تفسير سفر إرميا 17 للعلامة أوريجانوس
عظة 17
تفسير الآيات من : ” حجلة ما لم تبض ” ( إر 17 : 11) ،
إلى: ” ولا اشتهيت يوم البلية . أنت عرفت ” ( إر 17 : 16).
الحجلة رمز الشيطان
1. يقودنا الكتاب المقدس إلى تساؤل هام ، وهو يدور حول معرفة من هي هذه ” الحجلة ” المذكورة في الآية : ” حجلة تحضن ما لم تبض محصل الغني بغير حق . في نصف أيامه يتركه وفي أخرته يكون أحمق ” . سوف نعتمد على ما يقوله “علم طبائع الطيور” بخصوص موضوع الحجلة، حتى إذا ما عرفنا خصائص هذا الطير وطباعه ، نستطيع حينئذ أن نصنفه إما ضمن أنواع الحيوانات الصالحة أو ضمن الحيوانات الشريرة.
يقال إن هذا الطائر له عادات كريهة ، وهو ماكر وخبيث ، فحينما يريد أن يخدع الصياد ، يقوم بالالتفاف حول قدمي الصياد حتى يجعله يغير اتجاهه عن مكان العش ، وعندما يطمئن أن الصياد لا يرى العش وإلى أن جميع صغاره قد تمكنوا من الهرب ، يهرب هو أيضا على جناح السرعة . كما أنه غير طاهر بالمرة ، لدرجة أن الذكور يتصارعون مع بعضهم في معارك فريدة من نوعها لكي يتزاوجوا ذكوراً بذكور . إذا ، فبما أن لهذا الطائر عادات كريهة ، وبما أنه غير طاهر ، وخبيث ، وكاذب ، فإن إدراجه ضمن الأنواع الصالحة واعتبار أنه يمكن أن يشير إلى المخلص ، هو لا شك نوع من الكفر والإلحاد.
إذا يجب علينا أن نرى هل سنحصل على تفسير ، مشترك تماما في صفاته ، إذا قمنا بمقارنة الشيطان مع الحجلة ، أم لا ؟
الحجلة تقتني ما ليس لها
٢. لنبدأ إذا بالكلمات الآتية : ” حجلة تحضن ما لم تبض ” أو بحسب الترجمة من النص الفرنسي ” حجلة جعلت صوتها مسموعاً، وجمعت صغاراً لم تلدهم ” . الشيطان لا يجمع خليقته الخاصة ، ولا يجمع أطفالاً ( صغاراً) مولودين منه ، ولكنه عندما يجعل صوته مسموعاً، هو يجمع خلائق أحد آخر ويجعلها خلائقه.
إن الحجلة جعلت صوتها مسموعاً عن طريق أفواه باسيليدس ومرقيون وفالنتينوس وكل الهراطقة ، فلم يستطع أي واحد منهم أن يردد قول السيد المسيح : ” خرافي تسمع صوتي ” . إن ” صوت ” السيد المسيح موجود في أفواه بطرس وبولس ، لهذا قال بولس : ” إذا أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فيَّ … ” ( 2 کو 13 : 3). ولكن صوت الحجلة الذي يجمع صغاراً لم تلدهم ، نجده في هؤلاء الذين يضلون ويخدعون الناس البسطاء من بين المؤمنين ويستغلون سذاجتهم ونقص معرفتهم.
“حجلة جعلت صوتها مسموعا وجمعت صغارا لم تلدهم ، وهي تغتني لكن دون حُكم ” . لقد اغتنت الحجلة ، أي الشيطان . انظر كم من الآلاف يتبعون الشيطان!
كل هذه الأعداد الغفيرة أصبحت ملكاً له ؛ وبهذا فقد اغتنى دون أن يدفع شيئا ، اغتنی دون أن يبالي بـحكم ودون أن يقع تحت الحكم . أم بالنسبة لمخلصي الصالح فقد اغتنى بـحكم ، ولقد كلفه هذا الغنى أن يحاكم وأن يموت حتى يختارنا ميراثاً له.
