تفسير إرميا ٢٠ للقمص أنطونيوس فكري

هذا الإصحاح هو تطبيق مباشر على إصحاح 19 ففشحور هنا هو الإناء الذي تقسى والحكم الذي صدر ضده هو كسر الإناء فلم يعد هناك أمل في إصلاح فشحور.

 

الآيات 1-6:- وسمع فشحور بن امير الكاهن وهو ناظر اول في بيت الرب إرميا يتنبا بهذه الكلمات. فضرب فشحور إرميا النبي وجعله في المقطرة التي في باب بنيامين الاعلى الذي عند بيت الرب. وكان في الغد أن فشحور اخرج إرميا من المقطرة فقال له إرميا لم يدع الرب اسمك فشحور بل مجور مسابيب. لأنه هكذا قال الرب هانذا اجعلك خوفا لنفسك ولكل محبيك فيسقطون بسيف اعدائهم وعيناك تنظران وادفع كل يهوذا ليد ملك بابل فيسبيهم إلى بابل و يضربهم بالسيف. وادفع كل ثروة هذه المدينة وكل تعبها وكل مثمناتها وكل خزائن ملوك يهوذا ادفعها ليد اعدائهم فيغنمونها وياخذونها ويحضرونها إلى بابل. وانت يا فشحور وكل سكان بيتك تذهبون في السبي وتاتي إلى بابل و هناك تموت وهناك تدفن أنت وكل محبيك الذين تنبات لهم بالكذب.

بعد العظة الواضحة التي ألقاها النبي بدأ إضطهاده بواسطة فشحور الكاهن. وكان المنتظر أن يحمى فشحور إرمياء وبالأخص لأنه نبي وكاهن مثله. ولكنه ضربه كما ضُرِب بولس الرسول (أع2:23) ووضعهُ في المقطرة وهي آلة تعذيب يوضع فيها السجين منحنيًا وتربط يديه ورجليه ورقبته فيتألم ألمًا مبرحًا. بل ليزيد من ألامه، كان هذا أمام الناس ليسخر منه المارة ويحتقروه (فلا يلتفتوا لكلامه، فكلامه ضد كلامهم بأن مصر ستنقذهم). وكان ذلك عند باب بنيامين بين المدينة والهيكل. والغرض أن يمتنع عن نبواته بالتهديد. ولكن لم تتحقق أغراض فشحور فقد هاجمه النبي بشدة. فلو قُيِّدَ النبي فكلمة الله لا تُقيد، والله يصدر حكمه على هذا الكاهن الشرير. ناظر أول = فشحور كان لهُ مركزًا ساميًا في الهيكل، بهيستطيع أن يسجن إرمياء بتهمة الإخلال بالأمن العام. ومعنى اسم فشحور = فرح. ولكن إرمياء سماه مجور مسابيب= وهذه معناها خوف من كل جانب. فالله يُحوِّل أفراح الخطاة لمخاوف (حينما تأتى بابل) وسيمتلىء هو رُعبًا وحزنًا. بل سيكون منفرًا لأصدقائه وهو في حالته هذه. والله لم يقتله فورًا بل تركهُ يتألم مثل قايين. وإنها لشجاعة للنبى أن ينطق بكل هذه النبوات ضد من سجنه وضد الملك وكل الشعب. ولم يَرُّد فشحور لأن خوف الله سقط عليه مباشرة بكلمة النبي (إذ قال له مجور مسابيب أي خوف من كل جانب فحدث هذا فورًا)، فطرد إرمياء وإكتفى بهذا.

