سنيوت حنا

 

من أعجب الشخصيات المتفانية في حب مصر شخصية سينوت حنا الذي يجدر بنا التمعن فيها طويلاً فقد كان شاباً ينتمي لأسرة من كبار أغنياء الصعيد ووجهائها ، بل كان لأسرته مصرفها الخاص في الفيوم . فكان منذ نشأته في مركز مرموق ثم ظهر أول ما ظهر في
الحياة العامة ضمن أصدقاء مصطفى كامل ، وبدأ صلته بسعد زغلول في الجمعية التشريعية ومنذاك تألق في السياسة المصرية باطراد مستمر . فسافر مع الوفد سنة ۱۹۱۹م الى باريس وعاد في سبتمبر من تلك السنة . ولقد دأب على كتابة المقالات في الصحف بلا هوادة . وكان في كتاباته كلها لسان الوفد ضد الحكومة وضد سلطة الاحتلال ، ثم ضد لجنة ملنر . وقد لفتت مقالاته الأنظار إليه ، وأحاطته بشعبية واسعة ، كما كانت من أكبر الدوافع إلى إثارة الجماهير واشتعال المظاهرات في شهر اكتوبر و نوفمبر ، وبالتالي أدت إلى سقوط وزارة سعيد باشا .
ومن أكبر الأدلة على تعاطف الشعب مع سينوت حنا رسائل التأييد التي ازدحمت بها الجرائد وتسمية الجماهير له  بالنائب الحر الجريء، كذلك كان التجار حين يعلنون عن سلعهم في
الجرائد تكون إعلاناتهم مسبوقة دائما بتقديم التحية له . ولم يسع السلطات البريطانية بأزاء هذه الشعبية المتصاعدة إلا أن تبعده إلى عزبته بالفشن بمناسبة وصول لجنة ملتر ، فأقام بعيدا عن
القاهرة مدة خمسة أسابيع. وقد ودعته الجماهير حاملين إياه على الأعناق واستقبلوه بنفس الطريقة . وكان بين مستقبليه علماء الأزهر كما أنه زار شيخ هذا الجامع حالما وصل إلى القاهرة .

وكان بشرى الأخ الأكبر السينوت غير راض ( في بداية الأمر ) عن الاتجاه الوطني المتطرف لأخيه الأصغر خوفاً منه على مركز العائلة وثروتها . وقال له ذات مرة : « إنا أصررت على سلوك هذا السبيل فستُسجن وتُعذب وربما نفوك من البلد كما فعلوا بعرابي وطلبة وعبد العال حلمي ، أجابه سينوت في حياء وأدب جم : ” يا أخي بشرى لا تخف على . إنني اسعى في الحصول على استقلال مصر وإخراج الانجليز منها لأن هذا هو الضمان الوحيد لسلامتنا كلنا ، أقباط ومسلمين . أنت تظن أن الانجليز يحمون حقوقنا ويحرسون أموالنا نحن الأقباط ، وهذا خطأ ، إنهم لا يحمون الا أنفسهم” .

أما المقالات التي كان لها هذا الأثر العميق والتي كان ينشرها تباعا في جريدة البلاغ فكانت بعنوان : “الوطنية ديننا والاستقلال حياتنا” وكان يوقع عليها باسمه مقروناً بعبارة “عضو الوفد المصري والجمعية التشريعية” . وكان بالطبع يوجهها لجميع المواطنين على السواء وقد جاء في أولى هذه المقالات : “لا قبطى ولا مسلم وإنما كلنا أمام الوطن مصريون .. وإنه ليكفي الانسان أن يذكر أولئك الشهداء الذين جادوا بأرواحهم – مسلمين وأقباطاً – فداءً للوطن المصري ، لا للوطن المسلم ولا للوطن القبطى ، حتى يشعر بما في ذلك من السمو والجلال .. إننا بنينا مصر معاً : مسلمين وأقباطا ، ومعا أنشأنا هذا الوطن الأعز … “، والمرة الوحيدة التي خرج فيه على هذا التوجيه العام كانت في مقاله الثامن الذي وجهه ليوسف وهبة بالذات لقبوله رياسة الوزراء. فقد وجه إليه هذا المقال شخصياً موضحاً له أن القصد من تعيينه هو التفرقة بين القبط والمسلمين ثم هاجمه لانصياعه لهذه الوقيعة . وقد وقع على هذا المقال مضيفاً إلى صفاته كونه عضواً بالمجلس الملى بأسيوط . وكان حديثه عاصفة استهدف منه عزل يوسف وهبة عن جماهير القبط وهدم رغبة الانجليز في إبراز التفرقة الدينية . كذلك استهدف إفساد الدعوة المفتعلة على الصعيد الدولي بأن القبط أو البعض منهم راضون عن الاتصال بلجنة ملنر ، فأعلن للعالم : ( أن يوسف وهبة لا يمثل القبط وأنهم منفضون من حوله مجمعون على طلب الاستقلال التام ، وأن مسئولية فعله تقع عليه وحده “.

