تفسير سفر إرميا ٢٩ للقمص أنطونيوس فكري

الجدال السابق بين أرمياء والأنبياء الكذبة كان سابقًا عن طريق الوعظ. وتحول الآن ليكون عن طريق الكتابة لأن بعض الأنبياء الكذبة ذهب لبابل بينما أرمياء باقي بأورشليم.

 

الآيات 1-7:-  1- هذا كلام الرسالة التي ارسلها إرميا النبي من أورشليم إلى بقية شيوخ السبي والى الكهنة والانبياء والى كل الشعب الذين سباهم نبوخذناصر من أورشليم إلى بابل. 2- بعد خروج يكنيا الملك والملكة و الخصيان ورؤساء يهوذا وأورشليم والنجارين والحدادين من أورشليم. 3- بيد العاسة بن شافان وجمريا بن حلقيا اللذين ارسلهما صدقيا ملك يهوذا إلى نبوخذناصر ملك بابل إلى بابل قائلا. 4- هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل لكل السبي الذي سبيته من أورشليم إلى بابل. 5- ابنوا بيوتا واسكنوا واغرسوا جنات وكلوا ثمرها. 6- خذوا نساء ولدوا بنين وبنات وخذوا لبنيكم نساء و اعطوا بناتكم لرجال فيلدن بنين وبنات واكثروا هناك ولا تقلوا. 7- و اطلبوا سلام المدينة التي سبيتم اليها وصلوا لاجلها إلى الرب لأنه بسلامها يكون لكم سلام.

في آية (2) الملكة = هي أم يكنيا والخصيان هم خدام الملك. ولننظر محبة الله الذي لم ينس أولاده وهم في السبي مشتتين. وأرسل إرمياء خطابه بيد سفراء صدقيا الذين أرسلهم لملك بابل ليجددوا العهد أو ليطلبوا معاهدة سلام. وغالبًا فحين يرى من في السبي هؤلاء ستزيد أمالهم في الرجوع سريعًا بمقتضى معاهدة السلام هذه. خصوصًا أن الأنبياء الكذبة عشموهم بهذا (8). ولكن الله يذكرهم أنه هو إلههم لم ينساهم وهو سيفك سبيهم في زمن محدد. وهذا يشجعهم أن لا يسيروا وراء أوثان بابل لأن الله لو كان قد رفضهم ما كان أرسل لهم أي شيء. لقد شعر المسبيين أن الله تركهم ورفضهم لذلك هنا يشجعهم الله. هكذا يفكر خطأً كل من يكون في تجربة صعبة.

ولاحظ في (4) لكل السبي الذي سبيته = الله يشعرهم أنه هو الذي صنع وأنهم هم في يده. هو الذي أخذهم للسبي وليس نبوخذ نصر فهذا لم يكن لهُ سلطان إن لم يكن قد أُعطِى من فوق. لذلك علينا أن نقبل المصائب التي تأتى علينا من أي أحد على أنها من يد الله. والله من محبته هنا يخبرهم عن المستقبل وأنهم لن يرجعوا سريعًا حتى لا يعيشوا في اضطراب. بل هو يريد سعادتهم وأن يحيوا حياة طبيعية وتكون لهم أسرهم. هناك كانوا يبكون حينما يتذكرون صهيون وهم لن يروا أرضهم لكن إن عاشوا في تقوى فسيرى أبناءهم وطنهم. وكيف نستفيد نحن من هذا؟ بأن نعيش فرحين في أي ظرف. وفي (7) يطلب منهم النبي أن يخضعوا للحاكم ويعيشوا في سلام بلا ثورات فيتعامل معهم البابليين باللطف لذلك تصلى الكنيسة للملك وللحكومات حتى لو اضطهدتها (1بط11:2-17) + (رو13).

 

الآيات 8-14:- 8- لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل لا تغشكم انبياؤكم الذين في وسطكم وعرافوكم ولا تسمعوا لاحلامكم التي تتحلمونها. 9- لأنهم انما يتنباون لكم باسمي بالكذب أنا لم ارسلهم يقول الرب. 10- لأنه هكذا قال الرب أني عند تمام سبعين سنة لبابل اتعهدكم واقيم لكم كلامي الصالح بردكم إلى هذا الموضع. 11- لأني عرفت الافكار التي أنا مفتكر بها عنكم يقول الرب افكار سلام لا شر لاعطيكم اخرة ورجاء. 12- فتدعونني و تذهبون وتصلون إلى فاسمع لكم. 13- وتطلبونني فتجدونني إذ تطلبونني بكل قلبكم. 14- فاوجد لكم يقول الرب وارد سبيكم واجمعكم من كل الامم ومن كل المواضع التي طردتكم اليها يقول الرب واردكم إلى الموضع الذي سبيتكم منه.

