجد في يده يقتل (خر 21: 16).
ب. جريمة قتل العبد تتساوي مع قتل الحرّ (لا 24: 17، 22).
ج. إذا فقد عبد عينه أو يده يُعتق (خر 21: 26-27).
د. أُعطت الشريعة للعبيد أن يعبدوا آلهتهم الخاصة، أي حرية العقيدة حتى وإن كانوا مخطئين، لكن من حق السيِّد العبراني أن يختن عبيده.
هـ. أعطتهم حق الاشتراك مع سادتهم في الأعياد (خر 20: 10، 23: 12).
المسيحية ونظام الرق:
عالجت المسيحية مشكلة “نظام الرق” بطريقة موضوعية، إذ لم تشأ إثارة العبيد ضد سادتهم، الذين كانوا يمثلون في المملكة الرومانية نصف تعدادها، ويذكر بليني أن أحد الأثرياء الرومان يدعى كلوديوس إسيدورس في أيام أغسطس ترك بين ممتلكاته 4116 عبدًا[309]. إنما طالبت العبيد بالطاعة (أف 6: 5-8، كو 3: 22-25، 1 تي 6: 1-2؛ 1 بط 2: 18-21)، كما أنها آمنت حتى بإمكانية تأثير العبد على سيِّده خلال الحياة المقدسة في الرب. فلا نعجب إن رأينا القديس يوحنا الذهبي الفم يقول لحاضري اجتماعاته: [إن كل واحد منهم يُعلِّم الذين في الخارج أنه كان في صحبة السيرافيم، فالأب يُعلم ابنه والأم ابنتها، وأيضًا العبد سيِّده].
عملت الكنيسة على إعادة العبد الهارب إلى سيده فليمون، لكي يحرره بإرادته ويعفو عنه دون ضغط أو إلزام.
لقد بدأ نظام الرق ينهار من جذوره، وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية لهياج الدولة الرومانية على الكنيسة المسيحية[310]، أما سرّ انهياره فيكمن في الأسباب التالية:
أ. ألزمت الكنيسة أولادها أن يعاملوا العبيد إخوة لهم (1 كو 7: 21-22، غل 3: 28؛ كو 3: 11). ولا ننسى أن السيِّد المسيح قد أُسلم مقابل ثلاثين من الفضة كأنه بيع كعبد، فدخل إلى زمرة العبيد، ولم يأنف منهم بل قدّس حياة المؤمنين منهم.
ب. إن كان الرسول بولس قد ردّ العبد الهارب أنسيموس إلى سيِّده فليمون، فقد بعث معه برسالة تُعتبر أروع ما يمكن أن يُكتب من رسول بخصوص عبد هارب، إذ يلقِّبه “ابني أنسيموس، الذي ولدْته في قيودي، هو أحشائي، اقبله نظيري”. كما جاء في الرسالة “لأنه ربما لأجل هذا افترق عنك إلى ساعة لكي يكون لك إلى الأبد، لا كعبد فيما بعد بل أفضل من عبد أخًا محبوبًا ولا سيما إليَّ”.
ج. إذ عاش بعض السادة بروح الإنجيل التزموا بتحرير عبيدهم بواعز داخلي، دون وجود أمر صريح بذلك.
د. كثيرون ممن كانوا عبيدًا نالوا رتبًا عالية أو كرامة كنسية سامية، من هؤلاء من هم شهداء مثل بلاندينا وبابليس وفليكتاس، الذين كانت تذكرهم الكنيسة كأبطال إيمان[311]. ومن العبيد أيضًا صار أسقف مثل أنسيموس تلميذ القديس بولس، إذ صار أسقفًا على Borea بمكدونية[312]؛ وكالستوس أسقف روما في القرن الثالث.
هـ. شجعت الكتابات الكنسية الأولى على انهيار هذا النظام، نذكر على سبيل المثال ما جاء في الديداكية: [لا تنتهر (بمرارة) عبدك أو أمتك اللذين يترجيان الله إلهك، لئلا يفقدا مخافة الله، الذي هو فوق الكل، وليس عنده محاباة الوجوه[313]].
