تفسير سفر إرميا ٤ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الرابع
زينة العروس
أكثر عبارات هذا الأصحاح والأصحاحين التاليين، منظومة في العبرية شعرًا، لذلك يرجح أن تكون مجموعة خطب أو أقوال ألقاها النبي منظومة مقفَّاة، ليدفع الشعب إلى التوبة، ويحفظهم من الخطر المصَّلت على رقابهم.
إذ يطلب الله من شعبه الرجوع إليه، كاشفًا عن غيرته عليهم، وحبه الشديد نحوهم، يطلب إليهم ألا يرجعوا إليه بفسادهم ورجاساتهم، وإنما أن يتزينوا بجمال داخلي كعروس سماوية مقدسة.
التوبة وسيلة التزين[1-2].
يقول الأب شيريمون: [إنه يقارن أورشليم (النفس البشرية) بامرأة زانية تطلب رجلاً، ويقارن الله في محبته لنا بزوج يموت في حبه لعروسه… أشبه برجل يحترق بنار محبته لامرأته، ويذوب لأجل حبه قدرما يراها تستخف به وتستهين[117]].
إنه يلح في طلب رجوعها إليه، لكنه يطلبها ترجع مقدسة له، إذ يقول: “إن رجعت يا إسرائيل يقول الرب، إن رجعت إليّ، وإن نزعت مكرهاتك من (فمك) من أمامي فلا تتيه” [1].
يطلب من عروسه أن تتخلى عن العبادة الوثنية، وعن جحودها له. هذه هي المكروهات… يبغضها الله لأنها تحتل قلب الإنسان، وتغتصب ملكوت الله، وتفسد الحياة
الداخلية، فتجعل النفس في حالة تيه، لا تعرف رسالتها ولا حتى تقدير الله لها.
لنترك كل صنم نُقيمة في القلب، وكل عبادة غريبة، وكل اتكال على ذراع بشر، وكل رغبة في إرضاء الناس وطلب مديحهم، وكل خطية بالفكر أو القول أو العمل… أي كل مكروه لدى الله. بهذا يتقبلنا الله عروسًا مقدسة له، وفينا يتبارك الكثيرون، إذ يجعلنا ليس فقط مُباركين بل بركة لغيرنا، يباركون الله العامل فينا وفيهم وينالون بركته.
يقول العلامة أوريجينوس: [ما هي الأشياء التي يجب على إسرائيل القيام بها حتى تبارك الشعوب الله فيه؟
“إن نَزَع مكرهاته من فمه” [1].
ولكن ماذا يعني هذا؟
إن كل ما نقوله من شر هو مكروه في فمنا. فلننزعه إذًا بنزع الشتائم، والكلمات الفارغة، والكلمات العقيمة التي من شأنها إدانتنا، لأنه بكلامك تتبرر وبكلامك ُتدان”[118]].
يطالبها ألا تحلف بالآلهة الوثنية بل به، تحلف بالحق والعدل والبر [2]. كان القسم قديمًا علامة الثقة بالإله الذي يقسم الإنسان به، لهذا عندما كان الله يطلب من شعبه القسم باسمه كان يطلب أن يحفظهم من القسم بالآلهة الوثنية والإيمان بها.
يعلق العلامة أوريجينوس على القول الإلهي: “وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر فتتبرَّك الشعوب به، وبه يفتخرون” [2]، قائلاً:
[لننظر إلى أنفسنا نحن الذين نحلف، ولنَر كيف أننا لا نحلف بالعدل، وإنما بدون عدل، حتى صارت أقسامنا كثيرة على سبيل العادة، لا على سبيل الحق.
المشكلة هنا هي أن نترك أنفسنا تُساق بواسطة الخطية، فنعتاد عليها. هذا ما ينتقده الرب بقوله: “وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر”.
أننا نعلم أن الرب قال لتلاميذه في الإنجيل: “وأما أنا فأقول لكم: لا تحلفوا البتة” (مت 5: 34).
لندرس هذه الآية، ونضع الآيتين معًا. ربما يلزمنا أن نبدأ بالقول: “احلفوا بالحق والعدل والبر”، حتى إذا ما تقدمنا ونمونا في النعمة بعد ذلك نستعد ألا نحلف البتة، بل يكون لنا الـ “نعم” الذي لا يحتاج إلى تأكيد الأمور بالقسم، ويكون لنا الـ “لا” الذي لا يحتاج إلى شهادة إثبات أن الأمر ليس هكذا.
“وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر”.
بالنسبة لمن يحلف لابد أولاً ألا يكون كاذبًا بل صادقًا، فيحلف بالحق. أما نحن البائسون فكثيرًا ما نُقسم كذبًا بالباطل.
إن افترضنا أننا نحلف بالحق، فإن هذا القسم يخالف الشريعة، إذ يجب أن يكون “بالعدل” بجانب أنه “بالحق”، لأنه إن افترضت أنني أحلف كعادة، ففي هذه الحالة لا يوجد عدل… لأننا نجعل من رب هذا الكون ومسيحه شاهدًا على أمر ما. فما أهمية هذا الأمر حتى أنحنى على ركبتي وأقسم؟…[119]].
مما يدعو البعض إلى الدهشة أن يقدم النبي التزام الشعب بالقسم باسم الرب الحيّ بالحق والعدل والبر علامة على التوبة. قد يبدو أن هذا الأمر تافه، لكن من يدرس الأمر في عمق يلاحظ أنه كاد الشعب كله والقيادات أن يعبدوا الأوثان، فكان قسمهم باسم الآلهة الغريبة. فالقسم باسم الرب الحيّ علامة على ترك العبادة الوثنية. الأمر الثاني أن ما ينطق به الفم إنما هو من فضلة القلب. فالقلب النقي المستقيم ينطق بالحق والعدل والبر، لا يعرف إلا الصدق، وليس للكذب موضع! وكأن القسم هنا يكشف عن استقامة الإيمان مع استقامة السلوك.
في اختصار نقول إن التوبة كما يقدمها لنا هذا الأصحاح ليست ندامة ورجوعًا عن الرجاسات فحسب، إنما هي رجوع وإخلاص لله واتحاد معه، فتتمتع بالحق الإلهي والعدل والبر.
أما الوعد فهو: “تتبرك الشعوب به، وبه يفتخرون” [2]. ما هو هذا الوعد الإلهي إلا التمتع بغنى الحياة الجديدة وكمالها كعطية إلهية.
قُدم هذا الوعد لآبائنا إبراهيم وإسحق ويعقوب (تك 12: 3؛ 18: 18؛ 26: 4). وقد تحقق الوعد بمجيء السيد المسيح الذي به تتبارك شعوب العالم.
التمتع بختان القلب[3-9].
