تفسير سفر هوشع ٢ للقمص تادرس يعقوب
إن كان الله قد أعلن خيانة إسرائيل للعهد المبرم بينهم وبين الله، فصار زوجة زانية تثمر أولاد زنى، كشف هذا الأصحاح عن ثمار الخيانة الزوجية، فاتحًا الباب للعودة إلى الله من جديد:
1. محاكمة الأم 1-4
“قولوا لإخوتكم عمى، ولإخوتكم رُحامة، حاكموا أمكم حاكموا، لأنها ليست امرأتي وأنا لست رجلها، لكي تعزل زناها عن وجهها وفسقها من بين ثدييها” [ع1-2].
إذ أعلن الله عن هذه الأمة أنها قد زنت تاركة إلهها الحقيقي لتتحد بقلبها مع البعل لم يستطع أن يدعوها امرأته لأنها خانته وهو طلقها، إنما يدعوها: “أمهم” لكي يثيرها للتوبة والرجوع إليه على المستوى الجماعي كما على المستوى الشخصي لكل عضو فيها.
ومع كل ما صنعته من شرور يفتتح الرب حديثه بواسطة النبي كما يختتمه بإعلانه تجديد العهد معهم، معلنًا أنهم شعبه وموضع رحمته. بهذا الروح يقول الرسول بولس: “أيها الإخوة أن مسرة قلبي وطلبتي إلى الله لأجل إسرائيل هي للخلاص” (رو 10: 1).
إلى من يوجه الحديث: “قولوا لإخوتكم عمي ولأخوتكم رُحامة”؟ أن كانت جومر بنت دبلايم تثمر يزراعيل ولورحامة ولوعمي، لكنه توجد بقية قليلة وسط الشعب مقدسة لله أو على الأقل مشتاقة للحياة المقدسة للرب. هؤلاء يوجه إليهم الله حديثه لكي يفتحوا أبواب الرجاء أمام اخوتهم الساقطين فيعلنوا أن الله يشتاق أن يضمهم ليصيروا شعبه ويرحمهم، لكن ليس بدون تقديس أو جهاد، إذ يقول: “حاكموا”.
ليحاكموا أمهم التي فقدت انتسابها لله فلم تعد امرأته بسبب زناها وفسقها. إنها محاكمة تتم داخل دائرة النفس بالروح القدس فيدين الإنسان نفسه قبل أن يفتضح في يوم الرب العظيم، ليقل كل واحد لنفسه: “حاكموا أمكم حاكموا”، فنحكم على أنفسنا قبل أن يُحكم علينا. ليتنا لا نصمت على فساد العروس التي للرب، فنرد في أنفسنا ما كتبه القديس باسيليوس الكبير إلى عذراء ساقطة: [إن كان يوحنا انتهر بجسارة حتى الموت عندما رأى عرسًا ما كان ينبغي أن يكون، فكم بالأكثر تكون مشاعره عندما يرى انتهاكًا لعرس خاص بالرب؟! لقد ألقيتي عنكِ نير الوحدة الإلهية. لقد هربتي من الحِجال المقدس الذي للملك الحقيقي. لقد سقطتي في ذلك الهلاك الفاسد الدنس… من لا يحزن على مثل هذه الأمور، قائلًا: “كيف صارت القرية الأمينة زانية” (إش 1: 21)؟![20].]
أما غاية هذه المحاكمة فهي: “لكي تعزل زناها عن وجهها وفسقها من بين ثدييها” [ع2]. فإذ نحكم على أنفسنا ننزع عن وجهنا عدم الحياء، فنخجل من ضعفنا ونطلب الستر بنعمته، عندئذ نسمع عريسنا السماوي يقول: “قومي ياحبيبتي يا جميلتي وتعالي، يا حمامتي فيمحاجئ الصخر في ستر المعاقل؛ أريني وجهك، اسمعيني صوتك، لأن صوتك لطيف ووجهك جميل” (نش 2: 13-14). يهبنا قوة قيامته قائلًا: “قومي” فنموت عن كل نجاسة لطَّخت وجهنا وتظهر في عينيه سماته الإلهية، ممجدين بقيامته، متزينين بعمل روحه القدوس.
لينزع بروحه القدوس الفسق من بين الثديين، أيّ من داخل القلب، حتى نناجيه، قائلين: “بين ثديي يبيت” (نش 1، 13)، إذ لا يقدر أن يبيت القدوس حيث يستقر الفسق، لأنه أية شركة للنور مع الظلمة وأيّ اتفاق للسيد المسيح مع بليعال؟!
