تفسير سفر حزقيال ٢٦ للقمص أنطونيوس فكري

الإصحاح السادس والعشرون

صور مدينة فينيقية شهيرة ظهرت أولاً على الساحل، ولكن مع الزمن ولأسباب دفاعية، وجد أهل صور جزيرة أمامهم فى البحر فأسسوا عليها مدينة أخرى حملت نفس الإسم، وهذه الجزيرة كانت صخرية مساحتها حوالى 142 فداناً. فصار هناك صور الساحلية على البر وصور البحرية فى البحر. وكانت صور مركزاً للتجارة العالمية ومركزاً للمال وتجارها كانوا كالأمراء والرؤساء (أش 23). وحينما سقطت يهوذا فرحت صور بسقوطها وذلك لأن تجارة يهوذا ستتحول إليهم ويزداد غناهم. وهذه المدينة تأسست سنة 2750 ق. م. فهى قديمة جداً. ولكن صور هذه تشير لمحبة المال، وهذه أيضاً خطية قديمة جداً قدم صور نفسها. والسيد المسيح لمعرفته بما للمال من سلطان على النفوس قال “لا يمكن لأحد أن يعبد سيدين الله والمال” وحب المال يقود للطمع، فمن يحب المال لا يشبع. فهو كالماء الذى كل من يشرب منه يعطش والله عبر الإصحاحات 26، 27، 28 يشرح فناء وخراب مملكة المال فى العالم فمن يكنز لنفسه كنوزاً فى العالم ومن يحب المال ويفرح بإكتنازه سوف يخسر خسارة كبيرة حين ينتهى هذا العالم… وهو بلا شك سينتهى أو سنغادره نحن قبل أن ينتهى. أما من وضع كنوزه فى السماء حيث لا لصوص ولا سوس فهذا هو الذى يربح الأبدية. والمال فى حد ذاته ليس خطية ولكن عبادته ومحبته ووضع رجاءنا فيه والطمع وحب الزيادة فى الممتلكات وشهوة التعظم والإفتخار بما لدينا، والإتكال على الأموال… هذه هى الخطايا

ولقد حاصر نبوخذ نصر صور فترة طويلة، نقل خلالها الصوريين كل ممتلكاتهم إلى الجزيرة وتركوها فارغة، فلما دخلها نبوخذ نصر لم يجد أى شئ، ومن غيظه سواها بالأرض ودمرها تدميراً كاملاً. ثم بعد سنين حاصرها الإسكندر الأكبر، ففعلوا نفس الشئ ونقلوا كل شئ إلى الجزيرة ولكن الإسكندر ثغرها ودخلها، ولكنه دمرها وإستغل أنقاضها فى ردم البحر بين المدينة الساحلية والجزيرة ووصل للجزيرة وأسقطها وأخضعها. فى الإصحاح السابق رأينا صورة لحقد الشيطان وشماتته ودمويته ورغبته فى هلاك الإنسان، وهنا نرى وسيلة من وسائله، ألا وهى المال الذى صار صنماً يعبد بدلاً من الله، فصور تمثل مملكة المال فى الأرض، ولكن لنلاحظ أنها ستخرب. وإبليس فعلاً جعل المال إلهاً يتكل عليه الإنسان بدلاً من الله، ويرى فيه الإنسان الأمان والقوة والسلطة، وهدفاً يسعى إليه.

 

الآيات 1 – 14 :- و كان في السنة الحادية عشرة في اول الشهر ان كلام الرب كان الي قائلا. يا ابن ادم من اجل ان صور قالت على اورشليم هه قد انكسرت مصاريع الشعوب قد تحولت الي امتلئ اذ خربت. لذلك هكذا قال السيد الرب هانذا عليك يا صور فاصعد عليك امما كثيرة كما يعلي البحر امواجه.فيخربون اسوار صور و يهدمون ابراجها و اسحي ترابها عنها و اصيرها ضح الصخر. فتصير مبسطا للشباك في وسط البحر لاني انا تكلمت يقول السيد الرب و تكون غنيمة للامم. و بناتها اللواتي في الحقل تقتل بالسيف فيعلمون اني انا الرب. لانه هكذا قال السيد الرب هانذا اجلب على صور نبوخذراصر ملك بابل من الشمال ملك الملوك بخيل و بمركبات و بفرسان و جماعة و شعب كثير. فيقتل بناتك في الحقل بالسيف و يبني عليك معاقل و يبني عليك برجا و يقيم عليك مترسة و يرفع عليك ترسا. و يجعل مجانق على اسوارك و يهدم ابراجك بادوات حربه. و لكثرة خيله يغطيك غبارها من صوت الفرسان و العجلات و المركبات تتزلزل اسوارك عند دخوله ابوابك كما تدخل مدينة مثغورة. بحوافر خيله يدوس كل شوارعك يقتل شعبك بالسيف فتسقط الى الارض انصاب عزك. و ينهبون ثروتك و يغنمون تجارتك و يهدون اسوارك و يهدمون بيوتك البهيجة و يضعون حجارتك و خشبك و ترابك في وسط المياه. و ابطل قول اغانيك و صوت اعوادك لن يسمع بعد. و اصيرك كضح الصخر فتكونين مبسطا للشباك لا تبنين بعد لاني انا الرب تكلمت يقول السيد الرب. 