الحجلة تفقد حتى حكمتها
3. ” في وسط أيامها يتركونها ” . نحن جميعاً، الذين كنا قبلاً تحت سيطرة ” الحجلة ” ، وكنا نعمل على إسماع صوتها – لأنها لم تجعل صوتها مسموعاً فقط من خلال الهراطقة الذين ذكرتهم ، بل وأيضا من خلال كل الذين يخدعون الناس ، ويدعون إلى تعاليم وعقائد ضد الحق ، متظاهرين بأنهم يدعون الناس من الضلال إلى التقوى . نعم ! نحن جميعا ” في وسط أيامها ” قد ” تركناها ” . إن مجموع أيامها هو في الواقع مجموع أيام هذه الحياة ، وبما أن السيد المسيح قد اختارنا من وسط هذا العالم الشرير ( غلا1: 4 ) فقد تركناها في وسط أيامها.
“وفي آخرتها تكون حمقاء ” ؛ هل كانت عاقلة في يوم من الأيام ؟ هل كانت حكيمة قبل ذلك حتى يقال أن في آخرتها سوف تكون حمقاء ؟ نعم ! فإنها بالفعل كانت عاقلة ، لأنها كنت أحيل جميع الحيوانات البرية التي عملها الرب الإله ” ( تك3: 1 ) . كانت حكيمة بحسب ما قيل في إشعياء : ” إني أعاقب ثمر عظمة قلب ملك أشور وفخر رفعة عينيه لأنه قال بقدرة يدي صنعت وبحكمتي لأني فهيم ، ونقلت تخوم شعوب ” ( إش 10: 12-13).
بعد أن كانت حكيمة في الشر ستصبح حمقاء فيه. سوف تفهم ماذا تعني الكلمات وفي آخرتها تكون حمقاء ” إذا عرفت ما هو الغرض الذي من أجله أوصاك الله ، عن طريق بولس الرسول ، أن تقبل الجهل ، فهو يقول : ” إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلاً لكي يصير حكيماً” . إذا بما أنه توجد حكمة ملومة ، من خلالها ” أبناء هذا الدهر أحكم من أبناء النور في جيلهم ” ( لو 16: 8 ) ، فإن الله في صلاحه يهلك الأضداد بالأضداد، يهلك حكمة الشيطان ( الحجلة ) لدرجة أنها في آخرتها تكون حمقاء . لكن متى تكون هذه الأيام الأخيرة التي تكون فيها حمقاء ؟ يجب أن المسيح يملك حتى يضع الرب كل أعدائه تحت موطئ قدميه . وعندما يخضع الكل له ، فإن آخر عدو يبطل هو الموت ( 1 كو 15 : 25- 26) . إذا إن نهاية الحجلة تأتي حينما يبطل الموت.
عمل المسيح فينا
4. كرسي مجد مرتفع من الابتداء هو موضع مقدسنا . أيها الرب رجاء إسرائيل كل الذي يتركونك يخزون . الحائدون عني في التراب يكتبون لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية ” ( إر 17: 12-13) . عندما رأى إشعياء النبي ملك الرب قال : ” رأيت السيد جالس على كرسي عال ومرتفع ” ( إش17: 12).
وإرميا أيضا رأى السيد الرب وهو يملك ، فسبحه قائلاً : ” كرسي مجد مرتفع من الابتداء وهو موضع مقدسنا”. لو أردت أن توجه هذه الكلمات إلى السيد المسيح لن تكون مخطئا ، ولو وجهتها إلى الآب لن تكون كافراً. لمخلصنا كرسي مجد مرتفع من الابتداء لأن مملكته هي من فوق ؛ والسيد المسيح هو مقدسنا ، لأن المقدس والمقدسين جميعهم من واحد ( عب2: 11) . ” أيها الرب رجاء إسرائيل ” : بما أن المخلص هو العدل والحق والقداسة وكذلك الرجاء ، لذلك غير ممكن أن نكون عادلين بدون السيد المسيح ، ولا يمكن أن نكون مقدسين بدونه ، ولا أيضا يكون لنا رجاء إذا لم يكن موجوداً في داخلنا ، لأنه هو رجاء إسرائيل.
” أيها الرب رجاء إسرائيل كل الذين يتركونك يخزون ” . إن كل واحد فينا حينما يخطئ يترك السيد المسيح وبالتالي يترك الله . وبارتكابه الظلم ” يترك ” العدل ، وبنجاسته ” يترك ” القداسة ، وبقيامه بالحرب ” يترك ” السلام ، وبالاستسلام للعدو ” يترك ” الخلاص ، وبابتعاده عن الحكمة ” يترك ” حكمة الله . إذا فإن كل الذين يتركون الله ، يلعنهم النبي ، معرفاً إيانا ماذا سيحدث لهم : ” كل الذين يتركونك يخزون ” ، قدر ما يتركون الله يخزون.
” الحائدون عني في التراب يُكتبون ” : إن جميع الناس مكتوبون : القديسون مكتوبون في السماء ، والخطاة في التراب . ويقول السيد المسيح لتلاميذه : ” افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السماوات ” ( لو10: 20) . وكما أن القديسين أسماؤهم مكتوبة في السماوات ، كذاك أيضا الذين يعيشون بحسب الأمور الأرضية ، فإن أسماءهم تكتب في التراب ، لأنهم تركوا الرب.
يقول النبي : كل الذين يتركونك يخزون . الحائدون عني في التراب يكتبون ” .
إذا ، بما أنه ” بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم ” ( مت7: 2 ) ، فإن كل واحد مسئول عن الطريقة التي سيُكتب بها، فإذا كنت تبحث عن الأشياء الموجودة في التراب ، لن تتمكن من النظر إلى الأمور السماوية ، وإذا كانت نفسك تميل إلى أمور هذا العالم الزائل ، فإنك أنت المسئول ، لأن السيد المسيح يقول : ” لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ وحيث ينقب السارقون ويسرقون ، بل اكنزوا لكم كنوزاً في السماء حيث لا يفسد سوس ولا صدأ … ” ( مت6: 19) . هل تكنز في السماء؟
إنها مسئوليتك أنت ، لو أردت أن يكون اسمك مكتوبا في السماوات.
هذا بالنسبة للكلمات : ” في التراب يكتبون ” ، ثم يوضح النبي سبب ذلك ، فيقول : ” لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية ( ينبوع الحياة )”.
يقول إرميا في بداية سفره نفس هذه الكلمات ، لكن على لسان الله : ” تركوني أنا ينبوع الحياة ” ( إر2: 13) . فإذا كنا لا نريد أن نترك الرب ينبوع المياه الحية ، فلنجب نحن أيضا نفس الإجابة التي أجابها الرسل الأطهار على المسيح يسوع حينما سألهم : ” ألعلكم أنتم أيضاً تريدون أن تمضوا ” ؟ أجابوه : ” يا رب إلى من نذهب ، كلام الحياة الأبدية عندك”. ( يو 6: 67-68).
5- تأتي بعد ذلك صلاة أخرى ، تقول كلماتها : ” اشفني يا رب فأُشفى ، خلصني فأخلص ، لأنك أنت تسبحتي . هاهم يقولون لي : أين هي كلمة الرب ؟ لتأت ! أما أنا فلم أعتزل عن أن أكون راعياً وراءك ولا اشتهيت يوم البلية ، أنت عرفت“.