الأحلام هي أحلامهم الكاذبة أي التي من الشيطان أو أحلام اليقظة أي رغباتهم الشخصية. والله يحدد هنا ثانية ميعاد رجوعهم أنه بعد 70 سنة حتى لا يخدعهم أحد. وهذا هو الوقت المناسب الذي يراه الله وهو يعطينا ليس بحسب توقعاتنا وأحلامنا فهذه غاشة بالتأكيد ولكنه هو الوحيد الذي يعرف متى يؤتى التأديب ثماره. ولاحظ أن الله لهُ أفكار سلام نحو الشعب لا شر، فهذا السبي هو للسلام فما يهتم به الرب هو أن أعطيكم آخرة = فالله كان يمكن أن يعيدهم سريعًا بل أن لا يسمح بالسبى ولكن كان هذا الشعب سيخسر آخرته. وفي (13) وتطلبوننى فتجدوننى = هذه فائدة أخرى للضيقة، أن يطلب الذي في ضيقة الله بل حينئذ وأنتم في الشدة تطلبوننى من كل قلبكم = وما علينا حين يأتي الخلاص سوى أن نستمر في الصلاة والشكر والتسبيح فلا نخسر بركات الضيقة. وهنا قاعدة أساسية فمن يطلب الله بكل قلبه لا يتركه الله “اسألوا تعطوا”.

 

الآيات 15-23:- 15- لانكم قلتم قد اقام لنا الرب نبيين في بابل. 16- فهكذا قال الرب للملك الجالس على كرسي داود ولكل الشعب الجالس في هذه المدينة اخوتكم الذين لم يخرجوا معكم في السبي. 17- هكذا قال رب الجنود هانذا ارسل عليهم السيف والجوع والوبا واجعلهم كتين رديء لا يؤكل من الرداءة. 18- والحقهم بالسيف والجوع والوبا واجعلهم قلقا لكل ممالك الأرض حلفا ودهشا وصفيرا وعارا في جميع الامم الذين طردتهم اليهم. 19- من أجل أنهم لم يسمعوا لكلامي يقول الرب إذ ارسلت اليهم عبيدي الانبياء مبكرا ومرسلا ولم تسمعوا يقول الرب. 20- وانتم فاسمعوا كلمة الرب يا جميع السبي الذي ارسلتهم من أورشليم إلى بابل. 21- هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل عن اخاب بن قولايا وعن صدقيا بن معسيا اللذين يتنبان لكم باسمي بالكذب هانذا ادفعهما ليد نبوخذراصر ملك بابل فيقتلهما أمام عيونكم. 22- و تؤخذ منهما لعنة لكل سبي يهوذا الذين في بابل فيقال يجعلك الرب مثل صدقيا و مثل اخاب اللذين قلاهما ملك بابل بالنار. 23- من أجل انهما عملا قبيحا في إسرائيل وزنيا بنساء أصحابهما وتكلما باسمي كلاما كاذبا لم اوصهما به و انا العارف والشاهد يقول الرب.

بعد أن شجع إرمياء المسبيين بدأ يهاجم الأنبياء الكذبة على تشجيعهم الشعب على الخطية . ويبدو أن رسائل إرمياء قابلها من في السبي بإستخفاف قائلين لماذا يشغل إرمياء بالهُ بنا ونحن قد أقام الله لنا هنا نبيين ، ونحن نكتفى بهما ولا نريد أن نسمع من أنبياء أورشليم (15). وفي (16) وهؤلاء الأنبياء الكذبة خدعوا من في السبي ووعدوهم بعودة سريعة ولكن الله هنا يقول “هل تظنون أن من في أورشليم أحسن منكم لأنهم لم يذهبوا للسبى؟ لكن لا فهم كالتين الردىء، وعقوبتهم في (17-19). وفي (18)” حلفًا = أي لعنة. وخطية الأنبياء الكذبة بشعة فالكذب نفسه خطية رديئة وإذا كان الكذب يُضلل أولاد الله فهو أردأ، وإذا كان باسم الله فهو أسوأ الكل. ومن لهُ هذه الجرأة فلا عجب أن يصنع أي خطية أخرى وها نحن نرى هذين النبيين يزنيان بنساء أصحابهما (23). ولذلك عاقبهما الرب بأن أسلمهم ليد ملك بابل، غالبًا لإثارتهم الشعب بأحلام الرجوع وليس لزناهم. وهم ماتوا وصار موتهم عبرة عكس القديسين الذين يصير موتهم مجدًا.

 

الآيات 24-32:- 24- وكلم شمعيا النحلامي قائلا. 25- هكذا تكلم رب الجنود إله إسرائيل قائلًا من أجل أنك ارسلت رسائل باسمك إلى كل الشعب الذي في أورشليم والى صفنيا بن معسيا الكاهن والى كل الكهنة قائلا. 26- قد جعلك الرب كاهنا عوضا عن يهوياداع الكاهن لتكونوا وكلاء في بيت الرب لكل رجل مجنون ومتنبئ فتدفعه إلى المقطرة والقيود. 27- والان لماذا لم تزجر إرميا العناثوثي المتنبئ لكم. 28- لأنه لذلك ارسل الينا إلى بابل قائلًا انها مستطيلة ابنوا بيوتا واسكنوا واغرسوا جنات وكلوا ثمرها. 29- فقرا صفنيا الكاهن هذه الرسالة في اذني إرميا النبي. 30- ثم صار كلام الرب إلى إرميا قائلا.31- ارسل إلى كل السبي قائلًا هكذا قال الرب لشمعيا النحلامي من أجل أن شمعيا قد تنبا لكم وأنا لم ارسله وجعلكم تتكلون على الكذب. 32- لذلك هكذا قال الرب هانذا اعاقب شمعيا النحلامي ونسله لا يكون له إنسان يجلس في وسط هذا الشعب ولا يرى الخير الذي ساصنعه لشعبي يقول الرب لأنه تكلم بعصيان على الرب.

كنا نتوقع بعد هذا الخطاب لأرمياء أن يشكره المسبيين ولكن الأنبياء الكذبة استغلوه ضدَه. النحلامى = غالبًا معناها الحالم أي الذي يرى رؤاه في الأحلام. وشمعيا هذا أرسل رسالة دورية لكل الكهنة والشعب ضد أرمياء. وكانت هذه الرسالة موجهة أساسًا لصفنيا بن معسيا = وربما كان مساعدًا لرئيس الكهنة أو نائبًا له. وعلى أية حال فيبدو أنه شخص لهُ اعتباره مثل فشحور. وفحوى رسالة شمعيا أنه يقول لصفنيا أن الله أقامك مكان يهوياداع فتولى مركزك ونفذ ما جاء بالناموس ضد أرمياء. فهو يستغل كلمة مجد الله ليغطى أفكاره الشريرة نحو أرمياء (أش5:66) + (يو2:16). وهو اتهم أرمياء بأنه نبي كاذب ومجنون (أي ملموس بالشياطين)، إذًا هو يجب قتله وقد اعتمد في كلامه على خطاب أرمياء للمسبيين وفيه كان يخبرهم بأن مدة السبي مستطيلة = أي ستطول. ولاحظ العمى الذي يصيب القلب. فكان في الماضي حين يقول إرمياء أن السبي قادم، كان هؤلاء الكذبة يقولون أنه لا سبى والآن أرمياء يقول المدة ستطول وهم يقولون لا بل ستقصر، بدلًا من أن يخزوا من انكشاف كذبهم في المرة الأولى. وهو يوبخ صفنيا على تركه أرمياء بدون عقاب وبذلك كان يأمل في سجنه حتى لا تؤثر رسائله في المسبيين. وأنظر أية جرأة ووقاحة لهؤلاء الأنبياء الكذبة حتى وهم في السبي يأمرون الكهنة ولكن يبدو أن صفنيا كان يحترم أرمياء فهو اكتفى بأن قرأ لهُ هذه الرسالة دون أن يضطهده أو هو لم ينفذ ما جاء بها. بل غالبًا ما كان يحميه. وكان رد الرب على لسان أرمياء ليس لشمعيا نفسه بل لكل المسبيين حتى يعرفوا حقيقة من تصوروه نبيًا لله وهو كذاب غشهم بتعزيات زائفة فمنع عنهم التعزيات الحقيقية ولاحظ أنه أي شمعيا حين تذمر على كلام النبي أنه بينما أن المسبيين يعيشون حياة طبيعية ويكون لهم عائلات كان عقابهُ هو أن لا تكون لهُ أسرة. فمن يحتقر بركات الله يستحق أن يحرم منها.

زر الذهاب إلى الأعلى