تفسير سفر إرميا النبي 35 للقمص أنطونوس فكري

 

استخدم الله كل وسيلة في محاولته دعوة الشعب للتوبة. فكان هناك كلام للتخويف من أثار الخطية وكان هناك وعود لو تابوا. ولكن هنا نجد وسيلة أخرى. محاولة من الله لتجعلهم يخجلون من عدم طاعتهم لله. ومثال لذلك بيت الركابيين الذين أطاعوا وصية جدهم الذي لم يروه ومقارنتهم بالشعب العاصي لله بالرغم من كل إحساناته عليهم.

 

الآيات 1-11:- “الْكَلِمَةُ الَّتِي صَارَتْ إِلَى إِرْمِيَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ فِي أَيَّامِ يَهُويَاقِيمَ بْنِ يُوشِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا قَائِلَةً: «اِذْهَبْ إِلَى بَيْتِ الرَّكَابِيِّينَ وَكَلِّمْهُمْ، وَادْخُلْ بِهِمْ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى أَحَدِ الْمَخَادِعِ وَاسْقِهِمْ خَمْرًا». فَأَخَذْتُ يَازَنْيَا بْنَ إِرْمِيَا بْنِ حَبْصِينِيَا وَإِخْوَتَهُ وَكُلَّ بَنِيهِ وَكُلَّ بَيْتِ الرَّكَابِيِّينَ، وَدَخَلْتُ بِهِمْ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى مِخْدَعِ بَنِي حَانَانَ بْنِ يَجَدْلِيَا رَجُلِ اللهِ، الَّذِي بِجَانِبِ مِخْدَعِ الرُّؤَسَاءِ، الَّذِي فَوْقَ مِخْدَعِ مَعْسِيَّا بْنِ شَلُّومَ حَارِسِ الْبَابِ. وَجَعَلْتُ أَمَامَ بَنِي بَيْتِ الرَّكَابِيِّينَ طَاسَاتٍ مَلآنَةً خَمْرًا وَأَقْدَاحًا، وَقُلْتُ لَهُمُ: «اشْرَبُوا خَمْرًا». فَقَالُوا: «لاَ نَشْرَبُ خَمْرًا، لأَنَّ يُونَادَابَ بْنَ رَكَابَ أَبَانَا أَوْصَانَا قَائِلًا: لاَ تَشْرَبُوا خَمْرًا أَنْتُمْ وَلاَ بَنُوكُمْ إِلَى الأَبَدِ. وَلاَ تَبْنُوا بَيْتًا، وَلاَ تَزْرَعُوا زَرْعًا، وَلاَ تَغْرِسُوا كَرْمًا، وَلاَ تَكُنْ لَكُمْ، بَلِ اسْكُنُوا فِي الْخِيَامِ كُلَّ أَيَّامِكُمْ، لِكَيْ تَحْيَوْا أَيَّامًا كَثِيرَةً عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتُمْ مُتَغَرِّبُونَ فِيهَا. فَسَمِعْنَا لِصَوْتِ يُونَادَابَ بْنِ رَكَابَ أَبِينَا فِي كُلِّ مَا أَوْصَانَا بِهِ، أَنْ لاَ نَشْرَبَ خَمْرًا كُلَّ أَيَّامِنَا، نَحْنُ وَنِسَاؤُنَا وَبَنُونَا وَبَنَاتُنَا، وَأَنْ لاَ نَبْنِيَ بُيُوتًا لِسُكْنَانَا، وَأَنْ لاَ يَكُونَ لَنَا كَرْمٌ وَلاَ حَقْلٌ وَلاَ زَرْعٌ. فَسَكَنَّا فِي الْخِيَامِ، وَسَمِعْنَا وَعَمِلْنَا حَسَبَ كُلِّ مَا أَوْصَانَا بِهِ يُونَادَابُ أَبُونَا. وَلكِنْ كَانَ لَمَّا صَعِدَ نَبُوخَذْرَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ إِلَى الأَرْضِ، أَنَّنَا قُلْنَا: هَلُمَّ فَنَدْخُلُ إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنْ وَجْهِ جَيْشِ الْكَلْدَانِيِّينَ وَمِنْ وَجْهِ جَيْشِ الأَرَامِيِّينَ. فَسَكَنَّا فِي أُورُشَلِيمَ».”

هنا قصة مناقضة للغدر السابق (إستعادة العبيد ضد وصية الناموس) فهنا وفاء للأب أو الجد الكبير والالتزام بوصيته. والركابيين كانوا قينيين وكانوا ينتسبون للمديانيين وكان يثرون حمو موسى منهم (قض11:4). وقد وقف حابر القينى وزوجته ياعيل بجانب إسرائيل في حربهم مع الكنعانيين بزعامة سيسرا هذا الذي قتلته ياعيل حينما لجأ لخيمتها. وفي (1أي55:2) نجد الركابيين معدودين من شعب يهوذا. ونجد يوناداب بن ركاب المشار إليه هنا في (2مل15:10) وكان رَجُلًا معروفًا كرجل مكرس للعبادة كارهًا الوثنية محبًا للرب، وهو صاحب الوصية التي التزم بها الركابيين، مع أن هذه الأحداث حدثت في أواخر أيام يهوياقيم حين جاء جيش بابل على يهوذا أي بعد يوناداب بـ 300 سنة. وكان يوناداب هذا عظيمًا في أيامه حتى أن الملك أركبهُ معهُ في عربته الملكية ليظهر للشعب أن ملكهم ملك صالح فهو يُركب معه هذا الإنسان الورع الحكيم. ويوناداب طلب من أولاده وصايا بروح مسيحية وهي:- (1) لا يشربوا خمرًا = أي يتركوا الأفراح العالمية ليفرحوا بالرب يبحثون وينشدون الفرح السماوي وليس فقط لا يشربوا خمرًا بل حتى لا يزرعوا كرومًا أي الامتناع عن كل المحاولات للفرح العالمي. (2) يسكنوا خيام = أي الإحساس بالغربة كما نصلي في القداس قائلين “ونحن الغرباء في هذا العالم” (3) ولا تبنوا بيتًا = حتى لا يكون لكم في الأرض ما تتعلق به قلوبكم بل شهوتكم للسماء وكنزكم هناك أيضًا. وفي هذا شرط أكثر من النذير، لأنه يجب أن يزيد برنا عن الكتبة والفريسيين. ويوناداب لم يعط هذه الوصايا لأولاده ليتحكم فيهم بل لأنه وجد طريق السعادة الحقيقية، وأراد لهم أن لا يُخْدعوا بشهوة النظر وتعظم المعيشة ويقتنعوا بالقليل وأن يظل لهم فكر آبائهم. فلا يسقطوا من أفراح السماويات ويصبحوا شهوانيين. ويوناداب أعطى أولاده هذه الوصية حين رأى سُكر أفرايم وإنحطاطهم فطلب من أولاده أن يعتزلوهم ولا يسكنوا معهم وهذا ليكون لهم راحة وسلام الفكر والذهن والقلب وتكون لهم أفراح حقيقية. بل أن حياة الغربة والتقشف تعطيهم استعدادًا للألم فإن جاءت فهم مستعدون لها. فإن كان لنا قليل لن نحزن عليه وهذا ما يطلبه الله منا أن نعتزل الشر والأفراح الدنيوية حتى نتمتع بأفراحه “من وَجَدَ نفسه يضيعها ومن أضاع نفسه من أجلي يجدها”.

 

الآيات 12-19:- “ثُمَّ صَارَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى إِرْمِيَا قَائِلَةً: «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: اذْهَبْ وَقُلْ لِرِجَالِ يَهُوذَا وَسُكَّانِ أُورُشَلِيمَ: أَمَا تَقْبَلُونَ تَأْدِيبًا لِتَسْمَعُوا كَلاَمِي، يَقُولُ الرَّبُّ؟ قَدْ أُقِيمَ كَلاَمُ يُونَادَابَ بْنِ رَكَابَ الَّذِي أَوْصَى بِهِ بَنِيهِ أَنْ لاَ يَشْرَبُوا خَمْرًا، فَلَمْ يَشْرَبُوا إِلَى هذَا الْيَوْمِ لأَنَّهُمْ سَمِعُوا وَصِيَّةَ أَبِيهِمْ. وَأَنَا قَدْ كَلَّمْتُكُمْ مُبَكِّرًا وَمُكَلِّمًا وَلَمْ تَسْمَعُوا لِي. وَقَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ كُلَّ عَبِيدِي الأَنْبِيَاءِ مُبَكِّرًا وَمُرْسِلًا قَائِلًا: ارْجِعُوا كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ طَرِيقِهِ الرَّدِيئَةِ، وَأَصْلِحُوا أَعْمَالَكُمْ، وَلاَ تَذْهَبُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لِتَعْبُدُوهَا، فَتَسْكُنُوا فِي الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتُكُمْ وَآبَاءَكُمْ. فَلَمْ تُمِيلُوا أُذُنَكُمْ، وَلاَ سَمِعْتُمْ لِي. لأَنَّ بَنِي يُونَادَابَ بْنِ رَكَابَ قَدْ أَقَامُوا وَصِيَّةَ أَبِيهِمِ الَّتِي أَوْصَاهُمْ بِهَا. أَمَّا هذَا الشَّعْبُ فَلَمْ يَسْمَعْ لِي. لِذلِكَ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ الْجُنُودِ، إِلهُ إِسْرَائِيلَ: هأَنَذَا أَجْلِبُ عَلَى يَهُوذَا وَعَلَى كُلِّ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ كُلَّ الشَّرِّ الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، لأَنِّي كَلَّمْتُهُمْ فَلَمْ يَسْمَعُوا، وَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يُجِيبُوا». وَقَالَ إِرْمِيَا لِبَيْتِ الرَّكَابِيِّينَ: «هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ لِوَصِيَّةِ يُونَادَابَ أَبِيكُمْ، وَحَفِظْتُمْ كُلَّ وَصَايَاهُ وَعَمِلْتُمْ حَسَبَ كُلِّ مَا أَوْصَاكُمْ بِهِ، لِذلِكَ هكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلهُ إِسْرَائِيلَ: لاَ يَنْقَطِعُ لِيُونَادَابَ بْنِ رَكَابَ إِنْسَانٌ يَقِفُ أَمَامِي كُلَّ الأَيَّامِ».”

ما ضاعف من خطية يهوذا أن الركابيين سمعوا كلام أبيهم وهو إنسان مثلهم. واليهود عصوا الله الأبدي الذي لهُ عليهم سلطة مطلقة كأب لأرواحهم. ويوناداب هذا مات ولكن الله حي للأبد ويرى أعمالهم. ويوناداب لم يُرسل لأولاده أنبياء يذكرهم بما أوصاهم بهِ مثلما فعل الله ومازال يفعل ويوناداب لم يترك أرضًا ولا خيرات لأولاده أما الله فأعطاهم أرضًا تفيض لبنًا وعسلًا وهو قادر أن يبقيها لهم إن حافظوا على العهد والله لم يربط شعبه بوصايا صعبة كما فعل يوناداب. ومع كل هذا فأوامر يوناداب أطاعها أولاده وأوامر الله لم يطعها شعبه. لذلك بارك الله شعب الركابيين بل وعدهم بأقصى بركة وأعظم بركة أنهم لن يعدمون من يقف أمام الرب دائمًا. أي سيكونون مؤمنين بالله دائما. ولنلاحظ إعجاب الله بهؤلاء الذين أطاعوا آبائهم وخشوا من إدخال شيء غريب أو شيء حديث على العبادة القديمة التي تسلموها من آبائهم. أليس هذا هو فكر الكنيسة الأرثوذكسية التي لا تسمح بتغيير أي شيء توارثته عن الآباء وما نسميه التقليد. وأليس هذا ردًا كتابيًا على من يلغى فكر التقليد من الكنيسة بدعوى أن التقليد لم يأتي في الكتاب ولنلاحظ أن هؤلاء الركابيين نفذوا أوامر أبيهم دون تساؤلات هل هي صالحة أم لا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى