تفسير سفر إرميا ١٥ للعلامة أوريجانوس
عظة 13
تفسير الآيات من : ” فمن يشفق عليك يا أورشليم ” ( إر 15 :5) ،
إلى : ” أثكل وأبيد شعبي ” ( إر 15 :7).
وعيد الله لأورشليم
۱. نريد أن نفهم جميع تلك الكلمات المملوءة وعيداً لأورشليم : ” فمن يشفق عليك يا أورشليم ؟! ومن يعزيك ؟! ومن يميل ليسأل عن سلامتك ؟! أنت تركتني يقول الرب . إلى الوراء سرت ، فأمد يدي عليك ، وأهلكك . مللتُ من الندامة. وأذريهم بمذراة في أبواب الأرض . أثكل وأبيد شعبي ” . لقد وضعتني هذه الكلمات في مأزق ، وهو محاولة التوفيق بين صلاح الله وبين رفضه الرحمة لشعبه . أقدم مثالاً لو أن ملكاً حكم على إنسان في مملكته بأنه عدو له ، فإنه لا يليق بأي شخص أن يظهر تعاطفاً مع ذلك العدو أو أن يبدي أية شفقة عليه ، لأنه إذا فعل ذلك يحسب هذا إساءة إلى الملك وإلى أحكامه. إذا فهمت هذا المثل ، انظر إذا إلى الإنسان المحكوم عليه من قبل الله من أجل خطاياه الكثيرة، ولاحظ أنه لا يحصل على أية شفقة من الملائكة، رغم أن وظيفة هؤلاء الملائكة هي خدمة الطبيعة البشرية ونجدتها وإنقاذها. لأنه ليس أحد من الملائكة حينما يرى أن الله هو القاضي ، وأن الذي حمى غضبه هو الخالق ، وأن الخطايا وصلت إلى درجة أجبرت الله – إن صح هذا التعبير – الصالح على توقيع الحكم ضد الخاطئ ، فلا يستطيع أحد من الملائكة بعد رؤيته لكل ذلك أن يشفق ولا أن يحزن ولا أن يطلب الرحمة أو السلام من أجل إنسان مثل هذا.
فلنفترض فعلاً أن أورشليم هذه – لأنها هي المقصودة بالمعنى الحرفي- هي التي أخطأت تجاه السيد المسيح وعظمت خطاياها أمامه حتى قال لها : ” يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يترك لكم خراباً” ( مت 23: 37) . وأن أورشليم هي التي أهملت وتُركت من الله. وأن الملائكة الذين لم يتوقفوا عن مساعدة أورشليم ، من خلالهم سلمت الشريعة لموسى ، تركوا أورشليم وقالوا : إن خطاياها أصبحت عظيمة ؛ لأن شعبها قتلوا السيد المسيح ووضعوا عليه الأيادي . حينما كانت خطاياهم قليلة كان في إمكاننا أن نتشفع وأن نطلب من أجلهم ، وكان في استطاعتنا نشفق على أورشليم ، هذه، ولكن الآن وبعد هذه الجريمة فمن يشفق عليك يا أورشليم ؟ ” قد أخطأت أورشليم خطية، من أجل ذلك صارت رجسة ” ( مراثي إرميا 1: 8).
نعم لنفترض أن أورشليم هذه هي التي قيل لها : ” فمن يشفق عليك يا أورشليم ومن يعزيك ؟ ” . يجب علينا نحن أيضاً ألا نشفق على أورشليم ومصائبها ولا نحزن على ما أصاب شعبها ، لأنه : ” بزلتهم صار الخلاص للأمم ( لنا ) لإغارتهم ” ( رو 11:11).
وعيد الله للنفس البشرية
٢. أنتقل من التفسير الحرفي إلى التفسير الروحي ، مُطبقاً ما قيل لأورشليم على النفس البشرية. فإنك بعدما أخذت التعاليم الإلهية أصبحت أورشليم ، التي كانت قبلاً ” يبوس”. فإن هذه القصة ترجع في الواقع إلى أن ذلك المكان كان يسمى ” يبوس ” ثم تغير اسمها فيما بعد إلى أورشليم . يقال إن يبوس ترجمتها ” مدوسة بالأقدام”.
إذا ، فإن يبوس ، النفس ” المدوسة بالأقدام ” من قوات العدو ، قد تغيرت وأصبحت أورشليم ” رؤية السلام”. بعدما صارت يبوس أورشليم[1] ، أخطأت . إذا ” دست بأقدامك ” دم السيد المسيح الذي للعهد الجديد ، وإذا سقطت في خطايا عظيمة ، يقال عنك : ” فمن يشفق عليك يا أورشليم ومن يعزيك ” ، طالما وصلت إلى حد خيانة مسيحك ؟ كل واحد منا حينما يخطئ ، خاصة الخطايا الجسمية ، إنما يخطئ ضد السيد المسيح نفسه . ” فكم عقابا أشر تظنون أنه يحسب مستحقا من داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قُدس به دنسنا وازدری بروح النعمة ؟ ” ( عب 10: 29).
فإذا دست ابن الله واستهنت بروح النعمة ، فمن يشفق عليك ومن يعزيك ؟ ومن يميل ليسأل عن سلامتك ” ؟ إنه ابن الله ، الذي خانه الخطاة ، هو نفسه الذي سأل السلام لنا ؛ فمن من بعده يستطيع أن يتشفع من أجل سلامنا ؟ ولندرك جيدا أن : ” الذين استنيروا مرة ، وذاقوا الموهبة السماوية ، وصاروا شركاء الروح القدس ، وذاقوا كلمة الله الصالحة ، وقوات الدهر الآتي ، وسقطوا لا يمكن تجديدهم أيضا للتوبة ، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه ” ( عب 6 : 4-6 ) . متى أدركنا تلك الكلمات يلزمنا أن نعمل كل ما في وسعنا لئلا يقال علينا نحن أيضا : ” فمن يشفق عليك يا أورشليم ومن يعزيك ومن يميل ليسأل عن سلامتك ؟ ” .
السير إلى الوراء والامتداد إلى قدام
3. ” أنت تركتني يقول الرب ، إلى الوراء سرت”.
لأن مدينة أورشليم – التي تجعلنا نتذكر كل اليهود- تركت الرب ، فقد قيل لها : ” إلى الوراء سرت ” . كان هناك وقت صارت فيه أورشليم إلى الأمام وليس إلى الخلف ، أما حالياً فهي تسير إلى الوراء : ” ورجعوا بقلوبهم إلى مصر ” أما بالنسبة لمعنى السير إلى الوراء أو الامتداد إلى ما هو قدام ، نشرحه كالآتي :
الإنسان البار ينسى ما هو وراء ويمتد إلى ما هو قدام ؛ أما الإنسان الذي يوجد في وضع مضاد للإنسان البار ، فإنه سوف يتذكر ما هو وراء ولن يمتد إلى ما هو قدام . بتذكره لما هو وراء يرفض سماع السيد المسيح القائل : ” فلا يرجع إلى الوراء ليأخذ ثوبه ” ؛ يرفض سماع السيد المسيح القائل : ” تذكروا امرأة لوط ” ؛ يرفض سماع السيد المسيح القائل : ” إن الذي يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء لا يصلح لملكوت الله ” . وفي العهد القديم مكتوب أيضا أن الملائكة قالوا للوط بعد خروجه من سدوم : ” لا تنظر إلى ورائك ولا تقف في كل الدائرة . اهرب إلى الجبل لئلا تهلك ” ( تك 19: 17) : ” لا تنظر إلى ورائك ” امتد دائماً إلى ما هو قدام ؛ لقد تركت سدوم ، فلا تنظر إذا إليها ، لقد تركت الشر والخطية فلا تعود بنظرك إليهما ؛ ” ولا تقف في كل الدائرة ” . فإنه حتى إذا أطعت الأمر الأول ” لا تنظر إلى ورائك ” ، هذا غیر كاف لإنقاذك إن لم تطع الأمر الثاني أيضا : ” ولا تقف في كل الدائرة”.
إن بدأنا التقدم والنمو الروحي ، يجب علينا ألا نتوقف في حدود دائرة سدوم ، بل نتخطى تلك الحدود ونهرب إلى الجبل . إذا أردت ألا تهلك مع أهل سلوم فلا تنظر أبداً إلى ما هو وراء ، ولا تقف في دائرة سدوم ، ولا تذهب إلى أي مكان آخر سوى الجبل ، لأنه هناك فقط يمكننا أن نخلص ؛ الجبل هو ربنا يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين آمين .
عظة 14
تفسير الآيات من : ” ويل لي يا أمي ” ( إر 15 : 10 ) ،
إلى : ” إن رجعت أرجعك فتقف أمامي ” ( إر 15 :19 ).
مرارة أطباء الروح
1. يذهب أطباء الأجساد إلى المرضى حتى إلى فراشهم ولا يكفون عن بذل كل جهدهم ، كما تتطلب منهم مهنة الطب ، ليشفوا المرضى . وهم في ذلك ، يرون مناظر فظيعة ، ويلمسون أشياء تثير الاشمئزاز ؛ وأمام أوجاع الآخرين لا يحصدون لأنفسهم سوي الأحزان : حياتهم غير مستقرة أبداً، إنهم لا يوجدون أبداً مع أناس أصحاء ، وإنما دائماً مع المجروحين والمفلوجين والمصابين بالقروح والصديد والحميات وكل أنواع الأمراض. إذا أردنا أن نمارس الطب ، فعلينا أن نقوم بكل ما تتطلبه منا هذه المهنة التي اخترناها ، نقوم بها دون اشمئزاز ولا إهمال عندما نواجه أي نوع من أنواع المرضى الذين ذكرناهم.
تحدثت عن ذلك الموضوع في البداية لأن الأنبياء هم أيضا مثل أطباء الأرواح ، يقضون كل وقتهم حيث يوجد المحتاجون إلى الشفاء ، لأنه ” لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى ” ( لو 5 :31). ما يقاسيه الأطباء من جانب المرضى المعاندين ، يقاسيه أيضا الأنبياء المعلمون من جانب الذين لا يريدون أن يشفوا . فإن سبب كراهية الناس لهم يرجع إلى أنهم يفرضون علاجاً يخالف ما يتمناه المرضى ، فهم يمنعون عنهم اللذات والشهوات التي يريدونها ، وبالتالي فإن هؤلاء المرضى في عنادهم يصرون على عدم أخذ الأدوية المناسبة لمرضهم. إذا يهرب المرضى المعاندون من الأطباء ، بل وكثيرا ما يسيئون إليهم ويهينوهم ويشتمونهم ويفعلون بهم كل ما يمكن أن يفعله الأعداء ويغيب عن ذهنهم أن الطبيب يأتي كصديق وليس كعدو ، وهم لا يرون سوى الجانب المؤلم من نظام العلاج ، الجانب المؤلم من استخدام المشرط ، دون أن يروا النتيجة التي تعقب الألم . إنهم يكرهون الأطباء كما لو كانوا لا يحملون إليهم سوى الآلام ، ولا ينظرون إلى هذه الآلام كمرحلة من مراحل الشفاء.
2. كان ذلك الشعب مريضاً؛ مصاباً بكل أنواع الأمراض ذاك الذي كان يسمي نفسه شعب الله. وأرسل الله لهم الأنبياء مثل الأطباء ، أحد هؤلاء الأطباء إرميا . كان إرميا يوجه عتابه للخطاة راغباً في إرجاعهم عن طرقهم ، كان ينبغي أن ينصتوا إلى هذه الكلمات ، لكنهم كانوا يتهمونه أمام القضاة والحكام ، لذلك كان متورطاً في قضايا مستمرة ، اتهمه فيها هؤلاء الذين كان يقوم برعايتهم ، أي الذين كان يوجه لهم كلمات نبوته ، ولكنهم لم يشفوا بسبب عنادهم . أمام كل هذا كان إرميا يقول : ” فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه. فكان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي ” ( إر 20: 9). ومرة أخري يقول حينما يري نفسه دائم التعرض للقضايا وللإهانات والشكاوى والشهادات الزور : ” ويل لي يا أمي لأنك ولدتني إنسان خصام ” . يريد أن يقول عن نفسه ، أنه بدلاً من أن يدين الناس علي خطاياهم ، إذا به يدان ويحكم عليه ، وبدلاً من أن يقاوم وينازع صار هو ونفسه ” إنسان نزاع لكل الأرض ” . بما أن المرضي لم ينصتوا إليه حينما نصحهم كطبيب ، قال : ” لم أفعل صلاحاً ” ، وبما أنه كان يقرض أمواله الروحية، وأن الناس الذين كان يتوجه إليهم ليعمل معهم الخير وليجعلهم مدينين له بما يسمعونه منه، بما أن هؤلاء الناس لم يريدوا الإصغاء له ، قال : “لم أقرض ولا أقرضوني”.
لم أصنع صلاحاً ولم يفعل لي أحد صلاحاً
3. قلت هذا الكلام في البداية قبل أن أشرح عبارة : لم أقرض ولا أقرضوني ” . يوجد في الواقع نصان مختلفان لتلك الآية : ففي النسخ الشائعة والمنتشرة : لم أفعل صلاحا ولم يفعل لي أحد صلاحاً” ، وفي النسخ الأكثر دقة والتي تتطابق مع النص العبري : ” لم أقرض ولا أقرضوني ” . لذا يجب شرح الآيتين.
كان إرميا يكرز بالكلمة لكن لم ينصت أحد إلي كلامه . فكان بذلك مثل الطبيب الذي يبدد أدويته بسبب عناد مرضاه الذين لا يريدون اتباع علاجه ولا أخذ أدويته. كأنه طبيب يقول : ” لم أفعل صلاحاً ولم يفعل لي أحد صلاحاً” . ربما يرجع سبب التناقض في هذه الآية إلى شعور الحب والود الذي يحمله الإنسان الذي عمل معهم الصلاح ، تجاه الانسان الذي عمل له هذا الصلاح . وينتج عن هذا : أن الذي يكرز بالكلمة يأخذ هو ايضاً صلاحاً من كلمته ( أي يحصل علي حب السامعين له). وكما هو مكتوب : ” طوبى لمن يتكلم مع أذن تسمع ” . وان أعظم صلاح يمكن أن يجنيه المعلم من السامعين له ، هو أن ينموا ويتقدموا حتى يكون له ثمر فيهم ( رو 1 :13) . إذ لم يحصل إرميا علي ذلك الثمر ( الصلاح ) من اليهود ، قال : “لم يفعل لي أحد صلاحاً ” . ويوجد أيضا صلاح آخر يمكن أن يحصل عليه كل معلم في حالة إذا ما كان تلاميذه أذكياء . إذ يمكن لمعلمين أن يصبحوا أكثر قوة وتتناقل التعاليم التي بين الناس إذا كان السامعون أذكياء ولا يكتفون بمجرد سماع التعاليم فقط وإنما يتفاعلون معها ويسألون أسئلة ويستفسرون عن كل الجوانب التعاليم التي يسمعونها.
لم أقرض ولا أقرضوني
4. لنفسر نفس الآية من النسخ الأكثر صحة والمكتوب فيها : “لم أقرض ولا أقرضوني ” ، أو ” لم أصر مديناً لأحد ولا صار مديناً لي ” فإن الإنسان الذي يعطي الجميع حقوقهم . الجزية لمن له الجزية . الجباية لمن له الجباية . الخوف لمن له الخوف ، والإكرام لمن له الإكرام ( رو 13: 7) ، والذي يؤدي جميع واجباته بصورة لا تجعله مديناً لأحد ، والذي يكرم والديه كما يليق بإكرام الوالدين ، ويكرم إخوته كما يليق بهم ، ويكرم أولاده ، والأساقفة والكهنة والشمامسة والأصدقاء ويعطي لكل إنسان كرامته، فإن مثل ذلك الإنسان يمكنه أن يقول “لم أصر مديناً لأحد”.
وأما عبارة ” ولا أحد صار لي مدينا ” فسوف أفسرها كالأتي : يقول إرميا : إنني كنت أبحث عن مصلحتهم ، كنت أحاول أن أعطيهم الغني الروحي ، أما هم فلم يقبلوا كلامي ، بل رفضوه حتى لا يصيروا مدينين لي ، وبذلك فإنه ” لا أحد صار مدينا لي“.
وبذلك يكون من الأفضل للسامع أن يقبل المال الروحي المقدم من المعلم وان يكون مديناً، عن ألا يكون مدينا ولا يستفيد من التعاليم.
