تفسير سفر إرميا ٣٣ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثالث والثلاثون
أورشليم… أنشودة فرح!
إذ كان إرميا النبي في السجن تحدث الله معه بشأن شعبه للمرة الثانية. لقد سبق فقدم لهم تحذيرات مستمرة، وها هو يقدم تأكيدات لمواعيده الإلهية الصادقة. فإنه لا يكف عن تكرار تقديم النصائح والتحذيرات وأيضًا المواعيد لأجل تشجيعهم على التوبة وبث روح الرجاء والفرح خاصة أثناء ضيقٍ.
استطاع الأشرار أن يأسروا جسد إرميا لكنهم لم يستطيعوا أن يعيقوه عن إعلان الرسالة الإلهية، وكما يقول الأسير بولس: “الذي فيه أحتمل المشقات حتى القيود كمذنبٍ، لكن كلمة الله لا تقيد” (2 تي 2: 9).
الرسالة الإلهية الموجهة للشعب هنا لبث روح الرجاء، مقدمة أيضًا لإرميا النبي نفسه، فبلاشك كان إرميا يئن في أعماقه وهو يقدم الرسالة الأولى المملؤة تحذيرات للشعب. كانت جدران قلبه تتوجع وأحشاؤه تصرخ من أجل المرارة التي تحل بالشعب. الآن يقدم له الرب رسالة تعزية تفرح أعماقه.
بينما كان إرميا النبي في السجن لم يكن منشغلاً بحاله ومتاعبه ووحدته، إنما بشعبه الذي يسقط تحت السبي بسبب الخطية، والدمار الذي يلحق به. لهذا فتح الله عن عينيه ليرى ما في قلب الله من جهة شعبه. فإن الله يريد مباركته كما يخطط لأجل تحقيق ذلك، فيجعله أشبه بمدينة سماوية، أورشليم العليا، مدينة مسوَّرة لن يقدر أن يقتحمها عدو، مملوءة صحة، لا تعاني بعد من مرضٍ، طاهرة ونقية، لا تفسدها أو تنجسها خطية، متهللة كعرسٍ دائمٍ لا ينقطع.
يجعل شعبه أشبه بمرعى سماوي يشبع ويروي كل احتياجات المؤمنين،
وبقصرٍ ملوكيٍ، يقيم فيه المسيا الملك ابن داود،
وبهيكلٍ مقدسٍ يخدم فيه رئيس الكهنة الأعظم ربنا يسوع.
هذا هو اشتياق الله من جهة شعبه الذي يقيم معه عهدًا أبديًا.
في الجزء الثاني من هذا الأصحاح يعد الله أنه يقيم:
مملكةً أبدية،
عرشًا أبديًا،
نسلاً لداود أبديًا،
وأيضًا كهنة ولاويين ومحرقات وتقدمات أبدية…
هذه جميعها لا يمكن أن تتحقق بطريقة حرفية، لكنها وعود تحققت بمجيء السيد المسيح الذي أقام مملكته السماوية فينا، والتي تُعلَن بأكثر كمال في لقائنا معه في يوم الرب العظيم، حيث نُحسب كهنة لاويين، مقدمين تسابيح الحمد كمحرقاتٍ وتقدماتٍ لا تنقطع.
إن كان الله يرد لمدينته حريتها، يردها من السبي البابلي، فإنه يجعل من اسمها أنشودة فرح، تحمل شهادة حية لعمل الله الخلاصي المفرح، يرى فيها أمورًا عجيبة وفائقة. لقد جاءت هذه الرسالة المفرحة في وقت كانت الحالة تزداد سوءًا.
- السماء قابلة الصلوات[1-3].
- أورشليم الحصينة[4-5].
- أورشليم المتمتعة بالشفاء والسلام [6-7].
- أورشليم وغفران الخطايا[8].
- أورشليم… أنشودة فرح[9-11].
- أورشليم مرعى الراعي الصالح[12-13].
- أورشليم وكرسي داود[14-17].
- أورشليم والعمل الكهنوتي[18].
- الأمانة في العهد[19-26].
- السماء قابلة الصلوات:
“ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا ثانية وهو محبوس بعد في دار السجن قائلة:
هكذا قال الرب صانعها، الرب مصورها، ليثبتها يهوه اسمه.
ادعني فأجيبك، وأخبرك بعظائمٍ وعوائصٍ لم تعرفها” [1-3].
