كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي - القمص متى المسكين
انسكاب روح التفسير الإنجيلي على الآباء
في ضوء النصوص العقائدية التي أقرتها المجامع
بالرغم من أن التقليد الرسولي تُسلَّم من الرسل للآباء الأولين قبل المجامع واضحاً ومشروحاً بالروح ، بسيطاً غاية البساطة، وهم تقبلوه مسنوداً بالإلهام ومضيئاً بـنـور الإستعلان الحقيقي، إلا أن هذا الإلهام وهذا النور لم يكن مقسماً على الجميع بالتساوي، لذلك نجد منذ البدء أن الآباء ينقسمون إلى من هو واضح محدد قاطع في تفسيره لقانون الإيمان بحرارة الإيمان، وإلى من هو متسائل، متحير تارة يصيب الحقيقة وتارة يدور حولها في إعياء.
فمثلاً نجد القديس يوستين، وهو من الآباء الرسوليين البسطاء، يتكلم عن الثالوث بهذا الوضوح : إن المسيحيين يعبدون خالق الكون… و بالثاني يعبدون الإبن… و بالثالث حسب الطقس يعبدون الروح النبوي.]
وكذلك يأتي الفيلسوف اللاهوتى المسيحي أثيناغوراس و يتكلم عن الثالوث بكل إلهام قائلاً :
[ أما كوننا لسنا كَفَرة فهذا ظاهر من أننا نعترف بالله الواحد، وقد سبق أن شرحت ذلك بوضوح ، فمن ذا الذي يندهش عندما يسمع أناساً (أي نحن المسيحيين) يتكلمون عن الله الآب والله الإبن وعن الروح القدس مؤكدين قوة هذا الثالوث في الوحدة وتميزهم في الطقس.]
ولكن عندما نأتى إلى أوريجانس نجده متردداً متسائلاً:
[فالمسيح ـــ به كان كل شيء – فهل الروح القدس أيضاً خلق بواسطته ؟ ثم يستمر أوريجانس يقترح : هناك ثلاث إجابات ممكنة : الأولى «نعم» إذا كان الروح القدس تبع طقس المخلوقات، حيث أن اللوغوس (الكلمة) أقدم من الروح القدس] وأخيراً بعد أن يسرد الإجابات الثلاثة يرجح الإجابة الأولى أن الروح القدس مخلوق بواسطة الإبن!!!
وهـنـا يـبـدو أوريجانس العبقري مجرداً من الإلهام !!! وكجبار لا يستطيع أن يخلّص حتى نفسه.
وهكذا تظهر بوضوح الضرورة المحتمة التي كانت تفرضها هذه الظروف لوجود رأي واحد وفـكـر موحد ملهم يقرر الحقيقة، باتفاق مسكوني عام، فيما يختص بكل دقائق الإيمان، حتى يصير للكنيسة مصدر واحد كامل للحق الإلهي !! في إطار من التحديدات التي لم يُقصد منها إلا مزيد من الحرية والحركة في العبادة والإيمان دون الخوف من الإنحراف والزلل.
شكراً الله من أجل المجامع المقدسة والإلهام الذي قادها في وسط عواصف عنيفة من الأفكار والمنازعات والسياسات والعناد والقسوة والرشوة وكل صنوف العثرات، حتى استقر قانون الإيمان في نصوص عقائدية قانونية دامغة، طبقاً للإلهام الأول وحسب رأي ومسرة الله.
وهكذا ، ما كان خاصاً من الإلهام والنور والنعمة لواحد من الآباء دون واحد، صار عاماً مشاعاً لكل فكر وكل قامة وكل مؤمن بسيط بواسطة المجامع المقدسة.
لذلك أصبحت المجامع المقدسة جزءاً لا يتجزأ من التقليد الكنسي، وامتداداً للإلهام الذي كان للرسل، واستمراراً لفاعلية الروح القدس في الكنيسة بلا تشيع ولا انقسام ومصدراً حياً لصوت الحق يُرجع إليه لقبول روح الإلهام… دون اعتبارها ذات سلطان أعلى من سلطان الإنجيل ـ أو رفعها إلى مستوى الخوف فنفقد حرية الروح وحركة المحبة .
وهكذا يقف التقليد العقائدي موقفاً ، غاية في الأهمية، من الأسفار المقدسة، إذ يؤمن معاني الآيات اللاهوتية فيما يختص بالإبن أو بالروح القدس التي وردت في مواضع غير ظاهرة أو في مواضع محدودة بفكرة معينة، يؤمنها ضد الإنحرافات التفسيرية ويضمها جميعاً في إطار عقائدي لا يتعداه الشرح أو التأويل خوفاً من السقوط من دائرة الحق والحب لا خوفاً من السلطان الكنسي القاطع.
كما نجد أن التقليد العقائدي الذي انبثق من المجامع المسكونية والحوار الذي دار فيها قد أخصب الإنجيل والفكر اللاهوتى عامة بإصطلاحات وألفاظ لاهوتية إيمانية غاية في القوة والعمق والنور والإلهام . جاءت لتزيد الحق عمقاً وأصالة وليس لإرهاق الفكر أو التثقيل على الإيمان، مثل:
كلمة «الجوهر».
1 – ( الطبيعة »
2ـ «الأقنوم »
3- «الشخص»
4 ـ «الثالوث» في معناها الجوهري والأقنومي.
وكلمة «المساواة في الجوهر»
وكلمة «المساواة في الكرامة » (بالنسبة للروح القدس مع الآب والابن).
وكلمة «وحدة الألوهة» ( في الآب أو في الله ) بالنسبة للآب والابن والروح القدس.
وهذه الإصطلاحات استطاعت أن تجعل للإيمان منطوقاً محدداً بالألفاظ يشمل كافة الأسفار المقدسة من جهة اللاهوت يتعين به إيمان الشخص ويتحدد بصورة مختصرة قاطعة واضحة، كما استطاعت أن تكون مقياساً ثابتاً يقاس عليه كل فكر وكل قول وكل تصرف هل هو حسب الإيمان التقليدي المقدس أم لا ؟ و بذلك صارت إمكانية الخروج عن الإيمان الكنسي ضئيلة ، فحفظت الكنيسة وختمت على الأسفار المقدسة باعتبار أن تقنين هذه الإصطلاحات يمشي جنباً إلى جنب مع التعمق في الإيمان والمحبة في شخص الرب يسوع المسيح.
وعلى ضوء النصوص الإيمانية التي قررتها المجامع المسكونية انسكب سيل النعمة على الآباء فكتبوا وفسروا كل ناحية من نواحي قانون الإيمان حسب التقليد و بقوة الروح القدس. فتكون في خزانة الكنيسة الفكرية ذخائر روحية وانضم لتراثها التفسيري كتابات غزيرة وعميقة وملهمة عن الثالوث الأقدس وعن تجسد الكلمة وعن ألوهية الروح القدس، وهكذا سار الإيمان البسيط القوي مستنداً على التعليم في ألفة ورصانة إلهية ببرهان السلوك والعمل الصالح.
تفسير التقليد الرسولي لقانون الايمان | كتب القمص متى المسكين | الدخول في عمق التقليد الرسولي | |
كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي | |||
المكتبة المسيحية |