تفسير سفر إشعياء ٥٤ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الرابع والخمسون
دعوة الكنيسة للترنم

بعدما تحدث عن آلام المسيح المخّلصة يدعو الكنيسة لحياة التسبيح والفرح، فقد وجدت عريسها السماوي الذي يهبها خصوبة روحية وثمرًا متكاثرًا عوض العقر وعدم الاثمار. رفعها من المذلة  إلى مجد أولاد الله، ومن الفساد إلى بره السماوي. واهبًا إياها نصرة على كل قوات العدو.

تسبيح من أجل الإثمار   [1-3].

ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنم أيتها التي لم تتمخض، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل قال الرب[1].

يرى العلامة أوريجانوس أن البعل أو الزوج هنا هو الناموس[578] الذي ارتبط به الشعب القديم كزوج، وكان يليق به أن يُقدم ثمرًا متكاثرًا، بينما حُرمت الأمم منه لكنها إذ اتحدت بالسيد المسيح خلال الإيمان به أنجبت أولادًا مقدسين للرب.

يقارن القديس أغسطينوس[579] بين كنيسة العهد القديم وكنيسة العهد الجديد، الأولى تزوجت بالناموس فصارت مع أولادها في عبودية لأنها كانت تطلب البركات الزمنية، أما الثانية فهي تتعبد لله من أجله هو ليكون هو الكل في الكل، خدمتها حرة تخص أولاد المرأة الحرة لا الجارية، هذه كانت قبلاً عاقرًا ولم يكن لها أولاد أما الآن فصار لها أولاد كثيرون أكثر مما كان للأولى… هذا يهبها فرحًا وترنمًا.

ما نقوله عن كنيسة العهد الجديد ككل نقوله عن كل نفس ترتبط بها، فانه مهما كانت حياتنا الماضية عقيمة وجافة فإن مراحم الرب المتسعة قادرة أن تهبنا ثمارًا روحية

للنفس (بنين) وللجسد (بنات)، بقبولنا الصليب وتمتعنا بالقيامة معه.

v جاء الناموس يعمل ليجعل الناس أبرارًا لكنه لم يستطع، فجاء (المسيح) وفتح طريق البر بالإيمان، وبهذا حقق ما اشتهاه الناموس. ما لم يستطع الناموس أن يحققه بالحرف حققه هو بالإيمان.

القديس يوحنا الذهبي الفم[580]

 

v   تمتد الكنيسة يمينًا ويسارًا فلا تعود تذكر عار ترملها[581].

v لقد دُعيت أورشليم، لكن أورشليم الأولى رفضت أن تسمع، فقيل لها: “هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا…” (مت 23: 38). أما تلك التي كُتب عنها: “ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد”… فلم تحتقر الذي دعاها. إنه يرسل لها مطرًا ويهبها ثمرًا…

دعا الكنيسة من كل العالم بعد قيامته، فلا تعود ضعيفة على الصليب بل قوية في السماء[582].

v تتحقق تلك النبوة التي يتحدث فيها إشعياء على لسانك إلى كنيستك، مدينتك المقدسة، العاقر التي لها أولاد وهي مستوحشة أكثر من تلك التي لها زوج. فقد قيل لها بالحق: “افرحي أيتها العاقر التي لم تلد…” أكثر من الأمة اليهودية التي لها زوج بتسلمها الناموس، واكثر من تلك التي لها ملك منظور. فإنَّ ملكك أنتِ مخفي، ولكِ أولاد كثيرون من العريس الخفي[583].

القديس أغسطينوس

ما هي نتيجة هذا الإثمار؟

أ. “اوسعي مكان خيمتك، ولتبسط شقق مساكنك؛ لا تمسكي. أطيلي أطنابك وشددي أوتادك، لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار ويرث نسلك أممًا ويُعْمِرُ مدنًا خربة[2-3].

تطلع النبي إلى كنيسة العهد الجديد كخيمة اجتماع مع الرب وقد جاء إليها أعداد بلا حصر من اليمين (اليهود) ومن اليسار (الأمم) في فيض لا ينقطع حتى ضاق الموضع جدًا فطلب توسيع مكان الخيمة وبسط الشقق المصنوعة منها واطالة اطنابها… فإنها تمتد لتصير الأرض للرب ولمسيحه؛ إنها تحول أممًا وثنية إلى مقادس للرب، وتعمر مدنًا خربة إلى مساكن مقدسة لشعب الله.

