تفسير سفر إرميا ٣٠ للقمص أنطونيوس فكري
الإصحاحات (30، 31، 32، 33) هي إصحاحات تعزية.
في هذا الإصحاح وما يليه عظة مختلفة النبرة عن كل ما سبق بتوجيه من الله. فهنا نجد وعود حلوة بالرجوع من السبي وهي ظل ورمز للأمجاد المذخرة في كنيسة المسيح. والله أمره ليس فقط أن يعظ بها بل أن يكتبها لأنها وعود معزية لكل جيل.
الآيات 1-9:- 1- الكلام الذي صار إلى إرميا من قبل الرب قائلا. 2- هكذا تكلم الرب إله إسرائيل قائلًا اكتب كل الكلام الذي تكلمت به اليك في سفر. 3- لأنه ها أيام تاتي يقول الرب وارد سبي شعبي إسرائيل ويهوذا يقول الرب وارجعهم إلى الأرض التي اعطيت اباءهم اياها فيمتلكونها. 4- فهذا هو الكلام الذي تكلم به الرب عن إسرائيل وعن يهوذا. 5- لأنه هكذا قال الرب صوت ارتعاد سمعنا خوف ولا سلام. 6- اسالوا وانظروا أن كان ذكر يضع لماذا ارى كل رجل ويداه على حقويه كماخض وتحول كل وجه إلى صفرة. 7- اه لأن ذلك اليوم عظيم وليس مثله وهو وقت ضيق على يعقوب ولكنه سيخلص منه. 8- ويكون في ذلك اليوم يقول رب الجنود أني اكسر نيره عن عنقك واقطع ربطك ولا يستعبده بعد الغرباء. 9- بل يخدمون الرب الههم وداود ملكهم الذي اقيمه لهم.
الأمر لإرمياء هنا في (2) أن يكتب كل النبوات السابقة والتي تأتى، ليستفيد من لم يسمع ولأنها مكتوبة لأيام قادمة. ومن هذا الكتاب عرف دانيال ميعاد نهاية السبي . وفي (3) الله يعِدهم هنا برجوعهم من السبي لأرض أبائهم. والمعنى الروحي هو رجوع الإنسان للسماء بفداء المسيح ورجوعه لمكانته عند الله وبنوته لهُ. وهو هنا يصور الآلام التي يعانون منها عند هجوم جيش بابل ، ولكن بمقارنة هذه الآلام بالخلاص الذي يُعِدَّه الرب سيبدو هذا الخلاص مدهشًا. ونحن في العالم نعيش في ألم ولكن سوف نتمجد معهُ (رو8: 17).وهكذا قال الرب “في العالم سيكون لكم ضيق” (يو16: 33) . وفي (5) صوت هذا الألم = صوت إرتعاد ، وهذا عكس ما قاله الأنبياء الكذبة. ولاحظ، ألا يحدث هذا حتى الآن حين يخدع الشيطان إنسانًا بالخطية، ويكذب حين يغريه بملذاتها ويجعله ينسى الآلام التي سيمر بها بعد سقوطه والحزن والاكتئاب بعدها. كما فعل بالشعب بعد خروجهم من أرض مصر فذكرهم بقدور اللحم وجعلهم ينسون آلام السياط والإستعباد. وفي (6) يُصوِّر ألامهم.. حتى الرجال، بأنها كآلام الماخض من رعبهم حين رؤيتهم لبلادهم وهي تحترق بلا أمل في نهاية لهذه الآلام. ولكن لماذا شبهها الله بآلام الماخض؟ لأنها تنتهي نهاية سعيدة وليس بالموت. بل بعد الولادة تُنسى الآلام. وكلمة الصفرة في اللغة الأصلية تدل على لون الوجه الذي يمرض نتيجة عادات سيئة مثل فقر الدم في أثناء فترة المراهقة. فالله خلقنا على صورته ولكن الخطية غيرت هذه الصورة إلى صفرة. وفي (7) ذلك اليوم عظيم.. هو وقت ضيق على يعقوب ولكنه سيخلص منه يمكن أن نفهمها على أنه يوم خراب أورشليم على يد بابل ، وسيكونيومًا رهيبًا لكن النهاية أن يعقوب سيخلص ويرجع من السبي. ويمكن أن نفهمها أنه يوم الصليب فهو يوم عظيم ولكنه يوم ضيق على المسيح أصل وذرية يعقوب. ولكنه سيخلص منهُ بالقيامة والصعود وما جناه البشر من بركات هذه النعمة. ويمكن أن نفهمها أنها عند النهاية، والضيقات التي تحل بالعالم قبل النهاية حين يُحَّل الشيطان من أسره. ولكن النتيجة أن شعب المسيح (يعقوب سيخلص). ولكن يوم الضيق عموما هو فترة حياة البشر على الأرض بعد السقوط أي اليوم السابع للخليقة الذي نحيا فيه الآن وحتى المجيء الثاني، والله يحول لنا العقوبة خلاصا، وفي وسط اليوم السابع صلب المسيح ليعيدنا إلى حضن الآب، ومهما طالت آلام الكنيسة ستنتهى بالمجد. وفي (8) بعد الصليب قُيِّد الشيطان بسلسلة فصار لنا سلطان أن ندوس الحيات والعقارب. وبعد مجىء المسيح الثاني سيطرح في بحيرة النار ويبدأ اليوم الثامن وهو بلا نهاية وبلا خطايا. وتقييد الشيطان الآن ، هذا يعنى بالنسبة لنا أن المسيح قد حررنا “إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا”. وهذه الآية (8) أَنِّي أَكْسِرُ نِيرَهُ عَنْ عُنُقِكَ، وَأَقْطَعُ رُبُطَكَ تعني للمسبيين خلاصهم من بابل، أما لنا فهى نبوة عن الحرية التي بالمسيح. وفي (9) داود ملككم = هو المسيح ابن داود فمن حرره المسيح عليه أن يظل يخدمه وبذلك يحتفظ بحريته. وتعنى لليهود أن يلتزموا بالسير حسب وصايا الله وبخدمة زربابل ثم نحميا بعد ذلك، الذين قادوهم بعد السبي، زربابل عاد معهم سنة 536 ق.م وكان والٍ عليهم ، أما نحميا فكان والٍ معين من قبل الملك الفارسى حوالي سنة 445 ق.م.
الآيات 10-17:- 10- أما أنت يا عبدي يعقوب فلا تخف يقول الرب ولا ترتعب يا إسرائيل لأني هانذا اخلصك من بعيد ونسلك من ارض سبيه فيرجع يعقوب و يطمئن ويستريح ولا مزعج. 11- لأني أنا معك يقول الرب لاخلصك وأن افنيت جميع الامم الذين بددتك اليهم فانت لا افنيك بل اؤدبك بالحق ولا ابرئك تبرئة. 12- لأنه هكذا قال الرب كسرك عديم الجبر وجرحك عضال. 13- ليس من يقضي حاجتك للعصر ليس لك عقاقير رفادة. 14- قد نسيك كل محبيك اياك لم يطلبوا لأني ضربتك ضربة عدو تاديب قاس لأن اثمك قد كثر وخطاياك تعاظمت. 15- ما بالك تصرخين بسبب كسرك جرحك عديم البرء لأن اثمك قد كثر وخطاياك تعاظمت قد صنعت هذه بك. 16- لذلك يؤكل كل اكليك ويذهب كل اعدائك قاطبة إلى السبي ويكون كل سالبيك سلبا وادفع كل ناهبيك للنهب. 17- لأني ارفدك و اشفيك من جروحك يقول الرب لأنهم قد دعوك منفية صهيون التي لا سائل عنها.