كل إنسان يريد أن يشفى من أمراض الروح والنفس عليه أن يطلب من الطبيب الأوحد الذي جاء خصيصاً من أجل المرضى ، والذي قال : ” لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى ” بذلك يمكن للمريض أن يطلب في ثقة ويقول : ” اشفني يا رب فأشفى ” . لأنه لو كان هناك أحد آخر يستطيع أن يشفي النفوس لما كنا نستطيع أن نقول بثقة : ” اشفني يا رب فأشفى ” . ومكتوب في الإنجيل أن المرأة نازفة الدم قد أنفقت كل ما عندها على الأطباء ولم تنتفع شيئا ( مر5: 25) ولم يستطع أحد منهم أن يشفيها . بالفعل إننا لا نستطيع أن نقول لأي طبيب بكل جرأة وبكل ثقة : ” اشفني فأشفى ” ، إنما يمكننا أن نقول ذلك بثقة كاملة للطبيب الأوحد القادر أن يمنح الشفاء بمجرد لمس هدب ثوبه . لذلك فإنني أقول له : ” اشفني يا رب فأشفي ” ، لأنك إذا عالجتني ، فإن العلاج الذي يأتي من عندك يتبعه حتما الشفاء ، فأخلص . مهما كان الذين يخلصون كثيرون إلا أنني لن أخلص بواسطتهم ، لأن الخلاص الوحيد الحقيقي يتم بواسطة السيد المسيح . لأنه ” باطل هو الفرس لأجل الخلاص وبشدة قوته لا ينجي ” ( مز 33: 17). الرب وحده الذي يخلص ، وأي شيء غيره يكون باطلاً. لذلك أقول له : ” اشفني يا رب فأشفى ” ، ولكنني لا أقول هذه الكلمات إلا إذا استطع أن أقول أيضا تكملة الآية : ” لأنك أنت تسبحتي ” أو ” لأنك أنت فخري ” ، وكذلك إذا نفذت هذه الوصية : ” لا يفتخر الحكيم بحكمته ، ولا يفتخر الجبار بجبروته، ولا يفتخر الغني بغناه ، بل بهذا ليفتخرن المفتخر بأنه يفهم ويعرفني إني أنا الرب المفتخر ” ( إر9: 23-24 ).
إذا ، طوبي للذي يتنازل عن كل فخر أرضي وعن كل كرامة زمنية ، وعن الجمال والأشياء الجسدية ، وعن الغني والمجد ، ويكتفي فقط بأن يقول للرب : ” لأنك أنت فخري ” .
6. ” هاهم يقولون لي أين هي كلمة الرب ، لتأت ! أما أنا فلم أعتزل عن أن أكون راعياً وراءك ” أو ” أما أنا فلم أتضايق ( أمل ) من أتباعك ” .
يقول يسوع المسيح لك : ” احمل صليبك واتبعني ” . ( مت 16: 24) وأيضا : ” اترك كل شيء واتبعني ” ( مت19: 27 ؛ 9: 9 ) ، وأيضا : ” من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني ” ( مت 10: 37-38) . إذا ، لو استطعت أن تتبع يسوع المسيح دائما فإنك لن تمل أبداً من أتباعه . لأنه لم يبصر إثماً في يعقوب ولا رأى تعباً في إسرائيل ” ( عد23: 21) . لا يوجد ملل حينما نتبع السيد المسيح ، فإنه مجرد أتباعه ينزع كل ملل أو تعب . لذلك يقول لنا : ” تعالوا إلى يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال ، وأنا أريحكم ” ( مت11: 28) .
فإذا كنا متعبين وذهبنا إليه وتبعناه نقول : ” أما أنا فلم أتعب من أتباعك”.
سوف نقول له أيضا : ” ولا اشتهيت يوم البلية ” . أو ” ولا اشتهيت يوم الإنسان”. يوجد ” يوم للإنسان ” ويوجد ” يوم للرب ” يحدث كثيراً حينما يكون الإنسان مريضاً و مشرفاً على الموت ، أنه يطلب من الناس الذين يزوروه أن يصلوا من أجله حتى يظل على قيد الحياة . حينما يقول الإنسان ذلك لا يشتهي يوم الرب إنما يشتهي يوم الإنسان . لنكف إذا عن محبة العالم وعن اشتهاء يوم الإنسان ، ولنتطلع إلى يوم القيامة واللقاء مع القديسين حينما يطوبنا المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الأبدين آمين.