تفسير سفر حزقيال ٣ للقس أنطونيوس فكري

الإصحاح الثالث

هذا الإصحاح إعداد النبي لمهمته التى دعاه الله إليها، وذلك بأكله الدَرَج (الكتاب) وبعض التعليمات الجديدة، وتشجيعه بإعطائه دفعة قوية حملته لمن أرسله الله لهم.

الآيات 1 – 15 :-

فقال لي يا ابن ادم كل ما تجده كل هذا الدرج و اذهب كلم بيت اسرائيل. ففتحت فمي فاطعمني ذلك الدرج. و قال لي يا ابن ادم اطعم بطنك و املا جوفك من هذا الدرج الذي انا معطيكه فاكلته فصار في فمي كالعسل حلاوة. فقال لي يا ابن ادم اذهب امض الى بيت اسرائيل و كلمهم بكلامي. لانك غير مرسل الى شعب غامض اللغة و ثقيل اللسان بل الى بيت اسرائيل. لا الى شعوب كثيرة غامضة اللغة و ثقيلة اللسان لست تفهم كلامهم فلو ارسلتك الى هؤلاء لسمعوا لك. لكن بيت اسرائيل لا يشاء ان يسمع لك لانهم لا يشاؤون ان يسمعوا لي لان كل بيت اسرائيل صلاب الجباه و قساة القلوب. هانذا قد جعلت وجهك صلبا مثل وجوههم و جبهتك صلبة مثل جباههم. قد جعلت جبهتك كالماس اصلب من الصوان فلا تخفهم و لا ترتعب من وجوههم لانهم بيت متمرد. و قال لي يا ابن ادم كل الكلام الذي اكلمك به اوعه في قلبك و اسمعه باذنيك. و امض اذهب الى المسبيين الى بني شعبك و كلمهم و قل لهم هكذا قال السيد الرب ان سمعوا و ان امتنعوا. ثم حملني روح فسمعت خلفي صوت رعد عظيم مبارك مجد الرب من مكانه. و صوت اجنحة الحيوانات المتلاصقة الواحد باخيه و صوت البكرات معها و صوت رعد عظيم. فحملني الروح و اخذني فذهبت مرا في حرارة روحي و يد الرب كانت شديدة علي. فجئت الى المسبيين عند تل ابيب الساكنين عند نهر خابور و حيث سكنوا هناك سكنت سبعة ايام متحيرا في وسطهم.

على الخادم أن يتذوق كلمة الله أولاً قبل أن يبدأ خدمته، ومن يتذوقها تصير فى فمه كالعسل = وهذا ما قاله داود مز 119 : 103 وأرمياء أر 15 : 16 ويوحنا رؤ 10 : 9. بل أنه على كل إنسان، خادم أو مخدوم أن يتذوق كلمة الله، وذلك بأن يأكل الدرج كله، أى ينفذ ويعيش طائعاً مختبراً كل وصايا الله، علينا أن نقبل كل كلام الله، ولا نرفض شيئاً، فلا نقبل ما يعجبنا ونترك ما لا يعجبنا (مثل من لا يستريح لوصية دفع العشور فيتركها)