أولاً: يبدو أن بعض القيادات جاءت إلى إرميا النبي في دار السجن الذي بالقصر تضغط عليه لكي يتنبأ لهم بانهيار الكلدانيين، ظانين في غباوة أنه بهذا يؤثر على خطة الله ويغيرها فتخلص المدينة من الحصار المرّ. لذلك أعلن الله عن أهمية الصلاة، لا لتحقيق إرادتنا البشرية بغباوة، بل للتعرف على خطة الله وأسراره.
إذ أوشك أن يدخل الشعب إلى أحلك لحظات حياته بسبب السبي البابلي يدعوهم الله إلى الصلاة لكي يعلن لهم عما يريد أن يكشفه لهم. بمعنى آخر مع أن الله قادر أن يتحدث معهم عن أسراره من نحوهم، لكنه يريدهم أن يتحدثوا معه ويحاوروه، فيدركوا أنه أب سماوي يهب أسراره لأولاده الملتصقين به.
ثانيًا: يعلن النبي أنه قد صارت إليه كلمة الرب وهو محبوس بعد في دار السجن، إذ لم يقدر السجن أن يحبس الكلمة الإلهية أو يحدها، بل على العكس كثيرًا ما يتمتع المؤمن بكلمة الله، ويتعرف على أسرارها، كما ينعم بتعزيات الروح القدس وإعلانات الله عندما يكون وسط الآلام. يسجل لنا التاريخ كيف تحولت السجون في أيام الإضطهادات إلى مقادسٍ إلهية، يُسمع خلالها صوت تسابيح المعترفين أو الشهداء، ويتمتع الكثيرون برؤى سماوية. كثيرًا ما يُرسل الله لشهوده المتألمين ملائكة ورؤساء ملائكة، وأحيانًا يتجلى بنفسه ليؤكد حضرته وسط آلامهم.
ثالثًا: ماذا قدمت الكلمة الإلهية لإرميا السجين منفردًا؟
أ. لعل أهم ما قدمته هو شعور إرميا أنه في الحضرة الإلهية، مما حول السجن إلى لحظات لقاء مع الله وتعرف على أسراره الإلهية المفرحة.
ب. يقول الرب لإرميا إنه “صانعها” ربما يقصد “صانع الكلمة” وإن كانت الترجمة السبعينية توضح أنه “صانع الأرض، الرب مصورها، ليثبتها“.
استخدم سفر التكوين (الأصحاح 1) ثلاثة أفعال عن الخلقة:
asa تعني يصنع،
yasar تعني يشكل،
bara تعني يخلق.
هنا يتحدث عن الله صانع الأرض ومشكلها[560]، مستخدمًا الفعلين الأول والثاني.
إن كان إرميا في حبس منفرد لكن يليق به أن يدرك أن الأرض كلها هي للرب ولمسيحه. الله خالق الأرض ومشكلها ومثبتها حسب فكره الإلهي. هكذا يليق بإرميا أن تتهلل نفسه لأنه ليس محبوسًا وسجينًا خلال ظلم البشر، وإنما بالأحرى محمول على أرض صنعها الرب للبشر. الذي خلق الأرض لأجل الإنسان وصورها وثبتها لتشبع احتياجاته هو ملتزم بالبشرية، خاصة بنيه وشعبه، وأن يشكلهم ليحملوا صورته، وأن يثبتهمفيه. إننا أثمن من الأرض كلها التي خلقها الله لأجلنا.
إن كان التحرر من السبي البابلي يبدو مستحيلاً في أعين المسبيين، فإن الله صانع الأرض ومشكلها ومثبتها قادر أن يقيم شعبه ويؤسس مدينته من جديد ويثبتها. لم يكن ملك يهوذا والقيادات والشعب يتصورون إمكانية السقوط تحت السبي البابلي، خاصة بالنسبة لأورشليم مدينة الله المحتضنة الهيكل. الآن وقد اقترب وقت السبي ادرك إرميا النبي أنهم سيشعرون بأن المستقبل مظلم، وأن التحرر من السبي الذي يطول أمده يصير فوق كل تفكيرٍ بشري؛ لكي يأتي يوم التحرر فيدركون أنه إله المستحيلات.
ج. تعلن له الكلمة الإلهية: “يهوه اسمه“، وكما يقول القديس أغسطينوس: [اسمه ليس اسمًا لأجل ذاته بل لما يعنيه[561]].