هه قد إنكسرت مصاريع الشعوب = فرحت صور بإنكسار أبواب أورشليم ودمارها وعلى ذلك فتجار الشعوب سيتحولون عن أورشليم إلى صور قد تحولت إلىَ. امتلئ إذ خَرِبَتْ = أى يزداد غنى صور بخراب أورشليم. ولنلاحظ أن تجار صور هم أغنى تجار العالم ولكنهم لا يكتفون بل يفرحون بخراب أورشليم،مع العلم بأنه لا توجد أى عداوة بين صور وأورشليم، وذلك ليس بسبباً إلا زيادة أرباحهم. ولكن ما هى نهاية مملكة المال والطمع =أُصعد عليك أمما كثيرة = لخرابك. وهذه تساوى تماماً “يا غبى فى هذه الليلة تؤخذ نفسك” وسيكون الأعداء = كما يعلى البحر أمواجه = فحيث إنتظروا من البحر زيادة مراكب التجار أتى لهم بدلاً منها أمواج تغرقهم. وبعد أن كانت صور مدينة جميلة جداً ستخرب تماماً بل أسحى ترابها = أى أزيل حتى ترابها وأكشطه. هو خراب تام وأصيرها ضح ضح الصخر = وتعود صخور عارية. ومبسطاً للشباك = يفرد عليها الصيادون شباكهم. ولقد بدأ نبوخذ نصر هذا الخراب كما ذكرنا قبلاً وأتمه فعلاً بعد ذلك الإسكندر الأكبر. وبناتها يقتلون = هى المدن التى أسستها صور، هذه ستهلك وتخرب إذ تخرب صور نفسها لتوقف التجارة، فصور، هى الأم التى تدير التجارة. ونجد النبى هنا يسمى ملك بابل نبوخذ راصر = وهذا النطق هو الأقرب للإسم البابلى وهو “نبو كدرى أصر أى ليحم نبو حدودى” فكان اليهود يسمونه نبوخذ نصر فى أورشليم، فلما ذهبوا إلى بابل أسموه نبوخذ راصر ولاحظ أن الذى يهدم صور هو جيش جبار يقيم أبراج ومترسة وله أدوات حرب. وهكذا فالعالم به الآن قوة حربية هائلة، وبه قوة إقتصادية مالية جبارة، والبشر فى غى يفرحون بزيادة ممتلكاتهم غير عالمين بأن هذه القوة الحربية ستدمر يوماً كل إقتصاد العالم ومنظره. فهذا العالم سيزول يوماً.

ويغطيك غبارها = تفقد رؤية كل شئ وتخسر جمالها فلا يأتى إليها التجار.

وتسقط أنصاب عزك = الأنصاب هى تماثيل مرتبطة بآلهتهم.

ويبطل أغانيها = لن يضيع فقط شكلها بل أفراحها العالمية، التى كانوا يستخدمون نقودهم فيها. فطوبى لمن كنز أمواله فى السماء، وكان له بدلاً من أفراح العالم أفراحاً روحية، وأوقاتاً روحية تحسب له كمن هو فى السماء

 

الآيات 15 – 21 :- هكذا قال السيد الرب لصور اما تتزلزل الجزائر عند صوت سقوطك عند صراخ الجرحى عند وقوع القتل في وسطك. فتنزل جميع رؤساء البحر عن كراسيهم و يخلعون جببهم و ينزعون ثيابهم المطرزة يلبسون رعدات و يجلسون على الارض و يرتعدون كل لحظة و يتحيرون منك. و يرفعون عليك مرثاة و يقولون لك كيف بدت يا معمورة من البحار المدينة الشهيرة التي كانت قوية في البحر هي و سكانها الذين اوقعوا رعبهم على جميع جيرانها. الان ترتعد الجزائر يوم سقوطك و تضطرب الجزائر التي في البحر لزوالك. لانه هكذا قال السيد الرب حين اصيرك مدينة خربة كالمدن غير المسكونة حين اصعد عليك الغمر فتغشاك المياه الكثيرة. اهبطك مع الهابطين في الجب الى شعب القدم و اجلسك في اسافل الارض في الخرب الابدية مع الهابطين في الجب لتكوني غير مسكونة و اجعل فخرا في ارض الاحياء. اصيرك اهوالا و لا تكونين و تطلبين فلا توجدين بعد الى الابد يقول السيد الرب

بسقوط صور تتزلزل الجزائر = فهى فى عظمتها لم يتصور أحد ما حدث لها، وصارت كل الجزائر حولها مرتعدة من أن يأتى الدور عليها هى أيضاً. والجزائر المقصود بها السواحل والجزر التى تاجرت صور معها.

وتنزل جميع رؤساء البحر عن كراسيهم = من الخوف سيتوارى كبار التجار الذين يعتبرون كما لو كانوا رؤساء البحر. ويخلعون جببهم = فظهورهم بمجدهم وثرائهم سيجعل ملك بابل يحطمهم كما حطم صور الأعظم والأقوى والأحصن. يلبسون رعدات= ويصيرون فى رعدة وحيرة. ويرفعون عليك مرثاة = بينما حين خربت أورشليم لم تجد من يرثيها، ولكن بينما خربت صور نهائياً، عاد الله وأقام أورشليم. فأولاد الله يؤدبهم الله ولا يجدوا من يشفق عليهم ويحن عليهم سوى الله الذى يؤدبهم ثم يرحم. أما الأشرار ففى سقوطهم يرثيهم العالم، ولكن يكون سقوطهم بلا قيام. ونجد أن العالم يحزن لسقوط وزوال الأماكن الشريرة (رؤ 18 : 9). ومما يفاقم الوضع عظمة صور وجمالها السابق ولكن الآن أصيرك مدينة خربة كالمدن غير المسكونة. وأصعد عليك الغمر = كانت الأمواج سابقاً سوراً لها ودفاعاً ولكن الآن حين أراد الله ستصبح هذه الأمواج لخرابها. وأهبطك مع الهابطين فى الجب = هذا مصير مملكة المال والطمع ومحبة العالم، فبقدر ما تبدو جذابة وبراقة ويشتهيها الكثيرون، لكن هذه هى نهايتها الأكيدة. حقاً قال سليمان الحكيم “باطل الأباطيل الكل باطل.. وقبض الريح” ومهما أرتفع شئ فى هذا العالم، فهو سيتضع يوماً، أما من يتواضع أمام الله فسيرفعه الله ويجعله فى السماويات. إذاً هو عالم مخادع كالسراب وكثيرين خدعوا به منذ بدء العالم وكان مصيرهم أسافل الأرض. وهذا سيكون نصيب صور مثل شعب القدم = أى مثل كل من أحب شهوة هذا العالم. المصير هو الخرب الأبدية. والعكس أجعل فخراً فى أرض الأحياء = أرض الأحياء هى الأرض المقدسة. فقد عاد الله لأورشليم وكان فخراً لها حين عادت أورشليم لله. ولكن هناك معنى أبعد من هذا، فإن من أختار الله هنا على الأرض فسيسكن فى أورشليم السمائية حيث مسكن الله مع الناس وحيث يكون المسيح شمس هذه المدينة وفخرها، ومن أختار شهوة العالم فمكانه الخرب الأبدية. وأصيرك أهولاً = فمن العدل أن من ظلموا وأرعبوا غيرهم أن يكونوا فى رعب. بل ولا تكونين = فأين صور العظيمة اليوم، وكم مثلها من ممالك إنتهت وتُطلبين فلا توجدين = حقاً توجد صور اليوم ولكن لا يكاد يعرفها أحد، فأين صور المملكة العظيمة الآن لو طلبها أحد لما وجدها. من أجل هذا الخراب المنتظر أن يحدث فنحن المسيحيين لا نطلب العالم بل ننتظر المدينة الأبدية الباقية.

 

زر الذهاب إلى الأعلى