ففتحت فمى فأطعمنى… ثم أطعم بطنك = فيبدو كأن النبى أبقى الكلام فى فمه أولاً ولم يبتلعه، لذلك كان له الأمر التالى إطعم بطنك = وهذا أشبه بالخادم الذى يعظ كثيراً، ولا ينفذ ما يقوله. أو من يعرف معرفة عقلانية دون إختبار ومعايشة لكلام الله، بينما إنجيلنا قوته تظهر حينما يكون إنجيلاً معاشاً، الله يريد أن تكون هذه المعرفة فى الأعماق. وهذا معنى أوعِهِ فى قلبك (آية 10). ونلاحظ إذا أطعنا الوصايا، حتى ما نتصوره منها أنه صعب التنفيذ، سنجد لذلك لذة مثل العسل. لأنك غير مرسل لشعب غامض اللغة= الله أرسله لشعبه الذى يتكلم نفس لغته، بل هو يعيش وسطهم فى السبى شاعراً بألامهم ومذلولاً معهم، ولذلك يستطيع أن يتكلم بلسانهم… وهذا هو المفهوم الصحيح لموهبة الألسنة الآن، أى أن يعطى الروح القدس الكلمات المناسبة فى فم ولسان الخادم، فيكون للكلمة تأثيرها القوى. والروح يعطى للخادم كلمات تعزية للحزين، وكلمات توبيخ للمستهتر، وكلمات تشجيع للنفس اليائسة. وإذا كانت الكلمات من الروح القدس فهى لا تعود فارغة أش 55 : 11، وتكون الكلمات لها تأثيرها المطلوب فى نفس سامعها، أما التكلم باللغات فالكنيسة لا تحتاجه الآن. وهذا الشعب المرسل إليهم لن يقبلوه، ولو أُرسِل إلى شعب غريب ربما يقبلونه كما حدث مع شعب نينوى إذ أرسل الله يونان لهم وهذا يدل على قسوة قلوبهم. ولكن الله يُعِدْ خدامه جيداً فهو جعل النبى صلب الوجه مثلهم = فربما كان حزقيال ذو شخصية وديعة خجولة لا يحب أن يجرح أحد أو يسئ لمشاعر أحد، ولهذا قد لا يتمكن من تحذير هؤلاء القساة القلوب ومواجهتهم بأخطائهم وإنذارهم بالمصائب الآتية، ولأن ما يطلبه الله من النبى يحتاج لشخصية جبارة قوية لتواجه هذا الشعب المتمرد فقد أعطاه الله صلابة الوجه.

إن سمعوا وإن إمتنعوا = فالخادم عليه أن يكلم كل واحد بكلمة الله سواء كان خاطئاًً أو قديساً، ولو إمتنع الخادم أن يكلم القديس إذ يظن أنه لا يحتاج، وإمتنع أيضاً أن يكلم الخاطئ إذ يظن أنه لا فائدة ترجى منه، فلن يكلم أحداً، ولكن على الخادم أن يكلم بأمانة كل واحد.

فسمعت خلفى صوت رعد عظيم = هذا صوت فرحة الملائكة بالنبى الجديد وإرساليته، فهم توقعوا توبة الشعب نتيجة لخدمة هذا النبى، وهو صوت تهليلهم، وأيضاً هو صوت مساندة للنبى ليتقدم بثبات، فهو ليس وحده بل هم يساندونه.

مبارك مجد الرب من مكانه = مبارك مجد الرب من السماء مكانه العلوى، سواء مجده فى هذه الرؤيا نازلاً على الأرض مع ملائكته، أو مجده الذى يغادر الهيكل فالملائكة يعرفون أنه مهما فعل الرب فهو بار، وإن كان الأشرار يهينون الله بأعمالهم إلا أن الملائكة فى السماء يمجدونه، إلا أن هذه التسبحة من الملائكة هنا هى تعبير عن فرحتهم فى أن مجد الله سيظهر فى توبة هذا الشعب بإرسالية هذا النبى، ومجد الله يظهر فى قبول الله لهؤلاء المتمردين، بأن يعمل على توبتهم وتأديبهم فلا يهلكوا بل يكون لهم خلاص، وخلاصنا يفرح الملائكة رؤ 5 : 9، 12 + لو 15 : 10. وحملنى الروح فذهبت مراً فى حرارة روحى= الروح أعطى له دفعة روحية جبارة ترفعه عن الأرضيات، ولكن الجسد كان نافراً من الخدمة لمعرفته بألامها. وأن الشعب المرسل له لن يقبله. وكان يتمنى لو أعفى من هذه الخدمة مكتفياً بما رآه من رؤى مجيده. ولكن يد الله كانت شديده عليه = فلم يستطع إلا أن يذهب وحمله الروح حيث سكنوا = ليسمع ما يقولون ويلاحظ تصرفاتهم ويعايشهم وهناك مكث متحيراً فى وسطهم حين قارن بين جلال الرؤيا وحالهم فى خطيتهم. وتركه الله يبتلع أحزانه بلا رؤى لمدة سبعة أيام، وهذا من حكمة الله حتى لا ينتفخ بل يتضع وهكذا يسمح الله بضيقات لخدامه لفترات حتى يشعروا بضعفهم فيتضعوا بدلاً من أن يرتفعوا، فبداية السقوط الكبرياء (2كو 12 : 7 + أم 16 : 18)

 