“يهوه” هو الاسم الإلهي الذي يُستخدم للإعلان عن الله الساكن مع شعبه والداخل معهم في ميثاق. لندرك اسمه دومًا، فنرتبط معه في ميثاق أبدي.
v النفس التي بالحق تطلب أن تثبت رجاءها، عندما تُختطف من هذا العالم تتقبل معرفة اسم الله بلياقة[562]…
القديس أغسطينوس
د. تطالبهم الكلمة بالصلاة حتى يتمتعوا بالعظائم والعوائص، أي يدركوا أعمال الله العظيمة ويتعرفوا على أسراره الخفية التي لم يقدر عقل بشري أن يدركها (عوائص). حقًا إنه اشتياق عجيب لدى الله لاستجابة صرخات القلب الصادقة.
العوائص b’usfet هي الأمور البعيدة المنال، أو البعيدة عن المعرفة البشرية، إذ تُستخدم أحيانا كلمةn’swrot وهي تعني المخفيات (إش 48: 6).
يطالب الله شعبه مع القيادات أن تدعوه، فهو وحده العارف المستقبل وفي يديه التاريخ، لهاذا يليق بنا الالتجاء إليه وحده. يدعو خدامه لحراسة شعبه بروح الصلاة الدائمة، إذ قيل: “على أسوارك يا أورشليم أقمت حراسًا لا يسكتون كل النهار وكل الليل على الدوام؛ يا ذاكري الرب لا تسكتوا؛ ولا تدعوه يسكت حتى يثبت ويجعل لأورشليم تسبيحة في الأرض” (إش 62: 6-7). ويقول صموئيل النبي: “وأما أنا فحاشا لي أن أخطئ إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم بل أعلمكم الطريق الصالح المستقيم” (1 صم 12: 23).
تظهر أهمية الصلاة وسؤال الله مما جاء عن السيد المسيح نفسه وهو الابن الوحيد الجنس، الواحد مع الآب في ذات الجوهر، إذ قيل له: “اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك وأقاصي الأرض ملكًا لك” (مز 2: 8).
الله مستعد دائمّا أن يُعطي، وأن يكشف اسراره للإنسان، لكنه محتاج إلى قلبٍ يستقبل العطية الإلهية ويتجاوب معها. إنه يود أن يتحدث مع وجه متطلع إليه لا إلى قفا لا يبالي به وبأسراره وعطاياه. لهذا يليق بنا أن نطلب بقلبٍ نقيٍ فننال، وكما يقول أيوب: “أدعُ فأنا أجيب، أو أتكلم فتجاوبني” (أي 13: 22)، ويقول المرتل: “الرب قريب لكل الذين يدعونه، الذين يدعونه بالحق” (مز 145: 18)، ولإشعياء: “حينئذ تدعو فيجيب الرب: تستغيث فيقول هأنذا” (إش 58: 9)، ويقول الرب: “اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم” (مت 7: 7).
للصلاة قوتها إن قدمنا التوبة ورجعنا عن طريق شرنا[563].
v التأمل العميق في الحياة الصالحة والعناية بالروح ينجبان أناسًا صالحين ومحبين لله. من يطلب الله يجده، وذلك بغلبته على كل الشهوات بالصلاة الدائمة. مثل هذا الإنسان لا يخاف الشياطين[564].
القديس أنطونيوس الكبير
v من يرغب في البلوغ “إلى قياس ملء المسيح” (أف 4: 13)، يلزمه ألا يفضل شيئًا من الأعمال عن الصلاة، مع قيامه بالأعمال الأخرى دون أن يكون في عوز… فيلزمه ألا يمتنع عن القيام بالعمل الخاص بالضروريات والذي ألزمته الشريعة الإلهية، تحت ادعاء أنه يريد التفرغ للصلاة. يجب عليه أن يميِّز بين الصلاة والعمل، مطيعًا الشريعة الإلهية من غير تساءل (أي منفذًا الاثنين معًا) [565]…
v صلِ إلي الله حتى يفتح قلبك فتعاين مدى نفع الصلاة والقراءة وتفهم ذلك بالاختبار العملي لهما[566].
القديس مرقس الناسك
- أورشليم الحصينة:
“لأنه هكذا قال الرب إله إسرائيل عن بيوت هذه المدينة وعن بيوت ملوك يهوذا التي هدمت للمتاريس والمجانيق،
يأتون ليحاربوا الكلدانيين ويملأوها من جيف الناس الذين ضربتهم بغضبي وغيظي والذين سترت وجهي عن هذه المدينة لأجل كل شرهم” [4-5].