ومنذ أن أنضم إلى سعد وقف صامداً ثابتاً إلى جانبه ، لم يتردد ولم يخامره الشك في أية لحظة . فقد رضي بالنفي والتشريد والاضطهاد وبفقد الكثير من ماله . رضي بهذا كله وظل راسخاً رسوخ الصخرة ، زاهداً في كل جزاء . ولقد أنفق الوفاً من الجنيهات في سبيل الحركة الوطنية ، وزاد على ذلك أنه أنفق من ذاته . فكل مرة كانت تتألف فيها وزارة وفدية يتراجع هو إلى الوراء ويترك غيره يحظى بالمنصب الكبير . كان عمله في صمت ووقار . وكأن الله قد عصمه من بريق الألقاب والمناصب، ذلك لأن إيمانه بمصر وحقها كان إيماناً خالصاً صافياً . وقد بادله سعد حباً بحب فكان لا يدع يوماً يمر دون أن يراه ، ولا يقطع برأي دون مشورته . وحينما نُفی سعد المرة الأولى برز سینوت ضمن الصف التالى ، وكان ضمن الموقعين على النداء الموجه للشعب في 24 مارس سنة ۱۹۱۹ . كان الشهداء يسقطون بالألوف من أقصى البلاد إلى أقاصيها فناشدوه بالهدوء حرصاً على حياته ، ولكنه لم يهدأ . ولقد كان اسم سینوت في هذا النداء إلى جانب ستة آخرين من القبط – وعلى رأسهم الأنبا كيرلس الخامس .

ولئن كان سينوت مبتكر التعبير “الوطنية دينناً والاستقلال حياتنا ” فقد تلقفته الأقلام بصيغ متعددة مثل “دین الحرية” ، “دين الوطنية” ، ” دين الوطنية والاستقلال ” فأصبحت هذه العبارة مترادفة مع اسمه ، بل أصبحت كأنها  ماركة  هذا العصر الملتهب إلى حد أنه حتى من لم يكن يؤمن بها كان ولابد أن يبدأ بها ثم يلتوی کیف شاءت له المهارة ، ويعلق الأستاذ طارق البشري على هذه العبارة بقوله إنها : ( كانت تعني لدى البعض الوحدة ضد الاستعمار ، ولدى البعض ضمان الوجود المشترك وتحقيق المصالح الواحدة على مدى المستقبل ، ولدى آخرين أساساً للتحضر والتنوير والمنطق العلمي الحديث في الحياة ، ولدى غيرهم برهاناً على التسامح الديني ، ولدى أخيرين أساسا لبعث مصر وإثباتاً لاتصال حلقات تاريخ الشعب المصرى .

وتجمعت كل هذه الروافد في الجماعة المصرية أو في فكرة الفرد الواحد لتكون نهر واحدة يخاطب الاتجاهات المختلفة في الجماعة والنوازع المختلفة لدى الفرد الواحد فبدا الناس فرحين بما أنجزوا :

بدوا شعباً حقق ذاته .. لذا نلحظ نبرة الفخر والاعتزاز في كل ما يقرأ أو يسمع .. في الصحف والخطب والرسائل والذكريات .

ومن هذه اللمحة العابرة نستطيع أن نستشف مدى الأثر الذي أحدثه سينوت حنا في توجيه الثورة الوطنية : ويكفي أن نعرف أنه کسب أخويه بشری وراغب إلى جانبه – مع كونه أصغرهم سناً ، بل لقد بلغ ولاء سينوت لمبادئه أن أخلص الود لمصطفى النحاس حين خلف سعد في رئاسة الوفد . وحينما تولي اسماعيل صدقی ریاسة الوزراء وعمل جهده على اضعاف هيبة الوفد في أعين الناس ثبت سینوت على حفظ العهود ، فانطبق عليه قول الشاعر : ( ثبتت على حفظ العهود قلوبنا … إن الوفاء سجية الأحرار) .

وفي تلك الآونة حدث أن كان النحاس باشا وصحبه في موكب شعبي ، وفي زحمة الجماهير الهاتفة المتراكضة جرى أحد الجنود ( تبعاً للأوامر الصادرة إليه ) نحو السيارة المفتوحة شاهرأ حربته مستهدفاً إغمادها في ظهر النحاس باشا . واستشعر سینوت هذه الحركة وكان جالساً إلى جوار الرئيس فما كان منه إلا أن مدَّ ذراعه وطوق به ظهر النحاس وتلقى الضربة عوضاً عنه. 

زر الذهاب إلى الأعلى