تفسير سفر إرميا ١٤ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الرابع عشر
التأديب بالقحط
والحاجة إلى مياه الروح
يتحدث النبي في الأصحاحين 14، 15 عن قحط طويل الأمد سمح به الرب للتأديب، مع سقوطٍ تحت السيف والأوبئة والسبي كثمرٍ طبيعي لعصيان الشعب الذي دخل مع الله في ميثاق ولم يفِ بتعهده.
صرخ الشعب لكن الله لم يستجب، لأنهم طلبوا الخلاص منه دون رجوع إلى الله وبغير توبة صادقة، فصارت طلبتهم رديئة (يع 4: 3)، خاصة أنهم استمعوا لخداع الأنبياء الكذبة.
رفض الله صلواتهم حتى يكتشفوا القحط الداخلي الذي حلّ بنفوسهم، فقد كانت صلواتهم منصبة على رفع القحط، إذ حزنوا على فقدانهم الخيرات الزمنية، لا على فقدانهم الله مصدر الخيرات.
واضح من هذا الأصحاح أن إرميا النبي أدرك أن رسالته الأولى هي أن يشفع في شعبه أمام الله، لكن هناك حاجة إلى عمل الروح القدس (مياه المعمودية) وإلى تبكيت الروح القدس حتى بالتوبة تُشفي جراحاتهم، ويُنزع عنهم القحط الروحي.
يُسمي البعض هذا الأصحاح “ليتورجية القحط”، وضعها إرميا النبي لكي يصليها الشعب كما كل مؤمنٍ في المناسبات بروح التوبة الجماعية والرجوع إلى الله. إن كانت لم تُمارس في عصره كما ينبغي، لكنها بقيت ليتورجيا للتوبة يعيشها المؤمن في عصور لاحقة[280].
أخيرًا فإن الله سمح بالقحط كتأديب مبدئي أو تدريجي، حتى إذا لم يسمعوا للصوت الإلهي يسمح بالسبي كخطوة تالية.
v القحط والتطلع إلى العصر المسياني
القحط ودعاء الشعب [1-12].
v القحط والتطلع إلى العصر المسياني[281]:
لكي نتفهم هذا الأصحاح يليق بنا أن ندرك أن العصر المسياني في ذهن الأنبياء الذي طال انتظار العالم له هو عصر غني بالمياه الفياضة. رآه إشعياء النبي كعصر أمطار يحول البرية إلى حقول مثمرة (إش 44: 3 الخ.)، وزكريا النبي أنه عصر المياه المطهِّرة (زك 13: 1)، ويوئيل أن المياه هي وراء القداسة (3: 18)، وحزقيال أنه سر غسل النفس الداخلية (16: 9)، كما يختم حديثه عن هيكل العهد الجديد بوصفه للمياه المقدسة النازلة من تحت عتبة البيت نحو المشرق من الجانب الأيمن للبيت عن جنوب المذبح (47: 1-12). إذ يتحدث هنا عن القحط كتأديب إلهي لشعب يصر على العصيان، يوضح بطريقة غير مباشرة الحاجة إلى الأمطار الإلهية، إلى عطية الروح القدس الذي يلدنا في مياه المعمودية أولادًا لله، ويقود حياتنا، حتى يخرج بنا من برية هذا العالم إلى خبرة الحياة الفردوسية، حيث نحمل ثمر الروح.
كان الجفاف خاصة في منطقة الشرق الأوسط يمثل حالة موت بالنسبة للمجتمعات البشرية، له أثره على كل الطبقات: الشعب ككل والأشراف والخدم أو العبيد كما على الفلاحين؛ على الحيوانات حتى حيوانات البرية؛ على الجو نفسه حيث الحر القاتل في فترة الظهيرة في الصيف، وعلى العشب والنباتات… هذا ما يوضحه هذا الأصحاح. ولما كان المطر هو عطية إلهية لذا لاق بالإنسان عندما يدخل في حالة قحط أن يراجع حساباته ليدرك علاقته بالله خالقه، لا ليطلب المطر بل واهب المطر، فيصير كل شيء بين يديه.
- القحط ودعاء الشعب:
“كلمة الرب التي صارت إلى إرميا من جهة القحط” [1].
يتحدث النبي عن قحط يحل بيهوذا كتأديبٍ إلهي، ويتكرر الأمر في الأصحاح 17، لذا يرى البعض أن النبي نطق بالنبوات الواردة في هذه الأصحاحات الأربع (14-17) أثناء فترة القحط الذي حلّ في أواخر أيام يهوياقيم وفي أيام خليفته. يظهر من صيغة الجمع في اللغة العبرية لكلمة “القحط” أن مدة القحط كانت طويلة الأمد كما حدث في أيام إيليا النبي (1 مل 17، يع 5: 17).
بعد فترة وجيزة من حكم يهوياقيم، عاد فرعون نخو إلى مصر، وكانت نينوى في طريقها إلى السقوط، بينما كانت بابل تتزايد عظمة لتقضي على نينوى وتنافس مصر، وتسبى يهوذا؛ كان السوس ينخر في عظام شعب يهوذا، إذ تدنس بشرورٍ لا حصر لها. اكتسحت البلاد حالة قحط شديدة للغاية كآخر إنذار إلهي بالخراب العاجل القادم قبل السبي.
