العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

التغصب سبيل الامتلاء من الروح

‏العظة التاسعة عشرة من العظات الخمسون

[المسيحيون الذين يبتغون التقدم والنمو ينبغي لهم أن يغصبوا ذواتهم نحو كل صلاح ، حتى يُفتدوا من الخطيئة الساكنة فيه ويمتلئوا من الروح القدس]

[أ] ضرورة التغضب نحو جميع الفضائل

1 – الذي يريد أن يأتي إلى الرب ويؤهل للحياة الأبدية ويصير مسكناً للمسيح ويمتلئ من الروح القدس ، حتى يمكنه أن يصنع ثمار الروح ووصايا المسيح بنقاوة وبلا لوم ، يلزمه أن يبدأ هكذا : أولا يؤمن بالرب بثبات ويكرس نفسه بالتمام لكلمات وصاياه ، وينبذ العالم بالكلية ، لكي لا ينشغل عقله البتة بشيء من المنظورات. وينبغي له أن يواظب على الصلاة كل حين ، منتظراً الرب في إيمان ، ومتوقعاً على الدوام افتقاده ومعونته ، وموجها نظر ذهنه أبداً صوب هذا الغرض . ثم يتوجب عليه ، بسبب الخطيئة الملازمة له ، أن يغصب نفسه إلى كل صلاح وإلى كل وصايا الرب : فمثلاً ليغصب نفسه إلى التواضع أمام كل إنسان ، وليحسب نفسه أدنى وأشر الكل، غير طالب من أحد كرامة أو مديحاً أو مجد الناس كما هو مكتوب في الإنجيل[1] ، بل جاعلاً الرب وحده ووصاياه أمام ناظريه على الدوام ، مبتغياً إرضاءه هو فقط في وداعة قلب ، كما يقول الرب : « تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب ، فتجدوا راحة لفوسكم » ( مت11: 29).

2 – بالمثل فليُعود نفسه بكل قوته أن يكون رحيماً، لطيفاً، شفوقاً، صالحاً، كما يقول الرب : « كونوا صالحين ولطفاء كما أن أباكم السماوي أيضا رحيم » (لو 6 : 36 – حسب النص ) ، وأيضاً يقول : « إن كنتم تحبوبني فاحفظوا وصاياي » ( يو 14 : 15) ، وأيضا : « اغصبوا ذواتكم ، لأن الغاصبين يخطفون ملكوت السماوات » ( مت ۱۲:۱۱ حسب النص ) ، و « اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الذيق » ( لو 13: 24) . وفوق الكل فليتذكر بلا نسيان تواضع الرب وسيرته ودعته وسلوكه كمثال لا يبرح ذاكرته ، وليواظب على الصلوات ، متوسلاً على الدوام بإيمان ، لكي يأتي الرب ويسكن فيه ويُكمله[2] ويمكنه من جميع وصاياه، ولكي يصير الرب ذاته مسكناً للنفس. وهكذا فإن ما يصنعه الآن بتغصب ، مُخضعاً قلبه ، سيفعله فيما بعد طوعاً إن كان يُعود نفسه دوماً على الصلاح ، ويذكر الرب كل حين ، وينتظره بحب شديد. فإن الرب حينئذ لما ينظر مثل هذا العزم وهذه الحمية الحسنة : كيف أنه يغصب ذاته إلى تذكر الرب وإلى الصلاح على الدوام ، و يُكره قلبه – وإن لم يشأ – إلى التواضع والوداعة والمحبة ، ويسلك بتغصب بكل ما في وسعه ، فإنه يصنع حينئذ رحمته معه ويفتديه من أعدائه ومن الخطيئة الساكنة فيه ويملأه من الروح القدس . وهكذا مُذ ذاك يعمل بالحق كلَّ وصايا الرب بلا تغصب ولا تعب ، بل بالأحرى الرب نفسه هو الذي يعمل وصاياه الخاصة فيه ، فيثمر عندئذ بنقاوة ثمر الروح[3]

3 – فيجب أولاً على من يأتي إلى الرب أن يغصب ذاته هكذا إلى الصلاح ، ولو لم يرد قلبه ، منتظراً رحمته كل حين في إيمان لا ارتياب فيه ؛ فيغصب نفسه إلى المحبة ولو لم يكن عنده محبة ، ويغصب نفسه إلى الوداعة ولو لم يكن عنده وداعة ، ويغصب نفسه إلى أن يكون رؤوفاً ذا قلب رحيم، ويغصب نفسه إلى المحقرة ، وإلى طول الأناة إذا ما احتُقر ، وإلى عدم الغيظ إن ازدري به أو أُهين ، كالمكتوب : « لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء » ( رو ۱۲ : ۱۹ ) . وليغصب نفسه إلى الصلاة ، حتى ولو لم يكن له صلاة روحانية . وهكذا لما ينظره الله مجاهداً على هذا النحو ومكلفاً نفسه عنوة ، رغم إباء قلبه ، يهبه حينئذ صلاة الروح القدس الحقيقية ، ويهبه محبة حقيقية ، ووداعة حقيقية ، و « أحشاء رأفة »[4] ، ولطفاً حقيقياً، وبالإجمال يملأه من ثمر الروح.

4 – أما إن كان أحد ، بسبب افتقاره إلى الصلاة ، يغصب نفسه إلى الصلاة وحدها لكي يحظى بصلاة النعمة ، ولكنه لا يغصب نفسه إلى الوداعة والتواضع والمحبة وباقي وصايا الرب ، ولا يُبالي ويتوجع ويجاهد لتكميل تلك الأمور بأقصى ما له من نية وإرادة حرة ، فإنه يعطى في بعض الأوقات – جزئياً ، وبحسب طلبته – صلاة النعمة في راحة وفرح من الروح القدس ، غير أنه يلبث في سيرته على الحال التي كان عليها قبلاً ، فلا تكون له وداعة لأنه لم يلتمسها بتوجع ولا سبق فأعد نفسه ليصير هكذا، ولا يظفر بتواضع لأنه لم يطلبه ولا غصب نفسه إليه ، ولا يقتني محبه نحو الجميع لأنه لم يعبأ بهذا الأمر ولا جاهد من أجله بالسؤال في الصلاة وبصرف عنايته إلى ممارسته ، ولا يكون له إيمان وثقة من نحو الله لأنه ما عرف ذاته ولا ميز أنه عادم من هذا ولا كد وتجشم الضيق طالباً من الرب أن يظفر بإيمان وطید به وثقة حقَّة من نحوه.

5- لأنه من الضرورة بمكان لكل أحد أنه كما يغصب نفسه ويقتسرها إلى الصلاة ، وإن لم يرغب القلب ، هكذا أيضا يغصبها إلى الثقة ، وهكذا أيضا إلى التواضع ، وهكذا إلى المحبة ، وهكذا إلى الوداعة وكذا إلى البراءة والبساطة ، وهكذا – كما هو مكتوب – « إلى كل صبر وطول أناة بفرح » ( کو ۱ : ۱۱ ) ، وهكذا إلى احتقار ذاته وحُسبانها فقيرة وأخيرة ، وهكذا إلى عدم التكلم بما لا يجدي نفعاً بل إلى اللهج كل حين بما هو لله والتكلم به بالفم والقلب ، وهكذا إلى عدم السخط وعدم الصياح ، كما هو مكتوب : « ليرفع من بينكم كل مرارة (وسخط)  وغضب وصياح (وتجديف)[5] مع كل خبث » ( اف 4 : 31) . ويغصبها أيضا إلى كل طرق الرب ، وإلى كل ممارسة للفضيلة وللسيرة الصالحة الحسنة ، وإلى كل سلوك صالح ، وإلى كل تواضع ووداعة ، وإلى عدم الكبرياء والتشامخ والانتفاخ والتكلم بالشر ضد أحد.

6 – إلى جميع هذه يلزم أن يغصب نفسه ذاك الذي يريد أن يكون مُزكی ومرضياً عند المسيح ، حتى إذا ما رأى الرب شديد رغبته ونيته في أن يسلك بتغضب ويقتسر ذاته هكذا إلى كل صلاح وبساطة ولطف وتواضع ومحبة  وصلاة ، حينئذ يعطيه الرب كل ذاته ويصنع الي نفسه فيه بالحق وبنقاوة جميع هذه الأمور بلا تعب ولا تغصب ، تلك التي كان قبلاً لا يقوى على حفظها حتی ولا كرها بسبب الخطيئة الساكنة فيه، وتصبح له سائر أعمال الفضيلة وكأنها طبيعية. لأنه مُذ ذاك يأتي الرب ويصير فيه وهو يصير في الرب[6] ويعمل اللي فيه وصاياه الخاصة دونما مشقة ، مالئاً إياه بثمر الروح. أما إن كان أحد يغصب نفسه إلى الصلاة فقط ريثما ينال نعمتها من لدُن الله ، دون أن يغصب نفسه بالتساوي ويقتسرها ويُعودها على هذه الفضائل السابق ذكرها، فإنه لا يمكنه أن يصنعها بالحق وبنقاوة وبلا لوم . فالذي يلزمه هو أن يسبق ويعد نفسه بكل قدرته إلى الصلاح، إذ يحدث أحياناً أن تنعطف نحوه النعمه الإلهية إذا ما طلب وتوسل إليها – لأن الله صالح وخيّر ويهب الذين يسألونه ما يطلبون – ولكن لأنه لا يملك الفضائل آنفة الذكر ولم يعتد عليها ولم يسبق ويُهيئ نفسه لها ، فإنه وإن ينلها ، يفقد النعمة التي نالها ويسقط في الكبرياء ، أو (على الأقل ) لا يتقدم وينمو في النعمة التي صارت إليه، لأنه لم يكترس نفسه باختياره إلى وصايا الرب. ذلك أن مسكن الروح القدس وراحته هما التواضع والمحبة والوداعة وبقية وصايا الرب .

7 – فينبغي إذا لمن يروم حقاً أن يرضي الله ويقبل منه نعمة الروح القدس السماوية وينمو ويُكمَّل في الروح القدس ، أن يغصب نفسه إلى جميع وصايا الله ، وأن يخضع لها قلبه الرَّافض ، حسب المكتوب : « لأجل هذا تجاة كل وصاياك تقومت ، وكل طريق ظُلم أبغضت » ( مز ۱۱۸ : ۱۲۸ س ) . لأنه كما يغصب الإنسان نفسه ويقتسرها إلى المثابرة على الصلاة حتى يُقوم هذا ؛ بالمثل فإنه – إن يشأ – يغصب نفسه أيضا ويقتسرها إلى جميع أعمال الفضيلة ويعتادها كعادة صالحة. وهكذا – بطلبه وتوسله إلى الرب على الدوام ، وظفره بطلبته ، ونیله مذاقة الله ، واشتراكه في الروح القدس – يُنمي النعمة المعطاة له ويُنعشها ، إذ تستريح في اتضاعه ومحبته ووداعته .

[ب] سُكنى الروح القدس في القلب

8 – فالروح نفسه يُنعم عليه بهذه ويُعلمه الصلاة الحقيقية والمحبة الحقيقية والوداعة الحقيقية ، هذه التي سبق وغصب نفسه إليها وطلبها وعُني بها ولهج فيها فأُعطيت له . وهكذا إذ ينمو ويُكمل في الله ، يُحسب أهلاً لأن يرث الملكوت . فإن المتواضع لا يسقط أبداً، لأنه من أين يسقط من هو كائن تحت الكل ؟ ![7] فالكبرياء إنما هو مذله[8] عظيمة ، بينما الاتضاع رفعة عظيمة وكرامة وسمو . لذلك فلنغصبن نحن أيضاً ذواتنا ونقتسرها إلى التواضع – ولو لم يُرد قلبنا – وإلى الوداعة وإلى المحبة ، متوسلين وضارعين إلى الله في إيمان ورجاء ومحبة ، بلا انقطاع، في انتظار هذا مقداره وترقب، لكي يرسل روحه إلى قلوبنا حتى نصلي ونسجد لله “بالروح والحق” [9].

9- فيصلي الروح نفسه في داخلنا ، لكي يعلمنا الروح ذاته الصلاة الحقة التي لا نقتنيها الآن حتى ولو قسراً، والتواضع الحقيقي الذي لا نقدر أن نحققه الآن حتى ولو غصباً ، و « أحشاء رأفات ولطفاً»[10] ، وكل وصايا الرب – يعلمنا أن نعملها بالحق وبلا تعب[11] ولا تغصب . لأن الروح نفسه يعرف أن يملأنا بثماره ، وهكذا – إذا ما أتممنا وصايا الله بواسطة روحه الذي هو وحده يعرف مشيئة الرب ، وإذا كملنا الروح في نفسه وتكامل هو فينا ، وصرنا مُطهرين من كل دنس الخطيئة وعيبها – يزف نفوسنا للمسيح ، طاهرة وبلا عيب ، كعرائس بهية ، فنستريح في الله ، في ملكوته ، ويستريح الله فينا إلى الدهور التي لا نهاية لها . فالمجد لرأفاته ورحمته ومحبته ، لأنه لمثل هذه الكرامة والمجد أهل جنس البشر – أهلهم بنين للآب السماوي ، ودعاهم إخوته الأخصاء ، فله المجد إلى الدهور ، آمین . 


  1.  انظر مثلاً : يو5: 41 ، 12: 43 .
  2.  الفعل يمكن في هذا السياق أن يعني يُكمل ( عب 21:13 ؛ 1بط5: 10) ، أو يُهيئ ( مت 16:21 ؛ عب 10 :5) . 
  3. انظر : غل 5 : 22، 23.
  4. کو 12:3
  5.  وردت كلمتا ” سخط وتجديف ( كما في النص الإنجيلي ) في ال PG فقط  PG 34,645 C
  6.  انظر : یو 20:14 .
  7. هذا المنطق الروحي البسيط البليغ عن عدم إمكانية سقوط المتواضع ، نجده متغلغلاً ثنايا بستان الرهبان وعلى أفواه الآباء القديسين ، ونورد هنا على سبيل المثال لا الحصر ثلاثة أقوال تحوي ذات المنطق:
    + قال أنبا برصنوفيوس : المتضع كائن في أسفل ، والذي هو في أسفل فلن يقع . ( قول 267)
    + قال شيخ : كما أن الأرض لا تسقط أبداً لكونها موضوعة هكذا إلى أسفل ، كذلك من وضع ذاته لا يسقط أصلاً ( قول 555)
    + قال أنبا بيمين ( أحد تلاميذ أنبا مقار الكبير) : كما أن الأرض لا تسقط لأنها أسفل ، هكذا من يضع نفسه لا يسقط . ( قول723) 
  8. ) = تواضع ، ولكن هنا ترد الكلمة بمعناها السلبي . 
  9. يو 4 : ۰24
  10. کو 3: 12.
  11. وردت في ال PG ” بلا حزن” بدلاً من ” بلا تعب” PG34,649 A 

فاصل

زر الذهاب إلى الأعلى