إذ كانت مملكة إسرائيل قد عصت الرب علانية، وأقامت العبادة الوثنية عوض عبادة الله الحيّ، لذا طالبها بنزع هذه العبادة المكروهة بكل رجاساتها (1-2)، أما مملكة يهوذا فسلكت طريقًا آخر، وهي المزج بين العبادة الحقيقية والوثنية. في المظهر يذهبون في الأعياد إلى أورشليم، يقدمون ذبائح وتقدمات للرب، ويمارسون العبادة في شكلياتها، ويتمسكون بحرفية الناموس، أما قلوبهم فمرتبكة بالوثنية. إنهم يعتزّون بكونهم أهل الختان… بينما قلوبهم غير مختتنة. لهذا جاءت الوصية إليهم تلزمهم بالدخول إلى الأعماق، ليمارسوا ختان القلب الخفي، ويهتموا بالمجد الداخلي.
“لأنه هكذا قال الرب لرجال يهوذا وأورشليم:
احرثوا لأنفسكم حرثًا، ولا تزرعوا في الأشواك.
اختتنوا للرب، وانزعوا غُرل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أورشليم.
لئلا يخرج كنارٍ غيظي فيحرق، وليس من يطفئ بسبب شر أعمالكم” [3-4].
جاءت الدعوة هنا إلى رجال يهوذا وأورشليم، وكما يقول العلامة أوريجينوس:
[أنني أتذكر ما قيل حديثًا حول المعنى الرمزي ليهوذا وسكان أورشليم: فإننا نحن أيضًا، إذا أعطانا الرب هذه النعمة، سوف نكون سكان أورشليم. بما أنه “حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا”، فإن كان كنزنا في السماء يكون قلبنا أيضًا في أورشليم السمائية، التي يقول عنها الرسول: “وأما أورشليم العليا التي هي أمنا جميعًا فهي حرة” (غل 4: 26)[120]].
يستحيل أن يُرجى ثمر روحي إلهي ممن َيزرعون في أرض قفر مملوءة بالأشواك الخانقة، إنما يجب أن تُشق بشفرة المحراث لتبكيت تربة القلب القاسية… ففي مثل الزارع يقول السيد المسيح: “وسقط آخر على الشوك فطلع الشوك وخنقه” (مت 13: 7). وجاء في هوشع ضرورة حرث الأرض لنزع الشوك وزرع بذار البر: “ازرعوا لأنفسكم بالبر، احصدوا بحسب الصلاح، احرثوا لأنفسكم حرثًا، فإنه وقت لطلب الرب حتى يأتي ويعلمكم البر” (10: 12).
إن كانت تربة قلوبنا مملوءة أشواكًا فبصليب ربنا يسوع المسيح تُحرث فتصير صالحة، يُنزع عنها الشوك بكونه الغرلة. هذا هو ختان القلب الذي يرتبط بالصليب، ولا يختنق بأشواك هموم الحياة وملذاتها الباطلة.
يقول القديس أغسطينوس: [اقلبوا التربة الصالحة بالمحراث، ازيلوا الحجارة من الحقل، انزعوا الأشواك عنها…
احذروا من أن تختنق البذار الصالحة التي زُرعت فيكم خلال جهادي (رعاية القديس لهم)، وذلك بواسطة الشهوات واهتمامات هذا العالم.
كونوا الأرض الجيدة، وليأتِ الواحد بمئة والآخر بستين، وآخر بثلاثين[121]].
ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما يُستخدم المحراث في الحقل فيقلب الأرض من أسفل ليُعد مقدمًا ملجأ آمنًا للبذار، حتى لا تنتثر على السطح، بل تختفي في رحم الأرض ذاتها، فتودع جذورها في آمان، هكذا يليق بنا نحن أيضًا أن نعمل، فنستخدم محراث الضيقات لحرث أعماق القلب.
ينصحنا نبي آخر، قائلاً: “مزقوا قلوبكم لا ثيابكم” (يؤ 2: 13).
لنمزق قلوبنا، حتى متى وُجد فيها زرع شرير، أو فكر مخادع نقتلعه بجذوره، فنهيئ تربة نقية لبذار الصلاح.
إن كنا الآن لا نحرث الأرض البور، إن كنا لا نبذر الآن، إن كنا لا نرويها الآن بالدموع، مادام وقت ضيق وصوم، فمتى نلوم أنفسنا؟! هل يحدث هذا عندما نصير في ُيسر وترف؟! مستحيل! فإن اليُسر والترف بوجه عام يقودانا إلى التراخي، كما تردنا الضيقة إلى الجهاد، ترد الذهن الذي ضل بعيدًا وصار هائمًا يحلم بأمور كثيرة[122]].
يرى العلامة أوريجينوس أن الحديث هنا ينطبق على المعلمين والكارزين، إذ يهتم بعضهم بتقديم العقائد الإيمانية خارج دائرة الخلاص العملي، فيكونوا كمن يقدمون بذارًا صالحة وسط الأشواك. إذ يقول:
[“احرثوا لأنفسكم حرثًا، ولا تزرعوا في الأشواك” [3].
قيل هذا الكلام على وجه الخصوص للمعلمين والمبشرين؛ حتى لا ينطقوا بكلمات الإنجيل للسامعين قبل تهيئة حقولٍ جديدة (محروثة) في نفوسهم. لأنهم متى هيأوا حقولاً جديدة في النفوس، ومتى أصبح الناس مُعدين لاستقبال التعاليم كما في الأرض الجيدة الصالحة، عندئذ يزرعون ليس في الأشواك.
على العكس، قمنا نحن بزرع بذور مقدسة قبل أن نُعد حقولاً جديدة في عقول الناس، زرعنا عقيدة الآب والابن والروح القدس، والقيامة، والعقاب والراحة الأبدية والناموس والأنبياء وغير ذلك من تعاليم الكتاب المقدس. أننا بهذا نخالف الوصية التي تقول أولاً: “احرثوا لأنفسكم حرثًا” أعدوا لأنفسكم حقولاً جديدة، ثانيًا: “لا تزرعوا في الأشواك”.
قد يقول أحد السامعين: أنني لست أعلم، فهذه الوصية ليست لي.
ليكن! كن مزارعًا (معلمًا) لنفسك، ولا تزرع في الأشواك، إنما أعدد حقلاً جديدًا من قطعة الأرض التي سلّمها لك الرب. اهتم بهذه الأرض. ابحث أين توجد الأشواك، أين توجد الهموم والاهتمامات المادية وإغراءات الغنى وحب الشهوة، وانزع في الحال تلك الأشواك التي في نفسك. ابحث عن المحراث الروحي الذي قال عنه يسوع: “ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله” (لو 9: 62). بهذا تكون قد أعددت حقلاً جديدًا. بعد إعداد هذا الحقل، اذهب وخذ بذارًا من المعلمين ومن الشريعة والأنبياء والكتابات الإنجيلية وكلمات الرسل، وازرعها في نفسك بتذكرها وتنفيذها. ستبدو لك أن هذه البذار تنمو من تلقاء ذاتها، لكن الحقيقة أنها لا تنمو من مجرد تذكرك إياها، بل الرب هو الذي ينميها. “أنا غرست وأبلوس سقى، لكن الله كان ينمي” (1 كو 3: 6)[123]].