هذه هي صورة النفس التي تلتقي بالصليب، تصير بالحق خيمة الرب التي يتسع قلبها يومًا فيومًا ليحمل صورة المخلص محب البشر. يفتح أعماقه للصالحين (الذين من اليمين) والطالحين (الذين من اليسار) لكي يضم بالحب كل نفس إلى حياة الشركة مع الله في ابنه بالروح القدس. كأن عمل الصليب المثمر هو سكب روح الحب فينا لنشارك المصلوب حبه؛ نبسط أذرع قلوبنا لنحتضن الكل، ليتحقق فينا قوله الإلهي: “ليعلم الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضًا لبعض” (يو 13: 35).

إن كان الصليب قد فتح أبواب الرجاء أمام كل الأمم بالحب الإلهي فإن شهادتنا للمصلوب لن تتحقق مادامت خيمة قلوبنا ضيقة وأبوابها مغلقة وأطنابها قصيرة وأوتادها متراخية… لنَهَب قلوبنا للمصلوب فيقيمها مملكة حبه المتسع لكل البشرية الدائمة النمو!

كثيرًا ما نُدين الآخرين كمدن خربة مع أنه كان يليق بنا أن نُدين أنفسنا لأننا لم نحمل حب المصلوب فينا الذي يعمر المدن الخربة!

v لا يليق بالإنسان أن يهتم بنفسه فقط بل يلزمه أن يهتم بالآخرين أيضًا… فإنه أي فائدة لمصباح لا يضيء للجالسين في الظلمة؟! وأي نفع للمسيحي الذي لا يفيد غيره، ولا يرد أحدًا إلى الفضيلة؟!

القديس يوحنا الذهبي الفم[584]

تسبيح من أجل عريس السماوي [4-10].

إن كان الصليب عارًا، يتعثر فيه اليهود ويحسبه الأمم جهالة (1 كو 1: 23)، لكننا نحمل ثمره فندركه “قوة الله وحكمته” ولا نستحي منه (غل 6: 14). لهذا يقول النبي: “لا تخافي لأنك لا تخزين، ولا تخجلي لأنكِ لا تستحين، فانك تنسين خزى صباكِ وعار ترملك لا تذكرينه بعد” [4]. عند الصليب تلتقي النفس بعريسها واهب الحياة غالب الموت فتنسى ترملها القديم وخزى صباها إذ عاشت زمانًا طويلاً كوحيدة متروكة ليس من يملأ فراغ قلبها. تطلعها للعريس المصلوب يشبع كل أعماقها الداخلية فلا تبالي بسخرية بنات أورشليم الرافضات الخلاص، بل في قوة الحب تقول: “أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحق ألاَّ تُيقظن ولا تُنّبِهن الحبيب حتى يشاء” (نش 3: 5).

يقول لنا القديس يوحنا الذهبي الفم حوارًا بين العريس السماوي والنفس البشرية، جاء فيه:

[عظيم هو مهري!… جاء وأخذني، وعّين لي مهر، قائلاً: اعطيكِ غناي!

هل فقدتِ الفردوس؟ أرده لك…

ومع ذلك لم يعطني المهر كله هنا؛ لماذا؟

لكي اهبه لكِ عندما تدخلين الموضع الملوكي.

هل أنتِ جئتِ إليّ؟ لا، بل أنا الذي جئت إليكِ… لا لكي تمكثي في موضعك، وإنما لكي آخذك معي وارجع بكِ. فلا تطلبي مني المهر وأنتِ هنا في هذه الحياة، بل كوني مملوءة رجاءً وإيمانًا[585]].

هذا هو سر فرحنا، وهذا هو موضع تسبيحنا الذي لا ينقطع. لقد حوّل الصليب ترملنا إلى عرس فريد فيه نتحد مع الرب نفسه، “لأن بعلك هو صانعك رب الجنود اسمه، ووليّك قدوس إسرائيل إله كل الأرض يُدعى، لأنك كامرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب وكزوجة الصبا إذا رُذلك قال إلهك” [5-6].

كنا في عار كإمرأة قد هجرها رجلها فانكسرت نفسها بالخزى والعار، رذلها بسبب زناها ورجاساتها، وها هي تصير عروسًا لرب الجنود لقدوس إسرائيل إله كل الأرض يسوع المسيح.

إذ تلتقي بعريسها وتنعم بأمجاده تنسى فترة ترملها بكل مرارتها فتحسب الماضي كله بالنسبة لها أقل من لحظة أو طرفة عين. نعمة رب المجد وإحساناته التي تجعلنا معه وتوحّدنا مع ابيه تجعلنا ندرك بفرح كلماته لنا: “لُحيْظة تَركتُك وبمراحم عظيمة سأجمعك، بفيضان الغضب حجبتُ وجهي عنكِ لحظةَ وبإحسانٍ أبديٍّ أرحمُك قال وليُّك الرب[7-8].

أمام مراحم الله الأبدية نحسب كل أيام ضيقنا أشبه بلحيظة عبرت لندخل الأمجاد السماوية. أما قولـه “سأجمعك” فهي تعني جمع الكنيسة المقدسة معًا من كل الأمم والشعوب والألسنة كجسد واحد للرأس، أو كعروس واحدة لعريسها السماوي. أيضا فيها يجتمع المؤمنون معًا، كل رجال العهد القديم مع رجال العهد الجديد، وفيها يجتمع السمائيون مع الأرضيين، ويجتمع الكهنة مع الشعب الخ… هذا كله لن يتحقق ما لم يجتمع الإنسان مع نفسه ككل حيث تخضع النفس مع الجسد بكل حواسه ومشاعره والعقل مع القلب والمواهب الخ… فيصير بكُلّيته مقدسًا للرب.

هذا الحب الزوجي بين المسيح والنفس البشرية أبديّ لا يزول؛ فكما قدم الله وعدًا لنوح ألا يغرق العالم بالطوفان خلال غضبه على البشرية [9] هكذا يهبنا الرب وعدًا ألا يفارقنا قط أو ينزع رحمته عنا، إذ يقول: “فإن الجبال تزول والآكام تتزعزع أما إحساني فلا يزول عنكِ وعهد سلامي لا يتزعزع قال راحمكِ الرب[10].

في اختصار اختارنا عروسًا له نازعا عار ترملنا، مؤكدًا حبه لنا ورحمته علينا، مقدمًا لنا وعودًا أكيدة متجددة أبدية. أقامنا من بيت الزنا وغسلنا وقدسنا عروسًا له يدخل بنا إلى سمواته كملكة تجلس عن يمينه. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الله يرغب في الزانية، فماذا يفعل؟ إنه لا يقودها إلى العلا وهي زانية، فهو لا يُريد أن يدخل بها إلى السماء وهي على هذا الحال، إنما نزل إليها. نزل إلى الأرض مادامت تعجز هي عن الصعود إلى فوق. جاء إلى الزانية ولم يخجل من أن يمسك بها وهي في سكرها…[586]].

تسبيح من أجل تجديدها   [11-13].

سرّ تسبيحنا إننا كنا كعاقر وهبنا الله كثرة من البنين، وكمستوحشة متروكة وجدت الرب نفسه عريسًا لها، وأيضًا كمدينة خربة قام الرب بتجديدها وإعادة بنائها.

أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية هأنذا أبني بالأثمد حجارتك وبالياقوت الأزرق أؤسسك، واجعل شُرفك ياقوتًا وأبوابك حجارة بهرمانية وكل تخومك حجارة كريمة[11-12].

يا لها من صورة رائعة تكشف عما وصلت إليه البشرية من انحطاط وما حل بها من مجد فائق لا يُنطق به، كانت كمدينة خربة مهدمة، حُسبت في ذل وحل بها الاضطراب بواسطة العدو الذي سبى شعبها وافقدهم كل رجاء فصاروا بلا تعزية، الآن يقوم الرب ببنائها هكذا:

أ. يبني بالاثمد حجارتها، علامة القوة والمتانة. هذه الحجارة هي النفوس التي قبلت الإيمان بالمخلص فصارت حجارة حية في هيكل الرب، لا يقدر عدو الخير أن يُحطمها

أو ينتزعها!

ب. الأساس من الياقوت الأزرق. الأساس هو ربنا يسوع السماوي (الأزرق)، حجر الزاوية الذي يضم الكل معًا فيه.

ج. الشرُف من الياقوت الشفاف إشارة إلى مجد المؤمن الداخلي القائم على بر المسيح والحياة المقدسة فيه، ينعكس على الشرفات الخارجية.

 د. الأبواب التي من الحجارة البهرمانية، تُشير إلى تقديس الحواس واهتمامنا بها دون تحطيمها أو الاستخفاف بها.

هـ. كل التخوم حجارة كريمة تُشير إلى التقديس الكامل للنفس مع الجسد.

و. كل سكانها يُحسبون تلاميذ الرب وبنيها مملوئين سلامًا [13]، إذ يتتلمذ أعضاء الكنيسة المخلصين على يديْ الرب نفسه خلالها، يختفي أمامهم كل كاهن أو معلم ليروا الرب نفسه عاملاً في الجميع. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [انظر كرامة الإيمان، إنه ليس من بشر ولا من إنسان إنما بواسطة الله يتعلمون هذا!… لا تعني البنوة هنا “كل” (كل بنيكِ تلاميذ الرب) بطريقة مطلقة، إنما تعني كل من لهم الإرادة. فإن المعلم يجلس مستعدًا أن يمنح ما لديه للجميع ويسكب تعليمه للكل[587]]. ويقول القديس أغسطينوس عن نعمة التعلم بواسطة الله: [تُدعى هذه النعمة “تعلمًا” فإن الله يعلم من يدعوهم حسب غرضه واهبًا إياهم أن يعرفوا ما يجب أن يفعلوه، وفي نفس الوقت أن يعملوا ما يعرفوه[588]]. وكأن التعلم بواسطة الله كعطية إلهية يحمل شقين متكاملين: المعرفة الروحية الحقة، التمتع بالعمل والممارسة لهذه المعرفة في حياتنا اليومية. يهبنا أن نعرف الحق ونحياه فيه!

خلال هذه التلمذة يتمتع بنو الكنيسة بسلام فائق: “وسلام بنيكِ كثيرًا[13].

بجلوسنا عند قدمي المخلص نسمع صوته ونتمتع بإمكانياته لنمارس الحق فيه يهبنا سلام الروح الداخلي كعطية خاصة لبنيه.

وصف البابا أثناسيوس الرسولي القديس أنبا انطونيوس بعدما قضى فترة في نسكه الشديد، قائلاً: [جسده لم يتغير… أيضا مزاج نفسه بلا عيب، إذ لم تضيق نفسه كما من الحزن، ولا انغمست في لذة، ولا تأثرت بضحك أو يأس[589]].

v السلام هو الميراث الذي وعد به السيد تلاميذه قبل صلبه… قائلاً: “سلامًا أترك لكم، سلامي أنا أعطيكم”. فمن أراد أن يكون وارثًا للسيد المسيح فليملك على سلام المسيح ويسكن فيه.

القديس أغسطينوس[590]

ز. سر سلام الكنيسة الكثير وبنيانها وقوتها هو برّ المسيح، إذ يقول: “بالبر تثبتين، بعيدة عن الظلم فلا تخافين، وعن الارتعاب فلا يدنو منكِ[14]. يقول الرسول: “الذي أُسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا” (رو4: 25).

تسبيح من أجل نصرتها [14-17].

ما يفرح قلب الكنيسة التي بناها الرب بنفسه واختارها عروسًا له وملكة سماوية، متلمذًا أولادها على يديه، واهبًا إياهم سلامه الفائق، مقدمًا لهم برّه عاملاً فيهم ليعيشوا بالبر ويرفضوا كل شر وظلم، إنها في ذات الوقت تُقاوم من قوات الظلمة مجتمعة فيهبها الرب نصرة عليهم وغلبة حتى على الموت.

أ. اتحاد قوات الظلمة ضدها: “ها انهم يجتمعون اجتماعًا ليس من عندي[15]… يتشاورون ويعملون معًا ضد كنيسة المسيح كما اجتمعت قوى الشر قبلاً تطلب صلب عريسها فتحول ظلمهم إلى خلاص للعالم، وأخرج الله من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة.

ب. اتحادهم معا يسقطهم تحت قدمي الكنيسة: “من اجتمع عليكِ فإليكِ يسقط[15].

ج. اجتماعهم هو بسماح إلهي: “وأنا خلقت المهلك ليخرب[16]؛ لهذا لا نخشاه ولا نضطرب من شدة عنفه، فإنه في يد الخالق ممسوك به.

د. تنتهي حتمًا كل مقاومة وتكلل الكنيسة لتنال ميراثًا برًا أبديًا: “كل آلة صورت ضدك لا تنجح وكل لسان يقوم عليكِ في القضاء تحكمين عليه. هذا هو ميراث عبيد الرب وبرهم من عندي يقول الرب[17].

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى