تفسير سفر إرميا 18 للعلامة أوريجانوس
عظه ۱۸
تفسير الآيات من : ” الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب قائلاً : قم انزل إلى بيت الفخاري ” ( إر 18: 1 )
إلى : لتجعل أرضهم خرابا وصفيرا أبديا ” ( إر 18 : 16 )
الإناء الفخاري قبل حرقه والإناء الخزفي
۱. توجد وصيتان متتاليتان لإرميا : الأولى تختص بالإناء المصنوع من الفخار الخام ، والذي يكون قابلاً للإصلاح ولإعادة التشكيل عندما يكسر ؛ ذلك لأنه يمكن أن يصير عجينة لينة مرة أخرى في يد الفخاري . والثانية تختص بالإبريق الفخار المصنوع من الخزف ، والذي إذا انكسر لا يكون قابلا للعلاج أو الإصلاح ، وذلك لأنه يكون قد جاز في النار وأصبح صلباً وغير قابل لإعادة التشكيل مرة أخرى .
طالما الفخار طيناً خاماً يكون قابلاً لإعادة التشكيل ، لكن بمجرد دخوله في النار ، يصبح صلباً إذا انكسر لا يمكن ايجاد علاج له . ماذا يعني ذلك ؟ سوف نفهم هذا بصورة عامة أولاً ، ثم إذا سمح الرب نفهمه بالتفصيل . طالما نحن في هذه الحياة ، نعتبر إناء من الفخار الخام ، إما أن نكون مصنوعين من الرذيلة أو من الفضيلة . وعلى أي الأحوال فإن رذائلنا يمكن أن تكسر لتصير فضائل جديدة ، كما أن تقدمنا ونمونا في الفضيلة يكون قابلاً والتقهقر إلى الوراء . لكن حينما نعبر الزمن الحاضر ونصل إلى الحياة الأخرى ، سوف نجوز في النار ، سواء نار سهام الشرير المشتعلة أو في النار الإلهية بما أن إلهنا نار أكلة ، وفي كلتا الحالتين سواء كنا أشرارا أو صالحين ، فإن بعد كسرنا ( موتنا ) لن يمكن إعادة تشكيلنا ولن نكون قابلين للإصلاح . هكذا طالما نحن في هذه الحياة ، كأنما في يد الفخاري : إذا وقع الإناء من يديه ، يمكنه أن يعالجه ويصلحه . فلنتب نحن أيضا عن خطايانا التي فعلناها بالجسد ، ولنرجع إلى الله بكل قلوبنا الآن ، لكي يمنحنا النجاة والخلاص ، طالما عندنا فرصة للتوبة ، لأنه بعد خروجنا من العالم لن نتمكن من الاعتراف بخطايانا وتقديم توبة عنها .
هذا ما نستطيع أن نقوله بأسلوب سريع ومجمل ، قبل أن نتفحص بالتدقيق هذا النص الخاص بالنوعين من الآنية الفخارية ، أحدهما إناء خام والآخر إناء صلب .
النزول إلى بيت الفخاري
۲. لنرى من خلال كلمات الكتاب المقدس نفسه ماذا قيل بخصوص وعاء الفخار الذي بين يدي الفخاري ، وكيف أن النبوة نفسها تقدم لنا نقطة انطلاق أخرى لا يمكن إغفالها في تفسير قصة الأشياء التي بين يدي الفخاري . ” الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب قائلا : قم انزل إلى بيت الفخاري ” .
كان إرميا فوق ، لقد صعد أعلى من آنية الفخار . توجد آنية الفخار أسفل . الطبيعة التي تتحكم وتدير هذه الآنية موجودة أيضا أسفل ، وذلك بتنازلها من أجل الآنية التي تديرها[1]. لهذا فإن الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب هو : قم انزل إلى بيت الفخاري وهناك اسمع كلامي ” . أما موسى فقيل له : ” اصعد إلى الجبل واستمع ” ، لأن كل من يسمع كلمة الله ، يستمع إما إلى معلومات عن الأمور العليا السماوية وبالتالي يلزمه أن يرتفع بأفكاره إلى السماء ليتأمل فيها ؟ أو يستمع إلى تعليمات من الرب بخصوص الأمور الأرضية وبالتالي يلزمه أن ينزل بأفكاره إلى أسفل ليرى الأمور الأرضية.
