رو8: 15 إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضا للخوف…

 

إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُيَا أَبَا الآبُ».“(رو8: 15)

+++

تفسير القديس يوحنا ذهبي الفم

” إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضا للخوف بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب” (رو15:8).

ثم بعد ذلك وطالما أنه أغفل الإشارة إلى ما هو عكس العبودية، أي روح الحرية، ذكر ما هو أعظم بكثير، روح التبني، والذي به أدخل أيضا روح الحرية، قائلاً: “بل أخذتم روح التبني “. وهذا واضح، لكن ماذا يعني بروح العبودية؟ هذا غير واضح. ولذلك كان عليه أن يجعل هذا الأمر واضحا. لأن ما قيل، ليس فقط غير واضح، بل إنه لم يفسره أو يشرحه على الاطلاق، لأن الشعب اليهودي لم يأخذ الروح. إذا ماذا يقصد هنا؟ فقد وصف الحروف أو الكلمات بأنها روحية، لأنها كانت روحية، تماما كما دعي الناموس روحيا، وهكذا أيضا بالنسبة للماء الذي جرى من الصخرة، والمن الذي نزل من السماء. لأنه يقول ” جميعهم أكلوا طعاما واحدا روحيًا. وجميعهم شربوا شرابا واحدا روحيا . والصخرة دعاها أيضا هكذا قائلاً: “لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم “. إذا لأن كل هذا الذي حدث، كانت أشياء تفوق الأمور الطبيعية، فقد دعاها روحية، وليس لأن أولئك الذين شاركوا فيها كانوا قد نالوا الروح في ذلك الوقت.

وكيف كانت تلك الحروف حروف عبودية؟ ادرس كل حياة بني إسرائيل وحينئذ ستعرف هذا جيدا. لأن العقوبات أيضا كانت أمامهم والمكافأة كانت تُعطى على الفور، وكانت قانونية، وقد أعطيت للعبيد مثل طعام يومي، وكان هناك خوف شديد في كل موضع من تطهيرات الجسد ، والانضباط المطلوب، مرورا بالأعمال الجسدية. لكن بالنسبة لنا لم يحدث نفس الشيء، بل أن الفكر والضمير قد تنقيا بالكامل. لأن المسيح لم يقل فقط لا تقتل، بل أيضا لا تغضب، ولم يقل فقط لا تزن، بل لا تنظر بشهوة، حتى يصل الإنسان إلى النقاء الكامل، لا بسبب الخوف من العقوبات الحاضرة، بل بسبب الشوق والمحبة لله، والرغبة في ممارسة الفضيلة كشيء معتاد، بالإضافة إلى بعض الإنجازات الأخرى، ولم يعد الله بأرض تفيض عسلا ولبنا، بل جعل الإنسان وارثا مع ابنه وحيد الجنس، مبعدا إيانا ـ بكل الوسائل ـ عن الاعتماد على الخيرات الحاضرة، واعدا بالخيرات التي ينبغي أن يأخذها معنا أيضا أولئك الذين صاروا أبناء لله، تلك الخيرات التي ليس فيها شييء مادي، ولا جسدي، بل كل ما هو روحي ، حتى أن الذين قد دعوا سابقا أبناء، قد ابتعدوا كعبيد، أما نحن فقد نلنا التبني وننتظر ملكوت السموات لأننا صرنا أحرارا. 

وبالنسبة لأولئك اليهود فقد كلّمهم عن طريق أناس آخرين (أي آباء – أنبياء ـ مرسلين)، أما نحن فقد كلمنا هو بنفسه . وأولئك فعلوا كل شيء منقادين بالخوف من العقاب، بينما الروحيون فيصنعوا كل شيء بدافع الاشتياق والرغبة في الإتحاد بالله. وهذا قد أظهروه بممارسة الوصايا التي تفوق الوصايا القديمة. ومن المؤكد أن أولئك اليهود ـ مثل أجراء وجاحدين – لم يتوقفوا عن التذمر، بينما ما نصنعه نحن هو من أجل أن نكون مرضيين أمام الآب.