حلَّت الكآبة بالبلاد، إذ فقد الشعب الأمطار الغزيرة التي تتدفق من الجبال خلال الأنهار وتملأ الينابيع، فاحترقت المراعى الخضراء وذبلت النباتات. أرسل الأغنياء عبيدهم يطلبون ماءً بلا جدوى، وكان يليق بالكل أن يلجأوا إلى الله بالتوبة ليفتح أمامهم أبواب مراحمه، حتى لا يفارق مجد الرب بيته كما تنبأ حزقيال.
جاء وصف القحط هنا يكشف عن حال النفس التي ترفض مياه الروح القدس التي أعلن عنها السيد المسيح: “إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب؛ من آمن بي كما قال الكتاب تجرى من بطنه أنهار ماء حيّ” (يو 7: 37-38). قيل هنا:
“ناحت (جفت) يهوذا،
وأبوابها ذبلت،
حزنت إلى الأرض (اسودت إلى الأرض)،
وصعد عويل أورشليم” [2].
جاء هذا النص في العبرية في تسع كلمات قدمت لنا القحط في أبشع صورة.
أ. الكلمة العبرية الأولى تحمل معنيين: “ناحت” و”جفت“، فتظهر مملكة يهوذا كسيدةٍ تنوح بسبب ما حلّ بها، وكحقلٍ جافٍ تشققت أرضه بسبب الحرمان من المياه. ناحت للأسف لا على خطاياها، بل على امتناع المطر وحلول القحط. إنها صورة للنفس التي تذلها الخطية، فتفقد فرحها الداخلي لحرمانها من مياه الروح، وتعيش في حالة كآبة داخلية وفقدان للسلام. تتحول جنتها إلى برية قاحلة، بلا ثمر روحي! يليق بمثل هذه النفس أن تنوح على خطاياها فتستدر حب الله وتتقبل عطية الروح المبكت واهب السلام، والذي يحولها إلى فردوسٍ مثمر.
ب. أبوابها ذبلت، أو صارت هزيلة تئن من الضعف الشديد، لأن شعبها خرج إلى بلاد أخرى يبحثون عن ماءٍ يشربونه أو عن خبزٍ يأكلونه. ُيقصد بالأبواب هنا مدن يهوذا، فقد انهارت أبواب أسوارها الحصينة، لأن شعبها صار في جوعٍ شديدٍ لا يقدر حتى على الحياة… فما الحاجة لأبواب حصينة تحميه وهو يموت جوعًا وظمًأ في الداخل.
هذا هو حال النفس وقد حُرمت من الشبع بكلمة الله، فهزلت جدًا، وفقدت تقديس حواسها “أبواب النفس والجسد”، فصارت مفتوحة لكل فكرٍ شرير، ونظرةٍ بطالة، وإحساسٍ فاسد.
كان الشيوخ عادة يجتمعون عند أبواب أسوار المدن للفصل في قضايا الشعب والتشاور الجاد معًا فيما لحق بالشعب ككل، أما وقد تحولت إلى أماكن اجتماع الرجال للتسلية والترف، ذبلت هذه الأبواب. إنها تمثل حالة النفس المدللة التي ُيقال عنها: “وأما المتنعمة فقد ماتت وهي حية” (1 تي 5: 6).
ج. “حزنت إلى الأرض”، أو بحسب الترجمة الحرفية “اسودت الأرض”، أي ارتدت ثياب الحداد السوداء الطويلة (مرا 2: 10)، فصارت أبواب المدينة أشبه بأشباح خارجة من الجحيم! صارت أبواب صهيون، ليست أبواب ملكوت الله المفرح، بل أبواب الجحيم، حيث العويل غير المنقطع، أو أبواب الموت التي يقول عنها المرتل: “يا رافعي من أبواب الموت، لكي أحدث بكل تسابيحك في أبواب ابنة صهيون مبتهجًا بخلاصك” (مز 9: 13-14). ما أخطر أن تتحول أبواب ابنة صهيون من مصدر بهجة بخلاص الرب إلى أبواب عويلٍ مستمرٍ وهلاكٍ وموتٍ!
هذا العويل هو مزيج من الصرخات المرّة بسبب الحرمان من الشراب والطعام، والصراخ إلى الله ليخلصهم من هذه الكارثة، لكنها صرخات صلاةٍ غير مقبولة، لأنهم لا يهتمون بخلاص أنفسهم إنما يطلبون المطر.
“وأشرافهم أرسلوا أصاغرهم للماء.
أتوا إلى الأجباب فلم يجدوا ماءً.
رجعوا بآنيتهم فارغة.
خزوا وخجلوا وغطوا رؤوسهم” [3].
إذ حلّ القحط لم يفكر حتى الأشراف – أصحاب السلطة – في الأكل، وإنما في ماءٍ للشرب. يُمكن للإنسان أن يحتمل الجوع أكثر من العطش. لقد أرسلوا أصاغرهم، هنا الكلمة العبرية تعبر عن الخدم الذين هم غالبًا ما يكونوا صغارًا في السن وأقل في المركز الاجتماعي[282]، فإنهم أسرع وأقدر على البحث عن الماء وحمله.
حملوا أواني سادتهم وانطلقوا إلى حيث مصادر المياه من أحواض أو برك، لكنهم رجعوا بها فارغة. لم يثر الأشراف عليهم، بل أُصيبوا بحالة إحباط إذ ملأهم العار والخزي، ربما لشعورهم بالضعف الشديد. لم يعد في سلطانهم أن يجدوا كأس ماء يشربونه بعد أن كانوا يعيشون في ترفٍ ولهوٍ، لا تفرغ مخازنهم من الخيرات وآنيتهم من الخمر… الآن لا يجدون كوب ماء!
