تفسير سفر حزقيال ٨ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثامن

حالة الهيكل

إذ تحدث مع جبال إسرائيل معلنًا خراب الهيكل وتدمير المدن وسقوط الشعب تحت السيف أو المجاعة أوالتشتيت، مؤكدًا أن النهاية قد اقتربت، يبدأ بعد مرور حوالي سنة على الرؤى والنبوات السابقة سلسلة جديدة منالرسائل (ص 8-11)، فيها يدعو الله شعبه إلى التوبة قبلما يحل الخراب. في هذا الأصحاح يجد النبي نفسهبالروح في مدينة أورشليم، ويعلن له الرب عن حال الهيكل ليوضح أن كأس الشر قد امتلأت، وليس من إمكانيةلتأجيل التأديب، فتحدث عن:

  1. تمثال الغيرة [1-4].
  2. سقوط الشيوخ في الوثنية                        [5-12].
  3. بكاء النساء على تموز                           [13-15].
  4. عبادة الشمس في الدار الخارجية [16-18].
  5. تمثال الغيرة:

بعد 14 شهرًا من دعوته (1: 12) حمله الروح في رؤيا ليكتشف بنفسه ما بلغ إليه حال الهيكل. كان جالسًافي بيته على ضفاف نهر خابور واجتمع به شيوخ يهوذا وكانوا جالسين معه، ربما في الفترة ما بعد نومه على جنبهالشمال 390 يومًا يتنبأ عن خطايا إسرائيل وقبل البدء في النوم على جنبه اليمين أربعين يومًا ليتنبأ عن إثم يهوذا. يقول: “إن يد السيد الرب وقعت عليَّ، فنظرت وإذا شبه كمنظر نار[95] من منظر حقويه إلى تحتنار، ومن حقويه إلى فوق كمنظر لمعان كشبه النحاس اللامع” [1-2]. لقد أُعلن له منظر “كلمة اللهالمتجسد” الذي هو “شبه منظر إنسان”، رآه نارًا من حقوية إلى أسفل، ومملوءًا بهاءًا من حقوية إلى أعلى. وكانالرب وهو يحمل النبي إلى الهيكل ليكشف له ما بلغ إليه العابدون – على كل مستوياتهم – من نجاسات، خشى أنينهار النبي أو ييأس، لهذا قدم له هذه الرؤيا حتى تطمئن نفس حزقيال أن كلمة الله المتجسد لابد أن يعمل، فهوالنار الآكلة الذي يحرق كل نجاسة وشر، وهو المملوء مجدًا وبهاءًا، يدخل بشعبه إلى أمجاده الأبدية. إن كانالهيكل قد تدنس، لكن رب الهيكل قادم يعطى تطهيرًا واستنارة داخلية للمؤمنين.

يقول حزقيال النبي: “ومد شبه يد، وأخذني بناصية رأسي، ورفعني روح بين الأرض والسماء،وأتى بي في رؤى الله إلى أورشليم إلى مدخل الباب الداخلي (الهيكل) المتجه نحو الشمال حيثمجلس تمثال الغيرة المهيج الغيرة [3].

رفعه الروح بين الأرض والسماء، فهو ليس على الأرض إذ لا يستطيع وهو جالس مع شيوخ يهوذا في السبيأن يرى ما يحدث داخل الهيكل، ولا يستطيع وهو في حدود الجسد (الأرض) أن يرى سرائر العابدين ونياتهمالداخلية. لقد أطلقته يد الرب فوق الحدود الجسدية (الأرضية). وهو في نفس الوقت ليس في السماء إذ لم يدخلإلى كمال مجدها. ولعله أراد بقوله هذا أن يقول ما عبَّر عنه الرسول بولس عن نفسه: “أعرف إنسانًا في المسيح… أفي الجسد لست أعلم أم خارج الجسد لست أعلم. الله يعلم. اختطف هذا إلى السماء الثالثة”… (2 كو 12: 2).

لقد دخل به الروح إلى مدخل الهيكل ليرى “مجلس تمثال الغيرة المهيج الغيرة”. ربما قصد بالمجلسالتجويف الذي على شكل قبو، كان يُعمل في بيوت الشرقيين ومعابدهم لتوضع فيه تماثيل الآلهة. أما تمثال الغيرةفربما قصد به تمثال السارية، الإلهة الأم للكنعانيين الذي وضعه منسي (2 مل 21: 7)، وأخرجه يوشيا الملك (2مل 23: 6)، ويرى البعض أنه تمثال تموز الذي سنتكلم عنه في هذا الأصحاح. ويرى أنه قصد أي تمثال وثنىيثير غيرة الله على مجده، كقوله: “لا تسجدلهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك إله غيور” (خر 20: 5). ولعله لهذاالسبب ظهر لحزقيال مجد الله كتلك الرؤيا التي سبق أن رآها في البقعة، وكأن الله يعلن مجده ليفسد المجد الباطلللعبادة الوثنية.

التمثال هنا رمز إلى غيرة الله، إذ قيل “أنا الرب إلهك، إله غيور” (خر 20: 5). هذه الغيرة الإلهية ليستانفعالاً عاطفيًا كتلك التي للبشر، تحطم قلوبهم، إنما هي غيرة غايتها رجوعنا إلى الله فنقبله عريسًا سماويًا. هذه الغيرة يهبها لأولاده وخدامه فيقولون مع الرسول: “أغار عليكم غيرة الله، لأني خطبتكم لرجٍل واحد، لأقدمعذراء عفيفة للمسيح” ( 2  كو 11: 2).

  1. سقوط الشيوخ في الوثنية:

إذ كان النبي يحدق في التمثال تحركت أعماقه وامتلأت مرارة؛ عندئذ سمع صوت عتاب إلهي::يا ابن آدمهل رأيت ما هم عاملون؟ الرجاسات العظيمة التي ببيت إسرائيل عاملها هنا لإبعادي عنمقدسي” [6]. إنه عتاب أبوي عجيب، حيث يرى الأب أولاده يبذلون كل جهدهم لطرد أبيهم القدوس. هو يدخلبهم إلى أرض الموعد ويُعد لهم موضعًا في السمويات، وهم يرفضونه ويطردونه حتى من مقدسه؟!! هذا ما نفعلهحين نعلن رفضنا لأبوته بقبول أبوة إبليس، فندخل بأعماله ورجاساته حتى إلى قلوبنا، هيكل الرب المقدس!

ولكي يريه الله رجاسات أخطر قاده إلى باب دار الهيكل.

هناك رأى حزقيال النبي ثقبًا في الحائط، وبأمر إلهي نقب في الحائط فإذا باب وإذ دخل نظر سبعين رجلاًمن يهوذا ومعهم يازنيا بن شافان يقدمون بخورًا أمام الدبابات والحيوانات النجسة في وسط الظلام، قائلين:“الرب لا يرانا، الرب قد ترك الأرض” [12]. يتهمون الله أنه ترك الأرض، لذا يلجأون إلى الدبابات والحيواناتالنجسة يتعبدون لها، بينما هم في الحقيقة طاردوا الرب من هيكله!

إن شافان غالبًا هو ذاك الرجل الشهير الذي ساعد يوشيا الملك في إصلاحاته منذ حوالي 30 عامًا (2 مل22: 3-10، إر 26: 24؛ 29: 3؛ 36: 10-12، 39-14)، للأسف أنجب يازنيا الرجل الفاسد الذي يشترك معالسبعين شيخًا في هذا الشر العظيم. هذه هي صورة للإنسان الذي يبدأ حياته بتكريس قلبه لله لكنه يكملهابتكريسها للشر مشتركًا مع الآخرين في فسادهم. أما السبعون رجلاً فيذكّروننا بالسبعين شيخًا الذين يسندونموسى النبي في قيادة الشعب حسب الوصية الإلهية بروح الله، هوذا يستخدم الشيطان القيادات لبعث روحالفساد في حياة شعب الله. ما أخطر أن تنحرف القيادات الروحية عن رسالتها، فعوض الاهتمام بالوصيةالإلهية ينحطون إلى الأمور الأرضية فيزحفون كالدبابات، وينشغلون بالشهوات الحيوانية.

لماذا أتحدث عن رجل الإصلاح الذي أنجب فاسدًا وشيوخ إسرائيل الذين انحرفوا، فإن هذا ما يحدث أحيانًافي حياة الإنسان الداخلية حينما ينقب الإنسان – بأمر إلهي –  الحائط المقام في داخله، ويدخل به الروح القدسإلى أعماقه الداخلية فيكتشف وجود يازنيا في داخله، الذي هو “الإرادة”، فعوض أن تكون قد حملت فيها “إرادةالمسيح” المقدسة الحية والعاملة لحساب الملكوت إذا بها قد صارت إرادة شريرة تنحط إلى عبادة الأرضياتوالعبودية لشهوات الجسد. أما السبعون شيخًا فهي الطاقات الداخلية التي كان يلزم أن ترفع الإنسان إلىالسمويات فإذا بها تنزل به إلى مالا يليق.

أما سر الانحطاط فهو قولهم “الرب لا يرانا، الرب قد ترك الأرض” الشعور بالعزلة عن الله… إنه لايرانا! وإلقاء اللوم عليه “قد ترك الأرض“. وعلى العكس سر القوة في حياة المؤمنين هو إدراك معيّة الله الذييرانا ولا يتركنا، حتى في لحظات شرنا. إنه لا يفارق أرضنا لأنه يريد تجديدها المستمر حتى تصير مقدسًا له.

  1. بكاء النساء على تموز:

هل كانت النسوة يبكين على تمثال تموز لأن يوشيا الملك أخرجه أم يشتركن مع الأمميات في البكاء عليهكنوع من العبادة؟! غالبًا ما يقصد بتموز الإله Summerian Dumuzi  الذي يزعمون أنه سقط ميتًا بعد صراعهمع ثور هائل، أو كما قال آخرون: مع تنين عظيم. وأن أخته الإلهة Inanna Ishtar نزلت إلى العالم السفلي لكيترد أخاها إلى الحياة، ويرى البعض أن تموز البابلي هو بعينه الإله السرياني أدونيس Adonais الذي كانمركزه في جيبال Gebal أوBablos  على بعد 21 ميلاً شمال بيروت. إذ يحتفل الكلدانيون بموته يعلنون الحزنعليه، فتقدم الذبائح البشرية وتمارس العلاقات الجنسية كجزء من العبادة، وكانت النساء اليهوديات يشتركن معالمتعبدات في البكاء عليه، يليه الاحتفال بعودة الحياة إليه. وقد أُشير للإله تموز في دانيال (11: 37) وزكريا(12: 1).

إنها صدمة عظيمة لمشاعر النبي إذ يرى النساء يبكين محنة إله وثني داخل باب بيت الرب عوض البكاء علىخطاياهن!

إن كان الشيوخ قد سقطوا في التبخير للدبابات والحيوانات فإن النساء سقطن في الاشتراك في عبادةتموز. الشيوخ يرمزون لسقوط النفس البشرية وانحرافها نحو الماديات والشهوات الجسدية، أما النساء فيرمزنللجسد الذي يخور بسبب الشر.

  1. عبادة الشمس:

أما ما هو أخطر من سقوط الشيوخ والنساء فهو سقوط الكهنة أنفسهم. فقد رأى حزقيال النبي خمسةوعشرين رجلاً يقفون بين الرواق والهيكل يعطون ظهورهم للهيكل ويتجهون نحو الشمس يتعبدون لها. لعل هؤلاءالرجال هم رئيس الكهنة والأربعة وعشرون كاهنًا رؤساء الأربعة وعشرون فرقة كهنوتية يهودية. لم يقف الضعفعند الشعب من رجال ونساء وإنما أمتد إلى الكهنة، الذين كان ينبغي أن يكونوا شُفعاء عن الشعب لدى الله،أعطوا ظهورهم له فصاروا حاجزًا وعائقًا عن معرفة الله والالتقاء معه. لقد انحرفت القيادة الروحية على أعلىمستوى!!!

هذا إذن ما أثار غضب الله على اليهود: أقاموا تمثال الغيرة عوض العبادة لله الحي، وانحرف الشعب معالكهنة على أعلى مستوياتهم، وفسدت الروح مع الجسد، لهذا يقول: “قد ملأوا الأرض ظلمًا”. وعوض التوبة “يعودون لإغاظتي وها هم يقربون الغصن إلى أنفهم“. أما اقتراب الغصن إلى الأنف فيرى البعض أنهجزء من بعض العبادات الشرقية حيث كان الكهنة يمسكون الأغصان في أيديهم أمام وجوههم بالقرب من أنفهم،ويرى آخرون أنه مثل دارج كان يشير إلى إغاظة الآخرين.


 

من وحي حزقيال 8

قدس هيكلك فيّ !

v   أتطلع إلى ما صنعه شعبك قديمًا فأرتعب.

ظنوا أنك لا تراهم ولا تهتم بهم ولا بالأرض كلها،

فالتجأوا إلى الدبابات والحيوانات يتعبدون لها!

يا لحقارة فكرنا!

يا لجحودنا!

v  تركك الشيوخ وتعبدوا للحيوانات!

النساء بكين على الإله تموز في هيكلك،

عوض البكاء على أنفسهن!

أعطاك الكهنة القفا لا الوجه،

وصاروا يعبدون الشمس، ولم يدركوا أنك خالقها!

عوض الصلاة عن الشعب صاروا سبب لعنة!

v  إني مرّ النفس!

من هم الشيوخ إلا عقلي وأعماقي… لقد تدنست بالكامل!

من هن النساء إلا عواطف جسدي وأحاسيسها التي تنجست!

من هم الكهنة إلا روح القيادة التي انحرفت في داخلي

قدس هيكلك في أيها القدوس!

قدس عقلي وفكري وعواطفي وأحاسيسي!

قدس مواهبك لي يا مخلصي!

قدسني إلى التمام فأني هيكلك!

 

زر الذهاب إلى الأعلى