أستعين بمثال من الكتاب المقدس حتى يمكن للجميع أن يتابعوني على قدر إستطاعتهم : ” لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض . ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب ” ( في2: 10-11) . هناك حكمة تناسب السمائيين ، وهي معرفة الطريقة التي من خلالها تقسم الكائنات السماوية ؛ وحكمة تناسب الكائنات الموجودة تحت الأرض ؛ وأخرى تناسب الكائنات الأرضية . فإذا أردت أن أفهم الحكمة التي تناسب السمائيين ، يجب علي أن أصعد إلى قمة الجبل كما فعل موسى ، حتى تكون الكلمات الآتية إلى من السماء مفهومة بالنسبة لي ، كذلك يجب أن أكون عارفا بالليتورجيات السماوية ، لأنه يوجد ظل وتوجد صورة للأسرار السماوية ، موجودة في الشريعة التي تسلمناها ، وقد أوضح لنا ذلك بولس الرسول حينما قال : ” الذين يخدمون شبه السماويات وظلها كما أوحي إلى موسى ” . ( عب8: 5).
إذا كان يجب على أن أتعلم الأمور السماوية أصعد ، كذلك إذا كان يجب علي أن أتعلم الأمور الموجودة تحت الأرض فسوف أنزل لأتعلمها حتى ولو كنت نبياً . ربما لهذا السبب أيضا نزل صموئيل النبي إلى الهاوية ( إلى تحت الأرض ) ، ليس بسبب حكم وقع عليه ، وإنما لينظر ويتعلم الأسرار الموجودة تحت الأرض . ( 1صم28: 13).
ويمكننا كذلك أن نجد شيئا مماثلاً لهذا الكلام في قول بولس الرسول بالنسبة للحكمة حينما يميز بين درجاتها ويقول : ” حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو ” ( أف3: 18) . إذا كلفت من قبل الله بمعرفة الطول عليك أن تصعد بعقلك إلى الطول . وإذا كلفت بمعرفة العمق عليك أن تنزل بعقلك إلى العمق . العقل الذي يستطيع أن يتبع الابن الكلمة يمكنه أن يفعل كل شيء طالما يقوده الرب ويعلمه كل شيء ، ويتبعه إذا ستطاع أن يترك العالم ويحمل صليبه ، وأن يقول : ” قد صلب العالم لي وأن العالم ” . إذاً من بين الذين يسمعون يوجد أناس يصعدون ليتعلموا ، لكنهم لا يصعدون بطريقة جسدية ؛ ويوجد آخرون ينزلون لكنهم مع هذا يحتفظون بنفوسهم عالية مرتفعة .
إن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح هو نفسه قد صعد ونزل ، لأن ” الذي نزل هو الذي صعد أيضا فوق جميع السموات ” ( أف4: 10 ) . إذا إن كان عليك أنت أيضا أن تفهم الابن الكلمة الذي يعلم الأمور السماوية والذي صعد إلى العلاء ، وأن تفهم الابن الكلمة الذي يعلم الأمور الأرضية والذي نزل إلى أسفل ، إذا ، ” لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء أي ليحدر المسيح ، أو من يهبط إلى الهاوية أي ليصعد المسيح من الأموات . لكن ماذا يقول ( الكتاب ) ؟ الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك ” ( رو10: 6-8 ) . يمكنك بواسطة الابن الكلمة أن تصعد إلى السماء أو أن تنزل إلى أسفل طالما أن ” الكلمة قريبة منك ” . لأنه ماذا يمكن أن يوجد داخل الإنسان البار إلا كلمة الله الذي يملأ الكل ؟ فإنه بالفعل ” ملكوت الله في داخلكم ” .
مسئوليتنا الشخصية عن فسادنا
۳. نزل النبي إلى بيت الفخاري ، ويروي بعد ذلك ما الذي رأه ، قائلاً : ” فنزلت إلى بيت الفخاري وإذا هو يصنع عملاً على الدولاب. ففسد الوعاء الذي كان يصنعه من الطين بيد الفخاري فعاد وعمله وعاء آخر كما حسن في عيني الفخاري أن يصنعه ” . لكن لماذا لم يلق النبي اللوم على الفخاري باعتباره هو المسئول عن فساد الوعاء الذي كان بين يديه ؟ الإجابة ببساطة : أن النص يختص بأوعية حية تفسد نتيجة لخطأها هي ، حتى أنه يقول ” ففسد الوعاء الذي كان يصنعه ” .
احذر إذا لئلا تسقط وتفسد حينما تكون في يد الفخاري وهو يشكلك ، ويكون فسادك نتيجة لخطأك . يقول السيد المسيح : ” ولا يخطفها أحد من يدي ” ( يو10: 28) ، وكما أنه لا يستطيع أحد أن يخطفها من يده ، كذلك لا يستطيع أحد أن يفسدها . بذلك يمكنني أن أقول : أنه لا يستطيع أحد أن يخطف شيئا من بين يدي الراعي الصالح أو ينزعنا من بين يدي الرب ، إنما نحن بإهمالنا يمكننا أن نسقط ونفسد ونحن بين يديه .
بالقيامة يعاد تشكيلنا
4. ” فصار إلي كلام الرب قائلا : أما أستطيع أن أصنع بكم كهذا الفخاري يا بيت إسرائيل يقول الرب ” . كل واحد يفهم هذا الكلام على قدر استطاعته : فيمكن لواحد أن يفهم المعنى بطريقة سطحية ، ويمكن لآخر أن يفهمه بطريقة أكثر عمقاً . فهم بعض الناس موضوع الوعاء الفخاري الذي فسد وأعيد تشكيله بطريقة بسيطة . أقدم لكم فكرتهم وتفسيرهم ، ثم إذا وجدنا بعد ذالك تفسيراً أعمق أعرضه عليكم أيضاً .
من وجهة نظر هؤلاء الناس ، أن هذه القصة ترمز إلى القيامة . لأنه إذا كان وعاء الفخار قد سقط وفسد من يدي الفخاري ، وأن هذا الفخاري عاد وعمله وعاء آخر كما حسن في عيني الفخاري ، وعمله من نفس المادة التي عمل بها قبل ذلك ، فإن الله هو أيضاً ، بما أنه الفخاري الذي عمل أجسادنا والذي خلق طبيعتنا ، يمكنه إذا وقع الوعاء وتكسر ، أن يعيد تشكيله ويصنع منه وعاء آخر أحسن نوعاً كما يحسن في عينيه .
أمتان : واحدة تقتلع والأخرى تغرس !
٥ . بجانب هذا التفسير ، لنسمع أيضاً التفسير الذي يقدمه لنا الرب نفسه : فصار إلي كلام الرب قائلاً : أما أستطيع أن أصنع بكم كهذا الفخاري يا بيت اسرائيل يقول الرب . هوذا كالطين بيد الفخاري أنتم هكذا بيدي يا بيت اسرائيل . تارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك ، فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها . وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالبناء والغرس ، فتفعل الشر في عيني فلا تسمع لصوتي فأندم عن الخير الذي قلت إني أحسن إليها به ” ( إر 18: 5-10). بذلك نرى أن ما حدث في بيت الفخاري لا يشير من الجانب الرمزي إلى أحداث فردية ( أي إلى قيامة الأفراد ) وإنما يقصد به أمتين أو مملكتين . إذا ، فمن هما هاتان الأمتان ؟ من هي الأمة الأولى التي يتكلم عليها بالقلع والهدم ، ومن هي الثانية التي يعطيها الوعود بالبناء والغرس ؟ الله في تهديده ، يهدد بحيث إذا رجعت الأمة وتابت لا ينفذ فيها تهديده ، كما أنه في وعوده ، يعد بحيث إذا فسدت الأمة وصارت غير مستحقة ، تحرم من تلك الوعود . إن التدبير الإلهي الذي يختص بالبشر في في هذا العالم ، يدور أساسا حول أمتين رئيسيتين . تأتي الأمة اليهودية أو الشعب الإسرائيلي في المقام الأول ، ثم من بعد مجيء السيد المسيح تأتي أمتنا نحن في المقام الثاني .
قام الرب بتهديد الأمة الأولى ، وظهر آثار هذا التهديد : فقد تم سبيها ، وخربت مدينتهم ، وهدم الهيكل ، ودنس المذبح ، ولم يبق عندهم شيئاً من المقدسات التي كانوا يملكونها ، لأن الرب قال لهذه الأمة : إرجعي إلي ، فلم ترجع. ثم يتحدث الرب إلى الأمة الثانية عن بنائها وغرسها ، لكنه يرى أن تلك الأمة مكونة من أناس قابلين أيضا للسقوط والفساد ؛ لذلك يهددها ويقول لها : بالرغم من أنني تكلمت عليك في البداية بالبناء والغرس ، إلا أنك لو أخطأت فسوف يحدث لك ما حدث مع غيرك حينما أخطأوا .
راجع كل الكتاب المقدس ، سوف تكتشف أن معظم أجزائه تتحدث عن هاتين الأمتين . فقد اختار الرب الآباء الأولين ( إبراهيم وإسحق ويعقوب ) وأقام معهم وعوداً ، وقام بإخراج الشعب الآتي من نسل الآباء ، من أرض مصر وحررهم من العبودية ، وكان طويل الأناة معهم حينما كانوا يخطئون ، وكان يصحح أخطاءهم كأب ، وأدخلهم إلى أرض الموعد وأعطاهم اياها ، وأرسل لهم الأنبياء في فترات متعددة ، كان يوجههم ويرشدهم ويتوبهم عن خطاياهم ، وكان في طول آناته يرسل إليهم دائماً أشخاصا لكي يساعدوهم على الشفاء ، إلى أن جاء رئيس الأطباء ، والنبي الذي يفوق جميع الأنبياء . لكنه عندما جاء أسلموه للموت ، قائلين : ” خذه خذه ” خذ مثل هذا الإنسان من الأرض ! ” اصلبه ، اصلبه ” ( يو19: 6، 16) . ومن هنا اختار الله أمة أخرى. انظروا كيف أن الحصاد كثير بالرغم من أن الفعلة قليلون . وفي كل مكان وزمان يعمل الله على أن تكون شبكته دائماً ملقاة في بحر هذا العالم لكي يجمع فيها الأسماك من كل الأنواع ؛ ويرسل صيادين كثيرين ، وقانصين كثيرين ، ويصطاد على كل جبل وعلى كل أكمة : انظر كم يعمل الله من أجل خلاص الأمم !
إذاً فهوذا لطف الله وصرامته ” . ” أما الصرامة فعلى الذين سقطوا أي على الأمة اليهودية التي سقطت ” وأما اللطف فلنا نحن الأمة الأخرى ، إن ثبتنا في اللطف ، وإلا فإننا أيضاً سنقطع ” ( رو11: 22) . لأن الفأس لم تكن موضوعة على أصل الشجر في أيام السيد المسيح فقط ، لكن يمكن أن توضع من جديد في وقتنا الحاضر : لقد قال يسوع المسيح في تنبؤه على سقوط إسرائيل : ” هوذا الفأس قد وضعت على أصل الشجر ” ، وأيضا : كل شجرة لا تأتي بثمر تقطع وتلقى في النار ” . وأما الآن فيوجد زرع آخر ، قيل عنه : تجئ بهم وتغرسهم في جبل ميراثك ، المكان الذي صنعته يا رب لسكنك ” ( خر 15: 17) . جاء الرب بأمته الجديدة إلى جبل ميراثه . فإنني لن أبحث عن الجبل في وسط الأشياء الجامدة كما فعل اليهود ؛ لأن الجبل هو السيد المسيح : فقد غرسنا فيه وثبتنا فيه . انظروا إذا هل سيقول رب البيت – بعد أن يكون قد استخدم معنا طول الأناة – عندما يجئ : ” هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمرا في هذه التينة ولم أجد ، اقطعها ، لماذا تبطل الأرض أيضاً ؟ ” ( لو13: 7 ) . لأن الإنسان الذي يأتي إلى الكنيسة ولا يأتي بثمر يبطل أرض السيد المسيح الجيدة ، التي هي الكنيسة ، ويشغلها بدون فائدة .
هل يندم الله ؟
6. ” تارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها فأندم عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها ” .
يطلب بعض الوثنيين المثقفين منا أن نبرر موقفنا وأن نفسر لهم ماذا يقصد ” بندم الله ” . لأنه يبدو أن الندم أمر غير لائق ، ليس فقط بالنسبة الله ، وإنما أيضا بالنسبة لأي إنسان حكيم . لأنني لا أتقبل فكرة أن يندم إنسان حكيم ، لأن الذي يندم ، يفعل ذلك لأنه لم يأخذ من البداية الجانب الصحيح أو الرأي الصائب . لذلك فإنه لا يمكن للرب الذي يرى المستقبل ويعرفه ، أن يأخذ أي جانب آخر سوى الجانب السليم والرأي السديد . إذا ينسب الكتاب المقدس الله القول ” فأندم ” ؟ لن أجيب على ذلك الآن .
نجد نفس الفكرة في سفر الملوك أيضا حينما يقول الرب : ” ندمت على أني قد جعلت شاول ملكاً” ( 1صم15: 11 ) . ثم يقال أيضا عن الرب : ” ويندم على الشر ” ( یوئیل 2: 13).
هلموا لننظر ماذا يقول لنا الكتاب المقدس أيضا عن الله . تارة يقول : ليس الله إنسانا فيكذب ، ولا ابن إنسان فيندم ” ( عد23: 19) ، وتعرفنا هذه الآية أن الله ليس إنسانا . تارة أخرى يقول أن الله إنسانا : ” فاعلم في قلبك أنه كما يؤدب الإنسان إبنه قد أدبك الرب إلهك ” ( تث8: 5) . إذا ، فعندما يتحدث الكتاب المقدس عن لاهوت الرب ، يقول أنه ليس إنسانا ” ، وأن : ” ليس لعظمته استقصاء ” ( مز145: 3) . وأنه “مهوب على كل الآلهة ” ( مز96: 4 ) . ويقول أيضا : ” سبحوه يا جميع ملائكته . سبحوه يا كل جنوده . سبحيه أيتها الشمس والقمر . سبحيه يا جميع كواكب النور ” ( مز148: 2-3 ) . لكن عندما تنازل الله وأخذ جسدا واختلط بالناس ، أخذ أيضا حكمة الناس ولغتهم . فعل تماماً مثلما نفعل نحن حينما نريد أن نتحدث إلى طفل عمره سنتين ، فنقوم بعمل حركات وأصوات غير مفهومة تناسب طفل ، أما إذا احتفظنا بوقارنا وأصررنا على الحديث معه بلغة البالغين لن يفهم شيئا . هكذا يفعل الله في اهتمامه بالجنس البشري ، وخاصة الأطفال منهم . انظر كيف أننا نحن البالغين نقوم بتغيير أسماء الأشياء بالنسبة للأطفال الصغار ؛ فنسمي لهم الخبز باسم خاص ، والشرب باسم آخر ، دون أن نستعين بلغة البالغين التي يستخدمها البالغون في أحاديثهم. ماذا إذا ، هل نحن أشخاص غير ناضجين ؟ هل إذا سمعنا أحد ونحن نتكلم مع هؤلاء الأطفال ، يقول : لقد فقد هذا الشيخ عقله وتناسى شيبته ووقاره ؟ ألا يرجعوا هذا بالأولى إلى الظروف التي دفعت الشيخ الوقور إلى استخدام تلك اللغة ؛ وهي مخاطبة الأطفال ؟
بالمثل يتحدث الله أيضا إلى الأطفال . قال المخلص : ” هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب ” . بما أننا أشخاص وبشر نندم ، فإن الله عندما يريد أن يخاطبنا بلغتنا ، يقول : ” ندمت ” ، وحينما يهددنا ، لا يظهر نفسه بصورة من يعلم المستقبل ، لكنه يتصرف معنا كما لو كان يخاطب أطفالاً ، بالرغم من أنه ” يعرف جميع الأشياء قبل أن تكون ” ، في مخاطبته للأطفال الصغار يتظاهر بأنه مثلهم لا يعرف المستقبل . فكان يقول : إذا رجعت هذه الأمة عن شرها ، سأندم أنا أيضا عن الشر الذي قصدت أن أصنعه بها . آه يا رب ! عندما كنت تهدد ، ألم تكن تعلم ما إذا كانت هذه الأمة سوف تتوب أم لا ؟ وحينما كنت تعطي وعودا ، ألم تكن تعلم ما إذا كان الإنسان أو الأمة التي وجهت إليها وعودك سوف تظل مستحقة لتلك الوعود أم لا ؟ لقد كنت تعلم كل شيء ولكنك كنت تتظاهر بعدم المعرفة.
سوف تجد في الكتاب المقدس أمثلة كثيرة من هذا النوع ، منها : ” تكلم مع بني إسرائيل ، لعلهم يسمعون ويتوبون ” . ليس أن الله كان غير متأكد ، عندما قال : لعلهم يسمعون . لأن الله لا يقع في الشك أبدا ؛ لكنه قال ذلك حتى يظهر بوضوح حرية إرادتك ، حتى لا تقول : بما أن الله يعرف مسبقا إنني سوف أهلك ، إذا لابد أن أهلك ، أو : بما أن الله يعرف مسبقا إنني سوف أخلص ، إذا فإنني لابد أن أخلص .
يتظاهر بعدم معرفته لما سيحدث لك لكي يحترم حرية إرادتك وتصرفاتك.
تجد أجزاء كثيرة في الكتاب المقدس يتشبه فيها الله بصفات الإنسان . فإذا سمعت يوما كلمات ” غضب الله وثورته ” لا تظن أن الغضب والثورة عواطف وصفات موجودة عند الله ، إنما هي طريقة بها يتنازل الله ويتكلم ليؤدب أطفاله ويصلحهم . لأننا نحن أيضا حينما نريد أن نوجه أولادنا ونصحح أخطاءهم نظهر أمامهم بصورة مخيفة ووجه صارم وحازم لا يتناسب مع مشاعرنا الحقيقية ، إنما يتناسب مع طريقة التأديب . إذا أظهرنا على وجوهنا التسامح والتساهل الموجود في نفوسنا ومشاعرنا الداخلية تجاه أطفالنا بشكل دائم ، دون أن نغير ملامح وجوهنا بحسب تصرفات الأطفال ، نفسدهم ونردهم إلى الأسوأ. بهذه الطريقة نتكلم عن غضب الله ، فحينما يقال أن الله يغضب ، فإن المقصود بهذا الغضب هو توبتك وإصلاحك ، لأن الله في حقيقته لا يغضب ولا يثور ، لكنك أنت الذي ستتحمل آثار الغضب والثورة عندما تقع في العذابات الرهيبة القاسية بسبب خطاياك وشرورك ، في حالة تأديب الله لك بما نسميه غضب الله!.
٧- بعد الحديث عن الأمتين : الأولى التي هددها ، والثانية التي وعدها ، قيل بخصوص الأمة الأولى : ” فالآن كلم رجال يهوذا وسكان أورشليم قائلا : هكذا قال الرب . هأنذا مصدر ( صانع ) عليكم شراً” ( إر18: 11) ؛ وبما أن الذي أصنعه عليكم هو موجود بين يدي ( كما أشرنا قبل ذلك أن الله هو الفخاري ) ، فإنه يمكن أن يسقط من بين يدي ويفسد : فاعملوا إذاً على إسقاطه ( أي إسقاط الشر ) وافساده من يدي لكي أغير الشر الذي كنت سأصنعه بكم وأصنع خيراً بدلاً منه .
٨-. ” فارجعوا كل واحد عن طريقه الردئ وأصلحوا طرقكم وأعمالكم“.
أحيانا يقول بعض البسطاء : إن أناس العهد القديم كانوا بالفعل سعداء الحظ لأنهم كانوا يسمعون الرب يتكلم إليهم من خلال الأنبياء. ولكنني أقول لهم إن الرب يتكلم معنا نحن أيضا الأن من خلال الكتاب المقدس ، ويقول لنا : “ارجعوا كل واحد عن طريقه الردئ ” فإن الرب بنفسه يكلمك حينما يقول لك : ” أصلح طرقك وأعمالك “.
الذين وُجهت إليهم هذه الدعوة للتوبة والرجوع ، قد أجابوا على تلك الدعوة ، فهلموا ننظر ماذا كانت إجابتهم حتى لا نعطي نحن أيضا نفس هذه الإجابة . لقد قالوا : ” باطل ، لأننا نسعى وراء أفكارنا وكل واحد يعمل حسب عناد قلبه الردئ ” . إن كنتم تعيشون في حياة الخطية فإن إجابتكم تكون كالإجابة السابقة تماماً، حتى ولو لم تستخدموا نفس هذه الكلمات ، ولم تجيبوا بشفاهكم على الإطلاق ، لأن أعمالكم الشريرة هي التي تجيب حينئذ على الدعوة التي يوجهها الله لكم للتوبة .
لكن ماذا تعني عبارة : ” لأننا نسعى وراء أفكارنا ( شرورنا ) ” ؟ إن الذين بدأوا بوضع يديهم على المحراث وكذلك امتدوا إلى ما هو قدام لكي يزرعوا ونسوا ما هو وراء ، بهذا أعطوا ظهرهم للأعمال الشريرة . لكن إذا وضع أحد يده على المحراث ونظر إلى الوراء فإنه في هذه الحالة يسعى وراء شروره ، لأنه يسعى مرة أخرى إلى الأشياء التي كان قد تحول عنها ، ويجئ مسرعاً إلى الخطايا التي تركها.
كل الذين بعدما سمعوا دعوة الرب للتوبة تحولت حياتهم إلى الفساد ، سواء كانوا مسيحيين قد تركوا الحياة الوثنية، أو مؤمنين قد تقدموا في الإيمان ، ثم بعد ذلك سقطوا ورفضوا التوبة ، فإنهم لن يستطيعوا أن يقولوا سوى تلك الكلمات : ” لأننا نسعى وراء أفكارنا وكل واحد يعمل حسب عناد قلبه الردئ”.
لقد قال الرب بعد ذلك لهؤلاء الناس : ” لذلك هكذا قال الرب : اسألوا بين الأمم ، من سمع كهذه ؟! ما يقشعر منه جداً عملت عذراء إسرائيل ” . قد يبدو بالنسبة للبعض أن هذه الكلمات قيلت بدون هدف أو قصد معين . لكنني أقول لا ، بل إذا رجعت كنيسة الأمم إلى الرب بكل قلبها يقال لها : ” اسألوا بين الأمم ، واسمعوا المصائب الكثيرة التي ارتكبتها عذراء إسرائيل ” . دعونا نقارن إذا بين حياة اليهود الذين أخطأوا، وبين حياة هؤلاء الذين تابوا وأمنوا، عندئذ نعرف أن اليهود قد عملوا ما يقشعر منه جداً حينما قتلوا رب المجد ؛ في حين أن الأمم تابوا ورجعوا إليه بعدما قتله اليهود ، فهم دفعوه إلى الموت من أجل خلاص العالم.
9. ” هل يخلو صخر حقلي من ثلج لبنان ؟! أو هل تنشف المياه المنفجرة الباردة الجارية ؟! لأن شعبي قد نسيني . بخروا للباطل وقد أعثروهم في طرقهم في السبل القديمة ليسلكوا في شعب في طريق غير مسهل . لتجعل أرضهم خراباً وصفيراً أبدياً” . أو بحسب الترجمة من النص الفرنسي : “ هل يجف ثدي الصخرة ؟ أو هل يخلوا الثلج من لبنان ؟ أو هل تنشف المياه التي جاءت بها الرياح الشديدة ؟“.
الأمر يتعلق هنا بأنواع مختلفة من المياه : في المقام الأول ثدي الصخرة ؛ في المقام الثاني ثلج لبنان ؛ وفي المقام الثالث المياه التي جاءت بها الرياح الشديدة.
هذه الأنواع الثلاثة من المياه هي التي تشتاق إليها نفوس الأبرار الذين أصبحوا مثل الأيائل ، حتى إن كل واحد منهم يمكنه أن يقول : ” كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله ” ( مز42: 1 ) . فمن إذا أصبح مثل الإيل الذي يقال عنه أنه عدو الثعابين بكل أجناسها وأنواعها ولا يتأثر بسمومها ؟ ومن أصبح عطشان إلى الله فيقول : ” عطشت نفسي إلى الله إلى الإله الحي ” ( مز42: 2 )؟.
من أصبح عطشان إلى ثدي الصخرة ، ” والصخرة كانت المسيح”؟
من أصبح عطشان إلى الروح القدس لدرجة أن يقول : ” كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله ” ؟ إذا لم نعطش إلى هذه الثلاثة ينابيع من المياه معا . لا نستطيع أن نجد أي واحد منها على حدة . كان اليهود يعطشون إلى ينبوع واحد وهو الله الآب ؛ لكن لأنهم لم يعطشوا إلى السيد المسيح ولا إلى الروح القدس ؛ لم يستطيعوا أن يشربوا حتى من الآب. كذلك الهراطقة كان يبدو عليهم أنهم يعطشون إلى يسوع المسيح ، لكنهم لم يعطشوا إلى الآب الذي هو رب الناموس والأنبياء ، لذلك لم يستطيعوا أن يشربوا من السيد المسيح . وأيضا الذين يتمسكون بالرب ولكن يحتقرون النبوات فإنهم بهذا لم يعطشوا إلى الروح القدس الموجود في الأنبياء ، ولهذا فإنهم لن يشربوا أيضا من الآب ، ولا من السيد المسيح الذي وقف في الهيكل ونادى قائلا : ” إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب ( يو7: 37) .
إذا فإن ثديا الصخرة لن يجفا ، ولكنهما يجفان إذا تركا ينبوع المياه الحية ؛ إذا هما تركا الينبوع ، ولم يقل إذا الينبوع تركهما وبالفعل ، فإن الله لا يبتعد عن أحد ، ولكن الذين يبتعدون عنه يهلكون . ولكن الله على العكس ، يقترب إلينا ، ويذهب لملاقاة الإنسان الذي يرجع إليه . فعندما رجع الابن الضال الذي أضاع ثروة أبيه ، وإذ كان لم يزل بعيداً رأه أبوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبله ” ( لو15: 2).
إذا فإن ثديا الصخرة أو ينابيع مياه السيد المسيح لن يجفا ؛ كذلك فإن الثلج الذي هو مياه الآب لن يخلو من لبنان . وفي الواقع أن البخور المقدس الذي توصي به شريعة الله والذي يقدم على المذبح يكون لونه أبيض ويدعى لبان أي لبنان ( فإن لبنان تدعى بالفرنسية Liban واللبان يدعى Libanos ) . إذا فإن جبل لبنان له نفس اسم البخور ، وينزل ثلجا من على Liban مثل مياه الروح القدس التي يقال عنها : هل تنشف المياه التي جاءت بها الرياح الشديدة ؟ ” . إن مياه الروح القدس لا تنشف ، ولا تهرب ، ولكننا نحن بارتكابنا الخطية نهرب منها بدلا من أن نشرب من تلك المياه المقدسة.
10. ” لأن شعبي قد نسيني ، بخروا للباطل ” ( إر18: 15) كل إنسان يخطئ ينسى الرب ، بينما الإنسان البار يقول : ” هذا كله جاء علينا وما نسيناك ولا خنا في عهدك” ( مز44 : 17) . لقد نسى هذا الشعب الله ، بالفعل ، وبخروا للباطل . لكن لنتأمل ماذا تعني هذه الآية : ” بخروا للباطل ” . يقول المزمور : لتستقم صلاتي كالبخور قدامك ” . إذا فإن صلاتي الرقيقة المكونة من أفكار سماوية خفيفة والصادرة من قلب لطيف وخفيف غير مثقل بهموم العالم ، صلاة كهذه تصعد أمام الله كرائحة بخور زكية . إذا بما أن صلاة الإنسان البار هي رائحة بخور أمام الله ، كذلك فإن صلاة الإنسان الشرير هي أيضا رائحة بخور ، ولكن كالبخور الذي قيل عنه : ” بخروا للباطل ” .
- إن الطبيعة التي تدير ” أنية الفخار ” التي هي الأجساد ، تنازلت بتواضعها إلى مستواهم . وهذه الطبيعة هي الله الكلمة ، الذي من أجل تنازله غير الموصوف تجسد .