تفسير سفر إرميا ١٩ للقمص أنطونيوس فكري

1- هكذا قال الرب اذهب و اشتر ابريق فخاري من خزف وخذ من شيوخ الشعب ومن شيوخ الكهنة. 2- واخرج إلى وادي ابن هنوم الذي عند مدخل باب الفخار وناد هناك بالكلمات التي اكلمك بها. 3- وقل اسمعوا كلمة الرب يا ملوك يهوذا وسكان أورشليم هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل هانذا جالب على هذا الموضع شرا كل من سمع به تطن اذناه. 4- من أجل أنهم تركوني وانكروا هذا الموضع وبخروا فيه لالهة أخرى لم يعرفوها هم ولا اباؤهم ولا ملوك يهوذا وملاوا هذا الموضع من دم الازكياء. 5- وبنوا مرتفعات للبعل ليحرقوا أولادهم بالنار محرقات للبعل الذي لم اوص ولا تكلمت به ولا صعد على قلبي. 6- لذلك ها أيام تاتي يقول الرب ولا يدعى بعد هذا الموضع توفة ولا وادي ابن هنوم بل وادي القتل. 7- و انقض مشورة يهوذا وأورشليم في هذا الموضع واجعلهم يسقطون بالسيف أمام اعدائهم وبيد طالبي نفوسهم واجعل جثثهم اكلا لطيور السماء ولوحوش الأرض. 8- واجعل هذه المدينة للدهش والصفير كل عابر بها يدهش ويصفر من أجل كل ضرباتها. 9- واطعمهم لحم بنيهم ولحم بناتهم فياكلون كل واحد لحم صاحبه في الحصار والضيق الذي يضايقهم به اعداؤهم وطالبو نفوسهم. 10- ثم تكسر الابريق أمام اعين القوم الذين يسيرون معك. 11- وتقول لهم هكذا قال رب الجنود هكذا اكسر هذا الشعب وهذه المدينة كما يكسر وعاء الفخاري بحيث لا يمكن جبره بعد وفي توفة يدفنون حتى لا يكون موضع للدفن. 12- هكذا اصنع لهذا الموضع يقول الرب ولسكانه واجعل هذه المدينة مثل توفة. 13- وتكون بيوت أورشليم وبيوت ملوك يهوذا كموضع توفة نجسة كل البيوت التي بخروا على سطوحها لكل جند السماء وسكبوا سكائب لالهة اخرى. 14- ثم جاء إرميا من توفة التي ارسله الرب اليها ليتنبا ووقف في دار بيت الرب وقال لكل الشعب. 15- هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل هانذا جالب على هذه المدينة وعلى كل قراها كل الشر الذي تكلمت به عليها لأنهم صلبوا رقابهم فلم يسمعوا لكلامي.

فساد الإنسان اضطر الله أن يكون تعليمه وصية فوق وصية (أش10:28) أي درس وراء درس حتى يكون الإنسان بلا عذر. وهذه الحادثة ستجرى في وادى ابن هنوم حيث قدموا أولادهم ضحايا لمولك الإله الوثني. (وبعد ذلك تحول مكانًا لحرق النفايات) وفي هذا الوادى سيكون لهم أفظع مآسيهم حيث يدفنون بل تلقى جثثهم بلا دفن ويكون وادى القتل. وستكون كل أورشليم بهذه الصورة. ولاحظ في (2) نادِ هناك بالكلمات التي أكلمك بها = فالله لم يخبره مقدمًا بما سوف يقول. ولكن كان لهُ ثقة أن يذهب وهناك يكلمه الله. وهذا درس لكل من يرسلهُ الله “لا تخف فالروح القدس يعلمك ما تتكلم به” (مت20،19:10) ومن (3-9) يعدد لهم خطاياهم والشر الآتي عليهم بسببها. وفي آية (9) حدث هذا فعلًا في حصار بابل لهم (مرا20:2، 10:4) وحدثنا يوسيفوس المؤرخ اليهودي أن هذا حدث فعلًا أثناء الحصار الروماني لأورشليم. توفة = أو تفتة مكان في وادى ابن هنوم والكلمة تعني مكان الحريق أو الفرن.

وفي (11،10) يكسر النبي الإناء الفخارى. ولكن هذا الإناء الفخارى يشير للشعب ولأورشليم. فهل يكسر الله شعبه؟ قلنا سابقًا أن الله هو الفخارى الحكيم وهو يظل يحاول إصلاح الإناء ولكن تأتى ساعة يستحيل فيها الإصلاح حين يصبح الإناء صلبًا وحينئذ يجب كسره فلا أمل في إصلاحه. وكان على النبي أن يكسر هذا الإناء بعد أن ينتهي من عظته. إشارة لهذا الشعب الذي تقسى في الخطية. أما لو كان مازال طريًا ما كان الله قد كسره بل أعاد تشكيله. وطبعًا إستخدام الأمثال يطبع في القلوب الفكرة التي يريدها الله. وكل من ظنَّ نفسه قويًا فليعلم أنه إناء خزفى (راجع 2كو7:4) . فالقديسين قوتهم ليست في ذواتهم فهم ليسوا إلا أوان خزفية ضعيفة لكن فضل القوة لله لا من إنسان.

وفي (13) بخروا على سطوحها = كانوا يقيمون مذابح للأوثان فوق سطح كل منزل للتبرك بها. لكل جند السموات = أي للنجوم والأفلاك. وهم أصبحوا لا يخجلون من هذا فيمارسونه علنًا وفي (15،14) رجع النبي من توفة بعد كسر الإبريق ودخل الهيكل وإستأنف كلامه عن الموضوع عينه وهذا ما أثار ضده رجال الدين.

 

تعليق على الإصحاحين 19،18.

خلق الله الإنسان كأجمل وأكمل ما يكون، وسقط الإنسان وفسد، لكن الله لم يترك الإنسان لهذه النهاية. فالله يشبه نفسه بفخارى قادر أن يعيد تشكيل الإنسان. ولكننا نرى هنا أن الله يريد أن يعيد تشكيل وتجديد خلقتنا، فنصير في المسيح خليقة جديدة (2كو17:5). أو إذا رفضنا يكون في هذا هلاكنا، وهذا ما يعمله الله الآن مع كل منا، فهو يحاول بروحه القدوس أن يعيد تشكيل كل منا فنكون على صورة المسيح (غل19:4)، ولكن من تقسى قلبه فهذا يهلك. فالله يريد أن جميع الناس يخلصون (1تى4:2) لكن إرادتي قد تعوق إرادة الله (مت37:23-39) فكما قال القديس أغسطينوس “الله الذي خلقك بدونك لا يستطيع أن يخلصك بدونك. وهذا رأيناه هنا فالإناء الذي مازال طريًا” هو القلب الذي فيه رجاء أن يقدم توبة، هذا يعيد الله تشكيله وتجديده فهو الفخارى الحكيم. أما الإناء الذي تقسى تمامًا فهذا يتم كسره. وهذا رأيناه مثلًا في:-

إسرائيل المملكة الشمالية تكسر كإناء قاس بيد أشور، لكن يهوذا كان ما زال فيها رجاء، إذًا لتذهب للسبي فيعاد تشكيلها. والسبى يقال عنه هنا هأنذا مصدر عليكم شرًا وهو سبي بابل. (أية11:18).

أورشليم كان فيها آنية قابلة لإعادة التشكيل، هذه أرسلها الله إلى بابل وأسماها التين الجيد إرمياء (24)، أماالتين الردىء فيكسر في حريق أورشليم. وتجديد الخليقة قام به المسيح حين نزل وتجسد، وكان إرمياء رمزًا للمسيح، لذلك نسمع قول الله له إنزل (2:18)، وكأنها نبوة عن نزول المسيح ليبدأ الخلقة الجديدة على أن الخلقة الجديدة هي أيضًا عمل الروح القدس، إصبع الله (مت28:12) + (لو20:11) ورمزها هنا أصابع الفخارى، وهنا نفهم أن إعادة التشكيل قد تستلزم بعض الآلام والتجارب التي بها يكمل الإنسان، فالأصابع تضغط على طينالإناء ليعاد تشكيله. والضغط قد يؤلم، أصابع الله ضغطت على أيوب وعلى بولس ليعيد الله تشكيلهم. ولكن ليس بالتجارب وحدها تعاد خلقة الإنسان، بل أولًا بالولادة الجديدة من الماء والروح (يو5:3) + (رو1:6-14) ثم بتجديد الروح القدس (تى3: 5 + كو3: 10). ثم يقوم الروح القدس بالتعليم والتذكير بكلام الله (يو26:14) وإذا أخطأ الإنسان المؤمن يقوم الروح القدس بتبكيته (يو8:16) . وكلمة تبكيت تعنى أيضًا إقناع، وكما نسمع في (إر7:20) أن الروح يقنع النبي بل يلح عليه “أقنعتنى يا رب فإقتنعت وألححت عليَّ فغلبت” فالروح يظل يعمل في المعمد، الممسوح بالميرون ليعيد خلقته، ويثبته في المسيح (2كو21:1) ومن هو ثابت في المسيح يخلص. لذلك يقول السيد المسيح “اثبتوا فيَّ وأنا فيكم” (يو4:15) أما من يرفض الثبات في المسيح فهذا يتقسى قلبه، من يطفىء الروح (1تس19:5) لا يعود يسمع صوت إقناع ولا توبيخ أو تبكيت الروح القدس، فهذا يصير كالإناء الذي يستحق الكسر. وكما رأينا أن الله يعمل ليجدد طبيعتنا، لكن إرادتى تحدد النتيجة، فإن تجاوبت مع الله أحصل على الخيرات، وإن إبتعدت عن الله تأتى الشرور عليَّ، ولكن الله يستخدم أسلوب إنساني ليشرح هذا فيقول أن الله يندم، والله قطعًا لا يندم على قرار يتخذه، لكن أنا بإرادتى أغيِّر طريقى، وهذا ما يبدو للآخرين كأن قرار الله قد تغير، فأجد الخير عوضًا عن الشر أو العكس والله يستخدم ألفاظًا بشرية كقوله (“أصابع الله”، “ويدى الله”… إلخ).

ولاحظ الطبيعة المنحرفة للبشر، الذين يجرون وراء كل ما هو جديد، وكيف يعاتب الله على ذلك (4:19) لم يعرفوها هم ولا آباؤهم . فلماذا نغير طريق أبائنا، وما استلمناه منهم، وهذا ما يدعو الله له في (نش8:1) أن نسير وراء أثار الغنم لنجد الطريق، لذلك تهتم الكنيسة بتعاليم الآباء وتقرأ دائمًا سيرتهم في السنكسار cuna[arion (عب7:13) و(آية13:18) نرى تطبيقها الآن في كنيسة الأمم التي تقشعر مما عمله اليهود حين صلبوا المسيح.

زر الذهاب إلى الأعلى