الآيات 16 – 21 :-

و كان عند تمام السبعة الايام ان كلمة الرب صارت الي قائلة. يا ابن ادم قد جعلتك رقيبا لبيت اسرائيل فاسمع الكلمة من فمي و انذرهم من قبلي. اذا قلت للشرير موتا تموت و ما انذرته انت و لا تكلمت انذارا للشرير من طريقه الرديئة لاحيائه فذلك الشرير يموت باثمه اما دمه فمن يدك اطلبه. و ان انذرت انت الشرير و لم يرجع عن شره و لا عن طريقه الرديئة فانه يموت باثمه اما انت فقد نجيت نفسك. و البار ان رجع عن بره و عمل اثما و جعلت معثرة امامه فانه يموت لانك لم تنذره يموت في خطيته و لا يذكر بره الذي عمله اما دمه فمن يدك اطلبه. و ان انذرت انت البار من ان يخطئ البار و هو لم يخطئ فانه حياة يحيا لانه انذر و انت تكون قد نجيت نفسك.

كان للشعب اليهودى عادة أن يجتمعوا عند الأنهار ليصلوا (أع 16 : 13). وهناك ذهب لهم حزقيال يكلمهم. وهنا لم يرى رؤيا بل أخبر فقط بالكلام، فحياة خدام الله وأنبيائه ليست كلها رؤى. والله عَيَنه رقيباً = والرقيب هو الذى يراقب تحركات العدو وينذر الشعب. وهذا هو عمل الخدام أن يكتشفوا خداعات الشياطين الأعداء وينذروا الشعب. وعلى الخادم أن يسمع من الله فإسمع الكلام من فمى = وبعد أن يسمع من الله عليه أن ينذر الشعب = وأنذرهم من قِبَلى = فالرقيب له عيون وأذان تسمع ولسان يضع الروح القدس كلمات عليه، وحينئذ يكون صوته كبوق إنذار، ليس من عنده، ولكن من عند الرب. ومعنى الكلام هنا أن عليه أن ينذر الشرير ليتوب، فإن لم يتب الشرير يهلك، ولكن النبى ينجو لآنه قام بعمله بأمانة. وإن تاب الشرير ينجو لأنه تاب. ولاحظ أن النفس ثمينة جداً عند الله. وعلى النبى أن ينذر أيضاً الأبرار ولا يمتنع عن وعظهم وهنا نعرف لماذا يعظ الأبرار ؟ لأن هناك إحتمال أن يخطئ البار، ويكون إنذار النبى سبباً فى عدم سقوطه فيحيا. وإن قَصَر النبى أو الخادم فى عمله بحجة أن هذا الإنسان بار، ثم إرتد هذا البار لسبب أو لآخر وهلك هذا الإنسان الذى كان باراً، يدان معه الخادم الذى إمتنع عن وعظه. ونلاحظ أن البار حقيقة سيفرح بكلمة الوعظ، وأن أبر إنسان  فى العالم له خطاياه. وهناك بر يمكن أن يرتد عنه الإنسان،فهو البر المظهرى، وهؤلاء ينطبق عليهم “لأنهم لو كانوا منا لبقوا معنا” مثل هؤلاء لا يخطئوا ليس لأنهم أبرار حقيقة بل لأنه لا توجد فرصة أمامهم ليخطئوا، وإذا وجدت الفرصة لأخطأوا. وهناك أيضاً كثيرين بدأوا بالروح وأكملوا بالجسد غل 3 : 3. هؤلاء أعطوا السماء القفا لا الوجه أر 2 : 27. هؤلاء يقول الله عنهم جعلت معثرة أمامه= الذى قلبه غير مستقيم مع الله، يحب الخطية، ولكن لا توجد أمامه فرصة للخطية، وحب الخطية يملأ قلبه وبالتالى لا يوجد فيه مكان لحب الله، مثل هذا يظن فى كبريائه أنه بار إذ أنه لا يخطئ، والكبرياء تزيد من شروره، وهذا يسمح له الله بأن يسقط، يسمح بوجود عثرات أمامه أى يرفع عنايته عنه، وهنا إحتمالين  1) أن هذا الإنسان إذ يسقط تنكسر كبريائه ويقدم توبة ويكون هذا بداية الشفاء   2) يزداد هذا الإنسان سقوطاً متجاوباً مع قلبه الفاسد وينضج للخراب. وهذا معنى أن الله قسى قلب فرعون وإزدادت ضرباته حتى هلك. ولاحظ أن النبى كان ينذرهم بالخراب والهلاك بيد البابليين حتى يكفوا عن خطاياهم فلا يهلكوا.

 

الأيات 22 – 27 :-

و كانت يد الرب علي هناك و قال لي قم اخرج الى البقعة و هناك اكلمك. قمت و خرجت الى البقعة و اذا بمجد الرب واقف هناك كالمجد الذي رايته عند نهر خابور فخررت على وجهي. فدخل في روح و اقامني على قدمي ثم كلمني و قال لي اذهب اغلق على نفسك في وسط بيتك. و انت يا ابن ادم فها هم يضعون عليك ربطا و يقيدونك بها فلا تخرج في وسطهم. و الصق لسانك بحنكك فتبكم و لا تكون لهم رجلا موبخا لانهم بيت متمرد. فاذا كلمتك افتح فمك فتقول لهم هكذا قال السيد الرب من يسمع فليسمع و من يمتنع فليمتنع لانهم بيت متمرد

نجد النبى هنا منسحباً من الخدمة وغير راغب فى العمل، لكن الله يشدده ويريه مجده ثانية. وطلب منه أن يجلس فى بيته كفترة خلوة وإعداد. ولنلاحظ أن سلوكنا الإختيارى، يصنع أحياناً عقابنا، فهو لعدم رغبته فى الخدمة تركه الله فى منزله لفترة. بل أخبره بضيق يأتى عليه وأنهم سيقيدونه ويربطونه إما كمجرم ومكدر للسلام إذ أنذرهم، أو إعتباره أنه رجل مخبول، وهكذا صنع أقرباء المسيح معه (مر 3 : 21) وهكذا صنع فستوس الوالى مع بولس. والصق لسانك بحنكك فتبكم ولا تكون موبخاً = فهم لا يستحقون وجود نبياً يوبخهم فيحيوا، بعد ما صنعوه. ولنلاحظ أن من تقسى قلبه ضد الإدانة والتوبيخ يحرمه الله من سماعهما. ولاحظ أيضاً أن الله لم يعطه أى تأكيدات بالنجاح، بل أكد الله على المسئولية الشخصية = من يسمع فليسمع ومن يمتنع فليمتنع

تعليق على الآية 20 وجعلت معثرة أمامه = هناك من يظن أنه بار ولكن توجد بداخله خطية هو غير شاعر بها أو لا يدركها. حقاً هو لم يرتكب الخطية إنما هذا راجع لعدم وجود جو مهيأ للخطية. فليس معنى أنه لم يرتكب الخطية أنه إنسان بار وكامل.  بل أن وجود الخطية داخله يعرضه للهلاك. مثل هذا فالأفضل له أن يكتشف حقيقة نفسه، والله يمتحنه بتجربة… ولاحظ أن الله لا يمتحنه ليعرف رد فعله وبالتالى يحكم عليه، فالله يعرف كل شئ ويعرف رد فعله أمام التجربة، ولكن الله يمتحنه ليعرف هو حقيقة نفسه، ويكتشف ضعفاته فيتوب ويشفى فيخلص

مثال 1 :- أيوب كان يظن أنه بار فلا يقدم ذبائح عن نفسه، وهذا الكبرياء ظهر بعد التجارب، وتاب أيوب وخلص. هنا الله جعل معثرة أمام أيوب لينجو

مثال 2 :- إنسان يظن أنه وديع ومحب، فهو لا ينفعل، بل يتعامل بلطف مع الناس، والسبب أن من يتعامل معهم أناس لطفاء. مثل هذا يمتحنه الله بجار أو رئيس فى العمل أو زميل مشاكس، وهنا يبدأ فى الإنفعال ويدرك أنه ليس وديعاً حقيقة فيقدم توبة. هنا الله وضع هذا الشخص كمعثرة أمام من يظن فى نفسه أنه بار ليكتشف ضعفه فيتوب وينجو ويخلص

مثال 3 :- هناك من يمتحنه الله ويكتشف حقيقة نفسه ولا يتوب = فإنه يموت  

 

زر الذهاب إلى الأعلى