يصعب تفسير هاتين الآيتين. يرى البعض أنهما تشيران إلى خراب المنازل ودمار القصور في أورشليم بواسطة الكلدانيين. لذا امتلأت المدينة بجثث القتلى. لقد أدار الله وجهه عنهم، مما أربك الشعب وجعلهم في حيرة.
الله الذي سمح بالدمار هو يسهر على حراستهم ويردهم من السبي.
في بدء خدمته سمع إرميا النبي الوعد الإلهي: “هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديدٍ وأسوار نحاسٍ على كل الأرض… فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك” (1: 18-19). الآن يرى إرميا ما قد وُعد به يتحقق على مستوى الشعب كله، الأمر الذي يفرح قلبه! لم يعد هو المدينة الحصينة التي يحاربها كل شعبه واقربائه ولا يقدرون عليه، بل صار شعبه هكذا مدينة قوية تجابه كل مقاومة بروح النصرة والغلبة بالرب! ما يناله الشعب كأنه قد ناله النبي المفترى عليه منهم! غاية في الحب واتساع القلب!
- أورشليم المتمتعة بالشفاء والسلام:
“هأنذا أضع عليها رفادة وعلاجًا،
وأشفيهم وأعلن لهم كثرة السلام والأمانة (الحق).
أرد سبي يهوذا وسبي إسرائيل وأبنيهم كالأول” [6-7].
جاءت كلمة “رفادة” في العبرية لتعني الرباط الكتاني الذي يوضع حول الجرح حتى يتم شفاؤه.
السقوط في الخطية يدخل بالشعب كما بالإنسان إلى حالة مرضية خطيرة، وكما جاء في إشعياء: “كل الرأس مريض، وكل القلب سقيم، من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جُرح وأحباط وضربة طرية لم تُعصر ولم تُعصب ولم تُلين بالزيت” (إش 1: 5-6). صارت الحاجة إلى طبيب سماوي فريد.
العلاج الذي يقدمه هو كثرة السلام والحق. يقدم نفسه لنا سر سلامنا مع الآب، والحق الأبدي. فهو الطبيب وهو العلاج.
v الكلمة هو مهذبنا الذي يشفي أهواء النفس غير الطبيعية وذلك بمشورته…
كلمة الآب هو الشافي الوحيد للأمراض البشرية، والمعزي القدوس للنفس عندما تكون مريضة. يقول الكتاب: “يا إلهي خلص أنت عبدك المتكل عليك، ارحمني يارب لإني إليك اصرخ اليوم كله” (مز 86: 2-3).
حسب كلمات ديموقريطس: “الشافي بفنه الجسد من أمراضه، لكن الحكمة هي التي تخلص الروح من أمراضها”. مهذب الصغار الصالح، الحكمة ذاته، كلمة الآب، الذي خلق الإنسان، يهتم بنفسه بكل الخليقة، وكطبيب للإنسان بكليته يشفي كلاً من الجسد والنفس[567].
القديس إكليمنضس السكندري
- أورشليم وغفران الخطايا:
“وأطهرهم من كل إثمهم الذي أخطاوا به إليّ،
وأغفر كل ذنوبهم التي أخطاوا بها إليّ والتي عصوا بها عليّ” [8].
يقوم العهد الجديد والتحرير على اساس غفران الخطايا (خر 36: 25) والتطهير والتقديس. هذا هو الوعد الإلهي المسياني الذي تحقق في العهد الجديد بمجيء السيد المسيح المخلص الموعود به: “وأرش عليكم ماءً طاهرًا، فتطهرون من كل نجاساتكم، ومن كل أصنامكم أطهركم، وأعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدة في داخلكم، وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم” (حز 36: 25-26). “في ذلك اليوم يكون ينبوع مفتوحًا لبيت داود ولسكان أورشليم للخطية والنجاسة. ويكون في ذلك اليوم يقول رب الجنود أني أقطع أسماء الأصنام من الأرض فلا تُذكر بعد وأزيل الأنبياء أيضًا والروح النجس من الأرض” (زك 13: 1-2).
- أورشليم… أنشودة فرح:
أورشليم التي صارت عارًا وخزيًا تتحول إلى مصدر فرح وتسبيح لله أمام الأمم.
إن كان إرميا يدعى النبي الباكي، إذ كانت احشاؤه تئن على شعبه، لكنه المبشر بالفرح الروحي الغير منقطع (7: 34؛ 16: 9؛ 25: 10). هذا الاتجاه واضح في (مز 100: 5؛ 106: 1؛ 107: 1؛ 136).
“فتكون لي اسم فرح،
شهادة مفرحة لعمل الله وسط الأمم للتسبيح وللزينة لدى كل أمم الأرض،
الذين يسمعون بكل الخير الذي أصنعه معهم،
فيخافون ويرتعدون من أجل كل الخير ومن أجل كل السلام الذي أصنعه لها.
هكذا قال الرب:
سيسمع بعد في هذا الموضع،
الذي تقولون إنه خرب بلا إنسان وبلا حيوان،
في مدن يهوذا، وفي شوارع أورشليم الخربة،
بلا إنسان ولا ساكن ولا بهيمة.
صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس، صوت القائلين:
احمدوا رب الجنود، لأن الرب صالح لأن إلى الأبد رحمته.
صوت الذين يأتون بذبيحة الشكر إلى بيت الرب،
لأني أرد سبي الأرض كالأول يقول الرب” [9-11].
حدث هذا عندما تحقق التحرر من السبي في أيام زُربابل حيث سبح الكهنة واللاويون الرب في الهيكل: “وغنوا بالتسبيح والحمد للرب لأنه صالح لأن إلى الأبد رحمته على إسرائيل؛ وكل الشعب هتفوا هُتافًا عظيمًا بالتسبيح للرب لأجل تأسيس بيت الرب” (عز 3: 11).
يأتي المؤمنون إلى هيكل الرب ليقدموا “ذبائح الشكر” [11]، وكما يقول المرتل: “ليذبحوا له ذبائح الحمد وليعدوا أعماله بترنم” (مز 107: 22). “فلك أذبح ذبيحة الحمد وباسم الرب أدعو” (مز 116: 17). وجاء في هوشع: “نقدم عجول شفاهنا” (هو 14: 2). هذه الذبيحة يقدمها رجال العهد الجديد، إذ تتحقق في كمال صورتها خلال ذبيحة السيد المسيح نفسه، ذبيحة الأفخارستيا، أو الشكر، القادرة أن تحول طبيعة الإنسان الجاحدة إلى طبيعة شاكرة، باتحادها بالمسيح، وثبوتها فيه.
- أورشليم مرعى الراعي الصالح:
إذ يتحدث عن أورشليم كأنشودة فرحٍ، فانه لا يعزلها عن حقولها المحيطة بها ومراعي الغنم الخاصة بسكانها، لذلك يصور الله كراعٍ يهتم بقطيعه العاقل، لا يفلت أحد قط من رعايته.
“هكذا قال رب الجنود.
سيكون بعد في هذا الموضع الخرب بلا إنسان ولا بهيمة، وفي كل مدنه، مسكن الرعاة المربضين الغنم.
في مدن الجبل، ومدن السهل، ومدن الجنوب، وفي أرض بنيامين، وحوالي أورشليم، وفي مدن يهوذا،
تمر أيضًا الغنم تحت يدي المحصي يقول الرب” [12-13].
تلمس يد الله الراعي الأعظم الحانية الخراف وترعاها، وتهتم بها وهي تدخل الحظيرة لكي لا تُنسى واحدة منها. تمر الغنم تحت يدي المحصي فلا تضيع واحدة منهم.
يقدم السيد المسيح نفسه “الراعي الصالح” الذي يبذل نفسه عن الخراف (يو 10)، والذي يرعاهم بتقديم نفسه غذاءً لقطيعه العاقل. يتمتع به الصغار لبنًا روحيًا ينعشهم، وينعم به الكبار طعامًا يقوتهم.
v أمطر علينا الآب المحب والحنون بالكلمة، الذي هو نفسه صار قوتًا روحيًا للقديسين[568].
v إذ تدعو (الكنيسة الأم) أطفالها تقوتهم باللبن المقدس، أي بالطفل الكلمة[569]…
v الكلمة هو كل شيء للطفل: الأب والأم، المهذب والممرض.
يقول: “اشربوا دمي” (يو 6: 55).
يمدنا الرب بهذا الغذاء الجوهري.
إنه يسلم جسده ويسكب دمه، فلا يوجد أي نقص لنمو أطفاله. ياله من سر لا يُصدق![570].
القديس إكليمنضس السكندري
- أورشليم وكرسي داود:
“ها أيام تأتي يقول الرب،
وأقيم الكلمة الصالحة التي تكلمت بها إلى بيت إسرائيل وإلى بيت يهوذا.
في تلك الأيام وفي ذلك الزمان أنبت لداود غصن البر،
فيجري عدلاً وبرًا في الأرض.
في تلك الأيام يخلص يهوذا،
وتسكن أورشليم آمنة،
وهذا ما تتسمى به: الرب برنا.
لأنه هكذا قال الرب:
لا ينقطع لداود إنسان يجلس على كرسي بيت إسرائيل” [14-17].
في السبي البابلي حُرم الشعب من اقامة ملكٍ لهم، أو وجود كهنة يشفعون فيهم في الهيكل ويقدمون ذبائح وتقدمات باسمهم، فجاءت الوعود المسيانية تؤكد تمتعهم بملكٍ أبديٍ وكهنوتٍ وتقدماتٍ أبديةٍ. تحقق الوعد بديمومه مُلك داود في شخص ابن داود (2 صم 7: 16؛ 1 مل 2: 4؛ مز 89: 4، 29، 36؛ لو 1: 32-33).
يقدم إرميا النبي لمحات عن السيد المسيح الملك، الذي يملك كغصن البر (23: 25)، ويقدم نفسه لشعبه برًا منسوبًا لهم (23: 6)، يملك إلى الأبد.
يقدم لنا إرميا ومضات رائعة عن السيد المسيح الذي يحول قلوبنا إلى أورشليمه المتهللة، فيقدمه بكونه ينبوع المياه الحية (2: 13)؛ والراعي الصالح (23: 4؛ 31: 10)، والمخلص (50: 34)، وداود الملك (30: 9) كما يقدمه “الرب برنا” (23: 6) والغصن البار (23: 5). ُيدعى السيد المسيح “غصنًا” [15]؛ (23: 5؛ إش 4: 2؛ زك 3: 8؛ 6: 12)، [15]. تقليديًا تترجم semah s’daqa بالغصن البارRighteous Branch أو البرعم البار Righteous Shoot، لكن البعض يفضل ترجمتها “الحاكم الشرعي”، على أي الأحوال أنه الملك المثالي الذي يحكم بالعدل والاستقامة[571].
سبق أن دُعى الرب نفسه: “الرب برنا” (22: 6)، الآن يطلق هذا التعبير على أورشليم المتمتعة بعمله الخلاصي، والمتهللة بمُلكه وكهنوته… إنها تحمل إسمه عليها فتُدعى: “الرب برنا”.
يتحقق هذا كله بالسيد المسيح ملك الملوك، إذ قيل: “ثم بوق الملاك السابع فحدثت أصوات عظيمة في السماء قائلة: قد صارت ممالك العالم لربنا ولمسيحه، فسيملك إلى أبد الآبدين” (رؤ 11: 15)؛ ويقول السيد المسيح في نهاية الرؤيا: “أنا أصل وذرية داود، كوكب الصبح المنير” (رؤ 22: 16).
- أورشليم والعمل الكهنوتي:
“ولا ينقطع للكهنة اللاويين إنسان من أمامي،
يُصعد محرقة،
ويُحرق تقدمة،
ويهيء ذبيحة كل الأيام” [18].
كان يُنظر إلى إرميا الكاهن والنبي أنه نبي متحرر لا يبالي بالهيكل إذ يتنبأ عن خرابه، ينتقد خدمة الكهنة واللاويين وتقديم الذبائح. هنا يعلن النبي عن أعماقه، أنه ليس ضد الهيكل ولا الخدمة الجماعية ولا الذبائح والتقدمات، إنما ضد الفساد والانحراف. يتنبأ عن هيكل أبدي، وخدمة كهنوتية أبدية، وذبائح وتقدمات لا تنقطع.
يؤكد هنا عودة العبادة في الهيكل الذي خربه العدو. أما عن ديمومة الكهنوت فقد تحققت بمجيئ السيد المسيح الكاهن الأعظم (عب 7: 17، 21، 24-28)، واهبًا لخدامه خدمة الكهنوت باتحادهم بالكاهن الأعظم، وواهبًا لكل المؤمنين كهنوتًا عامًا خلال مياه المعمودية ليقدموا ذبائح الشكر ومحرقات الحب (رو 12: 1؛ 15: 16، 1 بط 2: 5، 9؛ رؤ 1: 6).
إذ غار فينحاس على تقديس شعب الله، فأخذ رمحًا بيده وضرب الرجل الإسرائيلي الزاني والمرأة المديانية، قيل عنه: “يكون له ولنسله من بعده ميثاق كهنوت أبدي” (عد 25: 13). هكذا يضرب مسيحنا بسهام حبه جسدنا ونفسنا فيقتل فينا الإنسان القديم ويخلق فينا بروحه القدوس الإنسان الجديد الحامل صورة خالقه. هذا هو فينحاس الجديد، رئيس الكهنة الأبدي الذي يهب نسله كهنوتًا أبديًا. فما وُعد به الكاهن فينحاس هو ونسله تحقق في المسيح ومؤمنيه.
يرى القديس إكليمنضس السكندري أن الغنوصى (المؤمن صاحب المعرفة الروحية) الحقيقى هو: [الإنسان الملوكي حقًا، هو رئيس كهنة الله المقدس[572]]. يقدم الذبائح الروحية: [ألا يعرف أيضًا النوع الآخر من الذبيحة والتي تتكون من عطاء التعليم وعطاء المال للذين هم في احتياج؟![573]].
- الامانة في العهد:
في عدم إيمان اتهموا الله بنقض عهده مع إسرائيل ويهوذا، وذلك بسبب سقوطهم تحت السبي. ها هو يؤكد لهم خطأ تفكيرهم، موضحًا أنه لأمانته في عهده معهم سلمهم للسبي المؤقت، حتى يجتازون تحت عصا التأديب ويعبر بهم إليه. إنه لن يتخلى عنهم!
لكي يُعطي الله لشعبه ثقة في أمانته في عهده معهم أكد لهم أنه إن أمكن نقض عهد النهار والليل (تك 1: 4-5، 16؛ مز 116: 8) يُلغي عهد الرب مع داود. الله الذي وضع قوانين الطبيعة واهتم بها كمن صنع عهدًا معها لا يقدر إنسان أن ينقضه، هو الذي يقيم عهدًا مع كنيسته. وكما لا يُمكن فعلاً أن تُعد النجوم ولا رمل البحار، هكذا يكثر الرب ذرية داود واللاويين خدامه.
“ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا قائلة:
هكذا قال الرب:
إن نقضتم عهدي مع النهار وعهدي مع الليل حتى لا يكون نهار ولا ليل في وقتهما،
فإن عهدي أيضًا مع داود عبدي يُنقض،
فلا يكون له ابن مالكًا على كرسيه،
ومع اللاويين الكهنة خادميَّ.
كما أن جند السموات لا يُعد ورمل البحر لا يُحصى هكذا أُكثر نسل داود عبدي واللاويين خادميَّ.
ثم صارت كلمة الرب إلى إرميا قائلة:
أما ترى ما تكلم به هذا الشعب قائلاً إن العشيرتين اللتين اختارهما الرب قد رفضهما،
فقد احتقروا شعبي حتى لا يكونوا بعد أمة أمامهم.
هكذا قال الرب:
إن كنت لم أجعل عهدي مع النهار والليل فرائض السموات والأرض،
فإني أيضًا أرفض نسل يعقوب وداود عبدي فلا آخذ من نسله حكامًا لنسل إبراهيم وإسحق ويعقوب لأني أرد سبيهم وأرحمهم” [19-26].
إذ يسقط الإنسان تحت التأديب يظن أن الله قد نسيه أو قد نقض عهده معه. هذه هي إحساسات الشعب بعد السبي إذ اتهموا الله بنقض عهده معهم ورفضه لمن سبق أن اختارهم. لم يدركوا أنهم يجتازون تحت عصا التأديب، وأن هذا يتحقق خلال حبه ورعايته وليس تخليه عنهم بالكلية.
فرح شامل
إذ يتحدث في هذا الأصحاح عن أورشليم كأنشودة فرح يؤكد الإصلاح الشامل الذي يمس حياة المدينةفتصير حصينة بالرب.
وشعبها الذي يقدم الرب نفسه لها طبيبًا ودواءً وخلاصًا من الخطية وعريسًا دائمًا.
والحقول بمراعيها، فيتقدم إليها بكونه الراعي الصالح الذي لا يفلت حمل واحد من رعايته.
والقصر الملكي حيث يجلس داود على العرش أبديًا ويصبغ مملكته ببره الإلهي.
والهيكل والخدام حيث تُقدم خدمة أبدية غير متقطعة…
أخيرًا يؤكد الله أمانته في تحقيق مواعيده وعهده مع شعبه.
ما أعذب مواعيد الله الذي يتطلع إلى شعبٍ مسبيّ مُهَمل بلا مدينة، خارج أرض الموعد، بلا راعٍ أو ملكٍ وبلا كهنوتٍ ولا هيكلٍ ولا ذبيبحةٍ… فيعطيهم أكثر مما يسألون وفوق ما يطلبون. يعطيهم ليس حسب استحقاقهم، إنما حسب غنى عظمته وفيض نعمته المجانية الفائقة.
إنها صورة مبهجة تتمتع بها النفس التي تتحد بالسيد المسيح مخلصها فتجد فيه كل كفايتها، تتحول إلى مدينةٍ حصينةٍ، وحقلٍ مثمرٍ، ومرعى خصب، وقصرٍ ملوكىٍ مجيدٍ، وعرشٍ يحمل روح الغلبة، ومملكة برٍ، وهيكل إلهي مقدسٍ… تحمل سمات عريسها فيها، فلا يقدر أحد أن ينزع فرحها منها.
من وحي إرميا 33
لتقم في داخلي مدينتك المتهللة!
v إذ كان إرميا في سجن منفردًا صارت إليه كلمتك،
لم يعد يشعر بالعزلة لأن كلمتك معه أفضل من كل بشرٍ!
كلمتك أعلنت له أسرار قلبك نحوه!
كلمتك معزية ومفرحة حتى في أحلك اللحظات!
v نفسي تئن مع إرميا السجين منفردًا،
لا لأجل متاعب السجن ولا بسبب العزلة،
وإنما لأجل خطاياي وجهالات شعبك!
v افتح عن عينيْ فأرى قلبك،
وأتعرف على أسرار حبك،
وأتفهم خطة خلاصك نحو كل بشرٍ!
v نعم! لقد سُبي قلبي،
لكنك أنت تحرره!
تقيم عليه متاريس روحك القدوس،
فلا يقدر العدو أن يقترب!
أنت سور نارٍ لي، وحصن حياتي!
v أصابتني الخطية كمرضٍ لا يُرجى البرء منه،
لكن أنت الطبيب السماوي!
رُد لي صحتي وهب لي سلامك الفائق!
v تدنست أورشليمي بالخطايا والآثام،
وتحطمت بالعصيان!
أنت غافر الخطايا، ومنقذ النفوس من الفساد.
رُد لأورشليمي نقاوتها وطهارتها أيها القدوس.
v عوض غم الخطية حوِّل أورشليمي إلى عرسٍ دائمٍ!
يُسمع فيها صوت الحمد والتسبيح، والطرب والتهليل!
صوتك أيها العريس يناجي أعماقي، عروسك الدائمة!
v أورشليمي هي مرعاك،
لترعى حواسي وأفكاري مع عواطفي وكل طاقاتي!
أقم قطيعك المقدس في داخلي!
ارعه بنفسك يا من تبذل ذاتك عى خرافك!
v نعم! افتح عن عيني، فأرى أعماقي، أورشليمك:
مملكة أبدية تحكمها أنت يا ملك الملوك!
عرشًا أبديًا وخيمة داود غير الساقطة!
مقدسًا لك يجري فيه العدل والبر يا غصن البر العجيب!
هيكلاً مقدسًا لك، تخدم فيه يا رئيس الكهنة الأعظم!
تقدم فيه ذاتك ذبيحة حب ومحرقة أبدية، وتقدمات لا تنقطع!
v علمت أنك أمين في عهدك معي ووعودك لي.
هل تكسر عهدك مع الشمس والقمر،
فلا يكون نهار أو ليل،
ولا توجد فصول السنة مادامت توجد الأرض؟
إن كنت تهتم بقوانين الطبيعة لأجلي،
أفلا تبقى أمينًا بالرغم من عدم أمانتي؟!
وعدتني أن يبقى داود ملكًا إلى الأبد،
لتملك يا ابن داود فيّ ملكًا أبديًا!
v مخلصى الصالح… يامصدر فرحي!
أقم من نفسي مدينتك الحصينة التي لا تهزها قوات العدو،
ولتشفِ شعبها الداخلي: من طاقات ومشاعر ومواهب!
أقم منها حقلاً يحمل ثمر روحك القدوس.
ومرعى خاص بك أيها الراعي الصالح.
اجعلها قصرًا لك يا ملك الملوك،
وعرشًا دائمًا يعلن عن أمجادك،
ومملكة تشهد ببرك الإلهي!
حولها إلى هيكل مقدس لك،
تخدم فيه يا رئيس الكهنة الأعظم!
حقق مواعيدك في أعماقي أيها الأمين في عهدك!