مدرسة أنطاكية

أنطاكية

جغرافياً تقع في الأساس على بعد 15 ميلا من البحر المتوسط، على الضفة اليسرى لنهر العاصي. أسسها سلوقس الأول (المظفر) نيكاتور (355- 280 ق.م) Seleucus Nicator تكريماً لوالده أنطيوكوس في ۲۹۳ق.م وجعلها عاصمة لمملكته.

 كانت أنطاكية هي مركز المسيحية خارج حدود فلسطين.

 ساند المجتمع الأنطاكي بقوة سياسة القديس بولس الرسول ضد مشكلة التهود. وطبقاً للتقليد فقد كان القديس بطرس هو أول أسقف للمدينة. ومع بداية القرن الثاني أصبح للكنيسة نظام راسخ برسامة القديس إغناطيوس أسقفاً لها.

بحلول القرن الرابع أصبح الكرسي الأنطاكي في الترتيب بعد کرسي روما والإسكندرية كثالث كرسي رسولي للمسيحية، وبلغت كنيسة أنطاكية أوج شهرتها في نهاية ذلك القرن.

 أُحتلت أنطاكية لفترة من قبل الفرس في عامي 540 و 611م، واستولى عليها الخلفاء العرب في 637 م. وقد أُحتلت المدينة مرة أخرى بواسطة الإمبراطورية البيزنطية في 969 م ، واستخدمتها كتخم حصين لها حتى استولى عليها السلاجقة الأتراك في 1084 م. وفي نفس السنة وقعت في يد الصليبيين. ثم استولى عليها المماليك بعد ذلك في 1268م.

سقطت أنطاكية في يد العثمانيين الأتراك في 1516م وظلت جزءا من الإمبراطورية العثمانية حتى بعد الحرب العالمية الأولى بوقت قصير، عندما سُلمت لسوريا تحت الانتداب الفرنسي. أما مقاطعة Hatay و التي كانت أنطاكية عاصمتها فحصلت على الاستقلال في ۱۹۳۸م وفي العام الذي يليه تم تسليمها إلى تركيا.

مدرسة أنطاكية

يعتبر الدارسون الحديثون أن لوسيان (لوقيانوس) الأنطاكي هو المؤسس لهذه المدرسة. ولكن البداية الحقيقية لمدرسة أنطاكية كانت مع ديودور الطرسوسي في العقود الأخيرة من القرن الرابع.

 يقول شاف schaff: لم تكن مدرسة أنطاكية معهداً مستديماً منتظماً يتعاقب عليه باستمرار وعلى التوالي سلسلة من المدرسين مثل مدرسة الإسكندرية التعليمية، ولكن كانت بالحري اتجاهاً لاهوتياً، وبالأخص نمطاً مميزاً لتفسير الكتب المقدسة وشرحها والذي كان مركزه أنطاكية.

: ويذكر J.Quasten: تلقى آريوس تعليمه اللاهوتي بأنطاكية في مدرسة لوسيان. وقد حصل على مساندة كثير من أساتذته السابقين بالمدرسة. بل إن عدداً كبيراً من أساقفة أنطاكية تبعوا أحزاباً آريوسية مختلفة. ولكننا في نفس الوقت، لاننسى أيضا أنه كان لهذه المدرسة آباء أرثوذكسيين عظام.

برنامج المدرسة

 كان كل من المعلمين والطلبة يعيشون في داخل المدرسة على نظام أسكيتيريون (Hermitage – دیر) تحت قواعد وقوانين خاصة تنظم البرنامج اليومي لحياة الشركة هذه. وكان الطلبة داخل الأسكيتيريون يمارسون حياة النسك ودراسة الموضوعات اللاهوتية وكان عليهم أن يظلوا بدون زواج.

وقد كانت ساعات الدراسة طويلة، والمادة الرئيسية في منهاج الدراسة كانت هي الكتاب المقدس، بالإضافة إلى مسائل عقائدية وأخرى أخلاقية وما يخص الدفاع عن المسيحية، وذلك إلى جوار دراسة الفلسفة.

 أعلن ديودور الطرسوسي في معارضته لطريقة التفسير التي اشتهرت بها جداً مدرسة الإسكندرية “إننا نطلب منهم أن يعرفوا أننا نفضل التفسير الحرفي لنصوص الكتاب المقدس عن التفسير الرمزي”.

تطورات مدرسة أنطاكية

أسسها لوسيان ودوروثيئوس – اللذان كانا من الشخصيات البارزة – بين العام 260 و 360 م.  أما العصر الذهبي لهذه المدرسة فكان بين 360-430 م حيث وصلت إلى أوج شهرتها تحت رئاسة ديودور الطرسوسي. ومن أشهر علماء هذه الفترة فلافيان، ودیودور الطرسوسي وثيئودور الموبسويستي وثيئودوريت القورشي (والثلاثة هم معلمو الهرطقة النسطورية)، وعلى رأس الكل القديس يوحنا ذهبي الفم. و مرت المدرسة بحالة من التدهور بعد سنة 430م حيث بدأت في الانحدار بظهور النسطورية. وبعد ذلك انضم أتباعها إلى مدرسة الرها إلى أن خربت، ثم منها إلى نصيبين وذلك في عام 489م.

الخصائص الرئيسية للاهوت الأنطاكي (بالمقارنة مع اللاهوت الإسكندري):

1. التأكيد على الطبيعة البشرية للسيد المسيح:

 فيما يخص الكتاب المقدس و علم اللاهوت كان منهج كنيسة أنطاكية عقلانياً، تاريخياً، حرفياً عنه بالنسبة لمدرسة الإسكندرية.
 فيما يخص طبيعة السيد المسيح Christology، يؤكد العديد من اللاهوتيين الأنطاكيين على العنصر البشري في السيد المسيح في نصوص الكتاب المقدس، وهذا الاتجاه ترتب عليه القراءة النقدية للكتاب المقدس مما أدى إلى تطور عقائدي في مضمون النص نفسه. هذا التركيز على العنصر البشري ترك آثاره السلبية على سمعة مدرسة أنطاكية.
الجهود التي بذلت للتأكيد على وحدة الله، انحطت إلى عقيدة بولس الساموساطي الذي اعتبر أن الكلمة ليس أقنوماً وبالتالي فهو غير مميز عن الآب. ورأى في السيد المسيح مجرد إنسان فقط حل فيه الكلمة الإلهي وعمل من خلاله. وكانت هذه العقيدة هي أساس اللاهوت الأنطاكي وقد مهدت الطريق للنسطورية.
 اضطر الكثير من الأنطاكيين – في جدالهم مع الآريوسيين والأبوليناريين – إلى المبالغة في التركيز على الطبيعة البشرية للكلمة المتجسد، إلى الدرجة التي ذهبوا فيها إلى وجود شخص آخر اتحد به اللوغوس، متنازلين في ذلك عن وحدة شخص السيد المسيح (أي متتازلين عن أنه شخص واحد له طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة من طبيعتين) ومن هنا نشأ الخلاف بين نسطور والقديس كيرلس.
على النقيض من ذلك فإن التركيز على ألوهة الكلمة المتجسد كان أحد الملامح الأساسية في اللاهوت الإسكندري. فقد حاول الإسكندريون بذلك أن يعملوا على سد الفجوة بين الله و العالم.
عمل اللاهوت الإسكندري على المصالحة بين المسيحية والفلسفة أو بين الإيمان والمعرفة، ولكنه قصد أن يكون هذا الترابط على أساس الكتاب المقدس و عقيدة الكنيسة. ولذلك كان الله الكلمة هو محور اللاهوت الإسكندري الذي فيه كل العقل وكل الحق قبل وبعد التجسد.
 وبالرغم من أن اللاهوتيين الإسكندريين كانوا نساكاً إلا أنهم لم يحتقروا أجسادهم، ولم ينكروا ناسوت الرب الكامل. ولكنهم ركزوا على الجانب الخلاصی. کان نسكهم إنجيلياً لا ينكر حرية الإرادة الإنسانية، ولا يحتقروا الحياة الأرضية وما يخصها. ويجدر الإشارة إلى أن النساك الأقباط كانوا يعتبرون أن المغالاة في الممارسات النسكية هي شر مثلها مثل الترف والتنعم.

٢. الطبيعتان (The Dyophyseis) في السيد المسيح

 ينادي النساطرة بطبيعتين منفصلتين بعد الاتحاد، مما جعلهم يذهبون إلى الاعتقاد بأن الطبيعة الإلهية (اللوغوس أو الله الكلمة) هو شخص، وأن الطبيعة البشرية الكاملة هي شخص آخر. لذلك كان اعتقادهم أن في السيد المسيح شخصان، حيث أنهم فهموا خطأ أن النفس الإنسانية العاقلة هي شخص. ولكن على الجانب الآخر نجد أن الإسكندريين نادوا بأن النفس العاقلة هي أحدى خصائص الطبيعة البشرية، أي أن الكلمة (اللوغوس) اتخذ لنفسه طبيعة بشرية كاملة، النفس العاقلة هي إحدى خصائصها الأساسية. وقد كان القديس كيرلس شديد التمسك برفض منهج أرسطو التجريبي القائل بأن الشخصية تختزل لتكون مجرد عمل العقل .

٣. الطريقة الحرفية التاريخية لتفسير الكتاب المقدس:

 قاومت المدرسة التفسير الرمزي لمدرسة الإسكندرية متبنية فقط المعنى الحرفي سواء الحقيقي أو المجازي، متمسكاً بما تقدمه دراسة اللغة من مساعدة في هذا المجال. وترتب على ذلك تجاهل الروح في مقابل الاحتفاظ بالحرف. وقد استبدلوا المعنى الرمزي بالتعليم الأخلاقي (خاصة الذي لذهبي الفم)، وكانوا يتبنون فلسفة أرسطو.

هذا الاختلاف في منهج كل من المدرستين كان اختلافاً في طريقة التفكير، فالمثالية والنزعة التأملية اللتان اشتهرت بهما مدرسة الإسكندرية نجد جذورهما في أفلاطون، أما الواقعية والمنهج التجريبي اللذين اشتهرت بهما مدرسة أنطاكية فتعود جذورهما إلى أرسطو. تميل الإسكندرية إلى الرمزية أما أنطاكية فإلى المذهب العقلي؛ القائل بأن العقل هو في ذاته مصدر للمعرفة أسمى من الحواس ومستقل عنها.

مشکلات مدرسة أنطاكية:

تلقى آريوس تعليمه اللاهوتي في مدرسة أنطاكية التي أدت تعاليمها إلى الجدل الكبير والخطير فيما يخص الثالوث. وكان لوسيان يدعى غالبا أبو الآريوسيه. ولكن في الحقيقة أن أشهر الكتاب في تلك المقاطعة الكنسية – وهم دیودور الطرسوسي وثيئودور الموبسويستي ويوحنا ذهبي الفم وثيئودوريت القورشي – دافعوا عن إيمان آباء نيقية ضد الآريوسيين وكانوا في نفس الوقت الممثلين الرئيسيين لمدرسة أنطاكية. كذلك كان نسطور ينتمي إلى هذه المدرسة.

و قاد استخدام الجانب الواحد الذي للطريقة الرمزية الحرفية بعض ممثلي هذه المدرسة إلى بعض الأخطاء التي تفسر بالاتجاه إلى العقلانية (الرغبة في تخليص العقيدة المسيحية قدر الإمكان من كل عناصر الرمزية) مما أدى إلى الهرطقات مثل: الآريوسيه، المكدونية (أتباع مكدونيوس عدو الروح القدس)، الأبولينارية،  البيلاجية، النسطورية. وكان أبوليناريوس أسقف اللاذقية يتبع هذه المدرسة التفسيرية، وفي عام ۳۷۳م كان يحاضر فيها.

الفكر اللاهوتي ما بين مدرستي أنطاكية والإسكندرية:

و بينما نجد أن مدرسة الإسكندرية قد تبنت مبدأ “الاتحاد الأقنومي” و”الاتحاد الطبيعي للاهوت والناسوت لتؤكد على أن يسوع المسيح هو شخص واحد، نجد أن مدرسة أنطاكية قد قبلت مبدأ “الحلول اللاهوتي” الذي يقول بأن اللاهوت حل في إنسان، كما لو كان السيد المسيح يتكون من شخصين متحدين بنوع ما في شخص واحد، وذلك في فكرهم للتأكيد على أنه لم يحدث اختلاط بين اللاهوت والناسوت، ولتحاشي أن ينسب الضعف البشري إلى لاهوته.

 كانت نقطة الانطلاق بالنسبة لمدرسة الإسكندرية هي (يو1: 14) والكلمة صار جسدا”. أما بالنسبة لمدرسة أنطاكية فكانت (كو ۲: ۹) “فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً”. (المقصود بالطبع في تفسير هذه الآية حسب الإيمان القويم أن كلمة فيه” وكلمة “جسديا” إنما تشيران إلى طبيعته البشرية العاقلة التي اتخذها من العذراء بواسطة الروح القدس، وليس إلى شخص بشري حل فيه شخص اللوغوس).

 لعبت سياسات الإمبراطور والكنيسة دورهما في هذا الجدل وساعد ذلك على وجود فجوة كبيرة بين قادة هاتين المدرستين.

الإسكندريون: هذا الإله الحق من الإله الحق وحد طبيعتنا البشرية بنفسه.
الأنطاكيون: إن يسوع هو إنسان كامل أطاع بإرادته الحرة إرادة الكلمة الذي اتخذه كآدم الثاني لتجديد الجنس البشري. وهم يؤكدون أن الإنسان الذي اتخذه الكلمة لنفسه ليس له مثيل تماما بين البشر.

الإسكندريون: اختبر الكلمة المتجسد التجارب البشرية (ماعدا الخطية وحدها) حتى أن الآلام بالنسبة له ككلمة الله المتجسد كان لها معنى حقيقي، فأصبح هو الذي يتألم. فطبقاً للاتحاد الأقنومي، الله الكلمة كان هو الفاعل الشخصي الوحيد الذي يختبر كل أعمال التجسد، وعليه أصبح من الممكن أن ننسب خبرات كل من الطبيعتين للشخص الواحد نفسه. وأكد الإسكندريون على أن كل أقوال وأفعال السيد المسيح التي سجلت في الكتاب المقدس تنسب إلى شخص واحد، هو الكلمة الذي صار إنساناً.

الأنطاكيون: يؤكدون على أنه المسيح الإنسان المتصل بالله وليس اللوغوس (الله الكلمة الأزلي) هو الذي تألم.  وبالتالي فنتيجة لهذا المفهوم الخاطيء تفقد آلام السيد المسيح قيمتها اللانهائية كالام الإله المتجسد، وهذا يقضي تماماً على حقيقة الفداء. والذي دعاهم لهذه العقيدة الخاطئة هو خوفهم من أن تنسب قابلية التألم إلى طبيعة اللوغوس الإلهية.

الاتحاد الأقنومي Hypostatic Union الذي نادى به الإسكندريون:

في جهاده ضد نسطور شرح القديس كيرلس الاتحاد الأقنومي كاتحاد طبيعي وحقيقي. إن كلمة الله وحد طبيعتنا بنفسه وجعلها تخصه (ملكاً له) وهذا يعني أن فيه هو حدث اتحاد حقيقي بين اللاهوت والناسوت. بتعبير آخر إن هذه النظرية لا تتجاهل اختلاف الطبيعتين، بل أكدت على أن السيد المسيح هو واحد وذلك بالتأكيد على طبيعته الواحدة المتجسدة من طبيعتين بدون اختلاط الطبيعتين أو انفصالهما. إن ذلك يحمل في طياته على الأقل فكرتين:

. إن الناسوت لم يكن أقنوما مستقلا عن الكلمة الأزلي.

• إن هذا الاتحاد للطبيعتين هو اتحاد سري وحقيقي ولكنه فائق للوصف والإدراك.

 الأقنوم Hypostasis هو الجوهر الكامل عندما يأتي إلى وجود ملموس (مدرك بالحواس)، أما اتحاد الأشخاص Prosopic union الذي نادى به نسطور، فهو يدل على الاتحاد الخارجي الذي وفقاً له يتميز أقنوم من نوع عن أقنوم آخر، ولقد رفض القديس كيرلس النظرية الأنطاكية القائلة بالحلول؛ أي أن لاهوت السيد المسيح حَّل في إنسان وبالتالي يوجد شخصين في السيد المسيح.

 رفض القديس كيرلس أيضا فكرة “الاتصال” أو “المشاركة عن قرب” باعتبار أنهما قاصرتان عن التعبير عن الوحده الحقيقية بل أن هذه الأفكار تفسح المجال لانقسام الطبائع في المسيح كما علم نسطور. وفي خطابه الثاني إلى نسطور نجده يقول: لم تذكر الكتب المقدسة أن الكلمة وحد مع نفسه شخصاً (اتحاد الأشخاص) بل أن الكلمة “صار جسدا”. وتعبير “أقنوم” بالنسبة للقديس كيرلس كان دائماً يعني الطبيعة المشخصنة أي الشخص مع الطبيعة التي يحملها. وتعبير “الاتحاد الأقنومي” يعني دائما بالنسبه له اتحاد الطبائع في شخص واحد مفرد، فعندما نتحدث عن الاتحاد الأقنومي فنحن نتحدث تلقائياً عن الاتحاد الطبيعي، لذلك السبب نفسه كان القديس كيرلس يستخدم كلا من التعبيرين: Mia hypostasis tou theo loguO Sesarkomene-  أقنوم واحد متجسد لله الكلمة. وأيضا Mia Physis tou theo loguo sesrkomene طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة؛ حيث أن الاتحاد الأقنومي كان يعني دائما بالنسبة له الاتحاد الطبيعي. إن كلمة الله المتجسد مساو لله الآب في الجوهر من حيث لاهوته ومساو لنا في الجوهر أيضا من حيث ناسوته بدون خطية. بالنسبة للقديس كيرلس استمرت الطبيعتان موجودتين في الاتحاد، ويمكن التمييز بينهما في الفكر فقط Ti theoria moni

الخلفية التاريخية وتطور نظرية “الطبيعتين” في الفكر الأنطاكي:

و تعامل بعض القادة الأنطاكيون مع الاتحاد الأقنومي الذي تبناه القديس كيرلس بشيء من الارتياب كما لو كان له الصبغة   الأبوليناريه، وعليه فإنهم تبنوا نظرية تؤكد على إنسانية السيد المسيح لإثبات أنه إنسان حقيقي كامل. بالإضافة إلى ذلك فإنهم يقولون إنه توجد طبیعتان بعد الاتحاد، ثم تطور فكرهم بعد ذلك فتكلموا عن وجود شخصين وليس فقط طبيعتين في السيد المسيح.

 نادي أبوليناريوس أسقف اللاذقية بأن السيد المسيح ليس له نفس بشرية وأن اللاهوت حل محلها، معتقداً أنه بذلك يؤكد الاتحاد الأقنومي، وبذلك كان يؤمن بأن ناسوت السيد المسيح غير كامل.

 فكان رد فعل الأنطاكيين هو أنهم نادوا بنظرية “الطبيعتين” ليؤكدوا ثلاث حقائق في التجسد:

  1.  إن ناسوت السيد المسيح كامل وحقيقي.
  2. لا يوجد اختلاط بين طبيعتي السيد المسيح .
  3. إن جوهر اللاهوت غير قابل للألم فإن الله لايتألم ولا يموت.

و هذه الحقائق أكد عليها أيضا آباء مدرسة الإسكندرية ولكن ليس أوطاخي أو أبوليناريوس حيث أنهما لم يكونا إسكندريين.

وأكد الإسكندريون أيضا على حقيقة هامة وهي أنه في السيد المسيح توجد طبيعة واحدة مركبة (من طبيعتين) بعد الاتحاد، في شخص واحد.

نظرية الحلول وطريقة التفسير الحرفي التاريخي للكتاب المقدس:

تبني الأنطاكيون نظرية “الحلول” ليس لمجرد مقاومة نظرية الاتحاد الأقنومي التي تبناها اللاهوت الإسكندري، ولكن لأنها تتناغم مع ميلهم الى طريقة التفسير الحرفي والتاريخي بالنسبة للكتاب المقدس وتمسكهم برأيهم فيما يخص طبيعة السيد المسيح. فإن الاختلاف بين فكر مدرسة الإسكندرية وفكر مدرسة أنطاكية واضح للغاية، فقد أكد المعلمون الأنطاكيون عموماً على أن ناسوت السيد المسيح ناسوت حقيقي. ولكن أكثرهم تطرفاً وعلى رأسهم ثيئودور ونسطور مالوا إلى القضاء على فكرة وحدة شخص السيد المسيح ولم يروا في السيد المسيح الله الإنسان ولكن إنسان حل الله فيه. كان محور تركيزهم على يسوع التاريخي.

 يقول میندورف Meyendorff:

إن طريقة الفهم النقدي الصارم للبعض مثل دیودور الطرسوسي وثيئودور الموبسويستي وثيئودوریت، قادتهم إلى دراسة نصوص الأسفار المقدسة حرفياً من أجل وصف تاریخ خلاصنا بدلا من شرحه. وحيث أنهم تمسكوا بالتفسير الحرفي للعهد القديم، ففي تفسيرهم للبشائر والرسائل في العهد الجديد وضعوا في اعتبارهم التركيز أساسا على يسوع التاريخي في ملء حقيقة طبيعته الإنسانية الذي هو هدف وغاية تاريخ إسرائيل.

وضعت أنطاكية مبدأً أساسياً لها لكي ترى رموز (أو تشبیهات مجازية واستعارية) للسيد المسيح – أحياناً وليس دائما – في العهد القديم ؛ فأينما يكون التشابه واضحاً مميزاً وملحوظاً، فعندئذ فقط تعترف بما ينبئ عن المخلص أو يرمز إليه، الرموز هي الاستثناء وليست القاعدة (في دراستهم للعهد القديم)، فهم يرون التجسد مُعداً ومجهزاً من خلال العهد القديم كله ولكن لا يرون رموزاً أو صوراً تشبيهية له في كل موضع.

النظرية الأنطاكية وفدائنا:

 إن موضوع الاتحاد هو فكرة تجسد الله، في المفهوم اللاهوتي الخاص بطبيعة السيد المسيح نجد أن المسيح التاريخي المتجسد وتكوين شخصه الإلهي- الإنساني كان هو موضوع الخلاف، وأن فكرة الفداء التي تمثل محور الفكر المسيحي، كانت تتطلب فادياً يوحد في شخصه طبيعة الله وطبيعة الإنسان ولكن بدون اختلاط، ولكي يكون الفادي فادياً حقيقياً، فإن الشخص يجب أن يمتلك كل خصائص اللاهوت وفي نفس الوقت يدخل إلى دائرة علاقات وحالات البشر ليرفعهم إلى الله، وبالتالي فإنه توجد أربعة عناصر في فكر الكنيسة الأرثوذكسية فيما يتعلق بالسيد المسيح:

1- إنه إله حقيقي ۲- إنه إنسان حقيقي 3- إنه شخص واحد 4- مع الاحتفاظ بالتمايز بين كل ماهو إلهي وكل ما هو إنساني في هذا الشخص الواحد على الرغم من الوحدة التامة.

 اعتقد نسطور أن القديس كيرلس بتبنيه فكرة الاتحاد الأقنومي يتحدث وكأن الكلمة الإلهي قد جُرد من طبيعته في التجسد. ولقد أراد القديس كيرلس أن يوضح خطورة فكر النسطورية فشرح كيف أن نسطور أوضح بدعته المعروفة من خلال اعتقاده أن شخص يسوع المسيح ليس هو نفسه شخص ابن الله الكلمة، أي معتقداً في الاتصال الخارجي لشخصين، كاتحاد خارجي في الصورة فقط .هذا الفكر يهدم كل مفهوم الفداء؛ لأنه طبقا لذلك، الله الكلمة ليس هو نفسه الفادي المصلوب ومخلص العالم، وهذا يجعل كلمات القديس يوحنا الخالدة “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 16) بدون معنى وكيف تتم إذن كلمات الرب التي قالها خلال النبي إشعياء “أنا أنا الرب وليس غيري مخلص” (أش 43: 11).

 في الحقيقة إن جسد السيد المسيح ليس هو جسد شخص آخر غير الله الكلمة، بمعنى أن الطبيعة البشرية للسيد المسيح لا تخص أي شخص آخر بل تخص شخص الله الكلمة نفسه.

يقارن القديس كيرلس بين موت السيد المسيح وموتنا نحن، ففي حالتنا نحن بالرغم من أن الجسد فقط هو الذي يموت أما النفس فلا تموت ولكننا مع ذلك نقول إن “الإنسان قد مات”، كذلك الحال مع السيد المسيح، إن اللاهوت لم يمت ولكن لأن الكلمة أخذ له ما يخص طبيعة البشرية، فبناء عليه يمكن القول بأنه قد ذاق الموت.

كإنسان ذاق الموت وكاله أباد الموت. لم يكن ممكنا أن يقوم بخلاصنا بطبيعته الإلهية لو لم يكن قد احتمل الموت من أجلنا في طبيعته البشرية

يمكننا أن نفهم الفكر النسطوري بصورة أوضح عندما نتمعن فيما قاله ثيئودوریت بخصوص الطبائع في السيد المسيح: إن أولئك الذين يعتقدون بطبيعة واحدة للاهوت والناسوت من بعد الاتحاد يهدمون بهذا المفهوم خصائص الطبيعة وهذا الهدم يستلزم إنكار احدى الطبيعتين. لأن اختلاط الطبائع المتحدة يمنعنا أن نميز أن الجسد هو جسد وأن الله هو الله.

ولكن ركز القديس كيرلس على تعبير أساسي وهو union-Henosis التي تعني “الاتحاد”. فقد اتحد اللاهوت والناسوت اتحادا تاما ليس تشابكاً (تداخلاً) ولا تعایشاً (عيشة الأزواج) ولا اتصالاً ولا استبدالاً (احدهما حل محل الآخر) ولا مرافقة، ولا شيء من الأمور التي افترضها خصومه (نادي ثيئودور الموبسويستي بـ conjoiningSinafia وتعني “إتصال”). لقد حاول إقناعهم بأن هذا الاتحاد هو اتحاد بالمعنى التام للاتحاد، اتحاد يشبه اتحاد النفس مع الجسد بالنسبة للإنسان، اتحاد يترتب عليه حالات جديدة، وقدرات جديدة لكل من مكونيه بينما كل منهما محتفظا بطبيعته، وليس كالاتحاد الناتج من خلط الرمل مع السكر، (إتحاد لم يترتب عليه تغير في العناصر ولم يوحدهما حقيقة بطريقة إيجابية أي يمكن بطريقة أو أخرى فصل الرمل عن السكر مثلا بوضعهما في الماء سيذوب السكر ويبقى الرمل)، ولا مثل اتحاد الخشب بالنار الذي فيه لا يتم الاتحاد إلا من خلال هدم العناصر المتحدة.

وكتب القديس كيرلس أيضا: “توجد الطبیعتان بغير انفصال بعد الاتحاد” ويمكن تمييزهما في الفكر فقط؛ فبالرغم من أن الله المتجسد هو طبيعة واحدة (من طبيعتين) فإن كلا من الطبيعتين ظلت محتفظة بخصائصها الطبيعية بما يخص كل منهما من طاقات وإرادات. فانهما قد اتحدتا أقنوميا وطبيعيا بدون اختلاط وبدونتغيير و بدون انقسام أو انفصال.

 استخدم القديس كيرلس جملة متكررة جعلت المعارضين له يشهرون به، معتبرينها دليلا على أنه لم يأخذ خبرات السيد المسيح البشرية مأخذ الجد. فهو يتكلم كيف أن المسيح تألم وهو غير قابل للألم”، فهو هنا كما لو كان يشير إلى كل خبرة التجسد على أنها إضافة مظهرا استثنائيا للاهوت، يقصد الخبرة الشخصية للآلام الإنسانية والموت. وتعبير “مضيفا إلى اللاهوت هو تعبير يستحيل قبوله إذا ما تكلمنا من حيث الطبائع، إذ أنه من المستحيل إضافة شيء للاهوت، فإن الطبيعة اللاهوتية لا يمكن إضافة شيء لها أو أنقاصها فيما يتعلق بجوهرها. ولكن هذا التعبير اتألم وهو غير قابل للألم يكون ممكنا، كما يقول القديس كيرلس، عندما نتكلم عن التجربة الشخصية (أي كشخص واحد يملك الطبيعتين: تألم في طبيعته الإنسانية وهو غير قابل للألم في طبيعته الإلهية) فيما يتعلق بأسلوب الحياة. كما يرى القديس كيرلس في سر التجسد أن الله الأزلي تألم ومات مشابها في ذلك للبشر، وأنه أيضا خضع مثلنا لمتطلبات الحياة البشرية (ماعدا الخطية). ويري أيضا القديس كيرلس في هذا الجزء من تدبير التجسد مفتاح الفداء كله؛ فبالرغم من اختبار الله للألم والموت، تماما كما جرب كل ما يتعلق بالطبيعة البشرية (ماخلا الخطية)، فإن الألم والموت لم يستطيعا أن يسودا عليه. أي أن اللاهوت ظل لاهوتا والناسوت ظل ناسوتا ، فإن حالة إحدى الطبيعتين لا تلغي خصائص الطبيعة الأخرى، ومع ذلك فهناك خبرة فعالة مشتركة بين الطبيعتين.

 أي أنه من الممكن أن ننسب خبرات أي من الطبيعتين لنفس الشخص الواحد في إدراك دائم أن الكلام عن إحدى الطبيعتين إنما يشير إلى حالة التجسد.

زر الذهاب إلى الأعلى