ماذا يعني نزع الفسق عن الثديين؟ أن كان للعريس السماوي ثديان هما للعهدان القديم والجديد، فإنهما ثديا العروس أيضًا بكونهما كتاب الكنيسة، فيليق بالعروس أن تقدمها خلال حياتها المقدسة في الرب ولا يفسد أحد رسالتهما بحياته الشريرة معثرًا الآخرين عن التمتع بهما كغذاء للنفوس. بهذا المعنى كتب القديس جيروم للراهب باماخيوس يشجعه على دراسة الكتاب المقدس، قائلًا: [أعطه ثدييك ليرضع من حضنك المثقب وليسترح في ميراثه (مز 68: 13)[21].]
إن حاكمنا أنفسنا لا يُحكم علينا، أما إذا تهاون مع أنفسنا في أمر الخطية فنسقط تحت هذا الحكم: “لئلا أجردها عريانة وأوقفها كيوم ولادتها وأجعلها كقفر وأصيرها كأرض يابسة وأميتها بالعطش، ولا أرحم أولادها لأنهم أولاد زنى” [ع3-4].
ماذا يعني بقول: “أجردها عريانة وأوقفها كيوم ولادتها” غير أنها إذ تركته بإرادتها لا يلزمها بالارتباط به فتفقده كسر ستر لحياتها الداخلية. ترفضه فتفقده كثوب برّ تكتسي به، وتظهر بطبيعتها الفاسدة كيوم ولادتها الجسدية، ليس لها ما يستر ضعفها. لقد حرمت نفسها بنفسها من السيد المسيح الذي نلبسه كقول الرسول بولس: (غل 3: 27).
أما قوله: “اجعلها كقفر وأصيرها يابسة وأميتها بالعطش”، فلأنها ترفض الله لا تتقبل روحه القدوس الذي ينزل على أرضنا القفر كمطر يرويها، ويجعل من بريتها القاحلة فردوسًا مثمرًا، لتقول لعريسها: “ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس” (نش 4: 16).
أما قوله: “ولا أرحم أولادها لأنهم أولاد زنى” فيشير إلى الثمر الذي ينبع فينا عن ذواتنا وليس عن اتحادنا مع العريس السماوي؛ هذا الذي قال عنه السيد المسيح أن كل غرس لم يغرسه أبوه السماوي يُقلع (مت 15: 13)، إذ هو غريب عن ملكوت الله ولا يستحق إلاّ الحرق! هذه الأعمال التي ليست من الله هي: “أولاد زنى”، أما الأعمال التي من غرس الله فمرتبطة به لا يمسها الشرير، بل تبقى مرافقة لنا كل أبديتنا كقول الكنيسة: “أكتب طوبى للأموات الذين يموتون في الرب منذ الآن؛ نعم يقول الروح لكي يستريحوا من أتعابهم، وأعمالهم تتبعهم” (رؤ 14: 13).
2. الجري وراء الباطل 5-7
إذ يطلب الله عروسه مهددًا إياها أن رفضت، بل بالحرى محذرًا إياها لئلا تصير عريانة وقفرًا ولا تنعم برحمته، يكشف لها أن ما يحدث لها ليس عن قسوة من جانبه وإنما هو ثمر طبيعي لتركها الحق كسر حياتها وشبعها، وجريها وراء الباطل الذي لا يقدم إلاّ موتًا وحرمانًا.
يقول: “لأن أمهم قد زنت، التي حبلت بهم صنعت خزيًا، لأنها قالت: أذهب وراء محبيّ الذين يعطون خبزي ومائي، صوفي وكتاني، زيتي وأشربتي” [ع5]. لقد أوضح أن سر هلاكها هو زناها وارتكابها الخزي، لا بالمعنى الجسدي العام، إنما ارتكابه في القلب داخليًا أولًا حيث تحل احتياجاتها؛ يقدمون لها طعامها (خبزي)، شرابها (مائي)، وكساءها (صوفي وكتاني)، وأدويتها (زيتي)، وبهجتها (أشربتي). هذا هو الزنا الروحي حيث يتكئ الإنسان على آخر غير الله عريس نفسه ليطلب منه احتياجاته ويجد فيه شبعه ولذته. وإذ يعمل الله على ردنا إليه يضيق الخناق حولنا لندرك أن جرينا وراء الآخرين لا يقدم لنا إلاّ سرابًا، إذ يقول: “لذلك هأنذا أسيج طريقك بالشوك وأبني حائطها حتى لا تجد مسالكها، فتتبع محبيها ولا تدركهم، وتفتش عليهم ولا تجدهم”[ع7] أن كانت الخطية تجلب للإنسان “شوكًا وحسكًا” (تك 3: 18)، وكما يقول الحكيم: “شوك وفخ في طريق ملتوي” (أم 22: 5)، فإن الله في محبته يترك هذا الشوك يعترض طريقنا لعلنا ندرك خطأنا ونرجع إليه. فحين يُقال أن الله يكون مع الملتوي ملتويًا (مز 18: 36)، “ويسلك بالخلاف مع من يسلك بالخلاف معه” (لا 26: 23-24)، إنما يفعل ذلك كثمرة طبيعية لشرنا لنجني من الشر ثمره، وفي نفس الوقت كعلامة حب إلهي لأجل تأديبنا حتى نرتد عن طريقنا. فإن لم نبالي يقيم لنا حائط الضيقات والأتعاب ليغلق أمامنا طريقنا الملتوي وندرك أن سعينا فيه باطل.
خلال هذا الضيق ندرك بطلان جرينا وراء الآخرين، إذ نقترب من المحبين فلا ندركهم ونفتش عليهم ولا نجدهم. من هم هؤلاء المحبين؟ ربما قصد بهم ملك آشور وفرعون مصر ومن هم على أمثالهما، فالتحالف مع واحد منهم خوفًا من الغير هو تحالف باطل، فهؤلاء يعملون لمصلحتهم الخاصة ويستغلون إسرائيل ويهوذا دون مساعدتهم في وقت الضيق. إنهم مثل “عكاز القصبة المرضوضة” (2 مل 18: 21). ولعله قصد بالمحبين أيضًا البعل والعشتاروت وما رافق العبادة الوثنية من سحر… هذه جميعها التي كرس إسرائيل حياته وطاقاته وكل مشاعره لها مع أنها لا تقدر أن تنقذه أو تخلصه.
غاية هذه المتاعب هي عودة العروس إلى تعلقها الحكيم فتترك زناها وترجع إلى رجلها الحقيقي: “فتقول أذهب وأرجع إلى رجلي الأول لأنه حينئذ كان خير لي من الآن” [ع7]، وكأنها بالابن الضال الذي قال: “أقوم وأذهب إلى أبي” (لو 15: 18).
3. تدنيس عطايا الله 8-13
في دراستنا لسفر حزقيال رأينا الله يعاتب عروسه ليس لأنها خائنة فحسب، وإنما لأنها أخذت غناه ومقدساته لتستخدمها في خيانتها له[22]. هنا يعلق الله أن عروسه تأخذ قمحه ومسطاره وزيته وفضته وذهبه لتقدمه للبعل؛ تستخدم العطايا الإلهية لخدمة الشر! وقد سبق لنا شرح رموز هذه العطايا ومفاهيمها الروحيّة في شيء من التفصيل[23].
أما ثمر هذا التصرف المؤلم فهو:
أولًا: يسحب الله عطاياه في الوقت المناسب، إذ يقول: “لذلك أرجع وآخذ قمحي في حينه ومسطاري في وقته، وأنزع صوفي وكتاني اللذين لستر عورتها” [ع9]. والعجيب أن الله يترك عروسه تفعل ما تشاء بعطاياه ومواهبه، بالرغم من إساءة استغلالها لها، لعلها تدرك خطأها وترجع. ولكن هذا الترك إلى حين، ففي الوقت المناسب يسحب ما وهبها فتصبح جائعة وظمآنة وعارية، تنفضح حتى أمام عيون محبيها. إن كان الله يطيل أناته علينا، لكن إن تمادينا في إساءة استخدام عطاياه لنا ينتزع ما وهبنا ويجعلنا مثلًا وهزأة حتى بين الأشرار، الأمر الذي أدركه إرميا النبي حين سُبيت أورشليم إذ قال: “كل مكرميها يحتقرونها لأنهم رأوا عورتها وهي أيضًا تتنهد وترجع إلى الوراء، نجاستها في أذيالها… ليس لها معزٍ” (مرا 1: 8-9).
ثانيًا: لا تفقد العطايا والمواهب فحسب وإنما تفقد أيضًا فرحها وسلامها الزمني والأبدي، إذ يقول: “وأبطل كل أفراحها: أعيادها ورؤوس شهورها وسبوتها وجميع مواسمها” [ع11]. إنه يبطل كل أفراحها الزمنية، وتدخل في مرارة دائمة وكآبة وضيق ولا تعرف الفرح بعد ولا العيد. أما المؤمن ففي وسط حمله للصليب يُسحب قلبه لبهجة القيامة وقوتها، ووسط الآلام يتذوق الراحة الداخلية على مستوى سماوي، ووسط الحزن يفرح ولا يقدر أحد أن ينزع فرحه منه.
يؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم في أكثر من موضع أن سلام الإنسان وفرحه ينبعان من أعماقه في الداخل خلال الحياة المقدسة في الرب، وأن أذيته لا تنبع عن عوامل خارجية بل عن خطيته، إذ يقول: [لهذا لا أخاف من مؤامرات الأعداء، إنما أخاف أمرًا واحدًا هو الخطية، أريد أن ألقنك درسًا وهو ألا تخف من خداعات ذوي السطوة، لكن خفْ من سطوة الخطية. لا يضرك أحدًا إن لم تضر نفسك بنفسك. إن كنت لا تخطئ فإن عشرات الألوف من السيوف تهددك، لكن الله ينتشلك منها حتى لا تقترب إليك، ولكن إن كنت ترتكب شرًا، فإنك وإن كنت داخل فردوس فستطرد منه[24].]
ثالثًا: يخرب كرمها وتينها [ع12]، وقد سبق فرأينا في مقدمة هذا التفسير الكرمة والتينة كرمزين للكنيسة المتألمة والمتسمة بوحدة الروح. وكأن الإنسان الذي يترك عريس نفسه يفقد سمات الكنيسة وعضويته فيها، بل ويصير وعرًا يأكله حيوان البرية [ع12]، أي فريسة للشيطان ومائدة للخطية.
رابعًا: أما نهاية هذا كله فهو نوالها العقاب الإلهي، “وأعاقبها على أيام بعليم التي فيها كانت تُبخر لهم وتتزين بخزائمها وحليها، وتذهب وراء محبيها وتنساني أنا يقول الرب”[ع13]. يحاسبها الله بدقة إذ قدمت البخور لأصنام البعل وتزينت لها بالخزائم والحلي وذهبت وراء محبيها ترتكب معهم الفجور وتركت الله ينبوع القداسة. قدمت البخور علامة الصلاة والالتجاء إلى البعل، وتزينت له علامة الرغبة في إرضائه والاتحاد معه، وجرت وراء المحبين إشارة إلى تعلق القلب. وهكذا قدمت كل إمكانيتها للبعل لا لعريسها الذي نسته تمامًا فاستحقت السقوط تحت العقاب الأبدي.
4. دعوة للرجوع 14-23
بعد إعلانه عن الشر الذي ارتكبه العروس الخائنة وتبديدها مال عريسها لحساب عدوه، كاشفًا عن ثمار هذه التصرفات الباطلة، يعود في حنان ولطف ليعلن رغبته في عودتها إليه، إذ يقول: “لكن هأنذا أتملقها وأذهب بها إلى البرية وأُلاطفها” [ع14].
أيّ عريس يلاطف عروسه بعد خيانتها له وتبديد ممتلكاته لحساب آخر غيره؟! هكذا يشتاق الله إلى الإنسان، يتملقه ويلاطفه لعله يرجع إليه ويقبل الاتحاد معه. وإذ يقدس الله الحرية الإنسانية لا يلزمه بالرجوع لكنه يتملقه كي يجتذبه إليه، لينطلق به إلى البرية حيث لا يجد هناك له معين سوى الله وحده الذي يلاطفه في البرية كما لاطف شعب بني إسرائيل في برية سيناء مقدمًا لهم كل حب ومظهرًا لهم كل حنو ورعاية.
والآن بماذا يلاطفها الله لكي ترجع إليه؟
أولًا: “أعطيها كرومها من هناك” [ع15]؛ فإن كان يذهب بها إلى البرية، لكنه يعطيها كرومها هناك في البرية، والكروم تقدم طعامًا (عنبًا) وشرابًا (عصير عنب) وخمرًا مفرحًا. ما هذه الكروم التي يقدمها لها الرب إلاّ نفسه، إذ يقول: “أنا الكرمة الحقيقيّة وأبي الكرام” (يو 15: 1)، كأنه يقدم حياته للشبع والارتواء والفرح، تنعم به بكونه الخبز النازل من السماء (يو 6: 50)، وتشرب منه بكونه الينبوع الحيّ (إر 2: 13) وتسكر بمحبته، قائلة: “حبك أطيب من الخمر” (نش 1: 2).
إن كان العالم قد صار كبرية قاحلة لا يقدر أن يقدم لنا شيئًا، لكننا في العالم نجد الكرمة الحقيقيّة النازلة إلينا لنقتنيها، بل لنثبت فيها كأغصان فتأتي بثمر كثير (يو 15: 5)، وهذا هو سر فرحنا وتهليل قلوبنا وسط برية هذا العالم.
ثانيًا: “وأعطيها… وادي عخور بابًا للرجاء وهي تغني هناك كأيام صباها وكيوم صعودها من أرض مصر” [ع15].
العجيب أن الله إذ يدخل بها إلى البرية ويقدم لها نفسه “كرومًا”، فإنها تقبل مع الكروم ضيقًا، لأن كلمة “عخور” تعني (إزعاجًا) أو (ضيقًا) وهو واد رُجم فيه عخار (عخان) ابن زارح (يش 7: 26) جنوب أريحا بحوالي عشر أميال. من يقبل السيد المسيح في برية هذا العالم يقبله مشبعًا لنفسه لكن ليس بدون ضيق، وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم حيث يوجد المسيح يوجد أيضًا ضد المسيح يقاومه.
“عخور” هي عطية الله… “أعطيها وادي عخور”، وكما يقول الرسول بولس عن عطية الألم: “قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضًا أن تتألموا لأجله” (في 1: 29) وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه يسمو بنفوسنا، حاسبًا هذه الآلام خاصة به، فأيّ فرح يشملنا أن نكون شركاء المسيح، ومن أجله نتألم؟!]،[كما تألم من الناس نتألم نحن أيضًا معه… لذلك يليق بكم ألاّ تقلقكم هذه الآلام بل بالحرى تفرحكم[25].]
والعجيب أن الله يهبنا “عخور بابًا للرجاء”، ففي وسط الألم ينفتح أمامنا باب الرجاء، إذ نتذوق قوة القيامة وبهجتها خلال الصليب مع السيد المسيح فنعود إلى صبانا وشبابنا المتجدد، وينفتح لساننا بالتهليل، وتتحول حياتنا إلى تسبحة فرح داخلية: “وهي تغني هناك كل أيام صباها وكيوم صعودها من أرض مصر” [ع15].
ثالثًا: تتمتع بالاتحاد مع العريس السماوي: “ويكون في ذلك اليوم يقول الرب أنكِ تدعينني رجلي ولا تدعينني بعد بعلي” [ع16]، أيّ تقبل الاتحاد مع الله دون استخدام اللغة الوثنية (بعلي أيّ سيدي أو ربي)؛ يقدسها تمامًا حتى في كلماتها، إذ يقول: “وأنزع أسماء البعليم من فمها فلا تُذكر أيضًا بأسمائها”.
تدخل معه في عهد زوجي يقدس جسدها وفكرها ويهبها سلامًا فائقًا حتى عند عبورها من هذا العالم. “وأقطع لهم عهدًا في ذلك اليوم مع حيوان البرية وطيور السماء ودبابات الأرض، وأكسر القوس والسيف والحرب من الأرض، واجعلهم يضطجعون آمنين” [ع18]. ما هو “ذلك اليوم” إلاّ يوم مجيء السيد المسيح وارتفاعه على الصليب لخلاصنا، حيث قدّم دمه المبذول عهدًا جديدًا، خلاله يتحقق تقديسنا، فتصير حيوانات البرية التي فينا مستأنسة، وطيور السماء أيّ الفكر مقدسًا، حتى دبابات الأرض أيّ أدنى الطاقات الجسدية مباركة فيه، محطمًا بصليبه قوس الخطية وسيف إبليس ونازعًا الحرب من الجسد (الأرض) إذ يصير مع النفس مقدسين فيه، ويجعل حتى في اضطجاعنا في القبر أمانًا حيث لا يقدر الجحيم أن يغتصبنا ولا الموت أن يفسد سلامنا!