يحل بهم العار، إذ يشعرون أن بركة الرب إلههم قد فارقتهم، وأنه قد بدأت سلسلة من الكوارث لا يُعرف نهايتها. ولعلهم صاروا في خزي لأنهم شعروا بضرورة الانسحاب من العالم الذي لم يعد يقدم لهم الحياة بل الموت جوعًا وعطشًا! أما تغطية الرأس [3-4] فعلامة على الرعب والحزن، كما فعل داود حين هرب من وجه ابنه أبشالوم (2 صم 15: 30).
“من أجل أن الأرض قد تشققت،
لأنه لم يكن مطر على الأرض.
خزي الفلاحون، غطوا رؤوسهم” [4].
صارت أرض الموعد التي تفيض عسلاً ولبنًا جافة ومشققة، تكشف عن رؤوس سكانها التي صارت جامدة كالنحاس والحديد، إذ قيل “وتكون سماؤك التي فوق رأسك نحاسًا، والأرض التي تحتك حديدًا” (تث 28: 23). هكذا يتحول الإنسان بكليته كما إلى أرض حديدية لا تقدم ثمرًا، وبلا حياة!
إذ نشعر بالحاجة إلى المياه نتطلع إلى عمل الروح القدس خاصة في مياه المعمودية، لندرك كيف نخرج بها من حالة القفر إلى التمتع بالحياة الفردوسية، وكما خاطب القديس غريغوريوس أسقف نيصص طالبي العماد، قائلاً:
[إنكم خارج الفردوس أيها الموعوظون.
إنكم تشاركون آدم آباكم الأول في نفيه!
الآن يُفتح الباب وتعودون من حيث خرجتم[283]].
يقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين الفردوس الذي عاش فيه الإنسان الأول والسماء التي يعيشها فيها المؤمن بالعماد بعد أن صار قفرًا فيجد أنه صار في حالة أعظم مما كان عليها آدم. جاء في مقارنته:
[لا ينطق الله هنا (ليخلق) في الفردوس، بل في السماء. فإن ما يحدث لا يتم على الأرض، بل ينقلك إلى السماء في حضرة الملائكة.
يرفع الله نفسك إلى فوق ويصلحها، ويقدمها بجوار عرشه الملوكي…
يقيمك الله لا لتحفظ الجنة، بل لتصير مواطنًا سماويًا.
لا تعود تبصر أودية أو أشجارًا أو ينبوعًا، بل تنال الرب نفسه، وتختلط بجسده العلوى الذي لا يقدر الشيطان أن يقترب إليه… فإنك مادمت لا تنزل إليه لا يقدر هو على الصعود اليك، لأنك في السماء! إنه لا يقترب إلى السماء! [284]].
يُلاحظ أن كلمة “تشققت” في العبرية تعني “ارتعبت“، وكأن الإنسان سيد الخليقة الأرضية صار في خزيٍ، وفقدت الأرض التي يقف عليها اتزانها، إذ صارت مرتعبة.
أما كلمة “الفلاحون” هنا فمقتبسة عن اللغة الأكادية وهي لا تعني الفلاحين العاملين في أرضهم، إنما طبقة الفلاحين العاملين كأجراء في مستوى اجتماعي منحطٍ في ذلك الحين. هؤلاء اشتركوا مع العظماء في الخزي، وغطى الكل رؤوسهم في عارٍ. سرّ عارهم أنهم صاروا بلا عملٍ، إذ حُرموا من عطية الله التي قيل عنها: “سواقي الله ملآنة ماءً، تهيئ طعامهم، لأنك هكذا تعدها” (مز 65: 9).
يوضح النبي كيف صارت الخليقة كلها تئن وتتوجع بسبب فساد قلب الإنسان وكبرياء قلبه (رو 8: 22)، إذ يقول:
“حتى أن الإيلة أيضًا في الحقل ولدت وتركت،
لأنه لم يكن كلأ.
الفراء وقفت على الهضاب تستنشق الريح مثل بنات آوى.
كلت عيونها، لأنه ليس عشب” [5-6].
خرجت الحيوانات عن طبيعتها بسبب القحط، وما حلّ بها من آلام:
أ. تعيش الإيلة في الغابات بعيدًا عن الإنسان، أما وقد حلّ بها الجوع والظمأ تجاسرت وذهبت في حقل مفتوح، هناك تلد، لكنها لا تستطيع أن تقدم لبنًا لصغيرها، لأنها لا تجد ما تأكله أو تشربه، هناك تترك صغيرها في غير مبالاة لتبحث عن طعامٍ أو شرابٍ… لقد خرجت عن حنان الأمومة الغريزي.
ب. الفراء أو الحمار الوحشي أيضًا لا يعيش إلا في البراري، لكنه تحت ضغط الجفاف الشديد والحر القاتل انطلق إلى الهضاب العالية لعله يجد هواءً رطبًا على المرتفعات. صار يلهث (يستنشق الريح) كما تفعل بنت آوى أثناء حر النهار الشديد. هنا الكلمة العبرية لاستنشاق الريح تعني أن يلهث الكائن وهو يلد أثناء تعب المخاض، أو يلهث وهو يموت. هكذا صارت الحيوانات تلهث كأنها تموت!
أصاب عيونها الضعف الشديد، إذ “كلت عيونها” [6]، وقد اُستخدم هذا التعبير في (مز 69: 82؛ 119: 82، 128؛ أي 11: 20؛ 17: 5، مرا 2: 11؛ 4: 17) ليشير إلى ضعف العين الشديد وهي تترقب معونة تبدو مستحيلة. هنا في هذا العبارة تعني أن علامة الموت قد ظهرت حتى على العينين اللتين كلتا جدًا لتفقدا البصيرة بغير رجعة!
إذ اشتد التأديب بالشعب جدًا ولم يسمعوا لصوت الله، تحدث معهم خلال الطبيعة المحيطة بهم:
الأرض المرتعبة المشققة،
والحيوانات الفاقدة لنواميس الطبيعة حتى الأمومة،
واللهث في انتظار لحظات الموت،
وفقدان البصيرة تدريجيًا!
ما أبشع الخطية في حياة الإنسان المعتزل إلهه مصدر صلاحه وحياته واستنارته!
هذه هي حالة النفس التي أصابها القحط، المحرومة من مياه الروح القدس، فإنها تصير أرضًا مرتعبة ومشققة، لا تحمل سلامًا داخليًا ولا ثمر الروح! تصير كالإيلة التي تحت ضغط الظمأ الشديد والجوع القاتل تفقد حتى غرائزها الطبيعية، فتقدم صغيرها للهلاك بغير مبالاة. تصير كالحمار الوحشي الذي تحت قسوة الجفاف الشديد ينطلق نحو الهضاب العالية لعله يستنشق هواء رطبًا، تذبل عيناه جدًا إذ يستسلم للموت وهو يفقد بصيرته!
هكذا يفعل القحط الروحي بالنفس، أما في مياه المعمودية فتنعم النفس بعمل الروح القدس القادر أن يهب النفس حياة جديدة مُقامة، وسلامًا فائقًا وثمرًا متكاثرًا وعذوبة لتتميم ناموس المسيح الفائق واستنارة داخلية. في هذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
[يُدعى (العماد) “استنارة”. هكذا دعاه القديس بولس قائلاً: “لكن تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعدما أُنرتم صبرتم على مجاهدة آلام كثيرة” (عب 10: 32)[285]].
[بالمعمودية لم يجعلنا ملائكة ولا رؤساء ملائكة، بل أبناء الله المحبوبين لديه…!
إذ تذكر هذا اظهر حياتك مستحقة لحب ذاك الذي دعاك.
اظهر مواطنتك لذاك العالم (السماوي)، والكرامة التي أُعطيت لك.
أعلن بوضوح أنك مواطن في المدينة السماوية.
لا تهتم بالأرضيات، فإن كان جسدك لم ينتقل بعد إلى السماء إلا أن رأسك ماكث هناك في الأعالي[286]].
بعد أن وصف النبي القحط القادم كتأديب أولي لكي يكتشف الشعب ما بلغ إليه قدم النبي باسم الشعب كله صلاة قصيرة أشبه بمرثاة، من أجل كارثة خاصة بالأمة كلها، قدمها كشفيعٍ ونائبٍ عن الشعب، فيها يعترف بخطايا الشعب، طالبًا مراحم الله، نصها الآتي:
“وان تكن آثامنا تشهد علينا يارب،
فأعمل لأجل اسمك.
لأن معاصينا كثرت.
إليك أخطأنا.
يا رجاء إسرائيل مخلصه في زمان الضيق.
لماذا تكون كغريبٍ في الأرض؟!
وكمسافرٍ يميل ليبيت؟!
لماذا تكون كإنسانٍ قد تحيّر؟!
كجبارٍ لا يستطيع أن يخلص؟!
وأنت في وسطنا يارب،
وقد دُعينا باسمك.
لا تتركنا” [7-9].
يعترف إرميا النبي عن خطايا الشعب كأنها خطاياه الشخصية. بهذا حمل نبوة عن السيد المسيح الذي حمل خطايا العالم على الصليب، حيث يقول: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟!” (مت 27: 46).
هذه مشاعر الحب الحقيقي التي يليق بكل مؤمن أن يتمتع بها، حيث يتألم مع آلام كل عضو، مصليًا لأجل الآخرين كما لأجل نفسه، حاسبًا سقوط الغير كأنه سقوط له. وكما يقول القديس بولس: “اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم” (عب 13: 3).
مرثاة رائعة، لو أنها قدمت من الشعب لتغير التاريخ كله. قدمها إرميا عن الشعب، لكن لم تخرج من أعماق قلب الشعب. ربما حفظها البعض وكرروها بلسانهم دون قلبهم… لهذا لم يستجب الرب!
ما نفعها إذن؟ انتفع بها إرميا نفسه، وتزكي هو ومن حوله، كما قدمها مثالاً حيًا للتوبة عبر الأجيال ينتفع بها الكثيرون.
يبدأ المرثاة بالاعتراف بالخطية، فإنه إذا ما تمت محاكمة لا حاجة إلى شهودٍ، فإن آثامنا تشهد ضدنا: أفكارنا وكلماتنا وتصرفاتنا تقف كخصمٍ ضدنا.
مقابل هذا الشاهد نجد “اسم الله” مدافعًا عنا، فهو رجاء الشعب. يقصد بقوله “من أجل اسمك” أي لأجل كرامتك ومجدك (يش 7: 9؛ إش 48: 9-11). بالنسبة للعبرانيين “الاسم” غالبًا ما يُعنى به سمة الشخص الأساسية[287]].
هنا الكلمة العبرية المترجمة “رجاءً” تعني “رجاءً” في (عز 10: 2)؛ و”آمانًا” في (1 أي 29: 15)، وأيضًا بمعنى “بركة ماء” كما في (حز 7: 19). كأن الله يصير بالنسبة لهم ينبوع مياه ينزع عنهم حالة الجفاف. ُيقدم ذاته لنا شبعًا حسب احتياجاتنا.
أما دعوة الله كمخلص لشعبه [8] فهو أمر تقليدي وشائع (هو 13: 4):
“لأني أنا الرب إلهك، قدوس إسرائيل مخلصك” (إش 43: 3)،
“أنا أنا الرب وليس غيري مخلص” (إش 43: 11).
ويرى البعض أن الكلمة هنا تحمل معنى “الشفيع” عن شعبه، و”المدافع” أو “المحرر“.
أما قوله “في زمن الضيق” فتُفهم أيضًا بمعنى “في زمن القحط”! حينما تشتد التجربة ويدخل الإنسان كما في مجاعة، لا يجد من يشفع فيه إلا الله مخلصه، الذي لا يقدم له حلولاً خارجية بل يقدم نفسه ينبوع مياه حية وغنى وشبعًا وراحة للنفس، فتتغنى قائلة: ” الرب راعي فلا يعوزني شيء” (مز 23: 1).
يقول: “لماذا تكون كغريبٍ في الأرض؟
وكمسافرٍ يميل ليبيت؟” [8].
يُشبه الله بمسافر يطلب ملجأ ليقضي ليلة أثناء تجواله. وكأن إرميا وهو يقدم المرثاة يعاتب الله مخلص شعبه قائلاً: أليس شعبك هذا هو نصيبك، وأرضك، وبيتك المقدس؟ فلماذا تسير كمن هو غريبٍ عنهم، تطلب ملجأ لك خارج بيتك؟ هل تحّول بيتك إلى جحيم لا تطيقه، فتهرب منه كمن هو في وسط برية يطلب مكان راحة لمدة ليلة؟!
إننا لسنا غرباء عنك، ولا أنت بغريبٍ عنا، لا تنقصك الحكمة فتكون كإنسانٍ في حيرة، ولا القوة فتكون كمن لا يقدر أن يخلص. حضرتك وسط شعبك أكيدة، وقد دُعي اسمك علينا فلا تتركنا. إننا نتمسك بك يا مخلصنا!
لعل إرميا النبي يشارك موسى النبي الذي وقف يشفع في الشعب حين طلبوا رجمه مع هرون، فأراد الله أن يبيدهم ويقيم من موسى شعبًا أكبر وأعظم (عد 14: 12)، إذ قال للرب: “فإن قتلت هذا الشعب كرجلٍ واحدٍ يتكلم الشعوب الذين سمعوا بخبرك قائلين: لأن الرب لم يقدر أن يُدخل هذا الشعب إلى الأرض التي حلف لهم قتلهم في القفر” (عد 14: 15). كأن إرميا النبي يقول للرب: إن كنت اعترف باستحقاق الشعب للتأديب القاسي، لكن إذلالهم بواسطة أمة غريبة كالبابليين حيث يصيرون كمسافرٍ بلا مبيت يُنسب إليك، فتحسب أنت هكذا، لأن ما يحدث لشعبك ينسبه الأمم إليك شخصيًا، فيظنون أنك عاجز عن إنقاذهم وحمايتهم وإشباع احتياجاتهم.
جاءت إجابة الرب على المرثاة التي قُدمت باسم الشعب:
“هكذا أحبوا أن يجولوا.
لم يمنعوا أرجلهم، فالرب لم يقبلهم.
الآن يذكر إثمهم ويعاقب خطاياهم.
وقال الرب لي: لا ُتصلِ لأجل هذا الشعب للخير” [10-11].
نجد حوارًا مشابهًا بين الله والشعب في الرؤيتين اللتين سجلهما عاموس النبي (عا 7: 1-6)، غير أننا نجد في عاموس الله يستجيب للصلاة ويُنزع التأديب، أما هنا فالتأديب يحل بالشعب والحيوانات، مع تأكيد حتمية التأديب على المعاصي المرتكبة [10].
يتحدث الله مع شعبه في صيغة الغائب، قائلاً: “هذا الشعب“، وليس “شعبي”، إذ ينسحب الله من الانتساب إليهم، لأنهم خانوا العهد، بهذا فقدوا سمتهم كشعبٍ دخل مع الله في ميثاق، أي فقدوا حقهم في الحوار المباشر معهم كطرفٍ في العهد الإلهي.
أحبوا أن يجولوا… هنا كلمة “يجولوا” تشير إلى الأشجار التي تحركها الرياح يمينًا ويسارًا، أو إلى ترنح الإنسان المخمور الذي فقد اتزانه (إش 29: 9). هكذا صاروا يتحركون من هنا وهناك بلا هدف ولا اتزان، يجولون بعيدًا عن الله الطريق الحق. ليس لهم ضابط ولا التزام، فيسلكون طريق الإثم، لهذا استحقوا التأديب.
لقد أحبوا التجوال لا الاستقرار في حضن الله، ظانين أن حريتهم وسعادتهم خارج الحب الإلهي. هؤلاء يتطلعون إلى الاتحاد مع الله حرمانًا من الحرية وكبتًا وفقدانًا للملذات! يسلكون طريق الابن الضال الذي ترك بيت أبيه، لكن بقى قلب الأب ينتظر عودته ليرد له كرامته ويشبعه!
هنا يعود فيكرر الله طلبته لإرميا للمرة الثالثة ألاّ يُصلي لأجل الشعب كي يرفع الله عنهم التأديب. تكرار الطلب يؤكد أن إرميا لم يكف عن الصلاة من أجل الشعب، وكأن ما سأله الله إياه لم يكن أمرًا عصاه النبي، إنما هو إعلان عن عدم استجابة الصلاة في هذا الأمر (رفع التأديب) بالذات.
مسئولية الأنبياء الكذبة [13-16].
“حين يصومون لا أسمع صراخهم،
وحين يصعدون محرقة وتقدمة لا أقبلهم،
بل بالسيف والجوع والوبأ أنا أفنيهم” [12].
ليس فقط يسأل إرميا ألا يُصلي لأجلهم، وإنما يرفض أصوامهم وذبائحهم وتقدماتهم (غالبًا ما يقصد بها الحنطة والدقيق والكعك كما جاء في لاويين 2)، لأنهم يقدموها طلبًا للعتق من التأديب، وليس للالتصاق به؛ يخافون الحرمان من الزمنيات ولا يهتمون بحرمانهم من الله، فإنه لا يطلب صلوات الفم والأصوام والتقدمات ما لم تقترن بالتوبة الصادقة والشوق الحقيقي للالتصاق به، والطاعة لوصيته، والتسليم الكامل لإرادته الإلهية.
v ها أنتم ترون كيف لا يعتبر الله الصوم صالحًا في ذاته، إنما يصير صالحًا وسارًا متى اقترن بأعمال أخرى… وفي ظروف معينة لا يحسب الصوم باطلاً بل ومكروها[288].
الأب ثيوناس
التأديب بالسيف والجوع والوبأ ثالوث مرتبط معًا، تكرر 13 مرة في إرميا، كما تكرر في حزقيال (14: 21) وإشعياء (51: 19) الخ. وهم علامة اللعنة التي تحل بالشعب في فساده (تث 7: 12-16؛ 32: 23-25)، وأُعطى لداود النبي أن يختار التأدب بإحدى هذه الثلاثة عندما أخطأ (2 صم 24: 13) ويرى W. Holladay أن هذا الثالوث وُجد في التقليد اليهودي الشفوي قبل إرميا[289].
إذ يتحدث إرميا على لسان الشعب يكمل حواره مع الله كمن يُعطي عذرًا للشعب أنهم خُدعوا بواسطة الأنبياء الكذبة.
“فقلت: آه يا سيد الرب (اطلع)
هوذا الأنبياء يقولون لهم:
لا ترون سيفًا ولا يكون لكم جوع،
بل سلامًا ثابتًا أعطيكم في هذا الموضع.
فقال الرب لي: بالكذب يتنبأ الأنبياء باسمي.
لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم.
برؤيا كاذبةٍ وعرافةٍ وباطلٍ ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم” [13-14].
اتسم هؤلاء الأنبياء بالخداع والكذب، يخدعون حتى أنفسهم، فيظنون أفكارهم الخاصة بهم هي إرادة الله. بينما ينطق إرميا النبي بالحق الإلهي، ولو كان مؤلمًا غير مقبولٍ من الشعب. يتكلم الأنبياء الكذبة بالباطل، إذ ينطقون بالناعمات لإراحة ضمائر الخطاة. الأول يتحدث بلسان الرب ويعلن بأمانة عن إرادته وخطته وتأديباته، أما الآخرون فيتكلمون من عندياتهم.
“لذلك هكذا قال الرب عن الأنبياء الذين يتنبأون باسمي وأنا لم أرسلهم،
وهم يقولون: لا يكون سيف ولا جوع في هذه الأرض،
بالسيف والجوع يفني أولئك الأنبياء.
والشعب الذين يتنبأون له يكون مطروحًا في شوارع أورشليم من جرى الجوع والسيف.
وليس من يدفنهم هم ونساؤهم وبنوهم وبناتهم.
وأسكب عليهم شرهم” [15-16].
أولاً: أخطأ الأنبياء الكذبة لأنهم يخدعون الآخرون ولو بكلمات معسولة لإراحة ضمائرهم.
ثانيًا: يتنبأون باسم الله الذي لم يرسلهم، فمن جانب يدعون كذبًا أنهم مرسلون منه، ومن جانب آخر ينسبون لله ما يقولونه كذبًا.
ثالثًا: كلماتهم المعسولة ليس فقط تعجز عن تقديم راحة صادقة للشعب، وإنما هم أنفسهم أيضًا يهلكون.
رابعًا: إن كان المنتمون لهم مخدوعين لكنهم ليسوا أبرياء، لأن الله أرسل لهم أنبياء يشهدون للحق الإلهي، فهم بلا عذر. لقد قبلوا وهم عميان أن يقتادهم عميان، فسقط الكل في حفرة التأديب الإلهي. عندما حذر السيد تلاميذه والشعب من الفريسيين قال لهم: “هم عميان قادة عميان. وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة” (مت 15: 14). يليق بالمؤمن أن يكون له روح التمييز ليدرك النبي الحقيقي من المخادع.
خامسًا: لا يقف التأديب عند الأنبياء الكذبة والشعب، لكن حتى المدينة المقدسة تتنجس بجثث الموتى المُلقاه في شوارعها بلا دفن.