يرى البابا أثناسيوس في الكلمات النبوية: “احرثوا لأنفسكم حرثًا، ولا تزرعوا في الأشواك” [4]دعوة للجدية في استخدام نعمة الله الغنية المجانية، لأن طريق الكسلان كسياج من شوكٍ (أم 15: 19). إنه يظن أن أرضه تنتج خبزًا بلا عمل، فإذا بها تخرج له شوكًا…
لدينا وصية رسولية ألا تكون النعمة المعطاة لنا باطلة، الأمور التي كتب عنها القديس بولس إلى تلاميذه شخصيًا، موصيًا إيانا بها من خلالهم، كقوله: “لا تهمل الموهبة التي فيك” (1 تي 4: 14).
يوجد مثل له ذات المعنى: “من يشتغل بحقله يشبع خبزًا، أما طرق الكسلان فسياج من شوك” (أم 19: 12، 15). لذلك يحذرنا الروح القدس ألا نسقط في مثل هذه الأمور، قائلاً: “احرثوا لأنفسكم حرثًا، ولا تزرعوا في الأشواك”[124]].
“اختتنوا للرب وانزعوا غُرل قلوبكم” [4].
إذ يحرث الإنسان بصليب رب المجد يسوع داخل القلب لينزع الأشواك، يتمتع بختان القلب الروحي الخفي، وكما يقول الرسول بولس موبخًا المتكلين على ختان الجسد الخارجي: “لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديًا، ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانًا، اليهودي في الخفاء هو اليهودي؛ وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان، الذي مدحه ليس من الناس بل من الله” (رو 2: 28-29).
يقول القديس أغسطينوس: [يتفق هذا مع قوله: “دُعى أحد وهو مختون فلا يصر أغلف” (1 كو 7: 18). لقد كان يهوديًا، ودُعى مختونًا، ليته لا يطلب أن يصير أغلف، أي لا يعيش كمن هو ليس مختونًا[125]].
يقول العلامة أوريجينوس: [كان لابد أن يقول: “اختتنوا للرب”. فإن الختان من الجانب الجسدي لم يقتصر على أهل الختان حسب شريعة موسى وحدهم، وإنما مارسه أناس آخرون كثيرون. فكهنة الأوثان المصريون كانوا يختتنون لها (أي للأوثان)، فكان ختانهم للأوثان لا للرب، أما ختان اليهود فكان يمكن أن يكون للرب.
إن كنا قد فهمنا معنى “اختتنوا للرب” بالمعنى الحرفي، فلننتقل إلى المعنى الرمزي حتى نعرف كيف يوجد بين المختونين من هم مختونون للرب، وآخرون مختونون ليس للرب.
توجد عقائد أخرى بخلاف عقيدة الحق أي العقيدة الأرثوذكسية، هؤلاء الذين يعتمدون على الفلسفة. إنهم مختونون في أخلاقهم وقلوبهم ويمارسون ما يمكن أن نطلق عليه الاعتدال (الفضيلة)… هؤلاء مختونون ليس للرب، لأن ختانهم يتم بعقيدة كاذبة. ولكن حين تذهب إلى الكنيسة، وتتبع تعاليمها الحقة، فإنك لا تكون مختتنًا فحسب وإنما تكون مختتنًا للرب[126]].
كما يقول العلامة أوريجينوس: [تُوجد غرلة في القلب يجب نزعها.
الغرلة هي خلقية منذ الولادة، يأتي الختان بعد ذلك؛ فما جاء بالولادة ينزع بالختان.
إذا كانت الوصية تقول غرل قلوبكم، لابد أن يكون هناك في القلب شيء منذ الولادة يسمى غرلة، يجب علينا نزعه حتى نكون مختتنين من غرلة قلوبنا.
إذا دققنا النظر في العبارتين: “لقد كنا بالطبيعة أولادًا في الغضب”، “جسد هذا الموت” الذي وُلدنا فيه، وإذا تأملنا في القول “ليس أحد طاهرًا من دنس ولو كانت حياته يومًا واحدًا على الأرض”، نستخلص كيف أننا ولدنا بخطايا وبـغرلة في قلوبنا.
إذا كان القلب الذي فينا هو الذي يحمل العقل، حيث توجد الأفكار، ومنه تخرج الأفكار الشريرة، فإن من ينزع الأفكار الشريرة ينزع أيضًا غرلة القلب. أما من لا ينزع غرلة قلبه (متجاوبًا مع عمل الروح القدس فيه)، فلينظر ما يتوعده به الله: “لئلا يخرج كنارٍ غيظي فيحرق وليس من يطفئ”[127]].
إذن ليكن لنا ختان القلب الداخلي للرب، يقوم على عمل الروح القدس الذي ينزع غُرلة القلب ويهب ختانه، يُصلب الإنسان العتيق ويهبنا الجديد في مياه المعمودية.
العماد هو ختان القلب والروح، يعيشه المؤمن كل أيام حياته، ليعمل روح الله فيه بلا انقطاع، حتى يمارس الحياة الجديدة المُقامة مع المسيح.
هذه هي زينة العروس، الزينة التي يهبها لها الروح القدس في مياه المعمودية، والذي لا يتوقف عن تجميلها كل أيام غربتها، زينة الروح الداخلية… فلا تسمع التوبيخ: “وأنتِ أيتها الخربة ماذا تعملين؟ إذا لبستِ قرمزًا، تزينتِ بزينة من ذهب، إذا كحلتِ عينيكِ، فباطلاً تحسنين ذاتك” [30].
إذ نقبل عمل الروح القدس الناري فينا يلتهب قلبنا المختون بالحب الإلهي، أما إذا استعاد الغرلة، أي أعمال الإنسان العتيق، فيحترق بنار غضب الله.
” لئلا يخرج كنار غيظي، فيحرق وليس من يطفئ بسبب شر أعمالكم” [4].
يقول العلامة أوريجينوس: [يشتعل غضب الله مثل النار بالنسبة للذين لم يختتنوا له، هؤلاء الذين لم ينزعوا عنهم غُرل قلوبهم. “وليس من يطفئ بسبب شر أعمالكم“. طعام هذه النار هي الأعمال الشريرة التي نمارسها، فإن لم توجد أعمال شريرة لا تجد النار لها مأكلاً! [128]].
