تفسير سفر حزقيال ٢٨ للقمص أنطونيوس فكري

الإصحاح الثامن والعشرون

تبرز فى هذا الإصحاح شخصيتين، أولها ملك صور الفعلى وثانيهما هو ملك لعين فائق للطبيعة مسيطر على قلب الرئيس الصورى، شحنه بالكبرياء، وإقتاده إلى تحدى جيوش بابل التى أرسلها الله عليه. ونفس الأمر نجده يتكرر فى أش 14 فنرى من هو مسيطر على قلب ملك بابل. وهذا ما قصده معلمنا بولس الرسول حين قال “إن محاربتنا ليست مع لحم ودم بل مع قوات شر روحية (أف 6). فالقوة الفائقة الطبيعة التى تسيطر على البشر هى الشياطين، وهم يحاولون أن يسيطروا على قلوب الرؤساء والملوك لكى يسببوا أقصى الآلام للبشر حتى يجدفوا كما صنعوا مع أيوب، وهم أقوياء جداً (راجع دا 10 : 12، 13) والسيد المسيح يسمى الشيطان رئيس هذا العالم (يو 14 : 30) وفى سفر دانيال نسمع عن رئيس فارس ورئيس اليونان، أى الشياطين التى تحرك رؤساء هذه الأمم (دا 10 : 20). هذه الشياطين تحاول أن تخضع قلوب هؤلاء الملوك لشرورهم، والهدف إلحاق أكبر أذى ممكن بالبشر. وكما فى أش 14 وفى هذا الإصحاح كان الكلام فى بدايته عن ملك أرضى (بابل هناك فى أشعياء، وصور هنا فى حزقيال) ولكن الوحى يدفع النبى هنا أو هناك، أن تتخذ ألفاظه إتجاهاً آخر فيعبر عن الشيطان القوة الخفية التى تحرك هؤلاء الملوك. بل فى أش 14، حز 28 نرى أن هؤلاء الملوك، ملك بابل، وملك صور صارا رمزاً للشيطان.

فملك بابل بقوته الجبارة، وسحقه للشعوب حوله كان يرمز للشيطان فى جبروته وقوته وإذلاله للبشر. وملك صور الذى تجارته موجودة فى كل العالم وهو غنى جداً وتجاره رؤساء، كان يرمز للشيطان الذى تجارته وبضاعته تملأ العالم كله، وبضاعة الشيطان التى يبيعها للناس هى الخطية. وفى غنى ملك صور نرى المال الذى صار إلهاً يتعبد له الناس. ولكننا نرى خراب بابل وخراب صور، وهذه نبوات عن خراب دولة الشيطان وإنتهاء قوته وفساد بضائعة، وهذا بدأ بالصليب

وكما حدث فى هذا الإصحاح حز 28، وفى أش 14 إذ كان الكلام يدور حول ملك أرضى، ثم يتحول الكلام ليصبح عن الشيطان صراحة، سنجد أن نفس المنهج سلكه دانيال النبى فى دا 11 : 26 – 38 إذ كان يتكلم عن ملك أرضى شرير هو أنطيخوس إبيفانيوس الذى إضطهد شعب الله بشرور كثيرة ثم تحول الكلام عن ضد المسيح الذى سيأتى فى أواخر الأيام ويقوم بنفس الشئ، بل سيعطيه الشيطان كل قوته رؤ 13 : 2، 7 وهنا أيضاً كان أنطيوخس إبيفانيوس هذا رمزاً لضد المسيح

 

الآيات 1 – 10 :- و كان الي كلام الرب قائلا. يا ابن ادم قل لرئيس صور هكذا قال السيد الرب من اجل انه قد ارتفع قلبك و قلت انا اله في مجلس الالهة اجلس في قلب البحار و انت انسان لا اله و ان جعلت قلبك كقلب الالهة. ها انت احكم من دانيال سر ما لا يخفى عليك. و بحكمتك و بفهمك حصلت لنفسك ثروة و حصلت الذهب و الفضة في خزائنك. بكثرة حكمتك في تجارتك كثرت ثروتك فارتفع قلبك بسبب غناك. فلذلك هكذا قال السيد الرب من اجل انك جعلت قلبك كقلب الالهة. لذلك هانذا اجلب عليك غرباء عتاة الامم فيجردون سيوفهم على بهجة حكمتك و يدنسون جمالك. ينزلونك الى الحفرة فتموت موت القتلى في قلب البحار. هل تقول قولا امام قاتلك انا اله و انت انسان لا اله في يد طاعنك. موت الغلف تموت بيد الغرباء لاني انا تكلمت يقول السيد الرب.

خطية ملك صور أن = إرتفع قلبك وقلت أنا إله = ولاحظ أن هذه الخطية هى نفسها خطية الشيطان أى الكبرياء. وربما ظن الملك أن صور بل العالم كله يعتمدون عليه، كما يعتمد العالم كله على الله. وأن كلمته قانون إلهى. وعلى الناس أن تسبحه وتكرمه مثل الله. وهو جعل قلبه كقلب الآلهه = هو خدع نفسه مفتكراً أنه قادر أن يحكم العالم كإله. وهو فى مكانه فى صور فى قلب البحار ولكن الله يذكره بأنه إنسان لا إله. وها أنت أحكم من دانيال = واضح أن حكمة دانيال قد ذاعت وإشتهرت فى العالم. سر ما لا يخفى عليك = قد يكون ملك صور قد تصور أنه أحكم من دانيال. عموماً فمن زاد غناه يتصور أنه قادر أن يفعل بماله ما يريد، يرفع من يشاء ويذل من يشاء، ومع الوقت يظن هذا الغنى فى نفسه أنه إله وأنه قادر وأنه حكيم وأنه كل شئ.

ويتضح أنه فى الآيات 1 – 10 أن الكلام عن ملك صور الأرضى والشيطان كلام متداخل، أى يمكن تطبيقه على ملك صور ويمكن أيضاً تطبيقه على الشيطان ولكن فى الآيات 11 – 19 سيكون الكلام متجهاً بوضوح عن الشيطان وحده. ولذلك نأخذ من هذه الآية أنت أحكم من دانيال، حكمة وسر لا يخفى عليك أن الشيطان (وهو من رتبة الكاروبيم المملوئين عيوناً أى حكمة) حكيم جداً، لكن للأسف فحكمته شريرة، ويمكن تسميتها خبث ودهاء. ولا يستبعد أن الكلام كان على ملك صور، وتكون حكمته وكشف بعض الأسرار له عن طريق الشيطان الذى يقوده، وهذا ما قصده معلمنا يعقوب بالحكمة الشيطانية يع 3 : 15. وبهذه الحكمة حصل أموالاً وكنوزاً، فهى حكمة أرضية، أقصى ما تبلغ إليه هو مجد هذا العالم، ولكن هذا العالم سيزول. أما الحكمة التى من فوق فتعلمنا أن نطلب ما هو فوق. وماذا فعل بما إكتنزه ؟ إرتفع قلبك بسبب غناك والعقاب سآتى بغرباء عليك= فمن كل من تعاملوا مع صور لم نجد بابل بينهم. فربما لو تعاملوا معهم لكانوا قد أشفقوا من أن يدمروهم كل هذا التدمير. وهم عتاة الأمم = أى تدميرهم سيكون شديداً. ضد بهجة حكمتك = أى ضد كل ما كان يبهجك وقد صنعته بحكمتك وينزلونك إلى الحفرة = أى تموت. موت القتلى فى قلب البحار = أى بلا دفن. ونحن نعلم من سفر الرؤيا أن نهاية الشيطان تكون فى البحيرة المتقدة بالنار (رؤ 20 : 10) وسيموت ميتة حقيرة كموت الغلف فقد كان الفينيقيون يمارسون الختان ويعتبرون من يموت أغلفاً يكون محتقراً وفى عار عظيم، فهو لن يموت فقط بل يموت فى عار عظيم ويذهب لدرجة مهينة فى الهاوية.

 

الآيات 11 – 19 :- و كان الي كلام الرب قائلا. يا ابن ادم ارفع مرثاة على ملك صور و قل له هكذا قال السيد الرب انت خاتم الكمال ملان حكمة و كامل الجمال. كنت في عدن جنة الله كل حجر كريم ستارتك عقيق احمر و ياقوت اصفر و عقيق ابيض و زبرجد و جزع و يشب و ياقوت ازرق و بهرمان و زمرد و ذهب انشاوا فيك صنعة صيغة الفصوص و ترصيعها يوم خلقت. انت الكروب المنبسط المظلل و اقمتك على جبل الله المقدس كنت بين حجارة النار تمشيت.  انت كامل في طرقك من يوم خلقت حتى وجد فيك اثم. بكثرة تجارتك ملاوا جوفك ظلما فاخطات فاطرحك من جبل الله و ابيدك ايها الكروب المظلل من بين حجارة النار. قد ارتفع قلبك لبهجتك افسدت حكمتك لاجل بهائك ساطرحك الى الارض و اجعلك امام الملوك لينظروا اليك. قد نجست مقادسك بكثرة اثامك بظلم تجارتك فاخرج نارا من وسطك فتاكلك و اصيرك رمادا على الارض امام عيني كل من يراك. فيتحير منك جميع الذين يعرفونك بين الشعوب و تكون اهوالا و لا توجد بعد الى الابد.

واضح جداً أن هذا الكلام لا يمكن أن يقال فى أى رئيس على الأرض. إنما نجد هنا وصفاً لحالة الشيطان الأصلية قبل سقوطه ثم سقوطه. فالله لم يخلق إبليس كما هو، بل خلق كائناً روحياً طاهراً عظيم الحكمة والبهاء. لكن هذا الروح تكبر على الله. وإذا علمنا أن صور تعنى محنة، فيكون الشيطان بعد سقوطه هو سبب المحن التى تعانى منها البشرية. ولاحظ وصف الشيطان قبل سقوطه خاتم الكمال = فقد كان من طغمة الكاروبيم حاملى العرش ملآن حكمة = فالكاروبيم مملوئين عيوناً. كامل الجمال = إذ يعكس بهاء الله عليه. ولكن سقطته جاءت من أنه ظن أنه هو مصدر جماله فإنفصل عن الله. كنت فى عدن جنة الله = هنا سؤال لن نعرف الإجابة عليه الآن.. هل كان الشيطان متولياً أمور هذا العالم قبل سقوطه وظل فيه بعد سقوطه ؟ ولن يستطع أحد أن يجزمبشئ ولكن واضح من الآية أنه كان فى جنة عدن قبل سقوطه، أى كان على الأرض. كل حجر كريم ستارتك = الأحجار الكريمة المذكورة هى إشارة للفضائل التى كان يتحلى بها يوم خلقه الله، وستارتك أى أن هذه الفضائل كانت تغطيك أنشأوا فيك صنعة صيغة الفصوص وترصيعها = وفى ترجمة أخرى صياغة الدفوف الصغيرة والمزامير. أى معنى قيادته للجوقة السماوية فى تسبيحها. ويكون المعنى الرمزى لو فهمنا كلمة عدنبمعناها اللغوى أى بهجة. أنه كان فى فرح سماوى مسبحاً الله طوال الوقت مملوءاً من كل الفضائل. وأقامه الله للخدمة أمامه على جبل الله المقدس = أى يخدم الله فى علو سمائه، فهذا معنى الجبل. وتمشى وسط حجارة النار = الملائكة طبيعتهم نارية عب 1 : 7. وهكذا كان الشيطان. وهنا قوله تمشى وسط حجارة النار، أى كنت وسط الملائكة، الكاروبيم والسيرافيم المتقدون ناراً. إذاً فلم يكن له عذر فى سقوطه، فالملائكة الباقين لم يسقطوا. وكان كاملاً فى طرقه إلى أن وجد فيه إثم = والمعنى أن الله قد خلقه كاملاً والإثم وجد فيه بعد ذلك، وبالتالى يكون هو المسئول عن هذا. وفى الآية 16 نجد ترابطاً وثيقاً بين ملك صور والشيطان. فالشيطان بكثرة تجارته ملأ جوف الملك إثماً وظلماً= فهو حين سقط وطُرِح من جبل الله أخذ يحاول إسقاط الأخرين معه. ولكن تحذير الله أبيدك = فهذا هو مصيره. وسينظره الملوك ويتحيرون أن هذا الجبار سقط مثلهم. وكما خرب ملك صور سيخرب الشيطان يوماً. وتخرج ناراً وتأكله وأصيرك رماداً على الأرض = كم رأى أباؤنا القديسين هذا المنظر، إذ كانوا يرون الشيطان يحترق ويتحول دخاناً بقوة علامة الصليب. ولاحظ رقة قلب الله، فمع كل ما يفعله الشيطان، يبدأ الله هذه الآيات بقوله إرفع مرثاة، فهو يرثى هذا المخلوق الذى كان رائعاً، كما بكى السيد المسيح على أورشليم، وبكى الإنسانية المعذبة على قبر لعازر.

 

الآيات 20 – 23 :- و كان الي كلام الرب قائلا. يا ابن ادم اجعل وجهك نحو صيدون و تنبا عليها. و قل هكذا قال السيد الرب هانذا عليك يا صيدون و ساتمجد في وسطك فيعلمون اني انا الرب حين اجري فيها احكاما و اتقدس فيها. و ارسل عليها وبا و دما الى ازقتها و يسقط الجرحى في وسطها بالسيف الذي عليها من كل جانب فيعلمون اني انا الرب.

هنا نبوات ضد صيدون التى إستغلت خراب أورشليم وهجمت على شعب الرب وباعتهم عبيدأ لليونانيين (يؤ 3 : 6). فكأن النبوة على صيدون تشير أيضاً للشيطان الذى باع أولاد الله للخطية وإستعبدهم، لذلك ستكون نهايتها أيضاً الخراب كباقى أعداء شعب الله.

 

الآيات 24 – 26 :- فلا يكون بعد لبيت اسرائيل سلاء ممرر و لا شوكة موجعة من كل الذين حولهم الذين يبغضونهم فيعلمون اني انا السيد الرب. هكذا قال السيد الرب عندما اجمع بيت اسرائيل من الشعوب الذين تفرقوا بينهم و اتقدس فيهم امام عيون الامم يسكنون في ارضهم التي اعطيتها لعبدي يعقوب. و يسكنون فيها امنين و يبنون بيوتا و يغرسون كروما و يسكنون في امن عندما اجري احكاما على جميع مبغضيهم من حولهم فيعلمون اني انا الرب الهه

وحينما ينهى الله أعداء شعبه الذين باعوهم عبيداً، فلا يكون لهم سلاء ممرر ولا شوكة= السلاء هو ورد به شوك كثير يسبب ألاماً مُرَة. ولن يحدث هذا إلا حينما يشترى الله كنيسته = أجمع بيت إسرائيل من الشعوب = كيف يجمعهم إن لم يشتريهم أولاً. وهو قد إشترانا بدمه. لاحظ أن هذه النبوة أتت بعد نبوة صيدون مباشرة، هذه التى باعت شعب الرب عبيداً وها هو يجمعهم ثانية. ومعنى باقى الكلام = يسكنون آمنين ويغرسون كروماً = هو أن يعيشوا فى سلام، وهذا عمل  الروح القدس فى الكنيسة. والكروم تنتج الخمر إشارة الفرح :- 1) فرح الله بشعبه 2) فرح الشعب بالرب. ووعد الرب بأن لا يكون سلاء ممرر، تم بالصليب، إذ بالصليب أعطى الله لشعبه نعمة فما عادت الخطية تسود عليهم رو 6 : 14 ولا عاد الموت له سلطان عليهم، بل صار شهوة للقديسين 1كو 15 : 55 + فى 1 : 23…….. صار الموت إذاً بلا شوكة، بل صار إنتقال لأفراح أبدية

زر الذهاب إلى الأعلى