سادسًا: الهلاك على مستوى أسرى، فالتأديب يلحق بالرجل كما بالمرأة، وبالوالدين كما بالأبناء.
حوار بين الله والنبي[17-22].
في الحوار بين الله والنبي إرميا بخصوص ما يحل بالشعب من تأديبات بسبب شرورهم نلاحظ الآتي:
أولاً: ليس فقط الخليقة تئن بسبب القحط، وإنما يشاركها إرميا النبي نفسه، ليس حزنًا على الخسائر المادية، وإنما على ما بلغه الشعب من قحطٍ روحي من جهة كلمة الله وقبول إرادته.
“وتقول لهم هذه الكلمة:
لتذرف عيناي دموعًا ليلاً ونهارًا ولا تُكفا،
لأن العذراء بنت شعبي سُحقت سحقًا عظيمًا بضربة موجعة جدًا” [17].
أمر الله إرميا أن يكف عن الصلاة من أجل الشعب بخصوص رفع التأديب عنهم، لكننا لم نسمعه يأمره بالكف عن البكاء من أجلهم، بل بالعكس نراه هنا يطلب من إرميا أن يكون بكاؤه علانية، وأن يعلن للشعب أنه لن يتوقف عن البكاء ليلاً ونهارًا، بكاء من يئن لأجل عذرائه الوحيدة المنسحقة جدًا بضربة مرّة للغاية. كأن الله يعتز بهذه الدموع، لأنها تعبر عن المشاعر الإلهية خلال نبيه. فهو وإن أدّب لا يطلب لشعبه السحق العظيم بل الفرح المجيد بالتوبة والرجوع إليه.
هذا ومن جانب آخر فإن دموع النبي تشهد عن وداعة النبي، ينطق بالحق الإلهي لا في تشامخٍ وعجرفة كالأنبياء الكذبة بل بروح الاتضاع والانسحاق، مع مشاركة الشعب آلامهم.
اشتهي إرميا أن تتحول رأسه إلى ماءٍ وعيناه إلى ينبوع دموع ليبكي نهارًا وليلاً (9: 1). يبدأ بالنهار ويكمل بالليل، يرى أعمالهم نهارًا فيبكيهم، ويعود بالليل إلى مخدعه ليُصلي بدموع من أجلهم. أما بالنسبة لله، إذ يتحدث عن دموع إرميا فيقول “ليلاً ونهارًا“، ففي عينيه دموع الصلاة من أجلهم لها الأولوية عن دموعه في النهار وهو يراهم يخطئون.
لا يكفي أن نبكي أحباءنا، بل أن نُصلي حتى في الخفاء بدموعٍ عنهم؛ هذا أعظم وأثمن في عيني الله!
ثانيًا: هلاك عام في الحقول كما في المدن، بين الشعب كما بين الأنبياء الكذبة.
“إذا خرجَت إلى الحقل فإذا القتلى بالسيف،
وإذا دخلت المدينة فإذا المرضى بالجوع،
لأن النبي والكاهن كليهما يطوفان في الأرض ولا يعرفان شيئًا” [18].
وكما جاء في (تث 28: 6): “ملعونًا تكون في المدينة، وملعونًا تكون في الحقل”.
يرى البعض في العبارة الأخيرة “يطوفان في الأرض (حيث) لا يعرفان شيئًا” إن النبي والكاهن إذ رفضا إرادة الرب هنا صار مصيرهما الجحيم، يطوفان هناك حيث لا توجد “المعرفة” بل يكونا في “جهالة”، ويرى البعض أن هذه النبوة تحققت بسبي يهوذا حيث أُقتيد الأنبياء والكهنة إلى أرض لا يعرفون عنها شيئًا.
ثالثًا: اكتشاف الرجاء الباطل الذي قدمه الأنبياء الكذبة بروح الخداع.
“هل رفضت يهوذا رفضًا؟!
أو كرهت نفسك صهيون؟!
لماذا ضربتنا ولا شفاء لنا؟!
انتظرنا السلام، فلم يكن خير،
وزمان الشفاء فإذا رعب” [19].
كنائبٍ عن الشعب الذي أعماه الأنبياء الكذبة بخداعاتهم يحاور الله متعجبًا كيف يرفض الله يهوذا، وتكره نفسه صهيون، ويضرب بلا شفاء، ينزع السلام ويسمح لهم بالرعب. كانت حجج الأنبياء الكذبة أن الله سلَّم إسرائيل لأشور لأنها انشقت عن مملكة يهوذا وعن السبط الملوكي، وحرموا أنفسهم من أورشليم التي تمثل صهيون. أما بالنسبة ليهوذا فليس من ضرباتٍ بلا شفاء، ولا من رعبٍ، بل صحة وسلام، لأنها تضم السبط الملوكي وتحتضن أورشليم مدينة الله حيث الهيكل والعبادة القانونية.
رابعًا: يستدر إرميا النبي مراحم الله، معترفًا بخطاياهم وخطايا آبائهم كأنها خطاياه الشخصية، إذ يقول:
“قد عرفنا يا رب شرنا، إثم آبائنا،
لأننا قد أخطأنا إليك” [20].
عندما يشير إلى آثام الآباء لا يعني أن الإنسان يجني ثمرة آثامهم، إنما هنا تأكيد أن الخطية متأصلة فيهم عبر الأجيال، وأنه توجد خطايا جماعية عاش الكل فيها جيلاً بعد جيل.
يتوسل إرميا إلى الله، ليس متكلاً على برٍ ذاتي، ولا على عبادةٍ ما، وإنما على الآتي:
أ. لأجل اسم الله القدوس:
“لا ترفض لأجل اسمك” [21].
حينما يُذكر اسم الله يُعني به الله نفسه، هذا واضح في صلاة السيد المسيح الوداعية: “وعرفتهم اسمك وسأعرفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم” (يو 17: 26). اكتشف المرتل قوة اسم الله كمصدر قوة وفرح:
“لأننا على اسمه القدوس اتكلنا” (مز 33: 21).
“ارفعوا بنا اسمه جيعًا” (مز 34: 3).
“باسمك نرذل كل الذين يقولون علينا…” (مز 44: 5).
“باسمك نعترف إلى الدهر” (مز 44: 8).
“يبتهج بك محبوا اسمك” (مز 5: 11).
“أرنم لإسمك أيها العليّ” (مز 9: 2)
“ما أمجد اسمك في كل الأرض” (مز 8: 1).
ب. لأجل كرسي مجده:
“لا تهن كرسي مجدك” [21].
كرسي مجد الله هو السماء كما جاء (إش 66: 1)، غير أن النبي يدرك أن الله يُريد أن يقيم ملكوته في صهيون الروحية، في وسط شعبه حين يتقدس، فيُقال: “الله جلس على كرسي قدسه” (مز 47: 8). ويجلس الله في النفس المقدسة كما في عرشه، وكما يقول الأب أنثيموس الأورشليمي: [كرسي الله هم الصديقون، الذين لأجل طهارتهم يستريح الله فيهم[290]].
ج. من أجل الميثاق الذي أقامه الله مع شعبه:
“اذكر. لا تنقض عهدك معنا” [21].
د. لأنه الخالق وحده:
“هل يوجد في أباطيل الأمم من يمطر؟!
أو هل تعطي السموات وابلاً؟!
أما أنت هو الرب إلهنا؟!
فنرجوك لأنك أنت صنعت كل هذه” [22].
إن كان الله قد سمح بالجفاف، فهو الخالق المهتم بخليقته، هو واهب المطر. ليس من يقدر أن يخلصهم من القحط إلا الخالق نفسه. الله الذي أجاب بنارٍ من السماء في أيام إيليا التهمت الذبيحة وكل المياه التي حولها، يستطيع أن يجيب بمطرٍ من عنده. وكما يقول زكريا النبي، “اطلبوا من الرب المطر في أوان المطر المتأخر، فيصنع الرب بروقًا ويعطيهم مطر الوبل” (زك 10: 1).
خامسًا: حوار إرميا النبي مع الله يشبه ما ورد في إنجيل (لو 13: 6-9) بين الكرام وصاحب الكرم، إذ توسل الأول لأجل التينة التي لم يجد فيها ثمرًا، قائلاً له: “يا سيد اتركها هذه السنة أيضًا حتى أنقب حولها وأضع زبلاً، فإن صنعت ثمرًا وإلا ففيما بعد تقطعها”.
من وحي إرميا 14
إنك لا تُسر بجفاف بريتي
v إني أعلم يا سيدي أنه بسبب خطاياي حلّ بي القحط!
لقد صرتُ فاترًا، وجفت ينابيع دموعي.
فقدتُ سلامي الداخلي وفرحي فيك.
وتحوّل فردوسي إلى برية جافة!
v ارتعبت نفسي وامتلأت عويلاً عوض الفرح ببهجة الخلاص!
ليس عويل التوبة المملوء رجاءً فيك!
إنما هو عويل الصرخات المرّة اليائسة!
v أصابني العار والخزي،
من يرد لي كرامتي ويهبني مجدًا؟!
كلت عيناي من الحزن… فقد ترقبتا الموت الأبدي!
من يهبني الاستنارة ويبعث في الحياة المُقامة؟!
v إني أعلم يا سيدي أنك لا ُتسر بجفاف بريتي!
ليعمل روحك في داخلي كينابيع مياه حية!
يفضح جفاف بريتي ويبكتني على خطيتي!
يحول بريتي إلى فردوسٍ مبهجٍ مملوء من ثمر الروح!
ليصلب أعمال إنساني القديم ويهبني أعمال الإنسان الجديد!
ليحملني كما بجناحيّ الحمامة إلى حضن الآب السماوي!
ليفتح بصيرتي ولتشرق بنور وجهك عليّ!
ردّ لي كرامتي ولتمتعني بعربون المجد الأبدي!
v أعترف لك إنني مستحق أن يحل بي القحط،
لكن نعمتك عجيبة وغنية،
وروحك القدوس واهب التوبة والتقديس!
متى أنطلق من البرية الجافة إلى فردوسك المقدس يا مخلصي؟!
v أخيرًا أعلن بحق إني أخطأت أنا وكل بيت آبائي!
ليس لي ما يسندني إلا اسمك القدوس الذي دُعي عليّ.
لا ترفضني، فإني أختفي فيه، لأنني على اسمك اتكلت.
أذكر أنك قبلتني كرسيًا لمجدك،
فلتقدسني ولتسترح في داخلي!
لقد كتبت ميثاق حبك العملي بدمك الثمين،
فلتعمل إذن فيّ يا مخلصي الحبيب!
تفسير إرميا 13 | تفسير سفر إرميا | تفسير العهد القديم |
تفسير إرميا 15 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر إرميا | تفاسير العهد القديم |