من لا يقبل عمل الروح الناري فيه يسقط في نار الغضب الإلهي، أي يسقط في مرارة تجلبها أعماله الشريرة عليه، كما جلبت خطايا يهوذا السبي بكل مذلته، هذا الذي يصفه إرميا النبي بصورة قاسية حتى لم يعد يقدر أن يحتمل المنظر [10]… كان صوت التحذير مستمرًا حتى لحظات السبي، إذ يقول:
“اخبروا في يهوذا وسمعوا في أورشليم وقولوا،
اضربوا بالبوق (shophar) في الأرض،
نادوا بصوتٍ عالٍ وقولوا:
اجتمعوا فلندخل المدن الحصينة.
ارفعوا الراية نحو صهيون.
احتموا. لا تقفوا. لأني آتي بشرٍ من الشمال وكسرٍ عظيم.
قد صعد الأسد من غابته وزحف مهلك الأمم.
خرج من مكانه ليجعل أرضك خرابًا،
تخرب مُدنك فلا ساكن،
من أجل ذلك تنطقوا بمُسُوح،
الطموا ولولوا،
لأنه لم يرتد حمو غضب الرب عنا.
ويكون في ذلك اليوم يقول الرب،
إن قلب الملك يُعدم وقلوب الرؤساء،
وتتحير الكهنة وتتعجب الأنبياء” [5-9].
الله القدوس الذي يطلب عروسه مزينة بالقداسة، إذ يراها تمارس الشر الذي يدفعها إلى السبي ينذرها، ويبقى ينذرها حتى اللحظات الأخيرة، فإنه يشتاق ألا تسقط في مرارة السبي… لقد أرسل من يخبرها، ويضربوا بأبواق كلمته، وينادوا بصوتٍ عالٍ، لعلهم يتركون القرى غير الحصينة ويدخلون إلى المدن الحصينة ويرفعون راية صهيون؛ أي يدخلون بالتوبة إلى حصنٍ إلهي ويحملون راية الكنيسة، راية الحب الإلهي، فيحتمون من الخطر.
يسألهم: “لا تقفوا“…. إذ يليق بالعروس أن تتحرك تجاه عريسها، تعلن حبها له عمليًا، كما تحرك هو أولاً نحوها، باذلاً حياته لأجلها.
إنه يكرر لها الدعوة بالتوبة حتى لا تسقط تحت التأديب القاسي.
يقول العلامة أوريجينوس: [كلمة الله تيقظ السامع، وتُعِده للحرب ضد الشهوات، وضد القوات الشريرة، وتهيئه أيضًا للولائم السمائية. إنها هنا بمثابة بوق.
“نادوا بصوتٍ عالٍ، وقولوا:
اجتمعوا فلندخل المدن الحصينة” [5].
لا يريدنا الله أن ندخل إلى مدينة غير محصنة، بل إلى مدينة محصنة. فقد تحصنت كنيسة الله بالحق الذي في المسيح يسوع؛ هو نفسه حصنها، كما يقول داود النبي في المزمور: “الرب صخرتي وحصني ومنقذي” (مز 18: 2).
أنتم جميعًا الذين كنتم خارج صهيون “ارفعوا الراية نحو صهيون (اهربوا إلى صهيون)؛ احتموا؛ لا تقفوا” [6].
أنتم الذين كنتم في تقدمٍ ونموٍ احتموا في صهيون. “لأني آتي بشرٍ من الشمال وكسر عظيم“. عند مجيء هذا الشر، من لا يحتمي ويدخل المدن الحصينة، أي كنائس الله، يبقى خارجًا، يمسكه الأعداء ويقتلونه.
من هو هذا العدو؟ لننظر إلى تكملة الحديث: “قد صعد الأسد من غابته وزحف مهلك الأمم” [7]. هذا هو العدو الذي يجب أن نهرب منه. من هو هذا الأسد الذي يتتبعنا؟ ينبهنا إليه القديس بطرس، قائلاً: “إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو، فقاوموه راسخين في الإيمان” (1 بط 5: 8-9).
يوجد أسد قد صعد من غابته؛ أين هي هذه الغابة؟ إنه سقط إلى أسفل. نزل إلى أسفل الأرض، إلى أعماقها.
أنت إنسان، أعلى من الشيطان، لأنك أفضل منه على أي الأحوال، أما هو فهبط إلى أسفل بسبب فساده…
إنه يريد أن يدخل إلى أرضك، يريد أن يفترس كل واحدٍ منا…
بما أن الأسد قد صعد إليك ليهددك ويخرِّب أرضك، البس المسوح وابكِ وتنهد وتضرع إلى الله بالصلوات، فيهلك هذا الأسد، وتتخلص أنت منه، ولا تقع بين أنيابه.
يحاول هذا الأسد أن يصطادك عن طريق آذانك، إذ يلقي إليك كلمات كاذبة محببة إلى نفسك، فيجعلك تحيد عن طريق الحق.
يريد أن يلتهم قدميك، وينزعها من فوق أرض الحق.
تمنطق بمسوح، واقرع صدرك، ابكِ، واصرخ صرخات الحرب حينما ترى العدو يهددك، فيرتد حمو غضب الرب عنك، عندئذ تستطيع بكل هدوء وطمأنينة أن تتصدى لكل هجمات الأسد، لأنك قد دخلت المدينة الحصينة[129]].
في وسط الخطر يفتح الله باب الخلاص، معلنًا أن غضبه لا يدوم إلى الأبد. إنه يغضب لأنه يرى العدو قادمًا كأسدٍ ليفترسنا ونحن في تهاوننا لا ندخل إليه كمدينة حصينة، ولا نقبله ملجأ لنا. يضرب كما ببوقٍ لكي نرجع إليه فيرجع هو إلينا.
ختان القلب يُكسب النفس جمالاً في عيني عريسها السماوي، مما يثير عدو الخير ضدها، فتدخل في حرب روحية، متسلحة بروح التوبة والاتضاع مع الاتكال على إمكانيات عريسها… ومع كل موقعة تتمتع بنصرة جديدة، فيزداد جمالها بهاءً.
ترك الأنبياء الكذبة [10-12].
كان قلب إرميا الرقيق يعتصر وهو يرى: “قد بلغ السيف النفس” [10].
يرى الشعب نائمًا فقد ظنوا أن الله خدعهم وخدع مدينته المقدسة أورشليم، ظنوه يتحدث على فم الأنبياء الكذبة، القائلين: “يكون لكم سلام” [10]. إنها كلمات الأنبياء المعسولة التي تعطي طمأنينة كاذبة ومؤقتة، يستطيب لها القادة العسكريون والدينيون مع الشعب، لكنها مجرد تسكين تدفع بهم إلى الخراب، وتدخل بهم إلى محاكمة الله لهم [14].
تقوم زينة العروس الداخلية على الشركة مع الله، أساسها التوبة الصادقة وختان القلب. لا تعطي أذنها للكلمات المهَّدئة للنفس إلى حين، الكلمات الطيبة اللينة، لكنها مخادعة، إذ تسمع “سلام، سلام، ولا سلام” (6: 14). هذه التي قال عنها الرب: “بالكذب يتنبأ الأنبياء باسمي؛ لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم، برؤيا كاذبة وعرافة وباطلٍ ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم… وهم يقولون: لا يكون سيف ولا جوع في هذه الأرض، بالسيف والجوع يفنى أولئك الأنبياء، والشعب الذي يتنبأون له يكون مطروحًا في شوارع أورشليم من جرى الجوع والسيف، وليس من يدفنهم هم ونساؤهم وبنوهم وبناتهم، واسكب عليهم شرهم” (14: 14-16). هؤلاء “يتكلمون برؤيا قلبهم لا عن فم الرب” (23: 26).
لترفض الكنيسة هذه الكلمات، ولتتقبل كلمات الله النارية، حتى وإن بدت قاسية ومُرّة، لكنها هي نار إلهية قادرة أن تهيئها كعروس مزينة لرجلها (رؤ 21: 2).
زينة العروس لا السلام القائم على كلمات الكذب التي نستطيب لها، وإنما على كلمات الرب التي تنزل على القلب كسيفٍ تبتر كل أثر للغرلة، وتحطم شره، ليُعلَن كمقِدسٍ للرب ومسكنٍ لروحه القدوس. لنقبل كلماته الجارحة، التي بجراحاتها تشفي جراحاتنا!
إلى يومنا هذا لا تزال النفس تنخدع لا بكلمات الأنبياء الكذبة الخارجين بل بالذين هم في داخلها، الأفكار الخطيرة المخادعة، لتستكين للخطية وتضرب بالشركة الإلهية والوصية عرض الحائط. مثل هذه النفس يبكى عليها السيد المسيح كما على أورشليم، قائلاً: “إنك لو علمتِ أنتِ أيضًا حتى في يومكِ هذا ما هو لسلامكِ، ولكن الآن قد أُخفي عن عينيكِ، فإنه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤكِ بمترسة ويحدقون بكِ ويحاصرونكِ من كل جهة، ويهدمونكِ وبنيكِ فيكِ ولا يتركون فيكِ حجرًا على حجرٍ لأنكِ لا تعرفين زمن افتقادكِ” (لو 19: 42-44).
بعدما يقدم الله تأديبه يحذر من العقوبة الأبدية… فقد سمح لهم بالسبي، لكن إن لم يرجعوا يسقطون في دينونة أبدية، إذ يقول: “في ذلك الزمان يقال لهذا الشعب ولأورشليم: ريح لافحة من الهضاب في البرية نحو بنت شعبي، لا للتذرية ولا للتنقية. ريح أشد تأتي لي من هذه. الآن أنا أيضًا أحاكمهم” [11-12].
إنه يتحدث مع شعبه كابنته “بنت شعبي” أو ربما” ابنتى الشعب my daughter-people” (11؛ 8: 19، 21، 22)، مؤكدًا مدى اهتمامه بالشعب المنتسب إليه كابنة له، وإن كانت تقابل حبه واهتمامه بالعصيان. لقد سمح لها بالسبي كريحٍ للتذرية، تفصل الحنطة عن الزوان، وبالتنقية كالنار التي تنقي الذهب والفضة… لكنه إذ يحل يوم الدينونة تصير العقوبة أبدية!
إدراك خطة الله وقبول التأديب[13-18].
إذ ترفض النفس الكلمات الكاذبة لتقبل كلمة الله الحية تكتشف خطة الله من نحوها، خاصة من جهة تأديبها. وكما يؤكد هذا السفر في أكثر من موضع أن ما يحل بيهوذا من تأديبات خاصة السبي إنما هو بسماحٍ إلهي، لكنه هو ثمر طبيعي لشر يهوذا، وكشف عن حقيقة طبيعة الخطية التي قبلها يهوذا بإرادته.
شبَّه السبي القادم بصعود أسدٍ من غابته وزحف مهلك الأمم لتخريب الأرض [7]. مرة أخرى يشبهه بهبوب ريح عاصفة سريعة التدمير:
“هوذا كسحابٍ يصعد،
وكزوبعة مركباته،
أسرع من النسور خيله،
ويل لنا لأننا قد أُخربنا” [13].
إنها صورة مؤلمة لهجومٍ عنيفٍ يثيره العدو… يظهر كسحابٍ من يقدر أن يصعد إليه ليحاربه أو يمسك به؟! وكزوبعة عاصفة قادمة من الصحراء من يقدر أن يصدها؟! وكخيلٍ له سرعة النسور من يقف أمامها؟!
أليست هذه هي صورة حرب عدو الخير للنفس التي تُسلم ذاتها للشر، إذ يصعد الشر في القلب بروح الكبرياء ليهوى بالإنسان إلى أعماق الجحيم، فيكون كسحابٍ مخادعٍ لا يحمل مياه النعمة التي تروى الأرض فتقدم ثمرًا، بل سحاب الكبرياء وحب المجد الباطل. إنه كزوبعة عاصفة تفقد النفس بصيرتها الروحية وقدرتها على معرفة أسرار الله، وكالخيل المسرع بعنف يحطم ويخرّب، في سرعة النسور التي تخطف الفريسة وتنطلق بها.
ما يحل بنا من تأديبات إلهية هو بسماح إلهي، إذ يسمح لنا أن نذوق عربون ثمر الخطية لعلنا نرجع عنها ونلتجئ إليه. لهذا يكمل حديثه، مقدمًا علاجًا شافيًا للنفس:
“اغسلي من الشر قلبكِ يا أورشليم لكي تخلصي،
إلى متى تبيت في وسطكِ أفكاركِ الباطلة؟!” [14].
بالتأديب الإلهي تدرك النفس حاجتها للغسل لكي تخلص، أي لتنعم بشركة المجد… فتحمل جمال عريسها وبهاءه عليها.
هذا الغسل هو من نعمة الله الغنية، لكن الله لا يغسلها بغير إرادتها، لذا يقول: “اغسلي”. الأمر بين يديها، لها أن تسلم ذاتها لروح الله القدوس فيغسلها، ولها أن تبقى في خطاياها وسط عنادها وعصيانها.
يقول الأب شيريمون: [في هذا كله إعلان عن نعمة الله، وحرية الإنسان، حتى متى رغب في السلوك في طريق الفضيلة يقف سائلاً مساعدة الرب[130]].
ويرى الأب سيرينوس في هذه العبارة تأكيدًا لسلطان الإنسان على الخطية، إذ يقول:
[إذا ما جاهدنا كبشرٍ ضد الاضطرابات والخطايا تصير هذه تحت سلطاننا، وفق إرادتنا، فنحارب أهواء جسدنا (الشريرة) ونهلكها، ونأسر حشد خطايانا تحت سلطاننا، ونطرد من صدورنا الضيوف المرعبين، وذلك بالقوة التي لنا بصليب ربنا، فنتمتع بالنصرة التي نراها في مثال قائد المئة روحيًا (مت 8: 9)[131]].
يحدثنا القديس يوحنا الذهبي الفم عن الاغتسال الداخلي، فيقول: [إن تصلي بأيدٍ غير مغسولة هو أمر تافه، أما أن تصلي بذهنٍ غير مغتسل فهو أبشع الشرور. اسمعوا ما قيل لليهود الذين انشغلوا بالدنس الخارجي: “إغسلي من الشر قلبك يا أورشليم… إلى متى تبيت في وسطكٍ أفكارك الباطلة؟!” [14]. ليتنا نحن أيضًا نغتسل لا بالوحل وإنما بماءٍ نظيف، بالصدقة لا بالطمع. لنحد عن الشر ونفعل الخير (مز 27: 27)[132]].
ليغتسل قلبنا، الذي هو أورشليمنا الداخلية، فيقدر على معاينة الرب، ويقبله ساكنًا فيه، بل ويبيت، عوض أفكارنا الباطلة التي استقرت واستراحت فيه زمانًا طويلاً!
يعود فيذكرنا بأن التأديب قد أوشك حلوله قريبًا جدًا، إذ بلغ صوت القادمين جبل دان وانتقل بسرعة البرق إلى جبل إفرايم [15] ليبلغ أورشليم ذاتها. فلا مجال للتأخير بعد!
لا يليق بها أن تلوم الرب المؤدب أو تلوم أداة التأديب، بل تلوم نفسها، إذ يقول:
“لأنها تمرَّدت عليّ يقول الرب.
طريقك وأعمالك صنعت هذه لكِ
هذا شركِ، فإنه مرّ، فإنه قد بلغ قلبك” [17-18].
بإرادتك اخترت الشر والعصيان، فاحتلت المرارة قلبك عوض ملكوت الله المفرح!
كما يقول: [لنغتسل نحن أيضًا لا بالوحل بل بماء لائق، بالصدقة لا بالطمع. لنترك الشر ونصنع الخير (مز 37: 27)[133]].
قبول الأنبياء الحقيقيين[19-22].
إن كان يليق بالعروس أن ترفض كلمات الأنبياء الكذبة المعسولة لتدرك خطة الله لخلاصها من خلال التأديب، فتغتسل لا بالمياه بل بدموع التوبة، فإن النبي لا يقف ناقلاً لكلمات الله فحسب وإنما كعضو في العروس يئن ويتوجع لآلامها.
لا يمكننا أن نظن في الأنبياء أو المعلمين أنهم ناقلون لكلمة الله فحسب، ومعلنون عن مشيئته الإلهية، ومصلون لأجل الشعب، وإنما هم رجال الله المملئون حبًا… أعضاء في الجسد، يئنون ويذوبون مع كل ألم! لهذا يقول إرميا النبي:
“أحشائي أحشائي!
توجعني جدران قلبي!
يئن في قلبي.
لا أستطيع السكوت! [19].
هنا يكشف النبي عن حبه الشديد لشعبه. يتحدث لا كمعلمٍ قاسٍ، ولا كمنذرٍ فحسب، وإنما يتكلم من خلال أحشائه الداخلية، إنها تتمزق، وجدران قلبه تتوجع… أنينه الداخلي لا ينقطع، وهو يرسم أمامه صورة بلوى تلحق بأخرى هذه التي ستحل بهم! كم كان يود ألا يحمل إليهم هذا النبأ المرّ. لكنه لم يمكن ممكنًا له أن يصمت، وهو يرى الخطر يحل بهم. لقد شعر بالعجز، إد لم يعد قادرًا أن يشفع فيهم، لكنه لا يقدر ألا يتألم ويتأوه لأجلهم!
حقًا أنه يقدم كلمة الله بكل صدقٍ، لكنه وهو يقدمها يعلن أيضًا – إن صح التعبير – حزن الله على شعبه، فإنه ما كان يود لهم هذا المُرّ الذي جلبوه على أنفسهم كثمرة طبيعية لعصيانهم.
هذه هي إحساسات كل راعٍ صادقٍ في رعايته، إنه يصرخ مع صرخات الشعب بكونهم أحشاءه وجدران قلبه… يئن مع أناتهم ويشاركهم فرحهم ونموهم الروحي. يقدم أحشاءه لتتمزق ثمنًا لحبه لشعب الله!
هذا هو عمل الخطية، يُذيب قلب الشعب فيذوب معهم قلب الراعي. عندما خان الشعب الله قيل: “ذاب قلب الشعب وصار مثل الماء” (يش 5: 7). هذا هو عمل الخطية. لقد حطمت الشعب كله وأفقدته كل شجاعة وقوة وصيرت قلبه كالماء يسيل وليس من يقدر أن يعين أو يسند. لهذا لا تعجب إن كان إرميا النبي إذ يدرك فاعلية الخطية المرّة يقول: “أحشائي أحشائي، توجعني جدران قلبي، يئن في قلبي، لا أستطيع السكوت، لأنكِ سمعتِ يا نفسي صوت البوق وهتاف الحرب” [19]. وإذ حمل السيد خطايانا قال على لسان النبي: “كالماء انسكبت، انفصلت كل عظامي، صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي” (مز 22: 14)، يا لبشاعة الخطية!
“سمعتِ يا نفسي صوت البوق وهتاف الحرب.
بكسرٍ على كسرٍ نُودي،
لأنه قد خربت كل الأرض.
بغتة خربت خيامي وشققي في لحظة.
حتى متى أرى الراية وأسمع صوت البوق؟!” [19-20].
سمع النبي بنفسه لا بأذنيه، بروح النبوة، ووقف على أحداث الحرب القادمة كأنه حاضر، يسمع ويرى أمورًا لا تُحتمل. إنه لم يطق أن يتطلع إلى ذلك اليوم الرهيب.
إنه يصدق صوت الرب لنفسه الداخلية أكثر من تصديقه لأصوات تسمعها الأذن، وها هو يصف الخراب الحال على الشعب، لييقظ فيهم مخافة الرب المقدسة ويحفظهم من الدينونة بالتوبة.
رأى خرابًا يجلب خرابًا بلا توقف، كل يستدعى الآخر… يرى أحداثًا مفاجئة متوالية تحل بالقرى (الخيام) والمدن (الشقق).
يقول النبي: “أحشائي أحشائي”، فقد استخدم اليهود أعضاء الجسم المختلفة للتعبير عن الخبرات النفسية. كانت الأحشاء في نظرهم مركزًا للعواطف، أو عرشًا لقواها، كما جاء في (إش 16: 11) “لذلك ترن أحشائي كعودٍ من أجل موآب” وجاء في الرسالة إلى أهل كولوسي “أحشاء رحمة” (3: 12).
في مرارة نفسه صرخ نحو الله: متى ُتنزع هذه الكارثة؟ إلى متى يرى الحرب ويسمع صوت البوق؟ يجيبه الله قائلاً بإن الأمر في أيديهم هم، فإن شرهم وغباوتهم وجهلهم للحق وإصرارهم على الفساد هو السبب، ولا علاج إلا التوبة والرجوع إليّ، إذ يجيب النبي، قائلاً له:
“لأن شعبي أحمق.
إياي لم يعرفوا.
هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين.
هم حكماء في عمل الشر ولعمل الصالح ما يفهمون” [20].
اعتاد الله ألا ينسب الشعب إليه متى صار شريرًا، لكن أمام مرارة نفس النبي يقول “شعبي”… وكأنه يقول لإرميا النبي، إن كنت مُر النفس برؤيتك ما يحل بهم، فإنهم شعبي، لا أود أن أقسو عليهم… هم ألقوا بأنفسهم في الفساد لأنهم لم يعرفوني معرفة الإله الذي يملك على القلب، ومعرفة المخلص المنقذ من الفساد، معرفة الصديق المحب… معرفتهم لي شكلية، لا معرفة الخبرة الحية. إنهم جاهلون وغير فاهمين، يلقون أنفسهم بأنفسهم في المرارة.
لقد وهبتهم الحكمة لكنهم استخدموها في عمل الشر لا في الصلاح. أساءوا إليّ وإلى عطاياي لهم.
نخلص من هذا كله أن صرخات الأنبياء الحقيقيين ليست إلا صدى لصوت الله الذي لا يطيق فساد عروسه وغباوتها وجهلها، بل يطلبها عروسًا مزينة بحكمته ومعرفته الحية.
هذه هي الزينة التي يطلبها الأنبياء الحقيقيون لا الكاذبون.
يلقب القديس إكليمنضس الإسكندري المؤمن الحقيقي “غنوسيًا”، أي صاحب معرفة: [يجب على الغنوسي أن يكون كثير المعرفة[134]].
[الغنوسي الذي أتحدث عنه يدرك ما يبدو للآخرين غير مدرك، إذ يؤمن أنه ليس شيء غير مدرك لدى ابن الله، وليس شيء لا يمكن تعلمه. الذي تألم حبًا فينا لا يخفي شيئًا من المعرفة اللازمة لتهذيبنا[135]].
[يبدو لي أنه يوجد أمور ثلاثة في قدرة الغنوسي:
أولاً: معرفة الأشياء؛
ثانيًا: تنفيذ ما يقترحه اللوغوس (الكلمة)؛
ثالثًا: القدرة على تقبل الأسرار المخفية في الحق[136]].
الشبع والاستنارة[23-29].
يجيب إرميا النبي مؤكدًا أن الجهل هو سبب الخراب الذي يحل بالشعب، فإن ما يحل من تأديبات إنما يكشف عن الفراغ أو الخراب الداخلي للشعب كما للنفس، وأيضًا عن الظلمة الداخلية التي تفسد البصيرة.
ما رآه النبي هو انعكاس لما هو خفي في حياة الشعب.
“نظرت إلى الأرض وإذا هي خربة وخالية،
وإلى السموات فلا نور لها.
نظرت إلى الجبال وإذا هي ترتجف.
وكل الآكام تقلقلت.
نظرت وإذا لا إنسان،
وكل طيور السماء هربت.
نظرت وإذا البستان برية،
وكل مدنها نُقصت من وجه الرب من وجه حمو غضبه” [23-26].
التصوير الذي يقدمه لنا إرميا النبي هنا يذكرنا بما ورد في الأصحاح الأول من سفر التكوين حين كانت الأرض خربة وخالية، وكان الظلام سائدًا، ولم تكن هناك حياة!يكرر النبي كلمة “نظرت” أربع مرات، وكأنه تطلع إلى العالم بجهاته الأربع (الشمال والجنوب والشرق والغرب)، فماذا رأى؟ رأى شبه عودة إلى ما قبل الخلقة كما وردت في سفر التكوين:
أرض خربة وخاوية،
ظلمة عوض النور،
ارتجاف للجبال الثابتة،
هروب للطيور،
عالم قفر لا يسكنه إنسان وبلا نباتات! لقد أفسدت الخطية العالم الجميل المثمر الذي خلقه الله لأجل الإنسان. لقد حطم الإنسان نفسه وحطم معه الخليقة الأرضية!
ما هي الأرض إلا جمهور الشعب الذي كرَّس طاقاته للعبادة الوثنية ورجاساتها، فصاروا كأرض خربة. وما هيالسموات إلا القيادات الدينية والمدنية التي كان يجب أن تنير الطريق للعامة، لكنها صارت كسموات بلا نور، تبعث حالة من الضيق والكآبة.
وما هي الجبال إلا النفوس التي كان لها دورها القيادي الشعبي، يظن الكل أنهم راسخون كالجبال، فإذا بهم يرتجفون…
لعله قصد بالجبال والآكام المرتفعات التي بُنيت عليها المذابح الوثنية وُقدمت عليها ذبائح للأصنام؛ عوض أن تحميهم، صارت ترتجف وتتقلقل، تحتاج إلى من يسندها!
اختفاء كل إنسان إشارة إلى اختفاء كل تعقل حكيم، وهروب طيور السماء إشارة إلى فقدان الأمان، وتحول البستان إلى برية علامة الخراب الكامل…
إن كان إصرار الإنسان على الشر وعدم رغبته في التوبة والرجوع إلى الله يحرمه من عمل روح الله القدوس فيه، فإنه يعود إلى حال الأرض قبل أن يرف عليها روح الله ليخلق منها عالمًا جميلاً…
أقول ما أحوجنا إلى الرجوع إلى الخالق، ليعمل بروحه القدوس فينا:
عوض الأرض الخربة الخالية نجد عالمًا جميلاً، بمعنى عوض الجسد بشهواته الفاسدة نتسلم جسدًا مقدسًا في الرب.
عوض السموات التي بلا نور تشرق فيها الشمس، بمعنى عوض النفس التي سادتها الظلمة يشرق شمس البر فيها.
عوض الجبال التي ترتجف والآكام التي تتقلقل نرى ثباتًا وأمانًا… بمعنى تتحول إمكانياتنا وقدراتنا ومواهبنا للبناء بقوة، لا يزعزعها العالم كله!
عوض الفراغ حيث لا إنسان ولا طير، تمتلئ قلوبنا بالشركة مع القديسين والسمائيين، فنجلس مع مسيحنا في السمويات.
عوض البرية تصير قلوبنا بستانًا مثمرًا؛ ندعو مسيحنا أن يأكل من ثمر جنته التي فينا.
عوض هروب المدن من وجه الرب ومن وجه حمو غضبه، نجتذب الكثيرين للتمتع بالحضرة الإلهية!
بمعنى آخر جمال العروس يمتد إلى تقديس الجسد والنفس والطاقات والمواهب… فتتمتع بشبعٍ روحي واستنارة روحية فائقة.
الله الذي يطلب شبعنا واستنارتنا حين يؤدب يعطينا فرصة للرجوع إليه، إذ يقول: “خرابًا تكون الأرض، ولكنني لا أفنيها” [27]. إنه يترك بقية يقدسها وينميها… إنه لا يود أن يُفنى، بل أن يُقدس ويبني!لئلا بقوله: “لا أفنيها” يتهاون الشعب ويستغل مراحم الله، عاد ليؤكد التأديب القاسي: “من أجل ذلك تنوح الأرض، وتظلم السموات من فوق، من أجل أني تكلمت قصدت ولا أندم ولا أرجع عنه” [28]، إنه لا يرجع عن تأديبه لهم ماداموا لا يرجعون إليه…
ترك البر الذاتي[30-31].
إن كان الله يطلب شبع العروس واستنارتها، فإنه يؤكد عجزها عن تحقيق ذلك بنفسها، فهي في حاجة إليه بكونه مصدر جمالها وشبعها واستنارتها:
“وأنتِ أيتها الخربة ماذا تعملين؟
إذا لبستِ قرمزًا، إذا تزينتِ بزينة من ذهب، إذا كحلتِ بالإثمد عينيكِ، فباطلاً تحسنين ذاتك، فقد رذلكِ العاشقون” [30].
إن ظنت نفسها غنية تلبس القرمز، وإن خزائنها مملوءة بالجواهر الذهبية، وجميلة تكحل عينيها بالإثمد… تبقى مرذولة ليس من الله فقط بل حتى من عاشقيها. لقد كحلت إيزابل الملكة الشريرة عينيها بالإثمد، وزينت رأسها، وتطلعت من الكوة… لكن ياهو قال للخصيان: اطرحوها، فسال دمها على الحائط وعلى الخيل (2 مل 9: 30-33).
كانت النساء يكحلن أعينهن بالاثمد لإبراز اتساع العينين علامة الجمال في العالم القديم. هكذا فعل هذا الشعب، صار كامرأة تتزين وتبرز جمالها لأصحابها، فإذا بهم يصيرون قاتليها!
مسكين الإنسان الذي في جهاده الروحي يتكئ على بره الذاتي، يفقد كل جمالٍ داخلي بل ويصير قاتلاً لنفسه، ويسمع التوبيخ الإلهي: “لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء، ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وفقير وأعمى وعريان، أشير عليك أن تشتري مني ذهبًا مُصفي بالنار لكي تستغني، وثيابًا بيضًا لكي تلبس فلا يظهر خزي عريتك، وكحل عينيك بكحل لكي تبصر” (رؤ 3: 17-18).
من وحي إرميا 4
لتعكس جمالك عليّ
v خلقتني عل صورتك ومثالك،
أيها الكليّ البهاء!
بغباوتي وعصياني وخطإياي أفسدت طبيعتي!
ها أنا أعود إليك بالتوبة،
فيرد لي روحك القدوس جمالي!
يعكس جمالاً على أعماقي،
فأسترد صورتك،
وأنعم ببهاء مجدك داخلي!
v ما أسهل أن تمتد يد بشرية لختان الجسد،
لكن من يقدر أن يختن قلبي!
هوذا قلبي وأعماقي بين يديك،
اختنها بصليب حبك أيها الحبيب المخلص!
انزع عني غُرل قلبي هذا الذي شوّه كل جمال فيّ!
v هب لي أن أستخدم صليبك محراثًا يهيء قلبي للزرع!
ينتزع عنه كل أشواك هموم العالم،
ويعده لقبول كلمتك الحية،
فأحمل ثمارًا: ثلاثين وستين ومائة!
أحمل مع جمال النفس الداخلي ثمر الروح الأبدي!
v استمع شعبك قديمًا لكلمات الأنبياء الكذبة المعسولة!
ظنوا أنهم في سلام،
ولم يُدركوا أن السبي على الأبواب!
هوذا أفكار الشر تلاحقني في داخلي!
أظنها مصدر لذة وسلام!
ولم أعلم أنها تقتل أعماقي وتسبي حريتي!
هب لي مع جمال النفس حريتها الداخلية أيها المحرر الحقيقي!
حرّرني من أفكاري الخاطئة المعسولة،
واهبًا لي أفكارك المقدسة!
v هوذا يدك تمتد لتأديبي،
عرفني خطتك، فليس من يحبني مثلك؟
ليس من يشتهي جمال أعماقي مثلك؟
عجيب أنت أيها القدوس في حنوّك!
وعجيب أيضًا أيها المخلص في تأديباتك!
v إن كانت أحشاء أولادك تحترق لأجل خلاص نفسي،
كم يكون بالأكثر حبك،
يا من وحدك بذلت ذاتك عني!
افتح عن عيني فأرى أحضانك الملتهبة لأجلي!
v هب لي يا رب أن أصرخ مع نبيك:
أحشائي! أحشائي
جدران قلبي توجعني!
لا أستطيع أن أصمت!
أعطني قلبًا محبًا لخلاص كل نفسٍ!
يلتهب مع سقوط كل أحدٍ،
ويئن مع أنين كل نفسٍ!
v هب لي جمالاً داخليًا:
هب لي معرفتك يا قدوس، فلا أعيش في جهالة!
هب لي شبعًا، فلا أعتاز إلى أحدٍ ولا إلى شيءٍ!
هب لي استنارة، فأحمل بهاءك في داخلي.
v أعترف لك يا خالقي ومخلصي:
صار جسدي أرضًا خربة وخاوية،
حوِّله إلى بستان يقدم ثمر الروح!
صارت نفسي سماءً لا نور لها،
اجعلها سماواتك تنعم بنورٍ إلهي،
تقيم فيها ملكوتك المفرح!
هوذا الجبال في داخلي ترتجف والآكام تتقلقل،
ثبت أعماقي فيك أيها الصخرة الحقيقية!
هوذا كل طيور السماء هربت من داخلي،
هب لي جناحيّ الروح فأطير وأستقر في أحضانك!
v أخيرًا لقد بذلت كل الجهد لأُجمل نفسي،
فتحطمت يداي بالبر الذاتي،
صرت أضحوكة أمام معيريّ.
مِدّ يدك أيها الُكلّي الجمال،
نعمتك قادرة أن تسكب جمالك في!
أنت هو قوتي وتسبحتي وجمالي!
تفسير إرميا 3 | تفسير سفر إرميا | تفسير العهد القديم |
تفسير إرميا 5 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر إرميا | تفاسير العهد القديم |