آية (10) لم تتحقق تمامًا في العودة من سبي بابل لذلك فتحقيقها لم يتم إلا في كنيسة المسيح التي جمع الله لها أولادها من بعيد. فالمؤمنين بالمسيح هم من كافة أنحاء الأرض وهؤلاء خلصهم من أرض سبيهم = أي من سبى وعبودية إبليس. بل يعطيهم سلام = يطمئن ويستريح. وفي أية (11) الأمم رمز الشياطين وكلاهما سوف يفنى، لكن أولاد الله يؤَدبون فقط ثم يعودون. وهم لا يتبرأون = فالله لا يحابى، ومن يخطئ يعاقب ويؤدب. وهم لم يتبرأوا بأعمالهم إنما بدم المسيح. وفي (12) هذا حال الإنسان بعد الخطية قبل مجيء المسيح وفدائه. وفي (13) ليس لها صديق أو محب يعصر جرحها ويضع لها عقاقير رفادة = أي أدوية شافية. لم يكن أحد ليتوسط لهم ويتدخل لحل قضيتهم. لذلك سيتدخل الله بنفسه. وفي (14) حتى أصدقائها غير قادرين على تعزيتها فالله هو الذي ضربها. وإذا تركنا الرب فمن يقف بجانبنا. وفي (15) حالهم ميئوس منه والسبب خطاياهم. ولنلاحظ أن الأحزان عديمة الشفاء سببها شهوات عديمة الشفاء. بل صارت محتقرة وسموها منفية صهيون (17) ولكل ذلك سيقوم الله لخلاصها بالرغم من أنه يظهر بعيدًا. وهذه الأمم ستخرب ولكنك ستهربين من هذا الخراب وأنقذك وأشفيك هذا هو عمل الفداء وليس سواه. أرفدك = أضع لك عصابة لأشفيك.
الآيات 18-24:- 18- هكذا قال الرب هانذا ارد سبي خيام يعقوب وارحم مساكنه وتبنى المدينة على تلها والقصر يسكن على عادته. 19- ويخرج منهم الحمد وصوت اللاعبين واكثرهم ولا يقلون واعظمهم ولا يصغرون. 20- و يكون بنوهم كما في القديم وجماعتهم تثبت امامي واعاقب كل مضايقيهم. 21- و يكون حاكمهم منهم ويخرج واليهم من وسطهم واقربه فيدنو إلى لأنه من هو هذا الذي ارهن قلبه ليدنو إلى يقول الرب. 22- وتكونون لي شعبا وأنا أكون لكم الها. 23- هوذا زوبعة الرب تخرج بغضب نوء جارف على راس الأشرار يثور. 24- لا يرتد حمو غضب الرب حتى يفعل وحتى يقيم مقاصد قلبه في آخر الأيام تفهمونها.
آية (18) هم الآن في سبى إذًا هم في خيام لأنها إقامة مؤقتة. ولكن حين يعودون لأورشليم ستبنى مدينتهم وبيوتهم وقصرهم فمن جعل مدينة خرابًا (إش 2:25) قادر أن يجعلها مدينة من جديد. ولكن الخيمة تشير لهذا الجسد الذي نحيا به الآن، وهذا الجسد كان في سبى الخطية، معذب لا يجد عزاء حقيقيًا مثل الابن الضال لا يجد ما يشبع بطنه سوى الملذات الدنسة والشهوات الرديئة التي هي خرنوب الخنازير. ولكن بعد الفداء حررنا الله بمراحمه بل وأصبح جسدنا هيكلًا لروحه القدوس. بل صار جسدنا قصرًا فالذى يسكن فيه هو ملك الملوك “إن أحبني أحد يحفظ كلامى ويحبه أبى وإليه نأتى وعنده نصنع منزلًا” (يو23:14) + (2كو1:5). بل يبنى البيت الجديد على تل. فأورشليم مبنية على تل عالٍ والمعنى سمو البيت الجديد فهو جسد سمائى، خليقة جديدة سماوية تصلى “أبانا الذي في السموات” . وخلال فترة سبى الجسد كانوا لا يسبحون الله (مز137) ولكن بعد خلاصهم من السبي يعودون للتسبيح (19)، فالتسبيح هو لغة الذين خلصهم المسيح. وهم يسبحون الله على صنيعه. من هو مسرور فليرتل وبالنسبة لليهود فهذا معناه أنه ستعود لهم أفراحهم وأعيادهم، ويزداد عددهم. وهذا ما حدث مع الكنيسة حينما نمت وإنتشرت في العالم كله = ولا يقلون وأعظمهم. ويكون بنوهم كما في القديم = عادت لنا البنوة في المسيح الابن وجماعتهم تثبت أمامى = لا أعود أخرجهم من أمامى كما أخرجت آدم. وأعاقب كل مضايقيهم (20) الشياطين. وهي تنطبق جزئيًا في العودة من السبي. وفي (21) الله يباركهم بحكم جديد فيحكمهم حاكم منهم وليس من الأعداء أو الغرباء. أي واحد من إخوتهم إشترك معهم في آلام السبي، وفي هذا إشارة للمسيح الذي شابهنا في كل شيء وأخذ جسدًا كجسدنا بل خيمة كخيمتنا. فهو أخلى ذاته آخذًا صورة عبد. وشابه إخوته في كل شيء. وأقربه فيدنو إليَّ = بالنسبة لإسرائيل يعودون للعبادة في الهيكل بعد أن كانوا قد رُفضوا وهذا من نعمة الله عليهم ومراحمه. فلا أحد يستحق هذا ولا أحد يستطيع هذا إن لم يقربه الله بمراحمه. ولكن هذه الآية تنظر للمسيح كشفيع، وهو كشفيع هو قدَّمَ نفسه ذبيحة = أقربه ، فكلمة أقربه تشير للذبائح ومنها كلمة قربان. وبجسده الذي تمجد يتمجد الجسد الإنساني، وفي المسيح نقترب من الله. ما عمله المسيح في أن يقترب من الله، ليس لحساب نفسه بل لحسابنا كرئيس كهنة، فقد قيل عن الكهنة أنهم يقتربون إلى الله (لا3:10 + 17:21) + (خر21:20). والله أرسل المسيح وقدَّسه لذلك العمل، وبه سُرَّت نفس الله. والمسيح قد أطاع حتى الموت وقدم نفسه ذبيحة لذلك سُرَّت به نفس الله. وهو قَبِلَ كل الآلام ولم يهرب منها. ولذلك كان السؤال من هو هذا الذي أرهن قلبه ليدنو إليَّ = وفي ترجمة أخرى يرتبط قلبه بي ارتباطًا لا فكاك منهُ ارتباط فيه كل الطاعة. لم يكن أحد يستطيع هذا سوى المسيح. وبعمله هذا حملنا كلنا فيه وقربنا للآب. هذا معنى شفاعة المسيح ولذلك وبعمل المسيح هذا تكونون لي شعبًا(22) وأنا أكون لكم إلهًا = هذه تشابه قول الرب لمريم المجدلية “إلهي وإلهكم”. بعمل المسيح الفدائى عدنا لنكون من خاصة الله. ولاحظ أن من يرتبط بالله يجب أن يعطيه القلب كاملًا ويرتبط معهُ قلبيًا ويكون القلب مستعد لخدمة الله في حب حقيقي ويبقى قريبًا من الله، فالله يطلب القلب. وهذا هو ما يحتاج لجهاد كبير لأن القلب نجيس ومخادع. وبعد ذلك يعاقب الله الأشرار من الشعب البابلى أو الشياطين (راجع إش23،22:51) ويكون ألمهم وعذابهم مثل الزوبعة مذهلًا لا يقاوم ومحزن جدًا ومؤلم جدًا وسيتعقبهم وهو دائم. ولن يفهم أحد معنى هذا الخلاص الذي بالمسيح سوى في آخر الأيام أي بعد مجىء المسيح (24،23). ونلاحظ في هذا الإصحاح أن الخلاص سيكون مبهج بالرغم من أنهم الآن في آلام السبي (4-7) وبالرغم من أن ظالميهم أقوياء جدًا (8-10) وبالرغم من أن أمم أخرى هلكت ولن تعود (11) وبالرغم من أن كل وسائل الخلاص الظاهرة أمامهم تبدو وكأنها إنتهت (12-14) ومع أن الله هو الذي أرسلهم للسبى بسبب خطاياهم وغضبه عليهم وبالرغم من يأس كل من حولهم من خلاصهم (17) بالرغم من كل هذه العقبات فهم ونحن أبناء الله لا يمكن أن يتركنا في أيدى ظالمينا ومستعبدينا.