إرميا ابن الحكمة يتنبأ عن المسيح
5 . أما بالنسبة للكلمات : ” ويل لي يا أمي لأنك ولدتني إنسان خصام وإنسان نزاع لكل الأرض ” ، فإنني أعتقد أن تلك الكلمات لا تتناسب مع أي نبي آخر ولا توافقه مثلما تتناسب مع إرميا ؛ فإنه بالنسبة لمعظم الأنبياء لم تبدأ نبوتهم إلا بعد زمن معين ، فبعدما تابوا ورجعوا عن خطيتهم أقامهم الله ليتنبأوا ، أما إرميا فكان يتنبأ منذ طفولته . ويمكننا أن نستعين بمثال من الكتاب المقدس ؛ أن إشعياء لم يسمع من الله تلك الكلمات : ” قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك . جعلتك نبياً للشعوب ” ( إر 1 : 5 ) ، كما لم يقل إشعياء للرب : ” إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد ” ( إر 1 : 6). بل حينما رأي الرؤية التي يقول عنها في نبوته ، نظر وقال : ” ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين ، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين ، لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود ” ( إش 6 : 5 ) ، ثم يقول بعد ذلك :
” فطار إلي واحد من السيرافيم وبيده جمرة … ومس بها فمي وقال أن هذه قد مست شفتيك فانتزع إثمك وكفر عن خطيتك ” . إذا فإن إشعياء بعدما ارتكب الخطايا ثم تاب عنها ، أصبح مستحقا بعد ذلك أن يأخذ الروح القدس وأن يتنبأ. وسوف تجد أشياء مشابهة بالنسبة لأنبياء آخرين. أما إرميا فلم يكن مثلهم : فقد كان لا يزال في المهد حينما أخذ روح النبوة ولقد تنبأ منذ الطفولة . ولذلك فإنه قال : ” ويل لي يا أمي لأنك ولدتني إنسان خصام وإنسان نزاع لكل الأرض “. ولكن أحد المفسرين الذين سبقوني في تفسير هذا النص يقول إن إرميا كنا يوجه هذه الكلمات، ليس لأمه حسب الجسد ، وإنما للأم التي ولدت الأنبياء ، ومن هي التي ولدت الأنبياء إلا حكمة الرب ؟ ولقد ذكر الإنجيل كذلك موضوع أبناء الحكمة : ” والحكمة تبررت من جميع بنيها ” ( لو 7 : 35).
إذا فإنه مكتوب : ” ويل لي يا أمي ” الحكمة ” لأنك ولدتني إنسان خصام ( إنسان محكوم عليه ) “. فمن أنا حتى لا أولد إلا ليكون محكوما علي ، وأكون مخاصماً من الناس بسبب عتابي ولومي لهم ، وبسبب تعاليمي التي أعلمها لكل سكان الأرض؟
إذا كان إرميا هو الذي قال هذه العبارة ” ويل لي يا أمي … إنسان نزاع لكل الأرض ” ، فإنني لا أستطيع أن أجد تفسيرا لكلمات : ” لكل الأرض ” ، فإن إرميا لم يصر إنسان نزاع بالنسبة لكل الأرض ، إلا إذا قلنا أن ” كل الأرض ” يقصد بها كل أرض اليهودية ، لأن نبوة إرميا لم تصل إلى كل الأرض حينما كان يتنبأ . ولكن أليس من الأفضل أن نفعل كما فعلنا في أجزاء سابقة ، وأن نطبق هذا الكلام على السيد المسيح بدلاً من إرميا ؟ فلقد توقفت في البداية عند الكلمات التي تقول : ” أنظر . قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم ، وتهلك وتنقض ، وتبني وتغرس” فإن إرميا لم يفعل شيئاً من هذا كله ، وإنما السيد المسيح هو الذي قلع ممالك الخطية وهدم أعمال الشر ، وأقام بدلاً منها مملكة الحق والعدل في نفوسنا . هكذا أيضا تلك العبارة تصلح لتطبيقها على السيد المسيح أكثر منها على إرميا ، فإنه يوجد في نظري العديد من العبارات التي يمكن تطبيقها على المخلص ، لاسيما تلك العبارة التي نحن بصددها ” إنسان نزاع لكل الأرض“.
هل يقول السيد المسيح : ” ويل لي … ” ؟
6. يجب أن نتحدث أولاً بشأن القول ” ويل لي ” لأنها تبدو في نظر البعض غير ملائمة للسيد المسيح : أيمكن للمخلص الذي يشفق على الآخرين أن يقول ” ويل لي ” ؟ لكننا نوضح ذلك بشواهد من الإنجيل لا يمكن أن تنطبق على أي إنسان سوى السيد المسيح . أن كانت كلمات الرثاء ” ويل لي ” ما هي إلا لإنسان يبكي فقد بلغ المخلص درجة البكاء على أورشليم ، مكتوب في الإنجيل أن السيد المسيح حينما رأى أورشليم ” بكى عليها ” ” في البداية ” قائلاً، ” يا أورشليم يا أورشليم الخ”.
ومن الواضح أن نفس الشيء قاله المخلص في هذه الفقرة : ” ويل لي لأني صرت كجني الصيف ، كخصاصة القطاف ، لا عنقود للأكل ، ولا باكورة تينة اشتهتها نفسي . قد باد التقي من الأرض وليس مستقيم بين الناس . جميعهم يكمنون للدماء ” ( ميخا 7: 1-2) ، قد جاء في وقت الحصاد ليحصد قمحاً، فلم يجد سوى مجموعة من الخطاة الذين نموا وكثروا.
قال السيد المسيح كذلك أشياء مشابهة حينما تكلم مع الآب قائلا : “ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلى الحفرة ( إلى الفساد ) ( إلى الجحيم ) ؟ ” ( مز 30: 9) ، لماذا فعلت كل هذا الصلاح مع بني البشر ؟ ما الذي فعلوه ليستحقوا دمي الذي سفك من أجلهم ؟ ” ما الفائدة من دمي ومن نزولي ؟! ” ، لقد نزلت من السماء وجئت إلى الأرض وسلمت نفسي للفساد فلبست جسداً بشرياً[2]، فما هي الأعمال الصالحة التي عملها الإنسان حتى يستحق كل ذلك ؟ ” ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلى الحفرة ؟! هل يحمدك التراب ؟! هل يخبر بحقك ؟ “.
في جميع هذه الأقوال نجد أن هناك تشابهاً بينها وبين ما قاله المخلص : ” ويل لي يا أمي لأنك قد ولدتني ” ، فهو لا يقول ذلك بوصفه الإله أو المخلص ، بل يقوله كإنسان . نفس الشيء حينما يقول : ” ويل لي يا نفسي . قد باد التقي من الأرض ” . كانت نفسه نفساً بشرية ، لهذا اضطربت ( یو 12: 27) ، وحزنت ( مت 26: 38) ، ولكن الكلمة الذي كان في البدء عند الله لم يضطرب ، ولا يمكن أن يقول عن نفسه : ” ويل لي ” لأن كلمة الله لا يموت أبدا ، الذي يموت هو الجسد الذي أخذه.
مسيحنا يحكم علينا فينا
7. ” لأنك ولدتني إنسان خصام ( إنسان محكوم عليه ) وإنسان نزاع لكل الأرض“.
انظر إذا إلى الشهداء في كل مكان كيف حكم عليهم ووقفوا أمام القضاة ، وسوف ترى كيف أن السيد المسيح هو الذي كان يحكم عليه في كل واحد من هؤلاء الشهداء . لأنه هو الذي يحكم عليه في هؤلاء الذين يشهدون للحق ( يو 18: 37) . ومن أجل ذلك فسوف ترضى أن تكون متهماً ومحكوماً عليك حينما تراه يقول إنك لست أنت المسجون بل أنا ، لست أنت الجائع بل أنا : ” لأني جعت فأطعتموني ، عطشت فسقيتموني ، كنت غريباً فآويتموني ، عرياناً فكسوتموني ، مريضاً فزرتموني ، محبوسا فأتيتم إلي ” ( مت 25: 36) .
يكفي أن يوضع إنسان مسيحي تحت الحكم ، ليس بسبب أخطاء شخصية ، وإنما لأنه مسيحي، عندئذ سيُحكم على السيد المسيح لا عليه : وبذلك فقد أصبح السيد المسيح بالفعل ” إنسانا محكوماً عليه وإنسان نزاع لكل الأرض”.
في كل مرة يُحكم على إنسان مسيحي بذلك يُحكم على السيد المسيح نفسه ، ليس فقط في قضايا من هذا النوع ( أي الشهادة للحق). نفترض أن مسيحياً أُتهم ظلماً بأي شيء[3] وحُكم عليه باطلاً ، فإنه حتى في ذلك يكون السيد المسيح هو الذي حكم عليه باطلاً.
عدم الإيمان هو حُكم على المسيح
8. ” لأنك ولدتني إنسانا محكوماً عليه وإنسان نزاع لكل الأرض”.
إليك أيضاً طريقة أخرى لفهم هذه الآية. فمن من الناس لا يحكم على عقيدة المسيحيين ؟ ومن من الشعوب لا يتفحصها بأساليب معقدة ؟ ومن من اليهود واليونانيين لا يتحدث عن المسيحيين ؟ ومن من الفلاسفة ومن من الناس البسطاء لا يتناقش في أمر المسيحية ؟
إن السيد المسيح محكوم عليه ومقضي عليه في كل مكان ، بعض الناس يدينونه في حكمهم وبعضهم لا يدينه . بالنسبة للذين لا يدينونه من السهل عليهم قبوله : يفتحون له الباب فيدخل ( رؤ 3: 20) وبالتالي يؤمنون به. أن لم يقبله الناس عند سماعهم عن التعاليم المسيحية، فإن عدم قبولهم له ، ما هو إلا إدانة للسيد المسيح واتهام ضده بأنه إنسان يضل الناس ولا يقول الحق ، طالما لا يؤمنون بتعاليمه.
جميع الذين يرفضون تماماً أن يؤمنوا به يحكمون عليه ويدينونه، وجميع الذين – دون أن يرفضوا الإيمان – تساورهم الشكوك من جهته يتنازعون بشأنه.
إذا حملت صورة السماوي وخلعت عنك صورة الترابي ، لن تكون بعد ترابا ( أرضاً ) تدينه ، ولن تكون أرضنا يُدان فوقها ، ولن تكون أرضاً ينازعونه عليها.
9. ” وكل واحد يلعنني ” أو ” ضعفت قوتي أمام الذين يلعنونني”.
يقول بولس الرسول عن المخلص إنه قد صلب من ضعف ( 2 كو 13 : 4 ) . كما يقول أيضاً إشعياء النبي عنه : ” يا رب من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب . نبت قدامه كفرخ وكعرق من أرض يابسة . لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس . رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به: لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها . ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً . وهو مجروح لأجل معاصينا . مسحوق لأجل آثامنا . تأديب سلامنا عليه وبجراحاته شفينا ” ( إش 53 : 1-5). هو حمل ضعف خطايانا وحملنا نحن أيضا ، جاء إلى الذين يلعنونه، وحينما نزل من السماوات ضعفت قوته أمام الذين يلعنونه ، لأنه كما يقول الرسول : ” أخلى نفسه آخذا صورة عبد ” ( في 2: 7).
قوة الله تزداد وتضعف فينا
10. ضعفت قوتي أمام الذين يلعنونني ” . أحاول بنعمة الرب أن أقدم تفسيرا أوضح لتلك الآية وأفضل مما سبق.
” كان النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسان آتيا إلى العالم ” ( يو 1 : 9). ابن الله هو النور الحقيقي الذي ينير لكل إنسان أتيا إلى العالم ، وكل إنسان عاقل ينتمي إلى هذا النور الحقيقي ؛ غير أن كل البشر عاقلون. وكل البشر ينتمون إلى الله الكلمة ، لكن ببعضهم يرى أن قوة المخلص زادت ، والبعض الآخر يراها ضعفت.
لو نظرت إلى نفس وقعت فريسة للشهوات والخطايا ، ترى قوة المخلص تضعف ، بينما لو نظرت نفساً بارة وتقية ، ترى قوة المخلص تثمر من يوم إلى يوم فيها ؛ وحينئذ يمكن تطبيق ما قيل عن السيد المسيح على النفوس البارة : ” وكان يسوع ينمو في الحكمة والعمر والنعمة أمام الله وأمام الناس”.
إذا ، فإن الكلمة ابن الله يقول : ” ضعفت قوتي أمام الذين يلعنونني ” . فإذا لعن أحد الابن الكلمة ، ينال عقابه على هذه اللعنة وعلى انتقاده تعاليم السيد المسيح ، ويتمثل هذا العقاب في : أن قوة السيد المسيح تضعف عند هذا الإنسان ، بل وتنتزع منه تماما . والعكس صحيح ، فإذا باركت السيد المسيح وقبلته فإن قوته تنمو وتزيد فيك.
مسيحنا الشفيع في مضايقيه
۱۱. ” قال الرب إني أُحلك للخير . إني أجعل العدو يتضرع إليك في وقت الشر وفي وقت الضيق ” ( إر 15 : 11 ) . أو ” فلتأت يا رب ، إذا سلكوا بالاستقامة . ألم أقف أمامك في وقت شدتهم ؟ ” ( بحسب الترجمة من النص الفرنسي).
” فلتأت يارب ” : ما هي هذه التي تأتي ؟ نضيف بقدر استطاعتنا بعض كلمات بعد ” فلتأت ” لنوضح معنى الآية . سنقول الآتي : ” يارب ، إذا سلكوا بالاستقامة فلتات فيهم القوة التي ضعفت عندهم حينما لعنوني”، حتى بعدما نطقوا بالشر عليَّ ، ثم تابوا ، يسلكون في الطريق المستقيم ويتبعونه.
ثم يبرر موقفه حينما يتحدث عن الذين ينطقون عليه شراً: ” ألم أقف أمامك في وقت شدتهم ؟ ” ، لقد وقف السيد المسيح أمام الآب وقدم نفسه كفارة لخطايانا ( 1يو 2:2) ، وتشفع من أجلهم في وقت شدتهم ، فإنه لم يقف أمام الآب بعد انتهاء شدتنا ، بل أن ” المسيح إذ كنا بعد ضعفاء مات في الوقت المعين لأجل الفجار ” ( رو 5 : 6 ) . ” ألم أقف أمامك في وقت شدتهم وفي وقت ضيقتهم لأنقذهم من أمام وجه العدو ” : وحتى في وقت ضيقتهم ، وقت تعرضهم لمواجهة العدو ، وقفت أمامك لكي أدافع عنهم.
من هو هذا العدو إلا ” إبليس خصمنا ” (1 بط 5 : 8 ) ، الذي يضايقنا ؟
إنه من الواضح أن في وقت عداوة الشيطان للإنسان وقف مخلصنا أمام الآب وصلى وطلب من أجلنا نحن المأسورين حتى يفتدينا وينقذنا من عبودية العدو.
نزع النبوات ( الكنوز ) عنهم
12. سواء كانت هذه الكلمات خاصة بالمخلص أو بإرميا ، إرميا يمكن أن ينطق أيضا بهذا الكلام ويصلي من أجل الشعب في وقت شدتهم ، فإن الرب يجيب بعدها على الشعب المتهم من قبل النبي أو من قبل السيد المسيح ، قائلا : ” هل يكسر الحديد الحديد الذي من الشمال والنحاس ” أو ” إن قوتك هي مثل الحديد والنحاس ” ، صلبة ، عنيدة ، جامدة ؛ ومثل هذه القوة تقطع وتقسم ، لأنها ليست قوة لفعل الخير.
“ثروتك وخزائنك أدفعها للنهب لا بثمن بل بكل خطاياك ” ( إر 15: 13). ما هي ثروات الخطاة التي يدفعها الله للنهب في مقابل كل خطاياهم ؟ هل هي الثروات التي يجمعونها على الأرض ؟ كل إنسان في الواقع يكنز لنفسه ، إما على الأرض إذا كان إنسانا شريراً، أو في السماء إذا كان إنساناً صالحاً، كما يخبرنا الإنجيل ( مت 6 : 19-20) . أو هل يقصد أن يقول لهذا الشعب : إنه بسبب خطاياك سوف أدفع خزائنك وثرواتك للنهب ، قاصدا بتلك الثروات : الأنبياء مثل إرميا وإشعياء وموسى ، فقد نزع الله هذه الكنوز عن هذا الشعب ، وقال السيد المسيح : ” إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره ” ( مت 21: 43) . هذه الأمة هي نحن ، فقد دفع الله ثروات هذا الشعب ( الأنبياء ) إلينا.
هم استؤمنوا على أقوال الله ( رو 3 :2) أولاً ، ثم استؤمنا نحن من الأقوال ؛ فقد نزعت منهم أقوال الله وأعطيت لنا . كذلك يمكننا أن نقول أن عبارة : ” ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره ” التي قالها المخلص ، قد تحققت فيه . ليس أن الكتاب المقدس نزع منهم ، بل أنهم حاليا لا يملكون الناموس ولا الأنبياء لأنهم لا يفهمون ولا يدركون المكتوب فيه . توجد عندهم الكتب ، لذلك فإن ملكوت الله الذي ينزع عنهم هو ” معنى الكتب المقدسة ” . إنهم لا يهتمون بمعرفة أي شرح للناموس والأنبياء ، لكنهم يقرأونه دون فهم. وبمجئ السيد المسيح تحققت بالفعل النبوة التالية : ” فقال اذهب وقل لهذا الشعب اسمعوا سمعاً ولا تفهموا وابصروا إبصاراً ولا تعرفوا . غلظ قلب هذا الشعب ” ( إش 6 : 9-10، مت 13: 14-15).
كما تحققت أيضا نبوة إشعياء : ” فإنه هو السيد رب الجنود ينزع من أورشليم ومن يهوذا السند والركن . كل سند خبز وكل سند ماء . الجبار ورجل الحرب . القاضي والنبي . والعراف والشيخ . رئيس الخمسين والمعتبر والمشير والماهر بين الصناع والحاذق بالرقية ” ( إش 3 : 1-3) . كل هذا قد نزعه الله منهم ودفعه لنا نحن الذين جئنا من الأمم.
كان هذا التفسير بالنسبة لـ : ثروتك وخزائنك أدفعها للنهب ” . ثم يقول : ” لا بثمن بل بكل خطاياك وفي كل تخومك ” : وكأنه يقول لهذا الشعب : أن خزائنك وثروتك أدفعها للنهب بسبب خطاياك التي ملأت كل تخومك ، لأنه لم يوجد مكان عند هذا الشعب لم يمتليء بالخطية. كيف لا تملأ كل تخومهم بالخطايا وهم الذين قتلوا الحق ، بما أن السيد المسيح هو الحق ، وقتلوا الحكمة ، بما أن السيد المسيح هو الحكمة ، وقتلوا العدل ، بما أن السيد المسيح هو العدل ؟ فبحكمهم على ابن الله بالموت ، فقدوا كل ذلك ( الحق والحكمة والعدل ) . وحينما قام رب المجد يسوع من بين الأموات لم يظهر أبداً للذين قتلوه . فإننا لا نجد الكتاب يذكر أنه ظهر لمن قتلوه ، لكنه ظهر فقط للذين أمنوا به ، ظهر لهم وحدهم حين قام من الأموات.
13. وأعبرك مع أعدائك ( وأخضعك للعبودية في وسط أعدائك ) في أرض لم تعرفها لأن ناراً قد اشتعلت بغضبي توقد عليكم ” ( إر 15: 14) . لقد أُخضع هذا الشعب بالفعل للعبودية في وسط أعدائه وفي أرض لم يعرفها . وبعد كلام التهديد هذا الموجه للشعب ، يواصل إرميا أو السيد المسيح صلاته ويضيف إلى أقواله السابقة هذه الكلمات : ” أنت يارب قد عرفت . أذكرني وتعهدني وانتقم لي من مضطهدي . بطول أناتك لا تأخذني ” أو ” ولا تكن طويل الأناة عليهم ” بحسب النص الفرنسي.
يمكن أن يكون إرميا هو الذي نطق بهذا الكلام ، بما أنه اضطهد من الذين كان يعاتبهم ، وكان مكروها من الذين لم يقبلوا الحق . يمكن أيضا يكون مخلصنا هو المتكلم حيث أنه أضطهد هو أيضا من هذا الشعب . يضيف : ” ولا تكن طويل الأناة عليهم ” ، ماذا تعني هذه الكلمات ؟: لقد كنت دائما طويل الأناة أمام خطايا هذا الشعب ، ولكن أمام كل هذه الجرائم التي تجرأوا وارتكبوها ضدي ، فلا تكن طويل الأناة عليهم . بالفعل ، فإن الله لم يكن طويل الأناة ، لو نظرت إلى تاريخ عذاب هذا الشعب ، أي تاريخ سقوط أورشليم وخرابها ، وإلى الطريقة التي ترك بها الله هذا الشعب لأنهم قتلوا السيد المسيح ، تدرك أن الله لم يستخدم طول أناته مع هذا الشعب ! أو إذا شئت فاستمع إلى هذا : إنه منذ السنة الخامسة عشرة لملك طيباريوس قيصر ( أي منذ بداية عمل السيد المسيح وكرازته ) ( لو 3 :1) ، وحتى وقت خراب الهيكل ، لم يمض سوى 42 سنة فقط!
وكانت تلك الفترة بمثابة ” وقت ” منحه الله للتوبة ، خاصة توبة بعض الناس من ذلك الشعب ، وهم اليهود الذين دخلوا إلى الإيمان بعد رؤيتهم للآيات والعجائب التي صنعها الرسل.
لنطلب شركة العار والآلام !
14. ” اعرف احتمالي العار لأجلك ” أو ” اعرف أنني شتمت من أجلك من الذين يرفضون كلامك ” . لنفترض هنا أن النبي هو الذي يتكلم ، بالفعل كان محتقراً من الناس بسبب ما كان يتكلم به ، فكان الخطاة يرفضون سماعه ؛ لذلك قال : ” صرت للضحك كل النهار ” ( إر 20: 7 ) . كان يشتم من أجل الكلام الذي كان يقوله الرب على لسانه ، وكان يصلي بسبب هذه الشتائم الواقعة عليه ، حتى ينقذه الله ويساعده ، قائلاً : ” اعرف إنني شتمت من أجلك من الذين يرفضون كلامك ” يضيف أيضا طالباً من الله : ” أفنهم ” .
لنفترض أيضا أن إرميا هو الذي يقول ” افنهم ” ، ولكنني اعتقد أن هذه الكلمة توافق أكثر السيد المسيح ، حيث تحققت طلبته ، فكان فناء عظيم لمنطقة أورشليم وللشعب ، بعدما تأمروا على المخلص وقتلوه.
بعد ذلك ، بما أن الأنبياء تألموا كثيراً بسبب توبيخاتهم للشعب ، وبكونهم سفراء الكلمة حينما يقولون ما يأمرهم الله بقوله ، فمن الضروري أن نذكر السامعين ، ما هي حياة الأنبياء ، وما هي الوعود التي أخذوها ، وأيضا نذكركم أن الاختيار متروك لنا ، فإذا أردنا أن تكون لنا راحة في أحضان هؤلاء الأنبياء ، يجب علينا – على قدر استطاعتنا – أن نعمل الأعمال التي عملوها.
ما أريد أن أقوله لكم يتلخص في الآتي : كثيراً ما نقول في صلواتنا : يا الله القوي ، أعطنا أن تكون لنا شركة ( نصيب ) مع الأنبياء ، أعطنا أن تكون لنا شركة مع رسلك ، لكي نوجد مع ابنك الحبيب يسوع المسيح . لكننا لسنا ندرك ما نطلب ، لأن هذا الكلام معناه : يارب أعطنا أن نتألم كما تألم الأنبياء ، أعطنا أن نكون مكروهين مثلهم ، أعطنا أن نبشر بكلمات يضطهدنا الناس بسببها ، أعطنا أن نسقط في مؤمرات كثيرة كما حدث للرسل.
فإنه في الواقع لا يليق بنا أن نقول : ” أعطنا يارب شركة مع الأنبياء ، ونحن لا نتألم مثلهم ولا نريد أن نتألم . لا يليق بنا أن نقول : ” أعطنا يا رب شركة مع رسلك ” ، ونحن غير مستعدين أن نقول بكل صراحة مع بولس الرسول : ” في الأتعاب أكثر . في الضربات أوفر . في السجون أكثر . في الميتات مرارا كثيرة ” ( 2 كو 11: 23).
بما أننا نريد أن يكون لنا نصيب مع الأنبياء ، فلننظر إذا إلى حياتهم ، وإلى ما قاسوه من أتعاب وألام بسبب توبيخاتهم وتأنيبهم للشعب ؛ ” رجموا ، نشروا ، جربوا ، ماتوا قتلاً بالسيف ، طافوا في جلود غنم وجلود معزی ، معتازین ، مکروبین ، مذلين ، تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض ” ( عب 11: 37-38).
إذا فلا عجب إن تعرضنا إلى الإفتراء والبغضة والإتهامات الباطلة ، إذا أردنا أن نحيا حياة الأنبياء . لابد أن نحتمل كل ذلك بفرح ، فلا نتذمر ولا نتكلم بالشر على الذين طردونا أو على الذين أصدروا الأوامر باضطهادنا . فإن الرسل ، هؤلاء الأبطال المدهشين ، الذين قاسوا آلاف الأتعاب من أجل الحق ، كانوا يقولون : “لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح ” ( 2کو 12: 10).
ويمككنا أن نذوق هذا السرور ، لو أدركنا فقط أن كل هذه الاضطهادات التي نتحملها هي من أجل المسيح وحده ، ولو عرفنا أن سبب هذه الضيقات التي نتعرض لها هو السيد المسيح ، وأننا نقدم أنفسنا أبطالاً للحق ، وأنهم يحكمون علينا لأننا سفراء كلمة الله ( أف 6 : 20). إذا فلنحاول نحن جميعا ، على قدر استطاعتنا ، أن نحيا حياة الأنبياء وحياة الرسل ، دون أن نهرب من الأتعاب ، لأنه لو هرب المصارع من أتعاب المنافسة لن يتمتع بإكليل النصرة[4].
آلام مفرحة
15. ” فكان كلامك لي للفرح ” ( إر 15 : 16 ) ، أو ” سوف يكون كلامك لي مصدراً للفرح ” . إنه ليس مصدرا لفرحي الآن ، ولكنه ” سوف يكون ” . لأنه إذا كانت كلمتك الآن في الوقت الحاضر مصدراً لسجني ، وألامي ، واضطهادي ، فإنها في نهاية كل ذلك سوف تكون مصدرا لفرحي .
” وسوف يكون كلامك لي مصدرا للفرح ولبهجة قلبي لأني دعيت باسمك يارب إله الجنود“. فإنه حتى إذا كان السيد المسيح هو المتكلم هنا ، فإن اسم الآب قد دعي عليه.
” لم أجلس في محفل المازحين مبتهجاً” ؛ فإذا حدث أن رأى النبي أن المحفل لا يضم أناسا جادين بل مازحين ، كان يتجنب أن يشترك فيه . يجب إذا أن تفهم الفرق بين محفل المازحين وبين محفل الجادين . فإن جماعة الجادين تفعل كل شيء بجدية وتحتكم إلى المنطق في كل تصرفاتها ، لها عقيدة جادة ، وحياة جادة . لكن حينما تقوم الجماعة ( المحفل ) بترك الجدية اللازمة في الأمور الهامة ، وتنصرف إلى حياة اللهو وإلى الأعمال الصبيانية التي لهذا العالم ، وإلى الأعمال المتولدة من الرذيلة ، إنها تتحول إلى محفل للمازحين . فيقول النبي : ” لم أجلس في محفل المازحين مبتهجاً. من أجل يدك جلست وحدي لأنك قد ملأتني غضباً ( خوفاً)”.
أمام الاختيارين : إما أن نجلس في محفل المازحين فنغضب الله ، أو نترك محفل المازحين برضانا فنفرح الله . يقول إرميا : لقد اخترت أن أترك محفل المازحين وأن أكون صديقاً لك ، بدلاً من أن أفعل العكس فأصير عدوا لسعادتك ( أي أكون سبب غضبك).
مخلصنا أيضا لم يجلس في محفلهم ” محفل المازحين ” لكنه قام وتركه ، والدليل على هذا أنه قال : ” هوذا بيتكم يترك لكم خراباً” ، لقد ترك السيد المسيح محفل اليهود وأقام لنفسه محفلاً آخر هو كنيسة الأمم.
لتكن لنا الحياة المميزة الفريدة !
16. ” جلست وحدي ” : ينبغي أن نتعلم من هذه العبارة : عندما تكون هناك جماعة من الخطاة لا تحتمل أن ترى إنسانا تقياً يعيش في حياة التقوى ، لهذا يليق بالانسان أن يهرب من محفل الرذيلة ، ويفعل مثل إرميا الذي قال : ” جلست وحدي ” ، ومثل إيليا الذي قال : ” يارب قتلوا أنبيائك وهدموا مذابحك وبقيت أنا وحدي وهم يطلبون نفسي ” ( رو 11: 3).
لكن إذا نظرت بطريقة أعمق إلى الكلمات ” جلست وحدي ” ، فربما وجدت لها تفسيراً أكثر عمقا يليق بها.
عندما نحيا مثلما يحيا جميع الناس، ولا تكون لنا حياتنا المستقلة الخاصة والمميزة بالنسبة لباقي الناس، فلن نستطيع أن نقول : ” جلست وحدي ” ، وإنما نقول : ” جلست مع أناس كثيرين” . لكن على العكس إذا أصبحت حياتي مميزة بحيث يصعب على الناس تقليدها ، بحيث لا يستطيع فيها أحد أن يشابهني لا في أعمالي ولا في عقيدتي ولا في حكمتي ، عندئذ يمكنني أن أقول : ” جلست وحدي”.
إذا يمكنك أن تقول هذه الكلمات ، حتى ولو لم تكن كاهناً أو أسقفاً وليست لك أية رتبة كنسية ، ذلك حينما تحيا الحياة التي تمكنك أن تقول : ” جلست وحدي”.
” لأنك ملأتني غضباً ” أو ” لأنني قد امتلأت مرارة ” . إذا كان الطريق المؤدي إلى الحياة ضيق وكرب ( مت 7 : 14 ) ، فإنه لن يمكنك أن تتمتع بأية عذوبة الآن ، بل عليك أن تمتلئ مرارة في هذه الحياة . ألا تعلم أن عيدك يحتفل به على أعشاب مرة ؟ إذ يقول الكتاب المقدس : حينما تحتفل بالعيد لابد أن تأكل فطيراً على أعشاب مرة ( خر 12: 8) . ماذا يعني الكتاب حينما يؤكد انه للاحتفال بأي عيد خاص بالرب لابد من أكل الفطير على أعشاب مرة ؟ هلموا نبحث هذا الموضوع.
موضوع ” الفطير ” سبق أن شرحه لنا بولس الرسول عندما قال : ” إذا لنعيد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث بل بفطير الإخلاص والحق ” (1كو 5: 8).
ينبغي أن يكون التفسير الذي أضيفه موافقاً ومناسباً لتفسير الرسول ومكملاً له . يجب عليك أن تفهم ما هي الأعشاب المرة ، وذلك حينما تربط بينها وبين كون الفطير ” فطير الإخلاص والحق ” . فمجرد أن يكون عندك إخلاص وحق تجد أمامك أعشاباً مرة ، وتأكل مع الأعشاب المرة فطير الإخلاص والحق.
ينطبق هذا على بولس الرسول : فلأنه كان يأكل فعلاً فطير الإخلاص والحق ، كان يأكل أيضا بسبب ذلك ” الأعشاب المرة”.
كيف كان ذلك؟
لقد قال : ” أفقد صرت إذا عدوا لكم لأني أصدق لكم ” (غلا 4: 16). كيف كان يأكل أيضا الأعشاب المرة ؟ كان يأكلها كالأتي : ” في كد وتعب. في أسهار مرارا كثيرة . في جوع وعطش … الخ ” ( 2 کو 11: 27- 28) . ألا يعتبر كل ذلك ” حق مع أعشاب مرة ” ؟ أو فطير على أعشاب مرة ؟
إذا تقول الشريعة : “كلوا فطيرا مع أعشاب مرة ” ولم تقل : ” كلوا فطيرا مع اعشاب مرة حتى تمتلئوا وتشبعوا ” ؛ لذا فإن النبي قد فعل أكثر مما تطلبه الشريعة ، فهو يقول : ” قد امتلأت مرارة ” ولم يقل : ” قد أكلت مرارة ” ، أي : قد أخذت نصيبي من المرارة بما فيه الكفاية.
الامتلاء بالمرارة
17. “كان وجعي دائماً ” أو لماذا يكرهونني ويغضبون علي دائماً؟ ” لقد مر إرميا بمضايقات كثيرة ، وتألم بسبب الذين لم يريدوا أن ينصتوا للحق والذين كانوا أقوى منه هنا على الأرض فقط ، لأن ملكوت الله ليس من هذا العالم بل من فوق . كما يقول المخلص : ” لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود ” ( يو 18: 36) . إذا فإن الذين كانوا يضايقون النبي كانوا يضايقونه في هذا العالم فقط. انظروا أيضا الشهداء: يجلس القاضي على مقعده على منصة الحكم ليقضي ويحكم وهو في غاية الراحة ، بينما يقف الإنسان المسيحي الذي ” يحاكم السيد المسيح فيه ” ، وقد ” امتلأ مرارة ” وهو موضوع تحت رحمة إنسان غير عادل ليحكم عليه.
جرح عديم الشفاء
۱۸. ” جرحي عديم الشفاء يأبى أن يشفى ” أو ” جرحي عديم الشفاء . من أين يأتيني الشفاء ؟ ” الذين يضايقونني يضربونني وجرحي عديم الشفاء.
يمكن أن تكون هذه العبارة نبوة عن صلب السيد المسيح، كما يمكن أن يكون المقصود بها كل الأبرار الذين يتحمل السيد المسيح فيهم جرح عديم الشفاء. أو يمكن أن يكون المقصود هو إرميا النبي نفسه لأنه قاسي أتعاباً وألاماً كثيرة : يمكن أن يطبق النص على جميع هذه الحالات.
” من أين يأتيني الشفاء ” ؟ إذا كان السيد المسيح هو الذي يقول ذلك ، فهو يتنبأ بذلك عن قيامته من الأموات بعد الجرح العديم الشفاء .
“ أتكون لي مثل كاذب مثل مياه غير دائمة ” أو “ لقد صارت لي مثل مياه مضللة وغير مخلصة ” . ذلك لأن الجراحات لا تبقى على الدوام وإنما تعبر وتنتهي .
“لذلك هكذا قال الرب : إن رجعت أرجعك فتقف أمامي ” . هذه العبارة موجهة إلى الذين يدعوهم الرب إلى التوبة والرجوع إليه . لكن يبدو لي أن هناك شيئاً من الغموض في كلمة ” أرجعك ” . فإنه ما من أحد ” يرجع ” إلى موضع لم يكن موجوداً فيه من قبل ، ولكن إرجاع الشخص أو الشيء يكون إلى مكانه الطبيعي .
فعلى سبيل المثال ، حينما يبتر أحد أعضاء جسمي فإن الطبيب يحاول أن يعمل له عملية إرجاع وإعادة إلى مكانه الأصلي . كذلك حينما يوجد مثلاً إنسان خارج وطنه ، لأسباب عادلة أو ظلما ثم يصدر الأمر برجوعه ، فإنه يرجع إلى وطنه .
إذا فإن الله يقول لنا هنا ، نحن الذين بعدنا عنه : أنه إذا رجعنا إليه فسوف يرجعنا إلى مكاننا الطبيعي معه . هذه إذا هي كلمات الوعد الإلهي لنا . وكما هو مكتوب في سفر أعمال الرسل : ” إلى أزمنة رد كل شيء ، التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر ” ( أع 3 : 21).
ولإلهنا المجد الدائم إلى أبد الآبدين آمين .
عظة 15
مرة أخري تفسير الآية 10 من الأصحاح الـ 15 : ” ويل لي يا أمي … كل واحد يلعنني ” . ثم الآية 5 من الأصحاح الـ 17 : ” ملعون الرجل الذي يتكل علي الإنسان ويجعل البشر ذراعه ” .
لنتألم مع الأنبياء فنطوب معهم !
1. الذين يطوبون الأنبياء ويتمنون أن يكون لهم نصيب معهم ، عليهم أن يتأملوا في الإعلانات النبوية ليكتشفوا فيها سمو النبوات والأنبياء . وعندما يتأملون في ذلك يقتنعون أنهم لو عاشوا حياتهم بنفس المقاييس التي اتبعها الأنبياء – رغم قسوتها بالنسبة لهم في هذه الحياة – ينعمون بالراحة والتطويب مع أولئك الأنبياء . في الواقع توجد في الكتاب المقدس مواضع كثيرة يمكننا أن نجد فيها ما يدل ويشهد على سمو مكانة الأنبياء ، وقوتهم ، وحريتهم ، ويقظتهم ، وروحهم النشطة ، ونري أنهم لا يضطربون حينما يقعون في تجارب أو متاعب وذلك بسبب حريتهم واستقلالهم الداخلي ، فهم بوصفهم أنبياء ، يقولون كلمة الله ، ويوبخون الناس ويلومون الخطاة بكل صراحة وبكل حزم ، حتى إذا كان هؤلاء الخطاة يبدون أقوياء وعنفاء جداً.
بما أنه يمكننا أن نجد هذه الدلائل والشهادات في مواضع عديدة ، فإننا سوف نجد في آيات هذا اليوم أيضا ، بعضاً من تلك الدلائل.
لقد عاش إرميا النبي في وسط خطاة كثيرين جداً ، والدليل على ذلك أن السبي حدث في عهده . ولقد أنذر النبي كثيرين ووبخ كثيرين ووجه كلامه إلى كثيرين وبسبب كل هذا حكم عليه من كثيرين ، مما جعل كلماته تأخذ هذه النغمة .
ويل لي يا أمي !
٢. لنبدأ إذا من خلال كلمات النبي نفسه لنري هل يوجد عنده القوة والنشاط والحرية واليقظة والجرأة وغيرها من الصفات التي ينبغي أن تتوفر في النبي ؟
“ويل لي يا أمي لأنك ولدتني إنسان محكوما عليه وإنسان نزاع لكل الأرض ” :
يقول النبي : أه يا أمي ، لماذا جئت بي إلي العالم كرجل محكوم عليه أمام كل الناس الذين علي الأرض ؟ وكرجل نزاع أمام كل الناس الذين علي الأرض ؟
إن هذا النبي مثله مثل إشعياء والأنبياء الآخرين ، كان عليه أن يتمم وظيفته كنبي : يعلم وينذر ويوبخ . وفي قيامه بهذه الوظيفة وفي إدانته للخطاة وحكمه عليهم كان يترتب علي ذلك أنه هو نفسه يحكم عليه ويحاكم مع الخطاة .
إذا كان يجب علينا أن نذكر كل ما فعله هذا الشعب بالأنبياء . فإليكم هذه الأمثلة : لقد رجموا واحدا ، وقتلوا آخر بين الهيكل والمذبح ، ونشروا ثالثا ، أما إرميا فقد ألقوه في جب لأنه كان ينذرهم . مخلصنا هو الذي سلك بالأخص مثل الأنبياء ، بل وأفضل منهم ، إذ هو رب الأنبياء . إذا كان السيد المسيح قد جلد وصلب وأسلم من اليهود ومن رؤسائهم ومن رئيس هذا العالم ، فلأنه قد قال لهم : ” ويل لكم أيها الكتبة والفريسيين المرائين ” وظل يردد هذه الكلمة ” ويل لكم ” في كل مرة يوبخهم علي شيء . فنحن أيضا ، إذا أردنا أن نصل إلى التطويبات التي وعد بها الأنبياء ، فلنسلك مثلهم ، بحيث أننا من كثرة كلامنا وإنذارنا للخطاة ووقوعنا تحت الحكم بسببهم ، نقول نحن أيضا : ” ويل لي يا أمي لأنك ولدتني إنسانا محكوما عليه وإنسان نزاع لكل الأرض ” .
٣- مع ذلك فإن تلك الكلمات يمكن أن تكون أكثر ملائمة إذا اعتبرنا أن المخلص هو الذي نطق بها . لكن أن افترضنا أن النبي هو الذي ينطق بها ، فإنها لن تكون صحيحة تماماً ، بل ستحمل شيئا من المبالغة ؛ فهو لم يصر إنسان نزاع لكل الأرض ” . أما بالنسبة لمخلصنا نري أن ربنا ومخلصنا يجب أن يقف أمام الآب ليحاكم معنا كلنا نحن البشر ؛ وخصوصا بسبب تلك الكلمات : ” لكي تتبرر في أقوالك وتغلب إذا حوكمت ” . نعم لقد حوكم مع كل الناس . وأقول أيضا : أنه حوكم ، وفحص هو أيضًا، ووقف أمام الحكم لكي يدافع عن الحق ، لا ليدين أو يتهم أحدا .
” ويل لي يا أمي لأنك ولدتني إنسانا محكوما عليه وإنسان نزاع لكل الأرض ” . إذا لا يستطيع أي نبي أن يقول ” لكل الأرض ” . ومع ذلك أعرف أناسا يحبون ربنا ومخلصنا يسوع المسيح ، ويحبونه لدرجة أنهم يشفقون عليه من الكلمات السابقة ولا يقبلون أن يكون الرب هو الذي ينطق بهذا . من أجل ذلك رأيت أنه يجب علي أن أوضح لهم أنه ليس بالأمر الغريب أن يقول ابن الله ” ويل لي ” . [ثم أعاد أوريجينوس شرح الآيات التي سبق أن شرحها قبل ذلك والتي تؤكد صحة كلامه بالنسبة لانطباق هذا الكلام علي السيد المسيح ، وهي موجودة في العظة السابقة ( ١٤ : ٦)]
4. لقد انحرفت قليلا عن الموضوع ، حينما تحدثت عن القول ” ويل لي ” ، فعلت ذلك لأوضح أن تلك الكلمات لا تتنافى مع ألوهية مخلصنا . فإنه ليس منافيا أن يقول السيد المسيح ويل لي ” حينما يرى خطايا الناس ، وليس منافيا أن يقول المخلص ذلك ، إذ صار إنسانا ، وباعتباره نفسا بشرية … فقد جاءت ” نفس ” السيد المسيح المطوبة إلى العالم البشري وأخذت جسدا بشريا ، وحينما رأت الخطايا ، قالت للأب : ” ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلي الفساد ؟ هل يحمدك التراب ؟ هل يخبر بحقك ؟ ” ( مز ۳۰ : ۹ ) . آه يارب ، ليت نفس السيد المسيح لا تقول علينا ” ويل لي ” ، ليت الملائكة أيضا لا يقولون علينا ذلك !
طوبي لهؤلاء الذين لا يقول عليهم الملائكة ” ويل لي ” ، لأنهم سيطوبون من جميع السمائيين لأن السماء تفرح بخاطيء واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارا لا يحتاجون إلى توبة . ويل لي يا أمي ” ، فمن هي التي يدعوها أمه ؟ ربما يقصد بها ” النفس ” ، أو ربما العذراء مريم . ”
“إنسان محكوم عليه وإنسان نزاع لكل الأرض ” ، لقد حاكمه جميع الناس ونازعوه ، لذلك فإنه يجيبهم في اليوم الأخير علي اتهاماتهم له ، قائلاً : لقد فعلت من أجلكم هذا وذاك ، وبمجيئي إلي الأرض حققت لكم هذا وذاك ، وتألمت كثيرا من أجل خلاصكم . فماذا ترانا نفعل حينما يقول لنا السيد المسيح ذلك ؟
٥ . أما بقية الآية فإنها يمكن أن تطبق علي إرميا أو علي المخلص . لم أقرض ولا أقرضوني ” أو ” لم أصر مدينا لأحد ولا أحد صار لي مدينا لي ” . يقول المخلص : ” رئيس هذا العالم آت وليس له في شيء ” ، بالحقيقة لم يكن المخلص مدينا لأحد ، لكن كل واحد فينا كان مدينا للعدل الإلهي بذنوبه . وحتى بعدما محي صك خطايانا ، مازلنا نخطئ . أن ” الذي لم يفعل خطية وفي فمه لا يوجد غش ” لم يصر مدينا لأحد ؛ لكن ماذا يعني ” ولا أحد صار مدينا لي ” ؟ كيف لا يوجد إنسان واحد علي الأرض كلها ليس مدينا للمخلص ؟ ذلك لأن السيد المسيح وفي ديوننا وسددها عنا . كان لدائن مدينان . علي الواحد خمسمانة دينار وعلي الآخر خمسون ولم يكن لهما ما يوفيان . فسامحهما كليهما ” . أتريد أن تعرف من هما هذان المدينان اللذان كان علي الواحد منهما خمسمائة دينار وعلى الآخر خمسون ؟ انظر معي : الذين يؤمنون بالله ينتمون إلى شعبين : الشعب اليهودي الذي يرفض الإيمان بالسيد المسيح عليه خمسين ، ونحن الذين من الأمم والذين كنا نعيش في شرور لا تحصي أكثر من جميع الناس لا شك علينا خمسمائة ، لأن الكلمات التي قالها السيد المسيح للمرأة الخاطئة موجهة لنا نحن أيضا .
ولكن قد يسألني أحد : من أين تعرف أن الخمسمائة دينار يقصد بها المرأة الخاطئة ؟ ذلك لأن السؤال الذي سأله سمعان الفريسي في قلبه قائلا ” لو كان هذا نبيا لعرف من هذه المرأة التي لمسته وما حالها ” ، أجاب عليه السيد المسيح بقوله : ” كان لدائن مدينان . علي الواحد خمسمائة دينار وعلي الآخر خمسون ” .
كان هذا بالنسبة للآية : ” لم أصر مدينا لأحد ولا أحد صار مدينا لي ” ، التي كان لزاما علي أن اشرحها لكم ، ثم تأتي بعدها آيات أخري كثيرة كنت أود أن أفسرها أيضا ، ولكن لضيق الوقت لن أتمكن من ذلك . لنتحدث الآن عن الآية الموجودة في الأصحاح السابع عشر ، والتي تقول :
” ملعون الرجل الذي يتكل علي الإنسان ويجعل البشر ذراعه ” ( إر 17 :5).
هذه الكلمات سوف تساعدنا وتمكننا من الرد على الذين يعتقدون أن المخلص كان إنسانا ولم يكن أبدا ابن الله – لأنه إلى جانب جرائم الناس ، فإن بعضنا منهم تجرأوا أن يقولوا إن ” الوحيد الجنس ” والـ”كائن قبل كل الخليقة ” ليس هو الله – إذا فإنه بالفعل ” ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان ” ، وأنا يمكنني أن أقول إنني لا أتكل على إنسان ؛ فحينما أتكل على السيد المسيح ، لا أعرفه كإنسان ( موجود معي بالجسد ) ، ولكنني أعرفه بكونه الحكمة والعدل ، بكونه الكلمة الذي به ” كل الأشياء خلقت ما في السماوات وما علي الأرض . ما يرى وما لا يرى ” .
وبالرغم من أن المخلص يشهد ويؤكد أن ما أخذه كان جسدا بشريا إنسانيا ، وبالرغم من أنه كان إنسانا بالحقيقة ، إلا أنه ليس إنسانا ( مجردا ) … لأنه ” وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد ، لكن الآن لا نعرفه بعد ” ( ٢ كو5: 16 ) .
أنا نفسي ، عن طريق السيد المسيح ، لم أعد بعد إنسانا ، فهو يؤكد لنا : ” أنا قلت إنكم آلهة وبني العلي تدعون”.
” ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان ويجعل البشر ذراعه ” : أي ملعون الذي يعطي قيمة للأشياء الجسدية والمادية والذي يستخدم قوته الجسدية ويتكل علي جسده . أما الإنسان البار فهو لا يجعل البشر ذراعه وإنما يحمل في جسده كل حين إماتة الرب يسوع ويميت أعضاءه الجسدية ، الزنا والنجاسة : وبإماتة أعضائه لا يتكل بذلك على ذراعه .
هذه الآية أيضا موجهه إلى هؤلاء الذين يتكلون على المراكز العليا والوسائط لمساعدتهم : إن صديقي فلان رجل سياسي كبير ؛ أو محافظ ؛ أو حاكم ؛ أو أن صديقي هذا رجل غني ويعطيني بسخاء . يجب علينا ألا نتكل علي أي إنسان حتى وإن كان يبدو أنه صديقنا ، فإن اتكالنا هو علي ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي له المجد والقدرة إلي دهر الدهور آمین .
- يتم هذا في المعمودية حيث تتخلص النفس من القوات الشريرة.
- يعتقد الفلاسفة أن الجسد البشري يعني الحياة في عالم الفساد.
- يشير هنا إلى تجربته الخاصة.
- هذه العبارة تلخص الفقرة السابقة كلها ، ثم تشير أيضا بعد ذلك إلى الآية القادمة : “فكان كلامك لي للفرح” ، لأنها تتحدث عن مكافأة المصارع .