كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي - القمص متى المسكين

الخطوات التي مر بها التقليد التعليمي

التقليد التعليمي يشمل شرح وتوضيح الإيمان بكافة الوسائل من وعظ وتلمذة وكتابة وتفسير ومحاجاة ودفاع، وقد سار فيه الآباء على نهج الرسل وحسب المبادىء الإيمانية التي تسلموها .

ولكن التقليد التعليمي جاز في الواقع مرحلتين مهمتين :

‏ المرحلة الأولى : مرحلة الكرازة الفردية κήρυγμα
وهي المرحلة التي لم يكن فيها للتقليد الرسولي المسلم بالشفاه صورة محددة للتعليم أو نصـوص محفوظة ، فكان كل واحد من الآباء يعلّم عن الثالوث القدوس ــ سواء عن الآب أو الإبن أو الروح القدس – في الإطار التقليدي، معتمداً على الإلهام الخاص والأسفار المقدسة. وقد استغرقت هذه المرحلة منذ العصر الرسولي حتى  أول مجمع مسكوني قانوني أي مجمع نيقية سنة 325 م .

‏ المرحلة الثانية: مرحلة تحديد صورة التعليم بأحكام إجماعية في مجامع مسكونية ، فأصبحت عقيدة ثابتة ذات سلطان كنسي

وبهذه المرحلة أصبح التقليد الرسولي واضحاً على أعلى مستوى إلهامي، ومشاعاً على الكنيسة كلها ، بدل أن كان مقصوراً على ذوي الإلهام.

كما أصبح التقليد التعليمي في الكنيسة ذا قاعدة إيمانية مقررة ومكتوبة، هي نفسها التقليد الرسولي الأول إنما مفسّراً وموضحاً ، وفي نفس الوقت ذا سلطان إلهي كنسي قاطع لا يستطيع أي معلم مهما كان ذا إلهام أن يشذ عنها .

وقد استغرقت هذه المرحلة بالنسبة لكنيستنا المدة من مجمع نيقية حتى مجمع أفسس أي من سنة 325 إلى سنة 431 م ، وهي المدة التي عبر فيها التقليد الرسولي على ثلاثة مجامع مسكونية، حتى استقر توضيحه وصار قانوناً للإيمان بصيغته الحالية التي نؤمن ونعلم بها للآن.

و بنهاية عصرا المجامع وتقنين صورة التعليم الصحيح و وضع أساس عقائدي سليم للكرازة حسب التقليد، صارت الكرازة والعقيدة في الكنيسة وحدة واحدة ومنطلقاً واحداً للتعليم الأرثوذكسي ، بل وللحياة المسيحية في دقائقها وفي تطبيقها للوصايا، لذلك لا يمكن متابعة التعليم الأرثوذكسي ولا متابعة الحياة المسيحية حسب الإنجيل إلا إذا استوعبنا التقليد الرسولي في مراحله التي عبر فيها ، وتقبلنا ما استقر عليه من تعليم ثابت ذا عقيدة راسخة، وعشنا أسراره .

النواة الأولى التي قامت عليها الكرازة هي: قانون الإيمان:
النواة الأولى التي قام عليها التقليد التعليمي ثم التفسيري هي «قانون الإيمان»، الذي يحوي استعلان الثالوث القدوس الذي قدمه المسيح لتلاميذه ليكون صيغة الإيمان الذي على أساسه يتم بالعماد ميلاد الإنسان من فوق بسر يفوق عقل الإنسان، حسب توضيح الرب في يوحنا 3.

ومن النص الإنجيلي يبدو حسب الظاهر أن العماد كان يتم حينما كان الرسول أو الأسقف يعمد أي إنسان باسم الآب والابن والروح القدس «عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت 28: 19) مـن آمـن واعـتـمــد خـلـص» (مر 16: 16). ويصير في الحال عضواً في الكنيسة. ولكن على المستوى العملي كان يتحتم قبل ذلك أن يكون المعمد قد آمن بالآب والابن والروح القدس، وكان عليه أيضاً أن يتلو جهاراً أمام الكنيسة القانون الخاص بالإيمان الذي استلمته الكنيسة من الرسل وظل معمولاً به تحت اسم « قانون الإيمان الرسولي» إلى أن دخل مجمع نيقية ثم القسطنطينية وكمل تفسيره بأكثر توضيح فصار «قانون الإيمان النيقاوي أو الأرثوذكسي » .

وإليك مقارنة بين الصورتين: الأولى للقانون الرسولي والثانية للقانون النيقاوي القسطنطيني:

قانون الرسل : القانون النيقاوي القسطنطيني:

( أنظر إير ينيئوس 10,1 Ad. Haer)

أؤمن :

1 ـ بالله الآب الضابط الكل خالق السماء والأرض.

 

2 ـ وبالمسيح يسوع أبنه الوحيد ربنا.

 

 

 

3ـ الذي حـبـل بـه بالروح القدس و ولد من العذراء مريم.

 

 

4 ـ وتألم في عهد بيلاطس البنـطـي وصلب ومات وقبر ونزل إلى الجحيم.

5 و 6 ـ وصعد إلى السماء وجلس عن  يمين من الله الآب الضابط الكل.

7 ـ حيث سيأتي ليدين الأموات والأحياء.

 

8- وأؤمن بالروح القدس.

9ـ وبالكنيسة المقدسة الجامعة شركة القديسين.

10- وبمغفرة الخطايا .

11 ــ وبقيامة الأجساد.

12ـ وبالحياة الأبدية آمين.

أؤمن :

1- بإله واحد الله الآب ضابط الكل خالق السماء والأرض ما يُرى وما لا يُرى.

2 ـ وبــرب واحـد يــســع المـسـيـح ربنا. ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور. نـور مـن نـور، إله حق من إله حق. مولود غير مخلوق مساو للآب في الجوهر.

3- الذي به خلق كل شيء. الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن العذراء مريم وتأنس.

4 – وصلب عنا على عهد بيلاطس  البنطي وتألم وقبر.

5ـ وفي اليوم الثالث قام حسب الكتب.

6 ـ وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب.

7 – وسيأتى أيضاً في مجده لـيـديـن الأحياء والأموات الذي ليس لملكه انقضاء.

8 ــ وأؤمــن بـالـروح الـقـدس الـرب ومعطي الحياة، المنبثق من الآب. نعبده ونمـجـده مـع الآب والإبـن الناطق في الأنبياء.

9- وبكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية.

10 ـ ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا .

11– وننتظر قيامة الأموات.

12ــ وحياة الدهر الآتى. آمين.

 

ولكن لم يـكـن قـانـون الإيمان الرسولي مجرد منطوق إيمان ، ولكنه كان إجراءً رسمياً كنسياً، فكان كوديعة إلهية لدى الرسل يتسلمها الأساقفة من بعدهم حتى يـسـلـمـوهـا للمؤمنين في سر العماد، وكان من أخص خصائص الأسقف . أي أن قانون الإيمان كان مرتبطاً بالنظام الرسولي الأسقفي، وفي نفس الوقت مرتبطاً بسر العماد، ولا غنى لواحد عن الآخر.

وبنظرة فاحصة، نجد أن قانون الإيمان، مع النظام الرسولي الأسقفي، مع سر العماد يشكل سر المسيحية كله. وهذا هو المضمون الحقيقي الذي يشمله قانون الإيمان الرسولي بمفهومه العملي التقليدي الحي. وهذا ما جعل القديس إير ينيئوس يقول إنه يمكنه أن يتصور المسيحية بدون أسفار مكتوبة ولكنه لا يمكن أن يتصور المسيحية بدون تقليدها الحي. وهذا ما جعل ترتليانوس يقول : [ تعال الآن إن كنت تريد مزيداً من الإستفسار لمنفعة خلاصك، فاذهب إلى الكنيسة الرسولية التي لا تزال كراسي الرسل قائمة فيها … ما أسعد الكنيسة التي سكب فيها الرسل تعاليمهم كلها مع دمائهم.]

ولكن لم يكن قانون الإيمان الرسولي مقصوراً على الجمل المختصرة فقط، لأنه وضع بهذه الصيغة المختصرة كضرورة للحفظ وحتى يسهل تلقينه للمعمد، أما القانون الإيماني الرسولي حسب تداوله في الكنيسة فكان يشمل جماع التعليم كله المختص بالإيمان بالله الآب وبالإبن يسوع المسيح والروح القدس، إنما على الأساس الذي تشمله الجمل المختصرة التي في قانون العماد.

وقد ازدادت الإيضاحات والإضافات على الأصول الأولى للقانون على مدى الزمن لمواجهة الهراطقة أولاً بأول، لذلك نجد الصيغ العامة للقانون الرسولي المستخدم في الكنائس قبل مجمع نيقية يختلف في شكله العام وإيضاحاته للحقائق الأولى بالنسبة للكنائس.

ففي كنائس الشرق التي واجهت من الهراطقة عواصف أكثر، بدأ قانون الإيمان يتضخم و يزداد تحديداً ودقة وعمقاً وروحانية أكثر من قانون الإيمان في الغرب. ثم وفي كنائس الشرق أيضاً بدأ قانون الإيمان (من حيث تفاسيره التي يتضمنها وليس من حيث جـوهـره) يختلف في صورته الأخيرة من كنيسة لكنيسة بالنسبة لتوطن البدع وعنف المقاومات الفلسفية ، لذلك نجد إيرينيئوس يشكل تفسيراً للقانون في فرنسا (180 م)، وترتليان يشكل تفسيراً آخر في شمال أفريقيا (200 م)، ويضيف عليه كبريانوس أيضاً في شمال أفريقيا (250 م)، وأوريجانس في الإسكندرية ( 250 م)، وغريغوريوس صانع العجائب في قيصرية الجديدة (270 م)، و يوسابيوس في قيصرية (325 م)، وكيرلس في أورشليم (350 م)، وإبيفانيوس في قبرص، وروفينوس في أكويلايا ( 390 م)، وذلك كله تحت ضغط المقاومات من الهراطقة. ولكن بالرغم من هذه الإختلافات في التفسير فكلها يكمل بعضها البعض، والأصل الذي استلمته الكنيسة من الرسل ثابت في الجميع.

وجاء مجمع نيقية (325 م) ومن بعده مجمع القسطنطينية (381 م) ثم مجمع أفسس (431 م)، وصاغت شرحاً واحداً مختصراً ومفصلاً ودقيقاً غاية الدقة ليحل محل جميع التفسيرات كلها في الشرق والغرب، ولكن لا يختلف ولا قيد شعرة عن أصل الـقـانـون الرسولي الأول المسلَّم من الرسل. غير أن كنيسة روما ظلت تحتفظ بـقـانـون الـرسـل كما هو حتى اليوم على أنها تتلو أحياناً قانون نيقية وقانون القديس أثناسيوس.

ولكن يلزمنا أن نلقي نظرة فاحصة على قانون الرسل لنتحقق أنه يحوي فعلاً قوة الإلهام والتقرير الإلهي، فهو على مستوى من الإلهام والرصانة مع أقوى ما جاء في الأسفار المقدسة، ولا يمكن وصفه أنه مجرد تأليف فردي أو جماعي، فهو من صنع الروح القدس الناطق في الأنبياء فعلاً، وأنبياؤنا في العهد الجديد هم الرسل بلا نزاع.

فقانون الإيمان يشمل رؤيا الأسفار كلها مجتمعة، فهو يبتدىء بالآب الخالق ؛ وينتهي بالقيامة وتكميل كل شيء في حياة الدهر الآتى؛ و يتركز في الوسط على الرب يسوع والخلاص الذي أكمله.

وقانون الإيمان، وإن سُمي قانوناً ، فهو لا يشمل جُملاً جامدة عقائدية أو أوصافاً لاهوتية مجردة، بل هو يطلق معاني حية من مصدر انبعاثها الحقيقي بلغة المؤمن البسيط الذي ينطق وهو ناظر إلى السماء ! فهو يعطينا صورة حية للثالوث الأقدس بالنسبة لحياتنا التي نعيشها والتي نرجوها ، وكأنما الثالوث في قانون الإيمان يحيط بنا من كل جهة ثم يحتضننا في رجاء ما هو آت…

وإن قانون الرسل على قدر بساطته التي يمكن أن يحيط بها المعمد المبتدىء في الإيمان فهو يشمل العمق الذي يكفي ليملأ قلب وفكر وروح كل إنسان إلى أعلى درجة للرؤيا وفحص الإلهيات. وليس أدل على ذلك من أن قانون الإيمان هذا لا تزال تستخدمه كافة كنائس العالم على مدى الأجيال كلها بالرغم مما بينها من انقسامات فكرية ولاهوتية وعقائدية، لأن الإيمان الذي يحويه أعمق من أي انقسام، والعمق الروحي الذي يستمده من الثالوث الأقدس كاف أن يسمو فوق كل نزاع شكلي .

فهذا القانون يشمل قوة الإيمان في عتقه الذي لن يشيخ، و يبرهن على أن الإيمان بالله كثالوث قدوس يفوق في جدَّته عقل الإنسان مهما تجدد، و يطوي كل منطق تحت خضوع . سلطانه.

لذلك، فالكنيسة الأرثوذكسية تُدعى حسب التقليد « كنيسة الثالوث»، لأنه يستحيل عليك أن تسمع فيها أي صلاة أو خدمة أو عبادة تبتدىء بدون تمجيد الثالوث القدوس «باسم الآب والابن والروح القدس» ، وقد تسلمت أيضاً أن الخدمة يتحتم أن تنتهي ببركة الثالوث المجد للآب والابن والروح القدس الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور آمين ، حسب التقليد الرسولي : «نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم آمين . » ( 2کو 13: 14)

لذلك فالثالوث يحوي أعماقاً عملية تصلح أن تكون منطلقاً للتأمل والتفسير بل والتسبيح والشكر، وقد ظل الثالوث ، وسيظل ، موضوع تأملات الفلاسفة والمتنسكين والمتصوفين والعاشقين الله منذ يوستين وإيرينيئوس وترتوليان وأوريجين وأثناسيوس وأغسطينوس إلى نهاية الدهور.

وجنباً إلى جنب، يقف الإيمان بالثالوث كاعتراف مهيب رسمي في المعمودية والإفخارستيا مع الفرح والتسبيح للثالوث في كل مناسبة، وذلك في الذوكصا الكنسية التي تتخلل كل شيء!

وفي استشهاد القديس بوليكارب يمكنك أن تعرف المكانة القوية التي لعقيدة الثالوث القدوس بل وفهمه وتفسيره عند الكنيسة في الجيل الأول بعد الرسل مباشرة، وليست الأهمية التي نعلق عليها هنا هي في سرد کلمات بولیکارپ، بل في المناسبة التي نطق فيها إيمانه بالثالوث إذ كانت آخر كلمات تفوه بها أمام الوالي وجمهور الناس والنار تشتعل فيه ! وهذه هي الصلاة :

[ أيها الرب الإله الضابط الكل، أبو المبارك يسوع المسيح أبنك المحبوب، الذي بواسطته عرفناك معرفة كاملة، يا إله الملائكة والقوات والخليقة كلها وكل جماعة الأبرار الذين يعيشون في حضرتك، أباركك لأنك اعتبرتني مستحقاً اليوم وفي هذه الساعة أن آخذ نصيبي في عداد شهدائك وفي كأس مسيحك للقيامة في الحياة الأبدية بنفسي وجسدي، في عدم الموت الذي للروح القدس! من أجل هذا، وفي كل شيء، أنا أسبحك وأباركك وأمجدك بواسطة يسوع المسيح الكاهن السمائي الأبدي الأعظم ، آبنك المحبوب، الذي له المجد معك ومع الروح القدس الآن وإلى كل الدهور الآتية . آمين]

والقديس اكليمندس أسقف روما تلميذ القديسين بولس و بطرس الرسولين يقول : [ الله ، والرب يسوع المسيح والروح القدس هو موضوع إيمان ورجاء المختارين.]

والقديس إيرينيئوس يرى أن علاقة الثالوث تُستعلن فينا نحن فيقول : [ إن الشيوخ وتلاميذ الرسل يؤكدون أن هذا هو التسلسل والنظام الذي يتبعه المخلصون فهم يتقدمون بخطوات على هذا النوع ويرتفعون بالروح القدس إلى الإبن، وبالإبن إلى الآب.]

ومـن بـعـد إيرينيئوس يأتى الآباء العظام، جيلاً بعد جيل، يزيدون أكثر فأكثر على ضوء الأسفار المقدسة، العمق الهائل الذي يحويه الثالوث الأقدس سواء من جهة العلاقة التي يرتبط بها داخلياً في ذاته أو من جهة عمله في الخليقة والفداء والتقديس.

والثالوث ، بمفهومه المسيحي، يوضح الملء والخصب والحياة التي في الوحدانية الإلهية، فـعـقـيـدة الثالوث هي أول ما يفصل الإيمان المسيحي عن الإيمان اليهودي وعن العقائد الوثنية. فاليهودية تؤمن بوحدانية الله المجردة والوثنية تؤمن بتعدد الآلهة وانقسامها بلا عدد؛ أما في المسيحية فالله يحوي الأبوة بكل حبها وحنوها، والبنوة بكل طاعتها ،وبذلها والحياة بكل فاعليتها وجدتها . لذلك يُعتبر الثالوث المعيار الرمزي للإيمان المسيحي الذي يحوي حقائق التعليم الإيماني للمسيحية كلها. وأية مهاجمة للثالوث من أي جهة من جهاته الثلاث أو من حيث علاقة الآب بالإبن بالروح القدس تنتهي حتماً إلى زعزعة الإيمان المسيحي كله. لذلك أصبحت حساسية الكنيسة في رعايتها وحفظها ودفاعها عن عقيدة الثالوث تساوي وجودها وحياتها !

وبحسب عقيدة الثالوث تؤمن الكنيسة أن الله هو خالقنا، وفادينا، ومقدسنا، ثالوث عمل متميز ومتخصص، وكل عمل من هذه الأعمال الثلاثة متصل بالآخر اتصالاً جوهرياً .

وقد سادت هذه العقيدة وتحكمت في كل الإيمان في كل عصور الكنيسة كتقليد رسولي راسخ منذ أيام الرسل حتى يومنا هذا ، غير أنها تحددت قانونياً كعقيدة كنسية في مجمع نيقية وما بعده. وقد بدأت كعقيدة إيمان عملي تمارس بالمعمودية وتتلى في كل إفخارستيا ، ولكنها صارت بعد ذلك موضوع دراسة وتأمل وشرح وتفسير، لملء الحياة الفكرية أيضاً.

ولكن ينبغي أن ندرك أن عقيدة الثالوث استُعلنت استعلاناً في تجسد الإبن، وقيامته، وفي يوم الخمسين، حيث انكشف السر المغلق منذ الدهور وتعرفنا على ابن الله وعلى روح الله القدوس تعرُّفاً عملياً، وليس فكرياً أو فلسفياً، يقول عنه القديس يوحنا الرسول : « من جهة كلمة الحياة، فإن الحياة أظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم . » ( 1يو 1: 2)

فالثالوث ليس من استقصاء فكر الإنسان التأملي الميتافيزيقي أو الفلسفي المجرد، ولكنه استعلان إلهي تحقق على المستوى العملي، فقد استعلن لنا على كل المستويات الفكرية والحسية والروحية معاً بسبب السماح لنا بالدخول في شركة واقعية مع « الآب والابن والروح القدس»، كما يقول القديس يوحنا أيضاً: «أما شركتنا نحن فهي مع الآب والابن وطبعاً « بواسطة الروح القدس! » .

والثالوث استُعلن لنا من جهة الله نفسه لأنه هو الذي ابتدأ في كشف أحشاء رحمته لنا في أبنه الذي أظهره للعالم : «إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه» (2کو 5: 19) ، لذلك يقول القديس يوحنا الرسول : كل من ينكر الإبن ليس له الآب أيضاً» (1يو 2: 23)، لأن الإبن أصبح وسيط صلح ووسيط إتحاد لا بديل له على الإطلاق، و يوحنا المعمدان يقول أيضاً: «إن الذي لا يؤمن بالإبن لن يرى حياة بل يمكـث عـلـيـه غضب الله» (يو 3: 36) ، لأن بواسطة الإبن ننال الروح القدس مصدر الحياة.

إذن، ففي الثالوث قد أعلنت لنا رحمة الله ومصالحته ، وانفتح لنا باب الحياة الأبدية !! أي أن الثالوث هو قاعدة الإيمان المسيحي الحي بحسب ما عمل الله، فالله كشف لنا سر الثالوث الذي فيه ليس على مستوى الفكر بل بالعمل الذي عمله لنا في الخلقة ثم الفداء ثم التقديس.

القسسم التعليمي النظري من التقليد الكنسي

كتب القمص متى المسكين

الكرازة و التفسير التقليدي للكتب المقدسة

كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى