تفسير إرميا أصحاح 5 للعلامة أوريجانوس

عظة 6

تفسير للآيات من : ” يا رب أليست عيناك علي الحق ( علي الإيمان )” . (إر5 :3) ، إلي : ” انطلق إلي العظماء وأكلمهم”.( إر5:5) .

1. يقول النبي : ” يا رب أليست عيناك علي ( الإيمان ) ” . فكما أن ” عيني الرب علي الصديقين ” ( مز 33) ، إذا فهو يحول عينيه عن الأشرار. وكذلك فإن عيني الرب على الإيمان لأنه يحولهم عن عدم الإيمان. ولهذا السبب قيل عن الإنسان الذي يصلي بإيمان : ” يا رب أليست عيناك علي الإيمان ” . ولهذا نجد ” العاقل إن سمع قولاً حكيماً يمدحه ويضفيه إليه ” ( ابن سيراخ 21: 15). فيقول القديس بولس : ” أما الآن فيثبت الإيمان والرجاء والمحبة هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة ” . وكما أن عيني الرب علي الإيمان ، فهي أيضا على الرجاء وكذلك علي المحبة . وبما أن روح الله هو ” روح القوة والمحبة والنصح ” ( ٢ تي 1 : 7 ) . إذا فعيني الله علي القوة وأيضا على النصح وكذلك علي الحق ( العدل ) ، وباختصار فإن عيني الرب على جميع الفضائل.

وبالتالي ، فإذا كنت أنت بدورك تريد أن تضيء ؛ عليك ، إذا أن تلبس الفضائل ؛ وكما يقال : يا رب عيناك علي الإيمان ، سوف يقال عنك أيضاً: يا رب عيناك على كل شخص فاضل اقتنه لك . وإذا وصلت إلى درجة أن عيني الرب تنير عليك ، فسوف تقول : ” قد ارتسم علينا نور وجهك يا رب “.

۲. لننظر بعد هذا ماذا قيل عن الخطاة : ” جلدتهم ( بالسياط ) فلم يتوجعوا ” .

إن السياط الأرضية حينما نضرب بها الأجساد الحية فإنها تسبب الألم للمضروبين ، سواء أرادوا أو لم يريدوا ، أما سياط الله فهي ليست كذلك ، لأن الأشخاص المضروبين بعضهم يتوجع والبعض الآخر لا يتوجع. هلم نري ماذا يعني التوجع تحت ضربات الله وعدم التوجع تحتها ، حتى نوضح أن البائسين هم الذين لا يتوجعون من ضربات الله ، وأن سعداء الحظ هم الذين يتوجعون من هذه الضربات . ويقول سفر الحكمة في هذا الشأن : ” وإنما نخسوا ليتذكروا أقوالك ثم خلصوا سريعاً لئلا يسقطوا في نسيان عميق فيحرموا إحسانك” ( حك 16: 11) كما يقول في نفس السفر : ” من يضع سوطاً لأفكاري ، وكلام الحكماء في شفتي ، لئلا يترفقوا بي في أخطائي ، فأهلك بسبب خطاياي”.

دقق النظر في هذه الكلمات : ” من يضع سوطاً لأفكاري ؟ ” ، إذا فهناك سياط لضرب الأفكار . إن سياط الله هي التي تضرب الأفكار ، فإن الكلمة ” Logos ” حينما يأخذ النفس جانباً ويدفعها ويضغط عليها حتى تستخدم ضميرها تجاه الأخطاء التي ارتكبتها ، فإنه يضربها بالسياط . فهو يضرب الإنسان المطوب ( الحكيم ) ، الذي يتوجع تحت الضرب لأن كلمات الله أثرت في نفسه ، ولم يلق بهذه الكلمات باحتقار لأنها أخجلته. ولكن إن وُجد إنسان ، يمكن أن يقال عنه ، عديم الإحساس ، فسوف يقال عنه : ” ضربتهم فلم يتوجعوا”.

كما أن كلمة ” لم يتوجعوا ” يمكن أن تفسر بطريقة أخرى . توجد في الجسد بعض أعضاء قد تموت وتجف ، وغالباً ما يكون الفارق بين الأعضاء الحية والأعضاء المائتة كبيراً، فإذا قمنا بعلاج عضو حي بعلاج مؤلم ، فإن الشخص الذي يتم علاجه يتألم ، بينما إذا استخدمنا نفس هذا العلاج لنفس الشخص ولكن في العضو المائت فإنه لن يشعر بشيء ، لأن هذا العضو بالنسبة له مائت.

ما قلناه على الجسد ، طبقه على النفس أيضاً، وسوف ترى أن النفس يمكن أن تكون مائتة في أعضائها إلى الدرجة التي لا تشعر معها بضربات السياط مهما كانت شدتها. وحتى إذا استخدمت العذابات المخيفة فإن تلك النفس لن تتأثر بها، في حين أن نفسنا أخرى يمكن أن تشعر بها وتتوجع.

وربما يكون الانسان الذي لا يشعر بالألم الواقع عليه، هو في حقيقته أكثر ألماً مما لو كان شاعراً به : سوف يتمنى بالأكثر أن يتوجع عندما تحل به الألام لأن ذلك سوف يكون دليلا على أنه ما يزال حيا ، وسوف يحزن لعدم شعوره بالضربات.

وأن الآية : “ حتى يشتاقوا أن يصبحوا فريسة للنار!” تشير إلى أن هؤلاء الناس الذين لا يتألمون حينما تحل بهم الضربات ، لو أنهم أدركوا الفرق الموجود بين الذين يتوجعون والذين لا يتوجعون ، لاشتاقوا أن يشعروا بحروق النار عن أن يهربوا منها.

” أفنيتهم وأبوا قبول التأديب”.

إن الله في عنايته ورحمته ، حينما يقوم بعمله التطهيري من أجل خلاص النفس ، فإنه يذهب في عمله حتى النهاية ( حتى الفناء ) ، على الأقل من جانبه.

فإذا كان كل الذي يأتي علينا من قبل العناية الإلهية ، يهدف إلى كمالنا وإلى تأديبنا ، ومع ذلك لا نقبل التأديبات الإلهية التي تقودنا إلى الكمال ، فإن الذي يفهم معنى هذه الفقرة يمكنه أن يقول للرب : يارب ، لقد أفنيتهم ( أدبتهم ) وأبوا قبول التأديب.

3. “صلبوا وجوههم أكثر من الصخر ” . سوف تفهم هذه الآية أيضاً من خلال الأشياء المادية. فيوجد من بين الخطاة من يخجلون ويختبئون عند سماعهم لكلمات التوبيخ ، فيخضعون لهذه الكلمات التي تؤثر فيهم ، ومنهم أيضا من لا يخجلون من توبيخ تصرفاتهم وخطاياهم التي ارتكبوها . فيمكن أن يقال عن هؤلاء الآخرين : ” صلبوا وجوههم أكثر من الصخر”.

فإذا كنت قد فهمت هذا بالمعنى المادي ، فلننتقل إذاً لنطبقه على النفس ، آخذين في اعتبارنا أنها هي الوجه الذي قيل عنه : “(سوف ننظر) وجهاً لوجه ” (۱کو۱۳: ۱۲).

فإن النفس أحياناً تكون صلبة وقاسية مثل نفس فرعون ، إلى الدرجة التي فيها تقاوم الإنذارات والتوبيخات ، وترفض ما يقال لها بدلاً من أن تترك نفسها لتتشكل من جديد من خلال هذه الإنذارات.

” أبوا الرجوع . أما أنا فقلت إنما هم مساكين . قد جهلوا لأنهم لم يعرفوا طريق الرب قضاء إلههم . أنطلق إلى العظماء وأكلمهم”.

أ . لأن إرميا قد عرف أن هذه الأشياء ( التأديبات ) تخص الذين لا يريدون أن يتعلموا والذين لا يفهمون شيئاً عن سياط الله ، فإنه يقول بشأن موقفهم هذا : ” إنما هم ( نفوسهم ) مساكين “.

ب- ” أنطلق إلى العظماء ( الأقوياء ) وأكلمهم”.

الذين هم عظماء وأقوياء في نفوسهم ذكرهم الكتاب بالتطويب . عندما ينشغل إنسان بأعمال عظيمة ، ويكون لديه طموحات ذات قيمة ، ويضع باستمرار أمام عينيه أهدافاً واضحة ليعيش دائماً بحسب الحق الصحيح ، ولا يريد حتى أن ينظر إلى أي شيء تافه أو صغير ، فإن مثل هذا الانسان تكون عنده القوة والعظمة في النفس. أما هؤلاء الآخرون الذين كانوا ” مساكين ” فإنهم لم يسمعوا لكلام الرب كما يقول النبي ؛ ولكي نكون أكثر تدقيقاً فإنهم لم يسمعوا لأنهم كانوا مساكين.

لهذا ، فإنه إذ قيل هذا الكلام لنا نحن أيضاً، فلنصل إلى الله حتى نأخذ من عنده قوة وعظمة تمكننا من الاستماع لتلك الكلمات المقدسة ، عالمين أن الذين ينطقون بكلمات التوبيخ لا يخسرون شيئاً مثلما يخسر الذين يسمعون ولا يقبلون هذا التوبيخ ، والذين يتهمهم إرميا بأنهم مساكين في عقولهم وأفكارهم . ولإلهنا المجد والقدرة إلى أبد الآبدين ، آمين .

عظة 7 
تفسير الآيات من : ” وأيضا في تلك الأيام يقول الرب أفنيكم ” ( إر5 : 18) ،
إلى : ” هكذا تعبدون الغرباء في أرض ليست لكم ” (إر5 :19).

1. يتمهل الله في إدانته للذين يستحقون العقاب ، حتى يعطيهم فرصة للتوبة . فهو لا يعاقب على الخطية في الحال ، ولا يوقع الفناء بالخاطئ ، بل يتمهل في العقاب . نجد مثالاً على هذا في سفر اللاويين : في اللعنات التي قيلت للذين يخالفون الشريعة ، فبعد الإعلان عن العقوبات الأولي ، قيل : ” وإن كنتم مع ذلك لا تسمعون لي أزيد على تأديبكم سبعة أضعاف ” ( لا ٢٦ : ١٨ ) . ثم يذكر أيضا عقاباً آخر : ” وإن كنتم بذلك لا تسمعون لي بل سلكتم معي بالخلاف فأنا أسلك معكم بالخلاف ساخطاً” ( لا ٢٦ : ٢٧ ) . من هنا يتضح لنا أن الله يوقع العقوبات ببطء شديد ، لأنه يريد أن يقود الخاطئ إلى التوبة بدلاً من أن يجعله يدفع الثمن في الحال.

هذا أيضا ما حدث مع الشعب ، فقد كان الرب يتوعد بالآلام التي سوف تحل به ، ثم قال له بعد ذلك : ” وأيضاً في تلك الأيام لا أفنيكم ” . فإذا كان الفناء لم يحل بهم في نفس وقت خطيتهم ، وإنما في وقت لاحق ، ففي النهاية أيضاً يكون عقاباً بعد الموت للذين أخطأوا ؛ بينما يتمثل عقاب أورشليم عندما تم سبيها تحت حكم نبوخذنصر.

مع هذا يمكننا أن نعترض ، فبالرغم من السبي لم يتم فناؤها ، وإنما تم الفناء الحقيقي للشعب عندما جاء ربنا يسوع المسيح . في الواقع ، طالما أن المخلص لم يقل لهذا الشعب : ” هوذا بيتكم يترك لكم خرابا ” ، فإن أورشليم لم تكن خربة ؛ وإنما عندما بكي يسوع على أورشليم قائلا : ” يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا . هوذا بيتكم يترك لكم خرابا ” ( لو 13 : 34 ) ، عندئذ أصبحت أورشليم خربة . ” ولقد أحيطت أورشليم بجيوش وكان خرابها قريبا ” ( لو ۲۱ : ۲۰ ) . ثم بعد سقوط هذا الشعب كان الخلاص لنا نحن الأمم.

٢. لقد تم تأديبهم ولم يأت عليهم الفناء إلا عند مجيء السيد المسيح . لكني أتساءل إن كان هذا يحدث معنا نحن أيضا ، وإن كانت هناك أنواع عديدة من التأديبات يمكن أن تحل بنا ويوجد من الناس من يكتفي بالضربة الأولي ولا يجرب الثانية ، ويوجد آخرون يصلون إلى الضربة الثانية والثالثة بل وحتى إلى الرابعة . فإن العبارة : ” أزيد على تأديبكم سبعة أضعاف ( ضربات ) ‘ تحمل شيئاً من الغموض : توجد ضربة أولى ، ثم ثانية ثم ثالثة حتى السابعة لبعض الناس . فليس كل الناس يضربون سبع ضربات ، لكنني أعتقد أن البعض يضربون بستة ضربات والبعض بخمس والبعض بأربع والبعض بثلاث أو اثنتين أو واحدة . ويعلم الله وحده ما هو المقصود بهذه الضربات .

3. ” ويكون حين تقولون لماذا صنع الرب إلهنا بنا كل هذه . تقول لهم كما أنكم تركتموني وعبدتم آلهة غريبة في أرضكم هكذا تعبدون الغرباء في أرض ليست لكم ” [ 19 ] .
يجب علينا أن نفهم المعني الحرفي ، ويكفي الآن ، كما تقول الآيات ، تنشيط ذاكرة الذين يريدون أن يفهموا.

كان بنو إسرائيل يمتلكون الأرض المقدسة ، والهيكل ، وبيت الصلاة . وكان يجب عليهم أن يقدموا عبادتهم الله ، لكنهم خالفوا الشريعة والوصية الإلهية ، وعبدوا الأوثان ، وكانوا يستقبلون عندهم الأوثان من دمشق ، هو مكتوب في سفر الملوك ، وقبلوا أوثانا أخرى في الأرض المقدسة . وبما أنهم كانوا يستقبلون الأوثان الأممية في أرضهم ، استحقوا أن يطرحوا في بلاد الأوثان ، وأن يهبطوا إلى حيث تعبد الأصنام.

لذلك قال الرب لهم : “كما أنكم تركتموني وعبدتم آلهة غريبة في أرضكم ، هكذا تعبدون الغرباء في أرض ليست لكم“. أي أن كل إنسان يتخذ له إلها من أي شيء كان ، فهو بذلك يعبد آلهة غريبة.

هل تؤله المأكولات والمشروبات ؟ فإن إلهك يكون بطنك ( في 3 : 19 ) .

هل تحسب فضة العالم وغناه خيراً عظيماً؟ إذا المال هو إلهك ، حيث قال عنه السيد المسيح إنه سيد الذين يحبون الفضة ، حينما قال : ” لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال ، لا يقدر أحد أن يخدم سيدين ” ( لو ١٦ : ١٢).

الذي يُقدر المال ويُعظم الغني حاسباً أنه خير ، والذي يُجلس الأغنياء في صفوف الآلهة ويحتقر الفقراء ، يؤله المال.

إذا كان يوجد في أرض الله ، التي هي الكنيسة ، أناس يعبدون آلهة غريبة بتأليههم لأشياء حقيرة ، فسوف يطردون إلى أرض غريبة ، وهناك في تلك الأرض الغريبة ، فليعبدوا الهتهم التي كانوا يعبدونها وهم في داخل الكنيسة ! فيطرح الإنسان الجشع خارجاً، خارج الكنيسة ! ويطرح الإنسان النهم خارجا ، خارج الكنيسة !

سوف أقف هنا عند التفسير الرمزي ، دون أن أتأمل كيف أن الله في عنايته ، بعدما أقام شعبه عبادة في أرض غريبة ( أرض الشيطان ) ، قام بطرده من أرضه الخاصة إلى الأرض التي كتب عنها : ” اسمع يا إسرائيل . كيف صرت في أرض عدوة ؟ كيف حسبت ضمن الهابطين إلى الهاوية ؟ أليس لأنك تركت الرب مصدر حياتك . لو كنت قد سلكت في طريق الرب لعشت في سلام إلى الأبد ” ( با ۳ : ۹-۱۳).

إذا نحـن الآن فـي أرض غريبة ، ونتمنى أن نفعل عكس ما فعله بنو إسرائيل في الأرض المقدسـة : فهـم عـبدوا الآلهة الغريبة في الأرض المقدسة ، أما نحن ففي الأرض الغـريبة نعـبد الله الغـريب عن الأرض وعن كل ما هو أرضي . لأن الذي يحكم هنا في الأرض هـو رئيس هذا العالم ( الشيطان ) ، لذلك فإن الله غريب عن أبناء رئيس هذا العالم . ولكن حينما أقول ” غريب ” فإنني لا أقصد المعني الخاطئ الذي إذا طبقناه لا يكون الله قد خلق العـالم ، ولكننـي أعني إن الله غريب عن سلطان الظلمة وعن الخطايا الحاضرة . ففي تلك الحالـة ، إذا أردنا أن نعبد الإله الغريب عن أعمال الخطية ، وأن نعبده في أرض الفساد هذه ، فماذا نفعل ؟ لن نقول :
كيف نسبح تسبحة الرب في أرض غريبة ؟ ” ، وإنما نقول : ” كيف نسبح تسبحة الرب دون أن نكون في أرض غريبة ؟ ” . نحن نبحث في هذه الأرض الغريبة عن ” مكان ” نسبح فيه تسبحة الرب ، عن ” مكان ” نستطيع أن نعبد فيه الرب . فما هو هذا المكان ؟ لقد وجدته . لقد جاء الرب إلى هذه الأرض حاملاً الجسد الذي به خلصنا . لقد لبس جسد هذا الموت واستطاع به أن يهلـك رئيس هذا العالم وأن ينتصر على الخطية ، حتى أستطيع أنا أيضا بدوري ، وبنعمة مجيء السيد المسيح في هذا الجسد ، أن أعبد الله هنا في هذا ” المكان ” أي الجسد ، ثم أعبده بعد ذلـك فـي الأرض المقدسة . لأنه إذا كنا بعبادتنا للأوثان في الأرض المقدسة قد طردنا إلى أرض غريبة ، فإنه بعدما عبدنا الله في الأرض الغريبة نذهب حينئذ إلى الأرض المقدسة في المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الأبدين أمين.

فاصل

فاصل

زر الذهاب إلى الأعلى