تفسير سفر حجي أصحاح ٢ للقمص أنطونيوس فكري
الإصحاح الثاني
عندما تجاوب الشعب مع النبوة الأولى لاحقهم الله في محبته بثلاث نبوات متتالية ليشجعهم.
الآيات (1-9):
“في الشهر السابع في الحادي والعشرين من الشهر كانت كلمة الرب عن يد حجي النبي قائلاً. كلم زربابل بن شألتيئيل والي يهوذا ويهوشع بن يهوصادق الكاهن العظيم وبقية الشعب قائلاً. من الباقي فيكم الذي رأى هذا البيت في مجده الأول.وكيف تنظرونه الآن.أما هو في أعينكم كلا شيء. فالآن تشدد يا زربابل يقول الرب وتشدد يا يهوشع بن يهوصادق الكاهن العظيم وتشددوا يا جميع شعب الأرض يقول الرب واعملوا فأني معكم يقول رب الجنود. حسب الكلام الذي عاهدتكم به عند خروجكم من مصر وروحي قائم في وسطكم.لا تخافوا. لأنه هكذا قال رب الجنود.هي مرّة بعد قليل فأزلزل السموات والأرض والبحر واليابسة. وأزلزل كل الأمم ويأتي مشتهى كل الأمم فاملأ هذا البيت مجدا قال رب الجنود. لي الفضة ولي الذهب يقول رب الجنود. مجد هذا البيت الأخير يكون اعظم من مجد الأول قال رب الجنود وفي هذا المكان أعطي السلام يقول رب الجنود.”
جاءت الرسالة الثانية حيث كان البناؤون قد بدأوا العمل منذ قرابة شهر، وكان الله قد أنبهم في رسالته الأولى، ولكن نجده يشجعهم حينما بدأوا العمل. في الشهر السابع في الحادي والعشرين من الشهر= أي في اليوم السابع من عيد المظال. وكان هذا العيد يتسم بالفرح أكثر من أي يوم آخر فهو أيضاً في نهاية موسم الحصاد. وهنا نجد الله كأنه يريد أن يقول إمتلئوا فرحاً ليس بعيد المظال فقط بل ببدء العمل في بيت الله. وفي (3) أما هو في أعينكم كلا شئ= بينما كان الكهنة واللاويون يترنمون بالفرح ويضربون بالأبواق من أجل العمل، أخذ المسنين يبكون بمرارة على مجد الهيكل القديم، فكادوا أن يحولوا الفرح لمرارة. وهذا تماماً هو عمل إبليس زرع اليأس في النفوس، لذلك يقول الحكيم “لا تقل لماذا كانت الأيام الأولى خيراً من هذه” (جا10:7). وحتى لا يسقطوا في هوة اليأس أخذ الله يشجعهم بقوله إني معكم (4) وكيف يدخلنا اليأس ونحن نسمع هذا الوعد أن الله معنا، إذاً لنسمع الأمر التالي إعملوا. والمعنى أن نجاهد بلا يأس وبفرح فالله في وسطنا. وفي (زك10:4) يشجعهم قائلاً “لأنه من أزدرى بيوم الأمور الصغيرة” الله يفرح بالبدايات مهما كانت صغيرة ويبارك فيها فتصبح كبيرة وهو يفرح بكل ما يقدم له مهما كان قليلاً إن قدمناه بقلب مملوء محبة. وفي (5) الله يجدد العهد معهم، ولنلاحظ أن الروح يقيم في وسطنا مادمنا نعمل، وهذا هو المجد الحقيقي. ومعنى الآية أن الله هنا يقول للشعب أنه ملتزم بعهوده إن التزموا هم بوصاياه، وكأنه يقول في هذه الآية.. أنا مازلت ملتزم بالعهد الذي قطعته مع أبائكم عند خروجهم من مصر، فهل تعملوا بأمانة لتروا التزامي بعهدي وأنني مازلت في وسطكم. وفي (6،7) الله يزلزل السموات والأرض والبحر وكل الأمم= حدث هذا قديماً فعندما أقام الله العهد على جبل سيناء زلزل الرب الموضع وكان الجبل يدخن. وعند الصلب حدثت زلزلة وتشققت الأرض وإظلمت الشمس. وقد تزلزلت كل الممالك وقامت مملكة المسيح. وكأن قيام مملكة المسيح زلزلة للأمم. فالأمم والممالك أشياء متزعزعة غير ثابتة (فبابل وأشور واليونان والرومان كلهم سقطوا) لكن مملكة المسيح ثابتة كالجبل (دانيال إصحاح 2.. حلم نبوخذ نصر). والآن بالنسبة لكل إنسان، فالله يزلزل جسده ونفسه، ويحطم إنسانه القديم ليقيم فينا الإنسان الجديد فنحمل سماته فينا. ولذلك يقول ويأتي مشتهى كل الأمم= فالزلزلة صاحبت العهد القديم، وصاحبت الصليب في العهد الجديد، وتصاحب كل إنسان حين يأتي إليه المسيح ليقيم ملكوته فيه. والمسيح هو مشتهى كل الأمم وغنى كل قبائل الأرض. وبحسب وعد الله لأبونا إبراهيم أنه “فيك تتبارك كل قبائل الأرض” (تك3:12) أي من نسلك يا إبراهيم سيأتي من يبارك كل الأرض أي المسيح. وهو مشتهى كل الأمم، فكل من سمع عنه إشتهاه. في هذه الآية رأى النبي بروح النبوة تأسيس المسيح لهيكل جسده أي الكنيسة.
بعد قليل.. ويأتي مشتهى الأمم= كان عليهم أن يصبروا فترة من سنة 520ق.م حتى يولد المسيح مشتهى الأمم، ونحن علينا أن ننتظر بصبر مجيئه الثاني الذي سيتزلزل فيه العالم كله، بل تنتهي صورته ويستعلن مجد الله، ويأتي مشتهى العالم كله في مجيئه الثاني. ومشتهى الأمم تعني أيضاً قبول الأمم للمسيح، فهؤلاء الذين كانوا مبعدين عن الله قبل المسيح صاروا جسداً للمسيح. وفي (8) إذاً عليهم أن لا يهتموا إذ ليس لهم فضة أو ذهب لتزيين هذا الهيكل الجديد، فالله الذي له الأرض بكل كنوزها، وجوده في هيكله هو سر المجد وليس الذهب والفضة. وفي (9) أي مكان يملأه الله يمتلئ مجداً مهما كان حقيراً. وهذا الوعد أعطى فرحاً لليهود شجعهم على البناء. ونجد أن هيكل سليمان قد إمتاز عن الهيكل الثاني بكثرة الذهب والفضة والحجارة الكريمة وفخامة المبنى، ولكن هذه الآية التي تتكلم عن مجد البيت الأخير= هذه تقصد هيكل جسد المسيح الذي تشير له هذه الآيات (راجع يو18:2-22) ومجد هذا الهيكل في أن لاهوت المسيح لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين. وكرمز لهذا الهيكل، هيكل جسد المسيح، هيكل زربابل الذي يبنونه الآن، وسر عظمة زربابل بالرغم من كل ذهب وفضة هيكل سليمان أن الرب معهم. وسر عظمة هيكل جسد المسيح هو اتحاد لاهوته بناسوته. وبجسد المسيح هذا تمت المصالحة بين الآب والبشرية لذلك يقول وفي هذا المكان أعطى السلام= فلم يكن لنا سلام سوى بالمسيح ملك السلام. ولاحظ قوله هذا البيت الأخير= فلا يوجد هيكل يهودي مقبول من الله بعد أن أسس المسيح هيكل جسده، فإذا أتى المرموز إليه بطل الرمز. وبالتالي فلا معنى أن يفهم أحد أن الهيكل الموصوف في سفر حزقيال (إصحاحات 40-48) هو هيكل حقيقي، إنما هو مجرد رمز لجسد المسيح أي الكنيسة.
الآيات (10-19):
“في الرابع والعشرين من الشهر التاسع في السنة الثانية لداريوس كانت كلمة الرب عن يد حجي النبي قائلاً. هكذا قال رب الجنود.اسأل الكهنة عن الشريعة قائلاً. أن حمل إنسان لحماً مقدساً في طرف ثوبه ومس بطرفه خبزاً أو طبيخاً أو خمراً أو زيتاً أو طعاماً ما فهل يتقدس.فأجاب الكهنة وقالوا لا. فقال حجي أن كان المنجس بميت يمسّ شيئاً من هذه فهل يتنجس.فأجاب الكهنة وقالوا يتنجس. فأجاب حجي وقال.هكذا هذا الشعب وهكذا هذه الأمة قدامي يقول الرب وهكذا كل عمل أيديهم وما يقربونه هناك هو نجس. والآن فأجعلوا قلبكم من هذا اليوم فراجعا قبل وضع حجر على حجر في هيكل الرب. مذ تلك الأيام كان أحدكم يأتي إلى عرمة عشرين فكانت عشرة.أتى إلى حوض المعصرة ليغرف خمسين فورة فكانت عشرين. قد ضربتكم باللفح وباليرقان وبالبرد في كل عمل أيديكم وما رجعتم إلى يقول الرب. فاجعلوا قلبكم من هذا اليوم فصاعدا من اليوم الرابع والعشرين من الشهر التاسع من اليوم الذي فيه تأسّس هيكل الرب أجعلوا قلبكم. هل البذر في الإهراء بعد. والكرم والتين والرمان والزيتون لم يحمل بعد. فمن هذا اليوم أبارك.”
لقد بدأ الآن بناء الهيكل ووضع الأحجار في مكانها واستجاب الشعب لنداء الله، لذلك نجد الله هنا يرتقي بهم لدرجة أعلى وهي مطالبته لهم بنقاء القلب، فإنه إن كان مجد الهيكل هو حلول الرب وسط شعبه، فإن غاية الهيكل هو تقديس القلب، فإن أقمنا الهيكل بقلوب دنسة فلن ننتفع، ولن تأتي البركة. وهنا يطالب الله بالآتي: [1] تطبيق الوصية= إسأل الكهنة عن الشريعة [2] الابتعاد عن النجاسة.. فبدون هذا لا تقبل ذبائحهم، وبدون قداسة فلن تكون هناك بركة. ومعنى الآيات الآتية أن هذا الشعب قد تنجس بخطاياه وإهماله بناء بيت الرب، لذلك فكل ما يلمسه هذا الشعب يتنجس وتنعدم منه البركة. وكانت الشريعة تنص على أنه إذا حمل إنسان لحمأً مقدساً في طرف ثوبه ومس بطرفه شيئاً ما، فإن هذا الشئ لا يتقدس، ولكن إن كان قد تنجس بميت فما يمسه هذا الشخص الذي يتنجس بالميت، ينجسه (الميت يشير للخطية) والمعنى أن العدوى تنتقل من شخص لآخر في الخطية أسهل بكثير من انتقال القداسة، لأن الهدم أسرع من البناء. وحياة الأشرار وسط الصالحين لا تقدسهم ولا تجعلهم مقبولين أمام الله، أضف لهذا أن هذا الشعب النجس بخطاياه، إذا لمس أي شئ يتنجس، لو لمس حقوله تتنجس ولا تعطي ثمارها، وإذا لمس كرومها تتنجس ولا تعطي عنباً.. وهكذا. الطريق الوحيد لقبول الله لهم وعودة البركة هو ابتعادهم عن النجاسة. ولاحظ قوله هذا الشعب= وأنه لم يقل شعبي، وهذه عادة الله حينما يريد أن يعلن غضبه عليهم، فهو لا ينسبهم لنفسه، كما قال لموسى في إحدى المرات “أنظر شعبك” ولم يقل شعبي.
وفي (14) سبب النجاسة هو فساد القلب. وفي (15) يطلب منهم قبل البدء في البناء أن يقدموا توبة قلبية. فأجعلوا قلبكم من هذا اليوم فراجعاً= الكلمة المترجمة راجعاً تترجم فصاعداً (كلمة راجعاً هنا هي نفسه كلمة صاعداً في الآية (18))أي منذ الآن فصاعداً (أي لبقية عمركم) قدموا توبة بنية صادقة، وصمموا على عدم الرجوع للخطية. وفي (16) عرمة= إيفة وهي مكيال للحبوب. والمعنى أنه حين تنتظروا من حصادكم 50أيفة تحصدوا فعلاً 20أيفة وذلك لانعدام البركة. والفورة = هي كلمة عبرانية معناها ما تسعه المعصرة في المرة الواحدة. وفي (17) الله يضرب النباتات بسبب نجاستهم باللفح= هبوب ريح عنيف. واليرقان= آفة حشرية تصيب الزرع بالإصفرار. والبَرَدْ= الصقيع الذي يقتل النبات. إذاً هذه الضربات هي من الله وليست ظروف طبيعية فقط، فالله ضابط الكل يتحكم في الطبيعة. الله وراء هذه الضربات يسلطها عليهم حتى يتوبوا عن نجاستهم، حينئذ تعود لهم البركة، لكن الله يعاتبهم أنهم لم يفهموا سبب إنعدام البركة فلم يتوبوا= وما رجعتم إلىَّ يقول الرب. وفي (18) الهيكل تأسس أيام كورش وتعطل 15سنة، ويعتبر وضع الأساس الجديد سنة 520 بدءاً جديداً، وكأن الله يطلب مع بداية هذا العمل، قدموا توبة قلبية فتزداد البركة لكم. ولكن معنى تحديد التاريخ من اليوم الرابع والعشرين.. أن الله يحدد ميعاد رجوع البركة لهم، ويطلب منهم أن يلاحظوا أنهم في نفس اليوم الذي بدأوا فيه البناء واستجابوا لنداء الله، ففي نفس هذا اليوم عادت البركة لهم، عليهم إذاً أن لا ينسبوا عودة البركة لهم للصدفة أو رضا الطبيعة عليهم، بل يفهموا أنها نتيجة رضا الله عليهم، الله عاد بالبركة لهم (أي أمطار وثمار ولا لفح ولا يرقان..) حينما عادوا لله واستجابوا لندائه وقدموا توبة.. وعليهم أن يلاحظوا ميعاد عودة البركة ليفهموا أنها من الله. وفي (19) مع أنه لا يوجد بذار في المخازن= الإهراء ولم تزهر أشجار الكروم والتين، إلاّ أنهم طالما قدموا توبة صادقة فعليهم أن ينتظروا بثقة وإيمان وصبر تحقيق وعود الله بعودة البركة لهم.
الآيات (20-23): “وصارت كلمة الرب ثانية إلى حجي في الرابع والعشرين من الشهر قائلاً. كلم زربابل والي يهوذا قائلاً. أني أزلزل السموات والأرض. وأقلب كرسي الممالك وأبيد قوّة ممالك الأمم وأقلب المركبات والراكبين فيها وينحطّ الخيل وراكبوها كل منها بسيف أخيه. في ذلك اليوم يقول رب الجنود آخذك يا زربابل عبدي ابن شألتيئيل يقول الرب وأجعلك كخاتم لأني قد اخترتك يقول رب الجنود.”
في الرابع والعشرين من الشهر= الله يتكلم للمرة الثانية في نفس اليوم إعلاناً ن فرحته بهم. وهذه نبوة بكسر قوة الشياطين من أمامهم. وتفهم أيضاً أن الله يطمئن زربابل بأنه معه وسيقلب أمامه أمم الأرض التي تقاومه. فعندما أكرم زربابل الله بأمانته، نجد الله هنا يكرم زربابل جداً. وحينما نضع هذه الآيات بجانب السابقة نجد أن الإنسان حين يقدم توبة بنية صادقة فإن الله يقلب أمامه مملكة الشيطان. إذاً لا داعي لأن يعتذر أحد بأن الشيطان أقوى منه. كل منها بسيف أخيه= فالأمم التي تقاوم المسيح وشعبه تقوم على بعضها وتقتل بعضها (قصة جدعون وشعب مديان) زربابل عبدي= هكذا قيل عن المسيح في (أش1:42 + في7:2). لأني قد أخترتك= وقيل عن المسيح مختار الله (أش1:42 + 1بط4:2). فزر بابل هو رمز للمسيح. لذلك فآية (23) هي نبوة عن المسيح. وأجعلك كخاتم= خاتم التوقيع كان يتمتع بعزة فائقة في تلك الأيام فهو رمز للسلطة، فالله يعطي زربابل الملك والسلطان رمزاً لملك المسيح على كنيسته وإنهيار مملكة إبليس (لو32:1،33) (هذا ما قيل عن المسيح كملك). الختم يشير لسلطان المسيح الذي منحه له الآب. وبالخاتم يتم صرف الشئ المختوم عليه، وبالمسيح نحصل على إستجابة صلواتنا (يو24:16 + يو16:15 + يو14:14). ولذلك تضيف الكنيسة على الصلاة الربانية “بالمسيح يسوع ربنا” فالله لا يستجيب لنا إلا بالمسيح =أجعلك كخاتم. وراجع (2كو20:1-22). وزربابل كخاتم: هذا عكس ما قيل عن أبيه كنياهو (أر24:22) بسبب خطايا كنياهو، فبالخطية نفقد كل شئ.
- سفر حجي – الأصحاح الثاني
- تفاسير أخرى – سفر حجي أصحاح 2
تفسير سفر حجي 1 | تفسير سفر حجي القمص أنطونيوس فكري |
فهرس |
تفسير العهد القديم |