أولئك أيضا على الرغم من أنهم نالوا إحسانات، إلا إنهم جدفوا ، بينما نحن فعلى الرغم من أننا نتعرض لمخاطر، فإننا نفرح، وإن كان ينبغي أن تعاقب، فذلك لأننا نخطئ، وهنا الفارق كبير في العقاب، لأننا لسنا مثل هؤلاء الذين عندما يخطئون يرجمون ويحرفون ويستأصلون من قبل الكهنة ، أما نحن يكفي أن نبتعد عن المائدة الأبوية، ونقضي بعض الأيام بعيدا عنها. والبنوة بالنسبة لليهود كانت مجرد كرامة إسمية فقط، أما بالنسبة لنا فهي واقع يتمثل في التطهير بالمعمودية، ونوال الروح، والنعم الأخرى، بل وعطايا أخرى أكثر بكثير من هذه، من الممكن أن نتكلم عنها، والتي تظهر ما لنا من كرامة حقيقية، وما لأولئك من كرامة شكلية. وبعدما أشار الروح إلى كل ذلك، وإلى الخوف، والتبني، نجده يحمل دليلا آخر يثبت أن لنا روح التبنى. فما هو هذا الدليل؟ هو أننا “نصرخ يا أبا الآب”. وكم هو هام هذا الأمر، ويعرفه الداخلون للإيمان، والذين يرشدون في صلواتهم السرية، إذ يقولوا هذا النداء أولاً.

ماذا إذا؟ ألم يدع هؤلاء اليهود الله آبا؟ ألم تسمع موسى الذي يقول “الذي ولدك تركته ونسيت الله الذي أبدأك ؟. ألم تسمع ملاخي الذي يصرخ ويقول: “أليس أب واحد لكلنا. أليس إله واحد خلقنا” ، فإن كان هذا الكلام وأكثر منه قد قيل، فإننا لا نجد في أي موضع أن هؤلاء يدعون | الله بهذه الكلمة (يا أبا الآب). ولا أن يصلوا هكذا. أما نحن جميعا، كهنة ، وشعب، وأراخنة، ومواطنون، فقد تعلمنا أن تصلي هكذا (يا أبا الآب). وهذا الصوت نخرجه أولاً بعد آلام المخاض العجيبة، وناموس الولادة الجديدة المدهش والعجيب. وهكذا إن كانوا قد دعوا الله أحيانا بهذه التسمية مرة ، إلا أنهم لا يعبرون بذلك عن تبنيهم ذهنيا لمثل هذا الفكر الذي لنا، بينما الذين يحيون في النعمة فإنهم يدعونه آبا. انطلاقا من العمل الروحى الداخلي . وتماما كما يوجد روح حكمة والذي به صار غير الحكماء، حكماء، وهذا ما يتضح من خلال التعليم، وكما يوجد روح قوة، والذي به أقام الضعفاء أمواتا، وطردوا شياطين، وكما يوجد روح موهبة للشفاء، وروح نبوة، وروح تكلم بألسنة، هكذا يوجد روح تبني. وتماما مثلما نعرف روح النبؤة، من حيث إن ذاك الذي يحمله يتكلم مسبقا عن المستقبل، متحدثا ليس بفكره الخاص، بل يتحرك بالنعمة، هكذا تعرف روح التبني، من حيث أن ذاك الذي أخذه، يدعو الله آبا، مدفوعا من الروح. إذا فهذا ما أراد أن يظهره بشكل تام على أنه أمر حقيقي، فاستخدم لغة العبرانيين. لأنه لم يقل فقط، أب، لكن “أبا الآب”، الأمر الذي هو بشكل خاص، كلام الأبناء الحقيقيين الذي يتحدثون به مع آبائهم.

3 – إذا بعدما تكلم عن الفارق من جهة السلوك، ومن جهة النعمة التي أعطيت، وكذلك من جهة الحرية، أضاف دليلاً آخر للإمتياز الذي يأتى من هذا التبني. ما هو هذا الإمتياز إذا؟ هو أن:

” الروح نفسه أيضا يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله ” (رو16:8).

فاصل

تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي

لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله، 

إذ لم تأخذوا روح العبوديّة أيضًا للخوف،

بل أخذتم روح التبنّي 

الذي به نصرخ يا أبّا الآب؛ 

الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله” [14-16].

يُعلّق القدّيس يوحنا الذهبي الفم على هذه العطيّة بقوله:

[الآن فإن هذه أيضًا أعظم كرامة من الأولى. ولهذا لم يقل “لأن كثيرين يعيشون بروح الله”، إنما يقول “لأن كثيرون ينقادون بروح الله، مظهرًا أنه يستخدم سلطانًا على حياتهم (يقتادهم) كربانٍ يقود سفينة، أو سائق مركبة على زوج من الفرس، فهو لا يقود الجسد فقط وإنما النفس أيضًا، يملك عليهما… ولأنه يخشى بسبب الثقة في عطيّة جرن المعموديّة يهملون في رجوعهم بعد نوالهم العماد، لذا يود أن يقول لهم أنكم وإن نلتم المعموديّة ولا تنقادون للروح فإنكم تفقدون الكرامة التي نلتموها وسمو بنوّتكم.] 

يرى ذات القدّيس أن قول الرسول: “لم تأخذوا روح العبوديّة” يُشير إلى العهد القديم حيث لم ينل اليهود روح البنوّة، إنما بنوالهم الناموس مجردًا عاشوا تحت تهديدات العقوبة في خوف كعبيدٍ، أمّا في العهد الجديد فلم تعد مكافأة الوصيّة أمورًا زمنية ولا عقابها زمنيًا، إنما قُدمت الوصيّة للبنين، ليكون الله نفسه هو مكافأتنا، ننعم به أبًا أبديًا، نناديه “أبًا”، وهي كلمة أرامية توجه لمناداة الأب. 

يُعلّق القدّيس أغسطينوس على القول: “روح العبوديّة أيضًا للخوف“، قائلاً: [يوجد نوعان من الخوف ينتجان صنفين من الخائفين. هكذا يوجد نوعان من الخدمة يقدّمان نوعين من الخدام. يوجد خوف يطرده الحب الكامل خارجًا (1 يو 4: 18)، كما يوجد نوع آخر من الخوف هو طاهر ويبقى إلى الأبد (مز 19 : 9). يُشير الرسول هنا إلى الخوف الذي ليس للمحبّة… كما يُشير في موضع آخر إلى الخوف الطاهر، بقوله: لا تستكبر، بل خف (رو 11: 20).]

بهذا الروح نحمل لغة البنين في حديثنا مع الله كأب لنا، فنصرخ بالروح القدس الساكن فينا، واهب البنوة، لنقول: يا “أبًا”. هذا الصوت الذي نصرخ به كما يقول القدّيس جيروم: [لا يخرج من الشفاه بل من القلب، ففي الحقيقة يقول الله لموسى: مالك تصرخ إليّ؟” (خر 14: 15)، وبالتأكيد لم ينطق موسى بكلمة.]

v بالحري يجدر بهم أن يفهموا أنهم إن كانوا أبناء الله، فبروح الله ينقادون ليفعلوا ما ينبغي فعله. وعندما يفعلون هذا يقدّمون الشكر لله الذي به فعلوا… وهذا لا يعني أنهم لم يفعلوا شيئًا (أي لا يحرمون من نسبة هذه الأعمال إليهم). 

v إنه يعني عندما تميتون بالروح أعمال الجسد فتحيون [13] مجدوا الله، اشكروه، قدّموا له التشكرّات، ذاك الذي تنقادون بروحه، لكي تقدروا على السير في هذه الأمور لتظهروا كأبناء الله.

القدّيس أغسطينوس

يحدّثنا القدّيس كبريانوس عن التزاماتنا كأولاد الله، قائلاً: [إن كنّا أولادًا لله، إن كنّا بالفعل قد بدأنا أن نكون هياكله، إن كنّا نقبل روحه القدوس، يلزمنا أن نحيا بالقداسة والروحانيّة. إن كنّا نرفع أعيننا عن الأرض نحو السماء، إن كنّا نرفع قلوبنا، ونمتليء بالله (الآب) والمسيح بالعلويات والإلهيات، فليتنا لا نفعل إلا ما يليق بالله والمسيح، كما يحثّنا الرسول، قائلاً: فإن كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله، اهتمّوا بما فوق لا بما على الأرض، لأنكم قد مُتم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله، متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تُظهرون أنتم أيضًا معه في المجد (كو 3: 1-4). ليتنا نحن الذين في المعموديّة متنا ودفنا عن الخطايا الجسديّة التي للإنسان القديم وقمنا مع المسيح في التجديد السماوي نفكر في أمور المسيح ونمارسها.]

هذا ويروي القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص إن عطيّة البنوّة التي ننالها بالروح القدس هي عطيّة السيد المسيح نفسه، هذا الذي حمل مالنا ليهبنا ما له، فحمل موتنا ولعنتنا وخطايانا وعبوديتنا لينزع هذا كله عنّا، فلا نُحسب بعد عبيدًا بل أبناء وأحباء.

ويُعلّق القدّيس أغسطينوس على تعبير “أبًا الآب”، قائلاً أن كلمة “أبا” تقابل في اللاتينية Pater وهي تعني أيضًا “الآب”، وكأن الكنيسة تكرر الكلمة، إذ تصرخ بلغة اليهود “أبًا” وبلغة الأمم “الآب”، فهي كنيسة واحدة تضم أعضاء من اليهود والأمم يشعر الكل بأبوة الله لهم بلا تمييز.

يشهد بهذه البنوّة الروح القدس نفسه الذي يسكن فينا واهبا إيّانا “كرامة البنوّة”، إذ يقول الرسول: “الروح نفسه أيضًا يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله [16].

فاصل

تفسير القمص أنطونيوس فكري

آية (15): “إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا آبا الآب.”

رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ = كان هذا في ظل الناموس. كان الإنسان يمتنع عن الشر خوفًا من عقوبة الناموس، وإذا عمل شيئًا صالحًا يطلب الأجر عنه فالعبد يعيش خائفًا، طالبًا الأجر، بل هو يعمل من أجل أجر زهيد يعطيه له سيده نظير عمله. وهناك من يعيش مع الله هكذا، يطلب من الله طلبات متواضعة كالمال والصحة.. إلخ. وإذا لم يأخذ طلباته يذكر الله بأعماله طالبًا أجره عنها. والآية السابقة حدثتنا عن أن من ينقاد بالروح يصبح إبنًا لله. رُوحَ التَّبَنِّي = ماذا يفرق الابن عن العبد؟ الابن يعمل في محبة، ولا يطلب من الله نظير عمل عمله بل بدالة البنوة، وبدالة البنين تجد أن طلباته من أبيه ليست متواضعة فهو يطلب أحضان أبيه السماوي، ويطلب مجد السماء، بل هو يطلب الله نفسه “أنا لحبيبي وحبيبي لي”. في العهد القديم كان العقاب زمنيًا والمكافأة زمنية أيضًا. والآن صارت لنا مكافأة هي الله نفسه ننعم به أبًا أبديًا، والروح القدس يشهد في داخلنا بهذه البنوة. وبهذه الروح، روح البنوة نَصْرُخُ:«يَا أَبَا الآبُ».

آبا= بالعبرية abba (آبا) الآب باليونانية patir (باتير)= أي يا بابا الذي هو الآب. وهي عبارة تشير لوحدة اليهود والأمم (اليونانيين) فكلمة آبا تشير لبنوة اليهود لله وكلمة باتير تشير لبنوة الأمم لله. فالبنوة صارت لكليهما فاليهود يخاطبون الله بقولهم abba واليونانيين يخاطبونه patir.

رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ لِلْخَوْفِ = هناك نوعان من الخوف:

  1. خوف مقدس طاهر وأمثلته: طالب يخاف من الفشل وهذا يدفعه لمزيد من الجهد لاستذكار دروسه.

خوف مرضي مثل من يدخل الامتحان ولا يجيب أسئلة الامتحان بسبب خوفه الفظيع، مع أنه يعرف الإجابة.

وروحيًا: [1] خوف مقدس طاهر قيل عنه تمموا خلاصكم بخوف ورعدة (فى2: 12)

 + لا تستكبر بل خف (رو20:11). هنا نخاف الله ولكن ليس عن فزع بل خوف المحب الذي يخاف أن يحزن قلب محبوبه، هو خوف يدفع للجهاد. هو خوف ممزوج بالرجاء في ميراث السماء (هو أمل يزداد مع نمو المحبة – رو5 : 5) كالطالب الذي يستميت في مذاكرته ليدخل كلية يحلم بها. وبدون هذا الرجاء نحن أشقى جميع الناس (1كو15 : 19). وما الذي يعطينا هذا الرجاء؟ دخول المسيح للمجد بجسده كسابق لأجلنا. (عب6 : 17 – 20). ونسمع عن هذا الرجاء في (آية 20).

[2] خوف مرضي يتحول إلى شك ويأس في الخلاص، وهذا ضد فضيلة الرجاء. ومثل هذا الخوف قيل عنه أنه يُطرَد بالحب الكامل (1يو4: 18).

زر الذهاب إلى الأعلى