يقول القديس إكليمنضس الإسكندري: [العبيد هم أناس مثلنا[314]].
ويقول الأب لاكتانتيوس: [العبيد ليسوا عبيدًا لنا، لكننا نحسبهم إخوة في الروح، وهم عبيد شركاء معنا في الدين[315]].
كما جاء في كتابات القديس أغناطيوس الأنطاكي: [لا تحتقر العبيد، ولا تدعهم ينتفخون في كبرياء، بل بالحرى يتضعون لأجل مجد الله[316]].
واعتبر القديس أغسطينوس أن ظهور العبودية إنما هو ثمرة الخطية، فإن المقاصد الإلهية لا تقبل أن يملك إنسان على زميله الإنسان ويسيطر عليه[317]. ونادى القديس يوحنا ذهبي الفم بذات الفكرة[318]، حيث قال: [إن العبودية ظهرت فقط حينما سقط كنعان تحت اللعنة (تك 9: 25)].
2. القتل والضرب:
أعلنت الوصايا العشر كراهية الله للقتل، فجاءت الوصية صريحة “لا تقتل”. أما الشريعة فكشفت عن تفاصيل أكثر لهذه الوصية، وربطت بين القتل والضرب المؤدي إلى إصابات مستديمة في الجسم، تتلخص في الآتي:
أ. القتل عمدًا: عقوبته قتل القاتل، ولا يمكن أن يحميه شيء، حتى إن احتمى بمذبح الرب [14]، ويستوى قتل الحرّ كقتل العبد [16]. كما جعلت الشريعة ضرب أحد الوالدين [15] أو سبّه [17] نوعًا من القتل عقوبته أيضًا القتل.
وقد حرمت الشريعة افتداء القاتل المستحق القتل بالمال، لأن دم القتيل يُدنس الأرض (عد 35: 31-34)، بهذا ساوى بين الغني والفقير، وصاحب السلطان والمحتقر.
ولا يحكم بالموت على قاتل على شهادة شاهد واحد (عد 35: 30)، إنما بعد ثبوت الجريمة على فم شاهدين أو ثلاثة.
ب. القتل بالمسئولية: إن أهمل إنسان في ضبط ثوره النطاح مثلاً، ثم قتل الثور إنسانًا يُقتل الثور مع صاحبه، إذا قتل ذلك الثور حيوانًا يدفع صاحبه تعويضًا لذلك [36]. أما إذا لم يثبت إهمال صاحبه كأن يكون الثور غير نطاح فيقتل الثور، ويكون صاحبه بريئًا، وإذا قتل ثور إنسانًا آخرًا يُباع الثور الحيّ ويقتسم الاثنان ثمنه.
يخضع الإنسان لذات المسئولية إن حفر بئرًا وأهمل في تغطيتها [33]. كذلك إن أهمل في بناء سورٍ لسطح بيته وسقط إنسان عن السطح، فيعتبر صاحب البيت كقاتل (تث 22: 8)… هكذا جعل الرب الإهمال خطية يتحمل صاحبها المسئولية.
ج. القتل مع غير العمد [13]: كان للقاتل في هذه الحالة الحق في الهروب من أمام وجه وليّ الدم إلى إحدى مدن الملجأ، فلا يجوز قتله مادام داخل المدينة إلى أن يموت الكاهن العظيم، حينئذ يستطيع أن يخرج من المدينة ولا يجوز قتله (عد 35: 11، تث 19: 3، يش 2: 3). وكانت هذه المدن رمزًا للسيِّد المسيح، الملجأ الذي تلجأ إليه النفس التائبة فتحتمي فيه فلا تسقط تحت حكم الموت، أما إن خرجت عن الإيمان به وتركته فتهلك بخطيتها. وقد حدد الله مدن الملجأ وأمر بوضع علامات تُشير إليها حتى يمكن للهارب أن يهتدي بها… الأمور التي أرجو العودة إليها في دراستنا لسفر العدد.
