تفسير سفر إرميا ٢٩ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح التاسع والعشرون

رسالة إلى المسبيين

لم يقف عمل إرميا النبي عند حدود يهوذا، إذ كان يمثل الصوت الإلهي الموجه إلى الملك ورجاله وكل القيادات الدينية والمدنية وأيضًا إلى الشعب المسبي، أغنيائه وفقرائه. لم يذهب إليهم بشخصه ويعمل بينهم في أرض عبوديتهم فقد أقام الله حزقيال النبي لهذه الخدمة (حز 1: 1) أما إرميا فكان يبعث إليهم رسائله.

حُمل إلى السبي 3023 شخصًا عام 597 ق.م، من بينهم يهوياكين وأسرته وبعض الكهنة والأنبياء الكذبة. لم يتأدب هؤلاء الكذبة ولا تغيرت قلوبهم، وإنما في عجرفة كملوا الطريق في أرض السبي. نادوا بسرعة انهيار بابل وعودة المسبيين إلى وطنهم مقدمين الآمال الزائفة. وشعر إرميا النبي أن من واجبه تحذير المسبيين من هذا الخداع. هكذا اتفق الأنبياء الكذبة معًا على مقاومة كلمة الله، سواء الذين بقوا في يهوذا أو الذين ذهبوا مع السبي، يعملون معًا بفكرٍ شريرٍ واحدٍ.

يحوي هذا الأصحاح مجموعة من الرسائل المتبادلة بين أورشليم وبابل. على الأقل توجد أربع رسائل: واحدة من إرميا إلى المسبيين (1-15؛ 21-23) والأخرى من شمعيا إلى صفنيا (25-28)، وثالثة من إرميا إلى شمعيا (24)، ورابعة رسالة إلى المسبيين (31-32). تمت هذه الرسائل في الأيام التالية لسقوط يهوذا عام 597 ق.م. ويبدو من الرسائل أن مملكة بابل كانت تُعاني من بعض قلاقلٍ داخلية.

حملت رسائل إرميا كلمة توبيخ للأنبياء الكذبة والسالكين وراءهم، كما قدمت كلمة تشجيع لتعزية من لهم إيمان بمواعيد الله.

يرى البعض أن ما ورد هنا هو من ذاكرة باروخ.

  1. رسالة إلى المسبيين[1-23].
  2. رسالة إلى شمعيا[24].
  3. رسالة من شمعيا إلى صفنيا[25-29].
  4. رسالة إلى المسبيين[30-32].
  5. رسالة إلى المسبيين:

“هذا كلام الرسالة التي أرسلها إرميا النبي من أورشليم إلى بقية شيوخ السبي وإلى الكهنة والأنبياء وإلى كل الشعب الذين سباهم نبوخذنصر من أورشليم إلى بابل،

بعد خروج يكينا الملك والملكة والخصيان ورؤساء يهوذا وأورشليم والنجارين والحدادين من أورشليم.

بيد ألعاسة بن شافان وجمريا بن حلقيا اللذين أرسلهما صدقيا ملك يهوذا إلى نبوخذنصر ملك بابل إلى بابل قائلاً…” [1-3].

واضح أن البابليين لم يمنعوا أية اتصالات بين المسبيين والذين بقوا في يهوذا وإسرائيل، ويرى بعض الدارسين أن البابليون لم يمارسوا أية وحشية ضد المسبيين.

هذه الرسالة موجهة إلى “بقية الشيوخ” مما يشير أن بعض الشيوخ قد ماتوا في السبي أو قتلوا أو سجنوا ربما بسبب بعض الاضطرابات المُشار إليها في [21-22]. وإن كان البعض يستبعدون حدوث قتل للشيوخ. معنى كلمة “الشيوخ yeter” هنا غير أكيد، ربما يُقصد بها البارزين أو الرؤساء[525].

وُجهت الرسالة أيضا إلى الخصيان، وهم فئة تشير إلى جماعة العاملين في القصر خاصة في قسم النساء، يُستخدم هذا اللقب على كل رجال القصر الرسميين (52: 25؛ 1 صم 8: 15؛ تك 39: 1) وأصحاب المراكز الكبيرة حتى إن كانوا متزوجين، ففوطيفار الخصي كان متزوجًا.

أُرسلت الرسالة مع ألعاسة بن شافان ربما أخ اخيقام بن شافان الذي هب لنجدة إرميا النبي في وقت الشدة (26: 2) وجمريا بن حلقيا (36: 10، 25 الخ) وهو غير جمريا بن شافان الكاتب، الكل من عائلاتكهنوتية لعبت دورًا هامًا في الإصلاح أيام يوشيا الملك. وكانا صديقين لإرميا ومتعاطفين معه في دعوته ورسالته (26: 24؛ 36: 10، 25 الخ)، كان عملهما بالنسبة لنبوخذنصر فيه شيء من اللطف معه بجانب جمعهم الجزية السنوية له، اُرسلا إلى بابل لتأكيد ولاء صدقيا لنبوخذنصر بعد أن ظهرت حركة تمرد بين الأمم التي في الغرب (ص 27). كان هذان الرسولان مبعوثين من صدقيا المتمرد للتفاوض مع الحاكم البابلي، إلا أنهما حملا رسالة من ملكٍ أعظم جدًا من هذا وذاك، من رب الجنود، هذا الذي يتنازل للاتصال بشعبه المسبي على هذا النحو[526].

حملت الرسالة كلمات تشجيع لتثبيت إيمان المسبيين، وفي نفس الوقت حملت توبيخًا للأنبياء الكذبة الذين دأبوا على تقديم آمالٍ زائفةٍ. فمن جهة التشجيع كتب إرميا النبي:

“هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل لكل السبي الذي سبيته من أورشليم إلى بابل.

ابنوا بيوتًا واسكنوا واغرسوا جنات وكلوا ثمرها.

خذوا نساء ولدوا بنين وبنات، وخذوا لبنيكم نساء، وأعطوا بناتكم لرجال فيلدن بنين وبنات واكثروا هناك ولا تقلوا.

واطلبوا سلام المدينة التي سبيتكم إليها،

وصلوا لأجلها إلى الرب، لأنه بسلامها يكون لكم سلام” [4-7].

أ. جاءت الرسالة تناشدهم بقبول الضيقة بكونها من يد الرب، وعوض محاولة استعجال النجاة قبل الأوان المحدد يُلزمهم بالخضوع لبابل وأن يمارسوا حياتهم اليومية بطريقة طبيعية في استقرارٍ ما استطاعوا [5-6] وأن ينتظروا في خضوعٍ لله لكي ينقذهم في الوقت المناسب، لأن السبي مستمر ولن ينتهي في عامين كماادّعى الأنيباء الكذبة. وأن عبادتهم لله الحي تستمر في البلد الغريب في غيبة الهيكل والذبائح (7: 1- 15؛ 21، 22). بمعنى آخر كان غاية الرسالة ألا ينشغلوا بالعودة بل بالتوبة والعبادة حتى يأتي وقت الرجوع في الزمن المحدد.

يبدو أنه قد حلّ بالمسبيين في البداية حالة كآبة لشعورهم بأنهم خطاة أكثر من كل الذين بقوا في أورشليم، لذلك كتب إليهم النبي ليهبهم نوعًا من التعزية خلال تحقيق مواعيد الله والخضوع للخطة الإلهية.

لابد أن كثيرين من الشبان المسبيين كانوا غير متزوّجين، فحثّهم إرميا على الزواج، لكنه لا يعني بهذا الزواج بالبابليات.

إن كان إرميا النبي قد طلب منهم أن يبنوا بيوتًا ويغرسوا جنات ويتزوجون كعلامة على استقرارهم زمنًا طويلاً، لكنه لم يطلب منهم أن يمارسوا حياة الفرح والتهليل، لأن فترة سبيهم إنما هي فترة توبة للرجوع إلى الحضن الأبوي.

ب. يؤكد إرميا النبي أن هذه الرسالة مقدمة من “رب الجنود إله إسرائيل” [4]. فلم يكن إرميا إلا مجرد كاتب أو ناسخ لها. كان مريحًا لهم أن يسمعوا ان إلههم هو “رب الجنود” لم يدفعهم إلى السبي ليتركهم، لكنه قادر على خلاصهم ومساندتهم، وهو الإله الذي دخل مع شعبه في ميثاقٍ. فإن كان لم يُسر بهم بسبب خطاياهم لكنه ينتظر توبتهم ليردهم إليه.

ج. إن كان يؤكد: “كل السبي الذي سبيته” [4]، “المدينة التي سبيتكم إليها” [7]، فإنه هو الذي سمح بالسبي ويسمح  بالعودة في الوقت المعين! بمعنى آخر ما حدث لهم ليس لضررهم ولا حدث اعتباطًا، بل لخيرهم وبخطة إلهية.

د. سمع صدقيا بارسال هذه الرسالة إلى المسبيين دون أن يقاومها، ربما إذ مات حننيا (28: 17) شعر الملك بخطورة مقاومة النبي، أو لكي بطريق غير مباشر يؤكد للشعب عدم عودة يكنيا من السبي.

هـ. إذ جاءوا إلى بابل بسماحٍ إلهي يليق بهم أن يصلّوا لأجل خير مملكة بابل وثباتها [7]، فقد صاروا كجزءٍ منها.

يطلب منهم أن يصلوا حتى عن سلامة الدولة التي سبتهم. إنه أمر مدهش بالنسبة لشعب اُمتصت كل أفكارهم وطاقاتهم في أرض الموعد، لكنها وصية عملية لشعب يبقى 70 عامًا في أرض السبي. يمكننا القول أن ما ورد هنا هو تذوق سابق للفكر الإنجيلي الخاصة بمحبة الأعداء والخضوع للرئاسات أيا كانت كما جاء في رسالة القديس بطرس الأولى: “اخضعوا لكل ترتيبٍ بشريٍ من أجل الرب: إن كان للملك، فكمن هو فوق الكل؛ أو للولاة، فكمرسلين منه للانتقام من فاعلي الشر وللمدح لفاعلي الخير؛ لأن هكذا هي مشيئة الله: أن تفعلوا الخير، فتُسكتوا جهالة الناس الأغبياء، كأحرارٍ، وليس كالذين الحرية عندهم سُترة للشر، بل كعبيد لله” (1 بط 2: 13، 16). وفي رسالة القديس بولس لتلميذه تيطس: “ذكرهم أن يخضعوا للرياسات والسلاطين” (تي 3: 1)، وفي رسالته إلى تلميذه تيموثاوس: “فأطلب أول كل شيء أن تُقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكرات لأجل جميع الناس، لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب لكي نقضي حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار” (1 تي 2: 1-2).

يرى القديس أغسطينوس في هذه العبارة التزام الكنيسة والمسيحي بالصلاة من أجل المسئولين، حتى في السبي، يُصلي المؤمنون لأجل سلامة الدولة حتى يقضوا حياة هادئة مطمئنة كقول الرسول بولس (1 تي 2: 2) [527].

يقول العلامة ترتليان: [بخصوص الكرامات الواجبة للملوك والأباطرة، لدينا نص كافٍ أنه يليق بنا أن نكون في تمام الطاعة وذلك كوصية الرسول (تي 3: 1)… ولكن حدود الطاعة في هذا أن نحفظ أنفسنا منعزلين عن عبادة الأوثان. ولنا في هذا مثال الثلاثة فتية، الذين مع طاعتهم للملك نبوخذنصر ازدروا بتقديم التكريم لتمثاله، فلم يقبلوا العبادة له… هكذا أيضًا كان دانيال خاضعًا لداريوس في كل الأمور، ثابتًا في واجبه مادام بعيدًا عن أساس إيمانه (دا 6)[528]].

يبدو أن بعض المسبيين التجأوا إلى بعض العرافين لتحقيق الأحلام، لكن الله حذرهم من ذلك.

“لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل:

لا تغشكم أنبيأوكم الذين في وسطكم وعرافوكم،

ولا تسمعوا لأحلامكم التي تتحلمونها.

لأنهم إنما يتنبأون لكم باسمي بالكذب.

أنا لم أرسلهم يقول الرب” [8-9].

يليق بنا أن نحمل روح التمييز فنمتحن ادعاءات الكاذبين بواسطة كلمة الله وخلال ثمارهم، فنرفض الذين يستبدلون الإعلان الإلهي بأحلامهم الصادرة عن رغبات قلوبهم العاصية.

أكدت الرسالة العودة بعد سبعين عامًا.

“لأنه هكذا قال الرب:

إني عند تمام سبعين سنة لبابل أتعهدكم وأقيم لكم كلامي الصالح بردكم إلى هذا الموضع.

لأني عرفت الأفكار التي أنا مفتكر بها عنكم يقول الرب،

أفكار سلامٍ لا شر، لأعطيكم آخرة ورجاء” [11-14].

وضع الله خطة معينة لشعبه وفي أزمنة محددة لديه؛ هي لسلامهم لا لضررهم، تبعث فيهم رجاءً في المستقبل [11]. وكما يقول المرتل: “ما أكرم أفكارك يا الله عندي! ما أكثر جملتها! إن أحصها، فهي أكثر من الرمل، استيقظت وأنا بعد معك” (مز 139: 17-18). لكن يلزمنا أن ندرك أن خطة الله غير خطتنا، وأفكاره ومقاييسه غير أفكارنا ومقاييسنا. وكما يقول: “أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي… لأنه كما علت السموات عن الأرض، هكذا علت طرقي عن طرقكم، وأفكاري عن أفكاركم” (إش 55: 8-9). حقًا قد تدخل بنا خطته إلى الطريق الضيق لنحمل الصليب ونقبل الألم، لكنه حتمًا يدخل بنا إلى مجد قيامته كملجأٍ آمنٍ منشودٍ. إنهم لا يجدون أرضهم التي اُنتزعوا منها فحسب، وإنما يجدون الله نفسه ملكًا لهم، يقتنوه فيرد سبيهم ويجمعهم من كل الأمم ومن كل موضع طُردوا إليه.

إن كان تمام السبعين عامًا حيث ينتهي السبي يشير إلى ملء الأزمنة حيث جاء مسيحنا يعلن: “إن حرركم الابن فبالحقيقة تكون أحرارًا”، فبمجيئه نطلب الآب فنجده فينا، حيث تمت مصالحتنا واتحادنا معه في ابنه الوحيد خلال الصليب. لقد غيّر مسيحنا قلبنا، وها هو يجدده بروحه القدوس، فنطلب الله بكل قلوبنا بكونه شهوة نفوسنا. بهذا يتحقق الوعد الإلهي:

“فتدعونني وتذهبون وتصلون إليّ فأسمع لكم.

وتطلبونني فتجدونني، إذ تطلبونني بكل قلبكم.

فأوجد لكم يقول الرب،

وأرد سبيكم وأجمعكم من كل الأمم ومن كل المواضع التي طردتكم إليها يقول الرب وأردكم إلى الموضع الذي سبيتكم منه” [12-13].

 يطلبون الرب بكل قلبهم، أي بكل حبهم وإرادتهم وطاقاتهم، لذا يجدونه حاضرًا في وسطهم [13]؛ (عا 5: 4-6 ؛ هو 2: 16-20). ينزع عنهم روح التمرد والعصيان فيوجد بينهم! كأن الله يقدم لهم تجديدًا للعهد بشرط الطاعة له.

ربما ظن بعض اليهود أن الله لا يسمع لهم لأنهم مستبعدون من مدينة الله، أورشليم، ومن هيكله. هنا يؤكد إرميا النبي أن الله يطلب القلب لا المكان. كانوا في الأرض المقدسة والمدينة المنسوبة له وهيكله الفريد في ذلك الحين ومع ذلك بسبب فساد قلوبهم لم يسمع لهم، والآن في أرض غريبة وثنية إذ يصرخون من كل القلب بالتوبة ينصت إليهم ليردهم.

نطلب الله بالقلب (الفم الداخلي)… فحين يتكلم القلب يتكلم الإنسان كله، نطلب الله بتقديس كل الأعضاء والحواس التي تتعلم كيف تتحدث مع القدوس. لذلك يقول رب المجد: “ليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات”.

يؤكد الله لشعبه أنه هو غاية طلبهم، قائلاً:

“تطلبونني فتجدونني، إذ تطلبونني بكل قلبكم.

فأوجد لكم يقول الرب”.

يقارن القديس يوحنا الذهبي الفم بين الرسول بولس وأبينا إبراهيم حاسبًا الأول أعظم من جهة الترك… ترك حتى الاشتياق إلى السماء من أجل حبه للسيد المسيح.

[تقول إن كل البشر يعظمون إبراهيم لأنه ترك بيته وبيت أبيه وأقرباءه حين سمع الوصية: “أبرام، أُترك مدينتك (أرضك) وبيت أبيك” (تك 12: 1). لقد أمره الله بهذا، وكان هذا يعني كل شيء بالنسبة له. حقًا فإننا نحن أيضا نعجب منه. لكن هل هذا يجعله مثل بولس؟ لم يترك بولس بيته وبيت أبيه و ذويه فحسب بل ترك العالم ذاته لأجل يسوع، بل بالأكثر أقول ترك السماء ذاتها. لم تشغل سماء السموات قلبه، إذ كان هدفه الوحيد هو حب يسوع. لنسمع كلماته الواضحة في هذا الصدد: “لا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق تستطيع أن تفصلنا عن محبة المسيح ” (رو 8: 38-39)].

“لأنكم قلتم قد أقام لنا الرب نبيين في بابل.

فهكذا قال الرب للملك الجالس على كرسي داود ولكل الشعب الجالس في هذه المدينة إخوتكم الذين لم يخرجوا معكم في السبي.

هكذا قال رب الجنود:

هأنذا أرسل عليهم السيف والجوع والوبأ وأجعلهم كتينٍ رديءٍ لا يؤكل من الرداءة.

وألحقهم بالسيف والجوع والوبأ،

وأجعلهم قلقًا لكل ممالك الأرض حلفًا ودهشًا وصفيرًا وعارًا في جميع الأمم الذين طردتهم إليهم” [15-18].

إذ تحدث عن الباقين في يهوذا أشار إلى الملك بقوله: “الملك الجالس على كرسي داود[16]، ليؤكد لهم أن بقاء الملك على كرسي داود لا يعني رضاء الرب عنه. فقد قيل عن نسل داود: “إن ترك بنوه شريعتي ولم يسلكوا بأحكامي… افتقد بعصا معصيتهم وبضربات إثمهم، أما رحمتي فلا أنزعها عنه ولا أكذب من جهة أمانتي؛ لا انقض عهدي ولا أغير ما خرج من شفتي” (مز 89: 30-34).

بمعني آخر، يقول لهم إني أرسل السيف والوباء والجوع علي الملك والشعب الباقي معه، ثم أطردهم إلى كل الأمم. سيكون حالهم أشر مما أنتم عليه!

ربما يتساءل البعض: لماذا أطال الله مدة السبي لتبلغ السبعين بينما نادى الأنبياء الكذبة بأنها لن تتعدى السنتين؟ هذا لا يعني أن الأنبياء الكذبة أكثر حنانًا بالشعب من الله، لكن ما يهم الأنبياء الكذبة هو تهدئة النفوس ولو على حساب خلاصها وأبديتها، أما ما يهم الله فهو خلاص شعبه وأبديته. لم تكن مدة العامين كافيه ليفحص الشعب نفسه ويدرك فساده ليتوب. هذا وقد أنجبت هذه الفترة الطويلة رجالاً لله شهودًا أمناء أمام الأباطرة والشعب الغريب الجنس، مثل دانيال النبي والثلاثة فتية القديسين ومردخاي وإستير ونحميا وعزرا والأعداد الراجعة إلى أورشليم في غيرة ونقاوة قلب.

“من أجل أنهم لم يسمعوا لكلامي يقول الرب إذا أرسلت إليهم عبيدي الأنبياء مبكرًا ومرسلاً ولم تسمعوا يقول الرب” [18-19].

لم يتوقف الله عن إرسال عبيده الأنبياء لتحذيرهم، إنه يكرر الرسالة طالبًا توبتهم. ويكرر القديس يوحنا الذهبي الفم حديثه عن “عدم القسم” مرارًا وتكرارًا معتمدًا على هذه العبارة [19] حيث يكرر الله نصحه لشعبه مرارًا وتكرارًا عبر الأجيال.

v     أريد أن أحدثكم مرة أخرى عن موضوع “القسم”، لكنني أشعر بالخجل. حقيقة بالنسبة لي لا أملّ عن أن أتحدث نهارًا وليلاً لأكرر نفس الأمر إليكم. لكنني أخشى إذ أصنع هذا لأيامٍ كثيرةٍ أبدو أنني أدينكم على إهمالكم الشديد…

لست فقط أخجل بل أيضًا أخاف عليكم، فإن التعليم المستمر للذين يأخذون الأمر بجدية نافع ومكرم، أما بالنسبة للمتهاونين فضار وخطير للغاية. كلما سمع الشخص أكثر اقترب بالأكثر إلى عقابٍ أشد إذا لم يمارس ما قيل له. لهذا يوبخ الله اليهود قائلاً: “إذ أرسلت إليهم عبيدي الأنبياء مبكرًا ومرسلاً ولم تسمعوا[19].

نحن نصنع هذا معكم لاهتمامنا العظيم بكم. لكننا نخشى أن يصير هذا النصح وهذه المشورة ضدكم في اليوم الرهيب[529].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وأنتم فاسمعوا كلمة الرب يا جميع السبي الذين أرسلتهم من أورشليم إلى بابل.

هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل عن آخاب بن قُولايا وعن صدقيا بن معسيا اللذين يتنبآن لكم باسمي بالكذب.

هأنذا أدفعهما ليد نبوخذنصر ملك بابل فيقتلهما أمام عيونكم.

وتؤخذ منهما لعنة لكل سبي يهوذا الذين في بابل فيُقال يجعلك الرب مثل صدقيا ومثل أخآب اللذين قلاهما ملك بابل بالنار.

من أجلٍ أنهما عمِلا قبيحًا في إسرائيل وزنيا بنساء أصحابهما وتكلما باسمي كلامَّا كاذبًا لم أوصهما به وأنا العارف والشاهد يقول الرب” [20-23].

إن كان الله يرد المسببين بعد توبتهم ورجعوهم إليه بكل قلوبهم فهو أيضًا يؤدب الذين بقوا في يهوذا، الذين لميسمعوا لصوته خلال أنبيائه. إنهم التين الرديء جدًا الذي لا يُؤكل بسبب ردائته (ص 24).

عاد ليتحدث عن الأنبياء الكذبة الذين سُبوا، محددًا بالاسم أخاب بن قُولايا وصدقيا بن معسيا، هذان اللذان تكلما بالكذب فسُبيا في عام 597 ق.م؛ وعوض التوبة ارتكبا الزنا مع نساء أصحابهما، فارتبط فساد كلامهما بفساد سيرتهما، فاستحقا أن يقليهما نبوخذ نصر بالنار ليصيرا عبرة ومثلاً للعنة!

اُستخدمت عقوبة “القلي” أو “الإلقاء في النار” أحيانا خلال تقديس الوثنيين للنار، كأنهم يقدمون ذبائح بشرية فيها.

ان الشخصين المذكورين هنا لم نسمع عنهما في غير هذا المكان. ولعلَّ إرميا لم يعرفهما شخصيًا، بل سمع عنهما في رسالة من الرسائل التي وردت إلى أورشليم من المسبيين.

يرى القديس جيروم أن هذين النبيين الكاذبين يشيران إلى الذين هم خارج الكنيسة، الذين يحرقهم عدو الخير كما بالنار، فيقليهما، لكنه لا يكف عن محاربة الذين في الداخل لكي يفسد كنيسة المسيح، إذ يقول: [لا يتطلع الشيطان إلى غير المؤمنين فإن هؤلاء في الخارج يحرقهم الملك الأشوري في الأتون [22]، وإنما إلى كنيسة المسيح إذ يسرع ليفسدها (إش 8: 1)، وكما جاء في حبقوق أن “طعامه من المختار” (حب 1: 16) (السبعينية)[530]].

  1. رسالة إلى شمعيا:

تحدث إرميا إلى ثلاث مجموعات:

الذين أخذوا إلى السبي (10-14)؛

والذين لحقوا بهم بعد ذلك (15-29)؛

ثم الأنبياء الكذبة في بابل (20-23)،

وأخيرًا رسالة خاصة إلى نبي كاذب يُدعى شمعيا.

كان لرسالة إرميا النبي إلى المسبيين أثرها عليهم، كما سببت حالة ثورة وغضب شديد خاصة بين الأنبياء الكذبة هناك، فهاجموها بعنف.

بعث إرميا رسالة إلى نبي كاذب سبي عام 597 ق.م يدعى شمعيا النحلامي الذي أرسل رسائل إلى الشعب وإلى صفنيا بن معسيا الكاهن وكل الكهنة يثيرهم ضد إرميا النبي، ويحتج لدى السلطات في أورشليم على رسالة إرميا بالقبض عليه ومحاكمته. لا نعرف شيئًا عنه، ربما كان موطنه نحلام وهي غير معروفة أم لا. ربما دُعي النحلامي لأنه كان من الحالمين إذ كان يدعي أن الله يتحدث إليه خلال الأحلام؛ أو لأنه لقب خاص باسرته.

لم يرسل شمعيا إلى إرميا النبي ليبرر موقفه أو يعلن توبته إنما كتب ليثير الكل ضده… كتب كصاحب سلطان بروح العجرفة والكبرياء.

  1. رسالة من شمعيا إلى صفنيا:

“وكلم شمعيا النحلامي قائلاً:

هكذا تكلم رب الجنود إله إسرائيل قائلاً:

من أجل أنك أرسلت رسائل باسمك إلى كل الشعب الذي في أورشليم، وإلى صفنيا بن معسيا الكاهن وإلى كل الكهنة قائلاً:

قد جعلك الرب كاهنًا عوضًا عن يهوياداع الكاهن لتكونوا وكلاء في بيت الرب لكل رجلٍ مجنونٍ ومتنبئ فتدفعه إلى المقطرة والقيود.

والآن لماذا لم تزجر إرميا العناثوثىٍ المتنبئ لكم؟!

لأنه لذلك أرسل إلينا إلى بابل قائلاً إنها مستطيلة.

ابنوا بيوتا واسكنوا واغرسوا جنات وكلوا ثمرها.

فقرأ صفنيا الكاهن هذه الرسالة في أذنيّ إرميا النبي” [24-29].

كان صفينا في ذلك الوقت رئيسًا لحرس الهيكل. لا نعرف شيئًا عن “صفنيا” ولا عن يهوياداع (آية 26) وغيرهما على وجه التحقيق، لكنهم كانوا بلا شك معروفين تمامًا للقراء والسامعين في ذلك الزمن.

لم يرسل شمعيا باسم الله بل باسمه الشخصي متهمًا إرميا أنه قد بعث روح الاستكانة والخنوع وسطالمسبيين، إذ طالبهم أن يبنوا بيوتًا ويغرسوا جنات كمن هم مستقرين في بابل.

ليس عجيبًا أن يتهم النبي الكاذب رجل الله الحقيقي بأنه قد عيَّن نفسه بنفسه.

كتب شمعيا إلى صفنيا ليثيره حاسبًا أن الله أقامه عوض يهوياداع لا لشيء إلا ليضطهد أنبياء الله الحقيقيين مثل إرميا الذي حسبه رجلاً مجنونًا. هكذا كان الأشرار يحسبون الأنبياء الحقيقيين مختلّي العقل (2 مل 9: 11، أع 26: 24؛ 2: 13، 15، 17، 18). كان إرميا رمزًا للسيد المسيح الذي اُتهم هكذا من أقربائه أنه مختل العقل (يو 10: 20).

لم تصلنا بقية رسالة إرميا لشمعيا، ولكن ما وصل إلينا هو ملخص رسالة شمعيا لصفنيا، وقام الأخير بقراءتها علانية أمام إرميا، ربما لتحذيره من شمعيا.

  1. رسالة إلى المسبيين:

ثم صار كلام الرب إلى إرميا قائلاً:

أرسل إلى كل السبي قائلاً:

هكذا قال الرب لشمعيا النحلامي:

من أجل أن شمعيا قد تنبأ لكم وأنا لم أرسله وجعلكم تتكلون على الكذب،

لذلك هكذا قال الرب:

هأنذا أعاقب شمعيا النحلامي ونسله.

لا يكون له إنسان يجلس في وسط هذا الشعب،

 ولا يرى الخير الذي سأصنعه لشعبي يقول الرب،

 لأنه تكلم بعصيان على الرب” [28-32].

كتب إرميا إلى المسبيين بخصوص النبي الكاذب شمعيا بعبارات تقارب ما كتبه عن حنانيا (28: 15-16)، فقد حُرم من الخير النهائي، أي عودة البقية الأمينة إلى يهوذا والتي كان يمكن أن تشمله هو وبيته. لم يصدر هذا الحكم من إرميا كرغبة في الانتقام الشخصي، إنما هو حكم إلهي صادر من أجل الشعب كله، وما على النبي إلا إعلانه.

قد نستغرب من صرامة إرميا في ردّه على مكتوب شمعيا [31]، لكن ذلك  كان بناء على أمرٍ إلهي، لكن لا يجوز لنا أن نرد هكذا على مقاومينا، ولا أن نرجو لهم شرًا أو موتًا سريعًا (مت 5: 44).

 

 


 

من وحي إرميا 29

إسندني في أرض السبي!

v     أدبت شعبك بالسبي البابلي،

وفي حبك لم تتجاهلهم!

بعثت إليهم رسالة خلال نبيك إرميا تطمئنهم،

v     لأسمع صوتك في أرض السبي وأتقبل رسائلك!

علمني أن أشعر بالاستقرار مهما طالت أيام غربتي،

لأستريح فيك، فأنت وحدك راحتي.

أعيش كما في وادي الدموع،

لكنك تمد يدك لتمسح كل دمعة من عيني!

v     هب لي القلب المتسع فأصلي،

أصرخ في أعماقي حتى أتمم أيام السبي بسلام،

أصلي لأجل الذين حولي…

حقًا ليتسع قلبي بالحب حتى نحو مضايقيّ!

v     هب لي ألا يكون السبي علة للتذمر،

ولا مجالاً للانحراف،

بل فرصة للتوبة والرجوع إلى أحضانك.

اشتهي أن أتحرر لا من أرض السبي بل من عبودية العدو!

أنطلق لا إلى أرض يهوذا،

بل إلى أحضان الآب.

اشتهي الهيكل غير المصنوع بيدٍ بشرية،

أتمتع بالشركة مع طغمات السمائيين!

v     أخيرًا أكرر صراخي إليك:

اسندني في أرض السبي!

هب لي حياة الشكر الدائم!

هيئني بروحك القدوس للحياة المجيدة!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى