تفسير سفر حزقيال ٣٦ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السادس والثلاثون

نبوة عن جبال إسرائيل

في الأصحاح السابق تنبأ حزقيال النبي علي سعير بكونه يمثل عدو الخير المقاوم لله في شعبه. هنا يتحدثعن اهتمام الله بشعبه وغيرته عليهم من عدو الخير الذي يريد تحطيمهم. هذه الغيرة الإلهية تقوم علي إصلاحجذري، وتجديد للطبيعة البشرية، فيتقدس في حياتهم.

  1. غيرة الله علي جبله        [1-15].
  2. إصلاحهم بعد تأديبهم       [16-21].
  3. إصلاح جذري              [22-38].

غيرة الله علي جبله:

في هذا الأصحاح كشف الله عن علة جديدة لتدخله لإصلاح حال شعبه وهي غيرته علي اسمه القدوس الذيأهانه الأمم الذين ظنوا في الله أنه ضعيف بسبب ما حل بشعبه من تأديبات. لقد شمتوا في خراب شعبه وأساءواإلي اسمه القدوس، وتسللوا إلي أرض الميراث، لتصير ميراثًا لهم عوض شعب الله، إذ يقول السيد الرب: “منأجل أن العدو قال عليكم هه. إن المرتفعات القديمة صارت لنا ميراثًا” [2]. لقد فرحوا بالهزيمةواستغلوها، لهذا قام الرب يخلص شعبه “في نار غيرته” [5]. يتطلع الرب إلي الجبال والتلال والأنهاروالأودية والخرب المقفرة والمدن المهجورة التي صارت للنهب والاستهزاء لبقية الأمم من حولها ويقول: “هأنذا فيغيرتي في غضبي تكلمت من أجل أنكم حملتم تعيير الأمم، لذلك… إني أرفع يدي فالأمم الذينحولكم هم يحملون تعييرهم” [7].

ما هي هذه الجبال إلا الأنبياء، والتلال هم الكهنة، والأنهار هم المعلمون، والأودية هي النفوس الضعيفة، أماالخرب المقفرة والمدن المهجورة فهي الشعب الذي هلك بسبب شره وإهمال رعايته.

إنه يتحدث مع الرعاة والرعية، الكهنة والشعب، العظماء، والمحتقرين، الثابتين كالجبال والمنهارين كالمدنالخربة… إنه يتحدث مع الجميع معلنًا أنه يتدخل لإصلاحهم، ليس من أجل أحد منهم، بل لأجل غيرته الناريةبسبب تعييرات الأمم لهم وله!

لقد رفع يده [7] ليتكلم ضد الأمم، وكأنه وقف يعلن القسم، لأن عادة اليهود في ذلك الحين حينما يقسمونيرفعون أياديهم. إنه يؤكد بقسم أنه يتدخل لإصلاحهم بغيرته المتقدة. وفي هذا لا يظلم الأمم، إنما يرد عليهمأعمالهم، إذ “يحملون تعييرهم” [7]. فما يفعلونه مع غيرهم يرتد عليهم، يشربون ذات الكأس التي أعدوهالغيرهم.

يعود فيتطلع الرب إلي الجبال المقدسة كما إلي كنيسته معلنًا أنه يقدم لها إمكانية جديدة للإثمار حتى إذيرجع إليها شعبه يجد الجبال مزروعة ومثمرة، وتُعمَر المدن وتبني الخرب [10] وتمتلئ الجبال من البشروالحيوانات [12].

عجيب هو الله في حبه للإنسان فإنه يقدم له إمكانية للعودة، لا إلي ما كان عليه قبلاً قبل السقوط والسبي،وإنما إلي حال أفضل، إذ يقول: “أسكّنكم حسب حالتكم القديمة وأُحسن إليكم أكثر ممَّا في أوائلكمفتعلمون أني أنا الرب” [11]. هذا ما فعله معنا السيد المسيح، قدم لنا الجبال المقدسة (الكنيسة) مزروعةومهيأة للسكني فيها لا كالفردوس القديم المفقود بل وأعظم. ندخل إلي الجبال المقدسة فلا نجد شجرة الحياة بلالمسيح نفسه واهب الحياة، عوض الأنهار نجد ينابيع الروح القدس تفيض بالنعم الإلهية، وعوض الدمار والخرابالذي حل بنا يمتلئ القلب بملكوت الله الأبدي.

في عهد النعمة لم يرجع الإنسان إلي حاله الأصلية قبل السقوط فحسب، وإنما صار ابنًا للآب، وعضوًا فيجسد السيد المسيح وهيكلاً مقدسًا للروح القدس… أي مجد أعظم من هذا؟! لقد صار حالنا الآن – في المسيحيسوع – أفضل مما كنا عليه في أوائلنا!

ماذا يفعل الرب بجبله المقدس؟ “أكثَّر الناس عليكم… وأكثَّر عليكم الإنسان والبهيمة فيكثرونويثمرون وأُسكّنكم… وأُمشَّي الناس عليكم شعبي إسرائيل فيرثونك، فتكون لهم ميراثا ولا تعودبعد تُثكِّلُهم” [10-12].

أنه يُكثر الناس داخل كنيسته – جبله المقدس – فيأتي بهم من المشارق والمغارب من كل أمة ولسان وشعب.يكثر الإنسان والبهيمة فيكثرون ويثمرون بمعني أنه ليس فقط يأتي بهم من كل العالم إلي جبله، وإنما يُبارك  كلواحد منهم، يبارك  نفسه (الإنسان) وجسده (يرمز له بالبهيمة) فيكثرهما ويثمرهما، إذ تحمل النفس كماالجسد من ثمر الروح القدس.

 لا تصير هناك عداوة بين الإنسان والحيوان، بين النفس والجسد، بل يسكنان معًا كما في الفردوس،منسجمين معًا، يعملان تحت قيادة الروح القدس.

يقول إن الناس يمشون في الجبال، إذ يدخلون كشعب الله إلي الكنيسة، ويصيرون في حالة تحرك مستمربلا توقف حتى يرثوا الجبل المقدس، ولا يعود الموت يقترب إليهم! يدخلون إلي الكنيسة الأبدية، الميراث الإلهي،حيث لا موت ولا ألم ولا ضيق.

  1. إصلاحهم بعد التأديب:

كأن النبي يسأل: مادمت ترد الشعب إلي حال أفضل مما كان عليه، فتعمر المدن الخربة وتبني الخرائب،فلماذا سمحت بالتدمير والخراب؟ وجاءت الإجابة الإلهية تعلن أن ما صنعه الله إنما لتأديب الشعب بسببشرهم، حتى إذ سقطوا تحت التأديب وقامت الأمم بتعييرهم يقوم هو بغيرته الإلهية ويردهم إلي حال أفضل مماكانوا عليه. لقد كانت أعمالهم قبلاً نجسة كخرقة الطامث، صنعوا رجاسات وسفكوا الدماء وصاروا سبب تجديفعلي اسمه القدوس… ومع ذلك إذ أدبهم عاد فتحنن عليهم من أجل اسمه القدوس.

  1. إصلاح جذري:

إذ تحدث عن غيرته للإصلاح بدأ بالحديث عن غاية هذا الإصلاح ثم وسائله. أما غايته فهي: “ليس لأجلكمأنا صانع يا بيت إسرائيل بل لأجل اسمي القدوس… فأقدس اسمي العظيم…فتعلم الأمم أني أناالرب يقول السيد الرب حين أتقدس فيكم قدام أعينهم” [22-23].

ماذا يعني الرب بهذا؟ هل أنه يعمل لخلاصنا وإصلاحنا من أجل اسمه القدوس وليس لأجلنا؟ هل في هذاأنانية؟ هل يحب مجد اسمه القدوس ولا يهتم بنا؟ يستحيل! إنما في قوله “ليس لأجلكم” لا يعني عدم اهتمامهبنا، إنما لا يعمل عن استحقاق فينا، ولا بإمكانياتنا، إنما يعمل فينا لأجل اسمه بإمكانياته كقدوس. إنه يحبنافيجعلنا موضع “تمجيد اسمه القدوس”، فيتجلى بقداسته فينا، ذلك كالأب الذي يفرح بأولاده الناجحين كأنماهو الناجح، ويحسبهم مستحقين أبوته. إنه يرفعنا من روح العبودية إلي روح البنوة القادرة أن تعلن بوضوح مجدالآب، أو يقيمنا كجسد مقدس يكشف بتصرفاته الحكيمة عن حكمة الرأس المدبر.

اهتمامه بإعلان قداسة اسمه فينا إنما هو ذات الحب لنا!

أما وسائل الإصلاح الجذري فهي:

أ. “آخذكم من بين الأمم وأجمعكم من جميع الأراضي وآتي بكم إلي أرضكم” [24]. إنها دعوةلإقامة شعب واحد مقدس، يجمعه من جميع الأراضي، أي من كل أمة ولسان وشعب، ويأتي بالكل إلي أرضهمأي إلي الكنيسة التي هي لهم. هذه هي دعوة السيد المسيح للبشرية كلها تجتمع فيه لتصير جسده المقدس،فتستريح فيه كما في أرضها أو بيتها.

ب. إن كان الله من أجل سفك الدماء ورجاسات الوثنية ظهر كضعيف وسط الأمم مسلمًا شعبه لبابل، فلكييتمجد اسمه القدوس وتظهر قوته لا يحتاج الأمر إلي مجرد عودتهم إلي أرضهم بل بالحري إلي غفران خطاياهمبالدم الكريم المبذول عنهم. هذا الذي يتمتعون به خلال مياه المعمودية المقدسة.

“وأرش عليكم ماء طاهرًا فتطهرون من كل نجاساتكم ومن كل أصنامكم أُطهركم”  [25]. بهذاينالون غفران خطاياهم فيحق لهم العودة إلي مدنهم وبناء خرائبهم: “هكذا قال السيد الرب: في يومتطهيري إياكم من كل آثامكم أسكنكم في المدن فتبني الخرب وتفلح الأرض الخربة عوضًا عنكونها خربة أمام عيني كل عابر” [33-34].

هذا هو عمل المياه المقدسة، إذ يقول القديس برناباس: [حقًا إننا ننزل في الماء مملوءين من الخطاياوالدنس ونصعد حاملين ثمرًا في قلوبنا، حاملين في روحنا خوف (الله) والرجاء بيسوع[290]]. ويقول القديسأكليمنضس الإسكندري: [المعمودية تغسلنا من كل عيب، وتجعلنا هيكل الله المقدس، وتردنا إلي شركةالطبيعة الإلهية بواسطة الروح القدس[291].

ج. لا يقف التطهير في المياه المقدسة عند غسلنا من الخطايا القديمة وإزالة كل عيب فينا، وإنما يمتد إليمنحنا طبيعة جديدة تقوم عوض الطبيعة الفاسدة التي كانت لنا، طبيعة تناسب الحياة الجديدة في الأرضالجديدة: “وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدة في داخلكم وأنزع قلب الحجر من لحمكموأعطيكم قلب لحم” [26]. هذا القلب الجديد وهذه الروح الجديدة إنما يتحققان بنوالنا الميلاد الروحيالجديد في مياه المعمودية المقدسة. ويقول القديس كبريانوس: [إنها المعمودية التي فيها يموت الإنسانالقديم ويولد الإنسان الجديد كما يعلن الرسول مؤكدًا أنه خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس (تي 3: 5)[292]].

د. بنوالنا الغفران وتمتعنا بالقلب الجديد بواسطة الروح القدس داخل مياه المعمودية إنما نتهيأ لقبول الروحالقدس فينا في الميرون. هذه هي علامة العهد الجديد، عطية السيد المسيح لنا أنه وهبنا روحه، إذ يقول: “وأجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها” [27]. هذه هي الإمكانية الجديدة للسلوك في وصايا الرب وحفظ أحكامه والعمل بها، إنها إمكانية روحهالقدوس الذي وُهب لنا في داخلنا. لهذا ركز الأنبياء علي هذه العطية، فمن أقوالهم:

“وأجعل روحي فيكم فتحيون” (حز 37: 14).

“لا أحجب وجهي عنهم بعد لأني سكبت روحي علي بيت إسرائيل” (حز 39: 26).

“لأني أسكب ماء علي العطشان وسيولاً علي اليابسة. أسكب روحي علي نسلك وبركتي علي ذريتك” (إش 44: 3) (عمل الروح القدس فينا كعمل المياه في العطشان والسيول في الأرض اليابسة).

“ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي علي كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم ويحلم شيوخكم أحلامًا ويري شبابكمرؤى، وعلى العبيد أيضًا وعلى الإماء أسكب روحي في تلك الأيام” (يؤ 2: 28-29).

هـ. تذكرنا الدائم لضعفنا، إذ يقول: “فتذكرون طرقكم الرديئة وأعمالكم غير الصالحة وتمقتونأنفسكم أمام وجوهكم من أجل آثامكم وعلي رجاساتكم” [31]. إن كان الله قد وهبنا غفران خطايانافي استحقاقات دمه وأعطانا طبيعة جديدة وقدم لنا روحه ساكنا فينا، لكننا وسط فرحنا بأعمال الله العظيمةمعنا ورجائنا المستمر فيه ينبغي أن نذكر ضعفاتنا تبكيتًا لنفوسنا وتحذيرًا لنا لئلا نسقط. وكما يقول المرتلالتائب: “خطيتي أمامي في كل حين” (مز 51). وكأننا بالمفلوج الذي شفي وقام من سرير مرضه لكنه يلتزم أنيحمل سريره فلا ينسي ضعفاته. غير أنه يليق بنا في تذكرنا لخطايانا أن نسلك بروح التمييز، فلا نذكر خطايانابتفاصيلها فنتعثر بتذكارها، كما لا نذكرها بروح اليأس فنفقد فرحنا بالخلاص. وقد تحدث القديسبينوفيوس كثيرًا في هذا الأمر محذرًا إيانا لئلا بسبب تذكر الخطايا تختنق نفوسنا من رائحة البالوعاتالخانقة[293].

و. النمو الدائم: من خلال تذكرنا لضعفنا الذاتي نؤمن بالذي يعمل فينا بغير انقطاع لأجل بلوغنا الكمال.شعورنا بضعفنا ربما يُحطم نفوسنا، لكن إيماننا بالذي يعمل فينا علي الدوام يُنمينا، لهذا يكمل الرب قائلاً: “إني أنا الرب بنيت المنهدمة وغرست المقفرة. أنا الرب تكلمت وسأفعل” [36]. يقول أيضًا: “أكثّرهمكغنم أُناسٍ، كغنم مقدس، كغنم أورشليم في مواسمها فتكون المدن الخربة ملآنة غنم أُناسٍ” [37-38]. إنه يعمل فينا ليملأ أورشليمنا الداخلية بالثمر المتكاثر، وينطق بنا من مجد إلي مجد ليدخل بنا إليكماله.

 

 


 

من وحي حزقيال 36

أقمني جبلاً مقدسًا لك!

v   أقمني يا رب جبلاً مقدسًا لك!

تجعلني ثابتًا كالجبال،

لا يقدر عدو الخير أن يزحزحني!

v   لترسل روحك القدوس كمطر عليّ،

يحولني إلي جنة مثمرة.

اَحمل في داخلي صليبك.

شجرة الحياة الأبدية.

v   أنت تكثر الناس والبهائم،

تبارك نفسي العاقلة،

وتقدس جسدي فلا يحمل بعد طبيعة حيوانية!

روحك القدوس يجدد طبيعتي فأحيا أبديًا!

v   يا لغنى نعمتك!

يا لفيض حنانك!

أنت تغفر لي خطاياي وعصياني،

تنزع عني نجاساتي وتهبني الحياة المقدسة!

أما أنا فأذكر دومًا ضعفي،

وأعترف لك بفضلك عليّ!

أقمني يا رب جبلاً مقدسًا لك!

 

زر الذهاب إلى الأعلى