 

الآيات 7-13:- قد اقنعتني يا رب فاقتنعت والححت علي فغلبت صرت للضحك كل النهار كل واحد استهزا بي. لأني كلما تكلمت صرخت ناديت ظلم واغتصاب لأن كلمة الرب صارت لي للعار وللسخرة كل النهار. فقلت لا اذكره ولا انطق بعد باسمه فكان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي فمللت من الامساك ولم استطع. لأني سمعت مذمة من كثيرين خوف من كل جانب يقولون اشتكوا فنشتكي عليه كل أصحابي يراقبون ظلعي قائلين لعله يطغى فنقدر عليه وننتقم منه. ولكن الرب معي كجبار قدير من أجل ذلك يعثر مضطهدي ولا يقدرون خزوا جدًا لأنهم لم ينجحوا خزيا ابديا لا ينسى. فيا رب الجنود مختبر الصديق ناظر الكلى والقلب دعني ارى نقمتك منهم لأني لك كشفت دعواي. رنموا للرب سبحوا الرب لأنه قد انقذ نفس المسكين من يد الأشرار.

مهما حدث لفشحور من رعب فما لا يمكن إنكاره أن النبي إنسان عادي له مشاعرهُ. وهذه المشاعر جُرِحَتْ فيما قام بهِ فشحور، خصوصًا من تعريضه لسخرية الناس ونلاحظ في هذه الآيات صراع داخلي يعتمل في نفس النبي بين عمل نعمة الله المعزية وأحزان النبي الإنسانية. وهذه المشاعر نجدها هنا متداخلة. ففي آية (7) قد أقنعتنى فاقتنعت = هنا عمل النعمة يغلب. ولكن بماذا أقنعه؟ ألعله رأى صورة الصليب والعار الذي كان للمسيح عليه وسخرية المارة حوله وشماتتهم فيه وهو ربُ المجد. وهو ما حدث لأرمياء فالشعب كان يسخر منهُ ومن كلامهُ ويوَدون لو توقف عن النطق بنبواته، وها هو في المقطرة. وهذا هو يومهم للسخرية العلنية منهُ. ولكن إذا كان الله احتمل فعليك يا أرمياء أن تحتمل، أم هل أقنعه الله كما أقنع صموئيل من قبل “هم لم يهزأوا بك بل هزأوا بي” وأن آلامك يا أرمياء هي آلامي. أم أراه الله عقوبة هؤلاء أم أقنعه بأن الألم ضريبة المجد أم كل هذا معًا. الله يعلم.

ولننظر عمل نعمة الله، أنها تُلِّح على الإنسان = ألححت عليَّ فغلبت ، بالرغم من أنني صرت للضحك . وفي(8) هو يهان لأجل أمانته وغيرته في خدمته. فكانوا يهزأون به لأنه يصرخ من غيرته. ولنعرف أن الخدام الأمناء هم سخرية غير المؤمنين أو غير التائبين. وهم سخروا منه لأنه قال ظلم وإغتصاب = فهم لا يحتملون من يذكرهم بخطاياهم. وفي (9) فقلت لا أذكره هذه غواية من الشيطان ولها منطق عقلانى. فطالما أن هؤلاء الناس لا يستحقون عملك فأترك خدمتك وإسترحْ في بيتك وأعكف على الصلاة. فتعاليمك صارت للهزء من السامعين. ولكن وجد كلام الله في قلبه كنار وعمل نعمة الله فيه قويًا منفجرًا يبحث عن مخرج لها. بل أشعره الله بقوته معهُ وضعف أعدائه فلم يستطع السكوت. وفي (10) لماذا أراد أولًا السكوت “لأني سمعت مذمة من كثيرين” = أي كلام إفتراء ووشاية وخوف من كل جانب = في سخرية حوَّلَ الناس عبارة إرمياء ضده (كأنهم يقولون من الذي يحيطه الخوف من كل الجانب أهو فشحور، أم أنت يا إرمياء، بل أحاطوه فعلًا بالخوف) = يقولونإشتكوا فنشتكى عليه أي فليخترع أي إنسان كذبة ضده ونحن سنروجها لهُ ونشهد ضده بل سنزيد عليها. كل أصحابى يراقبون ظلعى = ظَلْعى أي عرجى أو أي خطأ منى. وهذا ما عملوه مع المسيح فكانوا يرسلون للمسيح ولإرمياء من يتصيَّدَهم بكلمة ليشتكوا بأى خطأ عليه. وللأسف فهم يرسلون الأصحاب فأية خيانة مؤلمة هذه. قائلين لعله يُطغى = أي لعله يمكن إغواؤه فنرغمه على أن يكف عن نبواته وتوبيخاته لنا. ولكن كما صار لفشحور خوفًا من كل جانب هكذا فليعثر مضطهدىَ (11) هؤلاء الذين يسيئون لشرفه من وراء ظهره فلا يستطيع أن يدافع عن نفسه مثل أنه يثير فتنة ضد الحكومة وينادى بثورة ضد الملك ويتحالف مع بابل.

ملحوظة:-

سمعت مذمة من كثيرين هي صلاة داود في المزامير (13:31) فلنتعلَّم الصلاة بالمزامير. فكل من يتألم مثل داود وأرمياء فالروح القدس الذي أوحى بهذه الكلمات يعطى تعزية حين نصلي بها. وفي (13) نجد أن الصراع بين نعمة الله ومخاوفه كإنسان ينتهي لصالح النعمة ويرى خلاصه فيسبح الرب لأنه أنقذه من يد الأشرار.

 

الآيات 14-18:- ملعون اليوم الذي ولدت فيه اليوم الذي ولدتني فيه أمي لا يكن مباركا. ملعون الإنسان الذي بشر ابي قائلًا قد ولد لك ابن مفرحا إياه فرحا. وليكن ذلك الإنسان كالمدن التي قلبها الرب ولم يندم فيسمع صياحا في الصباح وجلبة في وقت الظهيرة. لأنه لم يقتلني من الرحم فكانت لي أمي قبري و رحمها حبلى إلى الأبد. لماذا خرجت من الرحم لارى تعبا وحزنا فتفنى بالخزي ايامي.

هذه حرب جديدة باليأس والألم استغل فيها عدو الخير إحساس النبي البشرى العادي من الجرح نتيجة إهانات فشحور لهُ. والحياة تتخللها فترات تنتصر فيها النعمة وفترات تتغلب فيها الآلام الإنسانية. ولكن طالما هناك حياة فليكن لنا رجاء (مز22:31 + 7:77 + أى1:3).

أقنعتني يا رب فاقتنعت  والححت علي فغلبت

هذه هي طريقة الله مع أولاده فهو لا يحب ان يضغط عليهم. وهذا ما عمله الله معآدم، فحينما أراد الله ان يخلق حواء لتعين آدم، أظهر الله لآدم ان المخلوقات كلها ذكر وأنثي. وحينما إقتنع آدم صار هذا مطلبا له. وحينئذ خلق الله حواء. وهذا الإقناع يأتي في داخلنا من صوت الروح القدس الهادئ بل يلح علينا ويدعونا للتوبة = يبكت علي خطية…..ويدعونا لعمل البر = يبكت علي بر….. ويعطينا قوة ويقنعنا أن الشيطان ليس أقوي منا فقد دانه المسيح بصليبه = يبكت علي دينونة….. . وإن إنحرفنا وأدبنا الله بتجربة وإشتكي الشيطان في أذاننا أن أحكام الله قاسية، يسمعنا صارخًا يا آبا الآب، فنقتنع ان الأب لا يمكن ان يؤذي ابنه، والروح القدس لا يصرخ بل يسمعنا بوضوح ان الله أبونا هو يحبنا ولا يود ان يؤذى أبناءه. ولكن حتى تكون اذاننا مهيأة لسماع صوت الروح القدس، علينا بالتوبة لتنفتح أذاننا بل حواسنا الداخلية كلها، فنسمع ما يقوله الروح للكنائس (رؤ 2، 3). ومن تكون له هذه الأذان ويسمع سيصرخ هو من قلبه لله، حتى وهو وسط تجربته، شاكرًا الله علي محبته التي يفتقده بها، ليعده للسماء، حتى لو لم يكن فاهما ” فلسنا نفهم الآن حكمة الله لكننا سنفهم فيما بعد” (يو 13: 7). وكلما نسلم الأمر لله أبونا السماوي تنفتح عيوننا علي محبته بالاكثر فنصرخ أنت يا رب أبونا ولا نستحق كل هذه المحبة.

زر الذهاب إلى الأعلى