هنا يظهر تقديس النظرة للحياة الإنسانية ضد القتل والضرب، فأمرت الشريعة بقتل القاتل عمدًا، ولا هروب لأجل ردع القتلة، وفي نفس الوقت حمت القاتل عن غير عمد لأنه بلا ذنب، إنما الله هو الذي سمح بموته، إذ يقول: “أوقع الله في يده” [13].
د. الضرب: تظهر نظرة الله المقدسة للحياة الإنسانية ليس فقط في عدم القتل، وإنما أيضًا في عدم احتماله أذية إنسان، أيًّا كان. فإن أُصيب عبد أو أمَة إصابة مستديمة يتحرر فورًا [26]، وإن حدثت أذية لإنسان حرّ فعين بعين وسن بسن ويد بيد ورجل برجل… حتى يتأدب الضارب ويتعظ الشعب كله. على أن الشريعة بهذا منعت المضروب أن ينتقم لنفسه بأكثر مما أصابه. فنحن نعلم أن الإنسان في طبعه البدائي لا يسكت غضبه إلاَّ بانتقام أشد، لأن الضارب هو الذي ابتدأ، لكن الشريعة أرادت أن تضع له حدًا، حتى متى نضج الإنسان روحيًا يعرف كيف يقابل الشر بالخير. وقد تحدث القديس أغسطينوس عن خمس درجات للحب والغضب هي[319]:
الدرجة الأولى: هي رغبة الإنسان في الاعتداء على أخيه بلا سبب، كما يحدث في القبائل البدائية التي تثورعلى بعضها البعض في أنانية.
الدرجة الثانية: هي ألاَّ يبتدئ الإنسان بالاعتداء، وإنما إن أُعتدى عليه يرد الاعتداء مضاعفًا.
الدرجة الثالثة: هي إذا أُعتدى على الإنسان يرد الاعتداء بذات الاعتداء، ولا يتجاوزه، أي عين بعين وسن بسن ويد بيد ورجل برجل… وقد رفعت الشريعة الموسوية الإنسان عن المرحلتين السابقتين ودخلت به إلى هذه المرحلة، وهي ليست بقليلة في ذلك الوقت. إنها لا تُلزم المضروب أن يرد العين بالعين لكن تمنعه من أن يرد العين بعينين! ليست تصريحًا برد الضرر بضرر مساوٍ له لكنها منعت من رده بضرر أكبر.
الدرجة الرابعة: رد الضرر بضرر أقل لأجل التأديب فقط.
الدرجة الخامسة: رد الضرر بالحب، ومقاومة الشر بالخير، ومعالجة المعتدي كمريض… وهذا ما رفعنا إليه السيِّد المسيح في عظته على الجبل (مت 5: 43-48)، فنمتثل بالله أبينا الذي يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين.
نعود للشريعة الموسوية لنجدها تعطي المضروب حق نوال تعويض عما أصابه، فيدفع له الضارب ثمن العلاج، وأيضًا تعويضًا عن بطالته [18-19].
إجهاض امرأة بسبب رجال متخاصمين:
“إذا تخاصم رجال وصدموا امرأة حبلى فسقط ولدها ولم تحصل أذية يُغرَّم كما يضع عليه زوج المرأة، ويدفع على يد قضاة. وإن حصلت أذية نفسًا بنفس، وعينًا بعين، وسنًا بسن، ويدًا بيد، ورجلاً برجل…” [22-25].
يُعلق العلامة أوريجانوس على هذا التشريع قائلاً: [المتخاصمون هم الذين يتناقشون في بعض النقط الخاصة بالناموس، مستخدمين ما تحدث عنه الرسول “مماحكات الكلام” (1 تي 6: 4). نحن نعلم أن هذه الخصومات كثيرة الحدوث بين الإخوة، لهذا يوصي الرسول قائلاً: “مناشدًا قدام الرب أن لا يتماحكوا بالكلام، الأمر غير النافع لشيء، لهدم السامعين” (2 تي 2: 14)، “المباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها، عالمًا أنها توَلِّد خصومات، وعبد الرب لا يجب أن يخاصم” (2 تي 2: 23). فإن الذين يتخاصمون في هذه الأمور يعملون ذلك لهدم السامعين، أي يضربون المرأة الحبلى فيسقط الجنين. هذه المرأة الحبلى هي النفس التي تحبل بكلمة الله. نقرأ عن هذا الحبل في موضع “حبلنا تلدينا” (إش 26: 18). الذين يحبلون ويلدون لا يُشبَّهون بالنساء بل بالرجال الكاملين. اسمعوا النبي يقول: “هل تمخض بلاد في يوم واحد؟ أو تولد أمَّة دفعة واحدة؟!” (إش 66: 8). هذا هو جيل الكاملين الذين يولدون في ذات اليوم الذي يحبلون فيه.
لا تظنوا إني أتحدث بشيء غريب حين أعلن أن الرجال يلدون فقد سبق أن قلت لكم بأي معنى ينبغي أن تؤخذ هذه الكلمات، متجنبين التفسير الجسدي، طالبين تفسير الإنسان الداخل…
اسمعوا أيضًا ما يقوله الرسول: “يا أولادي الذين أتمخض بهم إلى أن يتصوَّر المسيح فيهم” (غلا 4: 9). إذن الذين يلدون بعد الحبل مباشرة. إنهم رجال أقوياء وكاملون، هؤلاء الذين يثمرون بالعمل بكلمة الإيمان التي أخذوها. أما النفس التي تحبل وتحتفظ بالثمر في داخلها ولا تلده فتُدعى امرأة، كقول النبي: “الأجنَّة دنت إلى المولد ولا قوة على الولادة” (إش 37: 3). هذه هي النفس التي تُدعى امرأة بسبب ضعفها، تتعذب وتتعثّر عندما يتخاصم الرجال ويتضاربون. هذه هي النتيجة الحتمية للخصام، تدفع عنها كلمة الإيمان التي حبلت بها وترفضها. هذا هو الخصام الذي يؤدي إلى هدم السامعين.
إن كانت النفس التي تعثرت قد ألقت عنها الكلمة التي لم تكتمل بعد فيها، فعلى من أعثرها أن يتحمل العقاب.
أتُريد أن تعرف إن كانت هناك بعض النفوس قد تكونت فيها الكلمة أم لا؟!… يعلمنا الرسول: “حتى يتصور المسيح فيهم” (غلا 4: 19). المسيح هو كلمة الله. بهذا يُشير الرسول بولس أنه في وقت كتابته لم تكن كلمة الله قد تكونت فيهم، فإن رفضت الكلمة قبل أن تكتمل داخلها تستوجب الدينونة.
يُحدثنا الرسول بولس أيضًا عن عقاب المعلمين، إذ يقول: “إن احترق عمل أحد فسيخسر، أما هو فسيخلص لكن كما بنار” (1 كو 3: 15). والرب نفسه يقول في الإنجيل: “ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟!” (مت 16: 16)[320].
ويعلق العلامة أوريجانوس على العبارة “يُغرّمَ كما يضع عليه زوج المرأة” قائلاً: [إن زوج النفس التي تتعلم هو سيِّدها… المسيح الذي يرأس الكنيسة[321]]. هذا السيِّد يقطع المعلمين المعثرين عن جسد الكنيسة.
ماذا يعني أنه أصاب عينها أو أسنانها أو يدها أو رجلها أو أصابها بالكيّ؟… يرى العلامة أوريجانوس أن العين التي تُصاب لدى صغار النفوس هو إدراكها لله وبصيرتها الداخلية. أما الأسنان فتُشير إلى قدرتها على هضم كلمة الله وإدراك أسرارها والشبع بها. تُشير اليد إلى قدرة النفس على التمسك بالروحيات والتثبت فيها. أما الرجل فتُشير إلى القدرة على السير متجهًا نحو الله. أما الكيّ فتعني ما تُعانيه النفس التي تحترق بسبب حرمانها من الله. هذه هي العثرات التي يسقط فيها الصغار روحيًا بسبب المماحكات الغبية.