سر هذا العمل الإلهي في حياتنا هو قوله مؤكدًا ثلاث مرات “وأخطبك لنفسي”[ع19-20] وهو يؤكد “لنفسي”، إذ يهبنا الله ذاته وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم للكنيسة على لسان السيد المسيح: [إنني أعدك بالملكوت… نعم لقد وهبتك النصيب الأعظم، أعطيتكِ حتى رب الملكوت![26].
أما ملامح هذه الخطبة السماوية فهي:
ا. “أخطبك لنفسي إلى الأبد”، خطبة أبديّة لا يستطيع الزمن أن يحلها ولا الموت أن يفسدها… أساسها الحب الذي لا تقدر مياه كثيرة أن تطفئه (نش 8: 7)!
ب. “أخطبك لنفسي بالعدل والحق والإحسان والمراحم” [ع19]. ما هو العدل والحق والحب إلاّ شخص السيد المسيح الذي نزل إلينا لتنعم البشريّة بالعروس فيه! به تقدم الآب إلينا ليحملنا في أحضانه، وفيه نتقدم نحن لدى الآب كعروس للابن الوحيد لنا حق البنوة له والاتحاد معه. باتحادنا مع العريس السماوي نحمل سماته أيّ العدل والحق والإحسان والمراحِم، فنصير سمائييّن، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [تأمل، ماذا فعل الروح؟ لقد وجد الأرض مملوءة من الشياطين فجعلها سماء[27].]
ج. “وأخطبك بالأمانة فتعرفين الرب”[ع20]. أساس الخطبة هو الإيمان الذي به نتحد مع العريس فينطلق بنا إلى أبيه ونتعرف عليه، لا معرفة الفكر البحت الجاف وإنما معرفة الحياة والاتحاد، الأمر الذي سبق فأعلنه السيد نفسه “لا يعرف الآب إلاّ الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له” (مت 11: 27). أن كان الاتحاد مع البعل ثمرته عدم المعرفة بالله، فإن الاتحاد بالابن غايته الدخول إلى حضن الآب والتعرف عليه عن قرب والتصاق!
رابعًا: “ويكون في ذلك اليوم إني استجيب يقول الرب، استجيب السموات وهي تستجيب الأرض” [ع21]. ما هي السموات إلاّ النفس التي تحمل السيد المسيح في داخلها عريسًا لها؟! فالآب يستجيب للنفس المتحدة بالعريس السماوي، إذ يشتم فيها رائحة الرضا وتكون موضع سروره. أما الأرض أيّ الجسد فيتقدس أيضًا مع النفس لا يعود يقاوم عمل الله بل يصير آلة برّ تعمل لحسابه، لذا يستجيب الرب لهذه الأرض المقدسة التي يسكنها البرّ. لا تعود الأرض تقاوم السماء، ولا الجسد يصارع مع النفس المقدسة بل يتجاوب معها ويأتي بثمار الروح التي هي من زرع الله نفسه “والأرض تستجيب القمح والمسطار والزيت وهي تستجيب يزرعيل”[ع22].
وأخيرًا يختم الله بركات هذا العصر المسياني الذي فيه يرجع الإنسان إلى عريسه مؤكدًا فضل نعمة الله علينا، بقوله: “وأزرعها لنفسي في الأرض وأرحم لورحامة وأقول للوعمي أنت شعبي وهو يقول أنت إلهي” [ع23]. تمتد يد الله نفسه ليزرعنا فلا نعود بلا رحمة ولا نكون بعد لسنا شعبه بل ننعم برحمته والانتساب إليه ونعتز بألوهيته.
لقد صار “يزرعيل” وعدًا بعد أن كان تهديدًا، وصار علامة الله الذي يزرع كنيسته بنفسه بعد أن كان علامة للكرم المغتصب بواسطة إيزابل الشريرة. أما وعده: “أرحم لورحامة وأقول للوعمي أنت شعبي” فقد اقتبسها الرسول بولس في رسالته إلى أهل رومية كنبوة عن دعوة الأمم الذين كانوا غير مرحومين ولا شعب الله، قائلًا: “كما يقول في هوشع سأدعو الذي ليس شعبي شعبي والتي ليست محبوبة محبوبة” (رو 9: 25).
تفسير هوشع 1 | تفسير سفر هوشع القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير هوشع 3 |
تفسير العهد القديم |