تفسير سفر إشعياء ٦٠ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الستون

المدينة المنيرة

بعدما تعرض للعقبات التي تحول عن تمتع الإنسان بالخلاص (إش 57 – 59) يُقدم لنا في نهاية السفر صورة مبهجة ورائعة عن بناء مدينة الرب الجديدة (60 – 66).

هنا (إش 60) يُقدم لنا صورة رائعة لكنيسة العهد الجديد كمدينة الرب صهيون المنيرة، أيقونة السماء.

مدينة منيرة [1-2].

سبق أن أكّد الرب أنه يقوم بنفسه بالخلاص ويفدي صهيون، مقيمًا عهده الجديد معها (إش 59: 15-21). الآن إذ قدم السيد المسيح خلاصه على الصليب، وأعلن الآب قبوله بالقيامة التي هي ليست عطية خارجية عن السيد المسيح إذ هو نفسه القيامة (يو 11: 25)، له سلطان أن يضع نفسه وله سلطان أن يأخذها (يو 10: 18)، يطلب من كنيسة العهد الجديد أن تتمتع بحياة فاديها كحياة مقامة لا موضع للظلام فيها.

قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليكِ، لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض والظلام الدامس الأمم، أما عليكِ فيشرق الرب، ومجده عليكِ يُرى[2].

عندما عاد اليهود من السبي حسبوا أنفسهم كمن قاموا من الموت، وتمتعوا بنور الحياة والحرية بعد سبعين عامًا من المذلة كما في ظلمة القبر. أما كنيسة العهد الجديد فقد تمتعت بما هو أعظم، اتحادها بالنور الحقيقي كعريس أبدي يُقيم منها عروسًا تحمل نوره وبهاءه ومجده. وكما قال الرب عن نفسه “أنا هو نور العالم” (يو 8: 12)، دعى تلاميذه نور العالم (مت 5: 14)، إذ يحملونه فيهم.

ما هو سرّ استنارة الكنيسة؟

قيامة الرب التي قدمت لنا الحياة الجديدة التي لن يغلبها الموت، ولا تقدر الظلمة أن تقتنصها ولا القبر أن يُحطمها. لذلك يقول الرسول: “استيقظ أيها النائم وقم من الأموات

فيضيئ لك المسيح” (أف 5: 14).

لما كان العماد هو تمتع بقيامة المسيح فينا لذا دُعي هذا السر “استنارة”.

v   إذ نعتمد نستنير، وإذ نستنير نُتبنى، وإذ نُتبنى نكمل…

يُدعى هذا الفعل بأسماء كثيرة اعني نعمة واستنارة وكمالاً وحميمًا… فهو استنارة إذ به نرى النور القدوس الخلاصي، أعني أننا به نشخص إلى الله بوضوح.

القديس اكليمنضس الاسكندري[641]

v   الاستنارة وهي المعمودية… هي معينة الضعفاء … مساهمة النور… انتفاض الظلمة.

الاستنارة مركب يسير تجاه الله؛ مسايرة المسيح، أُس الدين، تمام العقل!

الاستنارة مفتاح الملكوت واستعادة الحياة.

القديس غريغوريوس النزينزى[642]

v   المعمودية هي ابنة النهار، فتحت أبوابها فهرب الليل الذي دخلت إليه الخليقة كلها!

مار يعقوب السروجي[643]

هكذا إذ نقبل الاتحاد مع ربنا يسوع المسيح المصلوب ندفن معه في المعمودية ونقوم حاملين إمكانية الحياة الجديدة، لنحيا كما يليق كأبناء للنور، وأعضاء جسد المسيح القدوس. لا يليق بنا أن ننزل بعد إلى ظلمة الخطية، ولا أن نعتذر بضعفنا البشري لأننا نحمل فينا نور الرب ويشرق علينا مجده. لا نصير بعد أرضًا مظلمة بل سماء تحتضن مجد الله وبهاءه.

هذه هي سمة الكنيسة كحياة جديدة في المسيح، الساكن فيها، يشرق عليها ببره الإلهي، فيقال عنا: “فليضئ نوركم قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات” (مت 5: 16).

 

v   عندما يمارسون الإلهيات وينطقون بها، ويعيشون الحياة الإلهية، هازمين قساوة القلب ومتمتعين بسلام البر، يلاحقهم مجد عظيم في كنيسة المسيح.

القديس أغسطينوس[644]

إذ جاء السيد المسيح إلى العالم ليقتني البشرية عروسًا له يسكب مجده وبهاءه في داخلها؛ يهبها روحه القدوس لكي يُزينها ويُجمِلّها لتتهيأ بالمجد الداخلي للعرس السماوي الأبدي. فيُقال لها: “اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أذنك وأنسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيدك فاسجدي له… كل مجدٌ ابنة الملك في خدرها” (مز 45: 10-13).

جذّابة للأمم  [3-9].

مجد الله الداخلي في النفس جذّاب، يقتنص النفوس لمملكته الروحية. فأنه إذ تصير كنيسة العهد الجديد مدينة منيرة تجتذب الأمم، وكما يقول الرب نفسه: “أنتم نور العالم، لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت المكيال بل على المنارة فيضئ لجميع الذين في البيت، فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات” (مت 5: 14-16). هذا تحقيق لما جاء في إشعياء النبي: “فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك[3].

تصير الكنيسة كعريسها عمود نور الحق الذي يقود الأمم في طريق الرب ويقيم فيهم ملوكًا روحيين أصحاب سلطان داخلي.

تتطلع الكنيسة حواليها لتنظر من كل جانب عمل الله العجيب، يجتذب من كل الأمم أولادًا وبنات لها، يأتون من بعيد ليصيروا أهل بيت الرب المكرمين، المحمولين على الأيدي [14].

تظهر قوة المسيح القائم من الأموات في حياة كنيسته بتحويل الطاقات (ثروة الأمم) لحساب ملكوته، إذ قيل لعروسه: “حينئذ تنظرين وتنيرين ويخفق قلبكِ ويتسع لأنه تحوَّل إليكِ ثروة البحر ويأتي إليك غنى الأمم[5]

ما هي ثروة أو غنى الأمم التي تتقدس لحساب كنيسة المسيح؟

أ. ثروة البحر [5]، أي الأسماك واللؤلؤ. لقد حسب آباء الكنيسة الأولى السيد المسيح هو “السمكة” (أخسوس)، وأما المؤمنون فهم السمك الذي يعيش مع السيد المسيح وفيه (حز 47: 9). يقول العلامة ترتليان: [نحن السمك الصغير بحسب سمكتنا يسوع المسيح قد وُلدنا في المياه، ولا نكون في أمان بطريق ما غير بقائنا في المياه على الدوام[645]].

ب. ذهب ولبان تحمله الجمال من مديان وشبا لا للتجارة، لكنه يُقدم هدية لصهيون. كما قدم المجوس ذهبًا ولبانًا ومرًا للسيد المسيح علامة ملكه وأنه إله يُقدم البخور، ومتألم؛ هكذا يصير أعضاء جسده ملوكًا يقدمون اللبان كبخور طيب للمخلص.

ج. تقديم ذبائح مقبولة لخدمة بيت الرب وزينته [7-8]، هذه الذبائح هي حياتنا وأجسادنا وكل طاقاتنا التي تلتحم بالذبيح الفريد، فتصير محرقات حب مرفوعة خلال الصليب. يقول الرسول: “فاطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية” (رو 12: 1). تقدماتنا للرب هي “نفوسنا” ذاتها كقول القديس جيروم[646].

د. لعل أجمل ما نقدمه لصهيون هو تمتعنا بالقدرة على الطيران كسحاب يحملنا روح الرب نحو السمويات فنعيش مع مسيحنا في أمجاده كما في بيتنا الخاص. “من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها؟![8].

سيأتي الرب في اليوم الأخير على سحاب (مت 24: 30)، يأتي محمولاً على قديسيه السحاب الخفيف المنير (إش 19: 1)… كأن تشبيهنا بالسحاب يعني أننا صرنا عرشًا نحمل مسيحنا؛ أما تشبيهنا بالحمام فيعني أننا صرنا روحيين، لأن الروح القدس ظهر أثناء عماد الرب كحمامة. بمعنى آخر أن ارتباطنا بكنيسة الله يصيّرنا عرشًا للرب حاملين ثمار روحه القدوس.

جاء في الترجمة السبعينية: “من هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام مع صغارهم؟!” يرى القديس غريغوريوس النيصي أن هذه العبارة النبوية تعلن من بعيد عن الكنيسة القادمة بأطفالها المملوئين جمالاً الكثيري العدد[647].

يقارن القديس غريغوريوس النيصي بين أولاد الكنيسة الحقيقيين الذين في خفة الروح يطيرون كالحمام و السحاب وبين الأشرار الذين بسبب ثقل الخطية يغطسون كما في مياه عميقة. [يسير الواحد خفيفًا بما فيه الكفاية بينما يغطس الآخر في مياه عميقة. لأن الفضيلة خفيفة تطفو، وكل الذين يعيشون في طريقها يطيرون كالسحاب ومثل الحمام مع صغارهم كقول إشعياء؛ وأما الخطية فثقيلة؛ وكما يقول نبي آخر أنها تجلس على وزنة من الرصاص (زك 5: 7)[648]].

هـ. الفضة مع الذهب [9]. إن كانت الفضة تُشير إلى كلمة الله (مز 12: 6) فان الذهب يُشير إلى الحياة السماوية النقية؛ وكأن غنى الكنيسة القادمة من الأمم يكمن في تمسكها بكلمة الله وتمتعها بالفكر السماوي.

مدينة مجيدة [10-22].

أ. “وبنو الغريب يبنون أسواركِ وملوكهم يخدمونك[10]. يُشير هنا إلى كورش الغريب الجنس الذي أمر برجوع المسبيين وأعطى نحميا التسهيلات لبناء السور.

الله في محبته يستخدم كل الطاقات الغريبة لحساب بناء ملكوته، مقدمًا كل صلاح من أجل كنيسته؛ وهذا هو مجد الكنيسة الحق: تقديس كل عمل!

ب. جمال الكنيسة ينصب في فتح أبوابها دائمًا، “نهارًا وليلاً لا تغلق[11]. لا ترد خاطئًا ولا تجرح مشاعره؛ تحمل قلبًا متسعًا بالحب كعريسها نحو الجميع.

إنها كسفينة نوح أبوابها متسعة، قبلت نوح وعائلته والحيوانات والطيور الخ… من كان بداخلها خلص، أما من رفض فهلك. “لأن الأمة والمملكة التي لا تخدمك تبيد وخرابًا تخرب الأمم[12]. وكما يقول الشهيد كبريانوس: [إنه لا خلاص خارج الكنيسة].

ج. “مجد لبنان إليكِ يأتي، السرو والسنديان والشربين معًا لزينة مكان مقدسي وأُمجد موضع رجليّ[13]. لقد عُرفت لبنان بشجرها الممتاز، لذا تحول ثروتها الخشبية لاستخدامها في تزيين هيكل الرب. صورة رائعة لتحويل الطاقات الخاملة أو التي أُسيء استخدامها لحساب هيكل الرب.

د. التمتع بسلطان روحي حيث تخضع قوات الظلمة تحت أقدام المؤمنين. “وبنو الذين قهروكِ يسيرون إليك خاضعين، وكل الذين أهانوكِ يسجدون لدى باطن قدميكِ ويدعونك مدينة الرب صهيون قدوس إسرائيل[14]. حتى عدو الخير بكل طاقاته يشهد للمؤمنين أنهم مدينة الله المقدسة. لا يستطيع الأشرار إلاَّ أن يشهدوا لأولاد الله عن قدسية حياتهم حتى في لحظات اضطهادهم لهم.

هـ. تمتعها بالفرح الدائم الأبدي: “عوضًا عن كونكِ مهجورة ومُبغَضة بلا عابر بك أجعلك فخرًا أبديًا فرح دور فدور[15]. هذا هو فخرها الأبدي أنها ليست بعد مهجورة ولا تعاني من حالة فراغ أو عزلة أو بغضة الغير لها بل تمتلئ فرحًا فتصير مجيدة إلى الأبد.

و. يهبها الله أكثر مما تطلب وفوق ما تسأل، فإن سألت نحاسًا يهبها ذهبًا، وأن طلبت حديدًا يهبها فضة وعوض الخشب يُقدم لها نحاسًا، وبدل الحجارة حديدًا… هكذا تجد في الله شبعها الداخلي وأيضًا سرّ غناها الروحي وشبع كل احتياجاتها.

ز. يسكن العدل فيها لذلك “لا يُسمع بعد ظلم في أرضك، ولا خراب أو سحق في تخومك بل تُسمين أسوارك خلاصًا وأبوابك تسبيحًا[18]. كل إنسان يجد فيها خلاصه وسرّ تسبيحه وفرحه، لأن الله العادل فيها يهب عدلاً وبرًا، ولا يسمح بظلم أو خراب أو سحق أن يُمارس في داخلها.

ح. بكونها أيقونة السماء لا تحتاج إلى شمس أو قمر لإضاءتها “بل الرب يكون لكِ نورًا أبديًا وإلهك زينتك[19].

ط. التمتع بالحياة البارة [21].

ي. التمتع بقوة الله الفائقة “الصغير يصير ألفًا، والحقير أمة قوية[22]. الإنسان بذاته يُحسب صغيرًا أما كعضو في جسد المسيح فيُحسب ألفًا أي سماويًا، لأن رقم 1000 يُشير إلى السماء. خارج المسيح يحسب حقيرًا يلهو به عدو الخير وتحطمه الخطية، أما في المسيح يسوع فيصير أمة قوية. يصير “أمة” إذ يحمل طاقات مقدسة للروح والجسد تعمل معًا بانسجام وفي وحدة، تحمل قوة روح الرب فيها.

هكذا يُقدم لنا هذا الأصحاح صورة حية عن كنيسة السيد المسيح بكونها المدينة المنيرة الحاملة إشراقات السيد المسيح فيها، تجتذب الأمم والشعوب خلال مجدها الداخلي، وتقدس كل طاقاتها وإمكانياتهم التي أساءوا استخدامها تفتح أبوابها أمام الجميع بالحب، ويفتح الرب أبوابه أمامها ليهبها أكثر مما تطلب وفوق ما تسأل، يهبها بره وعدله وقوته وجماله ونوره فلا يُعوزها شيء!

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى