تفسير سفر إرميا ٩ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح التاسع
مرثاة على الجميع
رأينا في الأصحاح السابق كيف كاد قلب إرميا النبي أن يتمزق بسبب ما سيحل على شعبه من تأديبات قاسية مع إصرار الشعب على عدم التوبة. وها هو هنا يدعو إلى إقامة مرثاة على شعبه بسبب ما بلغ إليه من شكلية في عبادته وحرفية في حفظه للشريعة بلا ثمر روحي:
بكاء النبي الدائم [1-2].
“يا ليت رأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأبكي نهارًا وليلاً قتلى بنت شعبي” [1].
لم يكن أمام إرميا النبي الذي توجعت أحشاؤه في داخله، وكادت جدران قلبه أن تنهار إلا أن يبكي بمرارة، ويود أن يبقى باكيًا بغير توقف حتى يعمل روح الله لتبكيت الشعب واعترافهم بخطاياهم فيعودون إلى الرب.
هذه هي مشاعر كل مؤمنٍ حقيقي، يدرك ما للدموع الصادقة من قدسية في عيني الله، من أجل خلاص نفسه ومن أجل خلاص إخوته.
إذ رأي القديس باسيليوس كيف تسللت الهرطقات إلى قلوب البسطاء تفجرت ينابيع عينيه، قائلاً:
v إنى أبكي أيامًا كثيرة على الشعب الذي انسحب للهلاك خلال التعاليم الشريرة، فإن آذان البسطاء قد ضلت واعتادت أن تسمع الشرور الهرطوقية.
القديس باسيليوس[187]
وفي حديث القديس يوحنا الذهبي الفم لصديقه الساقط ثيؤدور يقول:
v إنه وقت مناسب لي أن أنطق بهذه الكلمات الآن.
نعم، بل وأكثر مما كان في أيام النبي. فإن كنت لا أحزن على مدنٍ كثيرة، أو كل الأمم، لكنني أحزن على نفسٍ توازى أممٍ كثيرة كهذه، بل وأثمن منها.
إننى لا أحزن لأجل دمار مدينة أو أسر الأشرار لها، بل لأجل تدمير روحك المقدسة… وهلاك الهيكل الحامل للسيد المسيح وإبادته… هذا الهيكل أقدس من ذاك (هيكل العهد القديم)، فأنه لا يتألق بذهبٍ أو فضةٍ بل بنعمة الروح القدس، وبدلاً من تابوت العهد وتمثالي الشاروبيم يوجد في القلب السيد المسيح وأبوه والباراقليط.
القديس يوحنا الذهبي الفم[188]
ويعلق القديس جيروم على هذه الآية بقوله: [إنه في هذا المعني، يتحدث النبي مع خدام الكنيسة، داعيًا إياهم حوائطها وابراجها، قائلاً لكلٍ منهم: “أيها الحائط، لتذرف الدموع” (مرا 2: 18)[189]].
أعطى النبي سببًا لبكائه في (2: 10): “لا تبكوا ميتًا، ولا تندبوه. ابكوا ابكوا من يمضي، لأنه لا يرجع بعد فيرى أرض ميلاده”.
ويصرخ القديس بولينوس أسقف نولا إلى الله كي يفجِّر في قلبه الحجري ينبوع دموع لا يتوقف، فيبكي على ماضيه وينتحب أعماله السابقة، حاسبًا هذه الدموع ينبوع تقوي.
v من يقدر أن يمدني بينبوع مجاري الدموع، لأنتحب أعمالي وأيامي؟ فإنني محتاج إلى نهر لأبكي الضربات القاسية التي استحقها من أجل حياة قضيتها في الخطية!
القديس بولينوس أسقف نولا[190]
هنا يقدم لنا إرميا النبي مفهومًا جديدًا للراحة، إذ يجد تعزيته وسلامه في جديته في العمل، وإن كلفه ذلك تحويل عينيه إلى ينبوع دموع. لقد كان رمزًا للسيد المسيح الذي قيل عنه: “من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزى” (عب 12: 2). راحتنا وسرورنا في آلامنا من أجل إخوتنا! وكما جاء في إشعياء النبي: “لأجعل لنائحى صهيون، لأعطيهم… دهن فرح عوضًا عن النوح” (61: 3).
يربط بعض الغربيين بين الروحانية والفردية indvidualism، ويرون في إرميا رائدًا “للفردية الدينية” وذلك لهجومه على الشكلية في العبادة الجماعية، وتركيزه على الإصلاح الداخلي وختان القلب والأذن، إلا أن عباراته هنا (8: 18، 9: 1) تكشف عن خطأهم[191]، فإنه يبكي نهارًا وليلاً قتلى بنت شعبه، طالبًا الإصلاح الروحي الجماعي، والتوبة الجماعية دون عزلها عن توبة كل عضوٍ في الجماعة.
كان بكاء الرجال علانية أمام الآخرين معيب، ففي أفضل وضع يُحسب علامة عن الضعف[192]. لكن إرميا قبل أن يُنسب إليه الضعف من أجل خلاص شعبه.
“ياليت لي في البرية مبيت مسافرين،
فأترك شعبي وأنطلق من عندهم،
لأنهم جميعًا زناة جماعة خائنين” [2].
في رقة شديدة حمل إرميا النبي أخطاء شعبه في قلبه وفكره وكل أحاسيسه، فتفجرت فيه ينابيع دموع لا تتوقف وتنهدات داخلية مُرّة. كان في هذا رمزًا للسيد المسيح، العبد المتألم، الذي حمل أحزاننا، لكن شتان ما بين إرميا النبي والسيد المسيح. فالأول بحبٍ صادقٍ احتمل إلى حين لكنه كاد أن ييأس، فطلب الهروب إلى البرية، بعيدًا عن كل أحد، يبكي ويئن! أما مسيحنا فحمل أحزاننا وأوجاعنا، ولم يشتهِ الهروب، بل نزل إلى برية حياتنا ليبقى وسطنا حتى يحمل على كتفيه كل نفس يمكن أن تتوب وترجع إليه، قائلاً: “ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر” (مت 28: 20).
لقد نزل إلى عالمنا، وحلّ بيننا كواحدٍ منّا، وحين ارتفع إلى السماء لم يهرب منا، بل حملنا معه لكي نشاركه أمجاده!
لنحمل روح السيد المسيح، ولنشتهِ أن نوجد وسط الشعب – مهما كان شرهم – لكي نحمل آلامهم، ونبكي على ضعفاتهم، طالبين بيقين الإيمان وقوة الرجاء عمل الروح القدس فيهم.
ليتنا لا نهرب من طريق الصليب، ولا نخف من الأوجاع.
ولعل إرميا النبي مع محبته الشديدة لشعبه وانسكابه في بذل حقيقي لذاته من أجلهم خشى أن يبقى معهم، يتلوث بسلوكهم الشرير، فيحل غضب الله عليه معهم، لأنهم “جميعًا زناة جماعة خائنين” [2].
هذه هي الخطية الخطيرة التي يركز عليها الأنبياء “الخيانة الزوجية“، بمعنى رفض النفس الاتحاد مع خالقها لتتحد مع عدو الخير، فتفرح بالشر وتفتخر به، وكما يقول البابا أثناسيوس الرسولي:
v يوبخهم على شرهم وكذبهم، وبسبب أعمالهم الشريرة، إذ يجرون من شرٍ إلى شرٍ، أما السبب الذي لأجله قدم اتهامًا أنهم غير أبرار فهو أنهم لم يعرفوا الرب وغير أمناء.
البابا أثناسيوس الرسولي[193]
ولعل سبب رغبته في الهروب هو فقدان الثقة فيهم، إذ اختاروا لأنفسهم عالم الخداع، خلقوه بأكاذيبهم التي اخترعوها.
يرى البعض أن شوق النبي إلى الهروب إلى البرية، إنما يكشف عن حاجة النفس إلى الاختلاء مع الله في البرية، بعيدًا عن ضوضاء المدينة والانشغال بتصرفات الناس التي تبتلع الفكر وتشغله عن التأمل في السمويات والاهتمام بخلاص نفسه. هذا ما دفع كثير من الآباء إلى الهروب إلى البرية، ليس ضيقًا بالناس، ولا احتقارًا للحياة الزمنية، ولكن للتأمل في السمويات مع انفتاح القلب بالحب نحو الخليقة كلها!
كثيرًا ما ردد القديس ماراسحق السريانى عبارته المشهورة إن مجرد التطلع إلى البرية يميت في النفس الشهوات الجسدية. وله في “السكون” أحاديث طويلة.
يليق بالمؤمن وسط مشاغله أن يهرب كل يوم إلى البرية الداخلية، في أعماق نفسه، ليلتقي مع مخلصه قائلاً مع القديس أغسطينوس إنه يحسب كأنه لا يوجد في العالم سوى الله وهو وحدهما، يناجيان بعضهما البعض في حب مشترك لا يُنطق به!
جاء مسيحنا إلى أرضنا، وشاركنا حياتنا الزمنية، لكنه بين الحين والآخر كان يصعد إلى جبل وحده منفردًا ليعلمنا الاختلاء بالنفس في حضرة الرب، ومراجعتها تحت قيادة روحه القدوس.
عدم مبالاتهم بحالهم:
إن كان النبي قد كرّس حياته للدموع من أجلهم لأنهم كانوا يجرون من شرٍ إلى شرٍ في خيانة لعريس نفوسهم، فإنهم من جانبهم لم يبالوا بدموعه، بل حسبوه إنسانًا متشائمًا يحطم نفسيتهم، يستحق الطرد، بل والموت، وذلك لأنهم لم يدركوا ما هم عليه. ويقدم لنا النبي علَّتين لعدم مبالاتهم، هما:
أولاً: انشغلوا بالمكر:
“يمدون ألسنتهم كقسيهم للكذب لا للحق،
قووا في الأرض.
لأنهم خرجوا من شرٍ إلى شرٍ وإيأي لم يعرفوا يقول الرب” [3].
إذ تحولت ألسنتهم إلى أداة للحرب، لا لحساب الحق بل للكذب، ظنوا أنهم أقوياء، فانطلقوا في الخبث من شرٍ إلى شرٍ، ودخلوا في دوامة الخطية، ولم يجدوا فرصة للوقوف إلى حين ومراجعة النفس. بهذا فقدوا معرفة أنفسهم كما فقدوا بصيرتهم الداخلية ومعرفتهم للرب.
يكمل النبي حديثه عن خطورة المكر:
“احترزوا كل واحدٍ من صاحبه،
وعلى كل أخٍ يعقب عقبًا، وكل صاحب يسعى في الوشاية.
ويختل الإنسان صاحبه، ولا يتكلمون بالحق.
علَّموا ألسنتهم التكلم بالكذب، وتعبوا في الافتراء” [4-5].
يدهش إرميا النبي من الإنسان الذي في شره يرفض الصداقة مع الحق، هذه التي تقدم له الراحة بلا تعبٍ داخلي، بينما يبذل كل الجهد ليتعلم الافتراء. وكما يقول الأب غريغوريوس (الكبير): [إنهم يتعبون لكي يخطئوا. وبينما يرفضون أن يعيشوا بالبساطة، إذا بهم يطلبون بالأتعاب أن يموتوا[194]].
v يؤكد إرميا النبي أنهم يرتكبون أثامهم الخبيثة لا بإرادتهم إو بانشراح قلب فحسب، بل ويبذلون جهودًا شاقة محتملين أتعابًا في تنفيذها[195].
الأب ثيوناس
إن كانت بساطة الحب تحتاج إلى جهاد، لكنه جهاد العذوبة الذي يعطى راحة للنفس والجسد معًا، أما المكر فإن بدى سهلاً لكنه يقدم تعبًا ومرارة للنفس والجسد معًا، والعجيب أن الإنسان يرفض الراحة الداخلية ويطلب لنفسه أن يتعلم الشر والخبث بجهد وتعب مرّ.
بقوله: “لأن كل أخ يعقب عقبًا aqob yaqob” [4] ربما يشير إلى قول عيسو عن أخيه يعقوب: “إلا إن اسمه دعي يعقوب، فقد تعقبنى الآن مرتين: أخذ بكوريَّتي وهوذا الآن قد أخذ بركتي” (تك 27: 36). يعطى هنا مثلاً لاساءة تفسير الكتاب المقدس، فيعقوب تعقب أخيه فأخذ بكوريته بأكلة عدس وبركته بتقديم طعام لأبيه اسحق، وقد دفع ثمن خداعه، إذ خدعه أولاده زمانًا هذا مدته حتى فقد بصره. أما هذا الشعب فتعقب كل واحد أخاه، لا لينال بركة أو بكورية، وإنما ليمارس الظلم والعنف والخداع لأجل حبهم في الشر ومباهاتهم به.
تعبوا لكي يستقروا وسط مرارة المكر، ويجعلوا منه مسكنًا دائمًا لهم، وكأنهم يرفضون بساطة الحق، ليعيشوا في مكر الباطل، أو يرفضوا السكنى في الله والوجود في أحضانه، ليستقروا في قلب إبليس الكذاب والمخادع. بهذا فقدوا معرفة الرب، إذ قيل:
“مسكنك في وسط المكر.
بالمكر أبوا أن يعرفوني يقول الرب” [6].
ماذا يعني فقدانهم معرفة الرب؟
عدم إدراكهم أن الله محب حتى في تأديباته، أما الأشرار فمبغضون حتى في قبلاتهم.
“لذلك هكذا قال رب الجنود:
هأنذا أنقيهم وأمتحنهم.
لأني ماذا أعمل من أجل بنت شعبي؟
لسانهم سهم قتّال يتكلم بالغش.
بفمه يكلم صاحبه بسلام،
وفي قلبه يضع له كمينًا” [7-8].
v تُحتمل جراحات الأعداء بأكثر سهولة من مداهنة الساخرين المملؤة مكرًا… قيل “كلام النمام مثل ُلقمٍ حلوة فينزل إلى مخادع البطن” (أم 26: 22)…. “الرجل الذي يطرب صاحبه يبسط شبكة لرجليه” (أم 29: 5).
الأب يوسف[196]
v الفم هو مصدر كل شر، بالأحرى ليس الفم بل الذين يسيئون استخدامه. فمنه تصدر الشتائم والإهانات والتجاديف وما يثير الشهوات والقتل والزنا والسرقات، هذه جميعها مصدرها إساءة استخدام الفم.
القديس يوحنا الذهبي الفم[197]
v إن صُنت لسانك يا أخى يهبك ندامة في القلب، فترى نفسك. وهكذا تدخل إلى الفرح الروحي. أما إذا غلبك لسانك – فصدقنى فيما أقوله لك – فإنك لن تقدر أن تهرب من الظلمة.
القديس مار إسحق السريانى[198]
فقدوا معرفتهم للرب بلسانهم الغاش، الذي يكلم صاحبه بالسلام وهو يخطط له في قلبه لهلاكه، الأمر الذي تجسم بصورة بشعه في يهوذا الذي كان تلميذًا للرب، وملتصقًا به حسب الجسد، لكنه لم يعرفه كربٍ ومخلصٍ، فأسلمه بقبلة غاشة.
v لم يكن أحد مجرمًا في حق واهب الحياة أكثر قسوة من ذاك الذي تقدم باحترام مملوء خداعًا وتكريمًا فاسدًا مقدمًا قبلة حبٍ غاشة، هذا الذي قال له الرب: “يا يهوذا أبقبلة تسلم ابن الإنسان؟!” (لو 22: 48)…
الأب يوسف[199]
ثانيًا: صاروا في فراغ:
“على الجبال أرفع بكاءً ومرثاة،
وعلى مراعى البرية ندبًا،
لأنها احترقت،
فلا إنسان عابر،
ولا يُسمع صوت الماشية.
من طير السموات إلى البهائم هربت، مضت.
وأجعل أورشليم رُجمًا ومآوي بنات آوي،
ومدن يهوذا أجعلها خرابًا بلا ساكن” [10-11].
السبب الثاني لعدم مبالاتهم بحالهم هو الدخول إلى حالة فراغٍ داخلي. فالنفس لا تشبع من الله خالقها، وتحمله كسماء وعرش له. تفقد تقديرها لخلاصها، ولا تدرك حقيقة مركزها، فتعيش كمرعى احترق، يصير خرابًا لا يعبره إنسان ولا يُسمع فيه صوت ماشية، ولا يهيم فيه طير. إنما يسكنه بنات آوي.
لقد صعد إرميا على الجبال، أي على شريعة الله ومن هناك تطلع إلى البرية، فوجد مراعيها قد احترقت بنيران الشهوات وحلّ بها الخراب، فرفع صوته وبكي، مقدمًا مرثاته على شعبه الذين دخلوا إلى حالة فراغ.
الشرير تتحول أورشليمه إلى رُجم [11]، عوض أن يكون قلبه مدينة الله المقدسة، يصير أشبه بمكان مهجور دنس، يُشتم فيه رائحة الموت.
عوض أن تكون مرعى للغنم، أي حظيرة الخراف المقدسة التي تضم شعب الله، تصير مآوي لبنات آوي [11]، وهي حيوانات أكبر من الثعلب وأصغر من الذئب، دائمًا تعوي؛ تتسم بالوحشية مع المكر والخداع، وترمز لعدو الخير إبليس وملائكته.
وتصير مدن يهوذا خرابًا، تحطم مواهب الإنسان وقدراته.
في اختصار يفقد الإنسان عقله ونفسه وجسده وقدراته ومواهبه ويدخل في حالة فراغ:
أ. يحترق مرعى قلبه بنار الشهوات، عوض إقامة راعى النفوس في داخله.
ب. ليس فيه إنسان، أي يفقد عقله الروحي ووعيه واتزانه.
ج. لا يُسمع صوت ماشية فيه، حيث يخسر حتى بركات الجسد.
د. تهرب منه طيور السماء، إذ لا تقدر نفسه أن ترتفع بروح الرب كما بجناحي حمامة إلى السماء.
هـ. تتحول أورشليمه الداخلية، أي قلبه، إلى رُجم مملؤة دنسًا.
و. يسكنه عدو الخير بمكره وخداعه (بنات آوي).
ز. تتحطم مواهبه وقدراته (مدن يهوذا).
يقدم هنا مرثاة عن خراب أورشليم بسبب شرها. وقد كانت هذه العادة قائمة في أيام القديس جيروم[200].
يقول القديس أغسطينوس: [أورشليم الأرضية هذه هي ظل أورشليم السماوية[201]]. لقد اختار الله أورشليم بكونها الموضع الذي يسكن فيه اسمه (1 مل 11: 13، 2 مل 21: 4)، المدينة المقدسة التي يقطن فيها عرش الله (3: 16إلخ)، وعلامة لحلوله وسط شعبه، لذلك حينما يؤدب شعبه يهدد بتدميرها وخرابها (9: 11 ، 13: 9، 27؛ حز 4، 5، مي 3: 12). تحدث عنها الأنبياء كمركز للعمل المسياني، إليها يعود كل الأمم (إش 2: 2 الخ، 66: 18-20، مي 4: 1-3، حج 2: 7 إلخ). وفي العهد الجديد أعلن السيد المسيح عن اشتياقه لخلاص المدينة، وقد صارت في الكنيسة الأولى بعد حلول الروح القدس مركزًا للمسيحية، فيها يلتقي الرسل والتلاميذ. لكن أنظار المؤمنين كانت بالأكثر تلتقى نحو أورشليم العليا (غلا 4: 26، عب 12: 22، رؤ 14: 1، رؤ 21) كغاية عبادتهم.
ثالثًا: رفضهم الشريعة:
“من هو الإنسان الحكيم الذي يفهم هذه؟
والذي كلمهُ فم الرب فُيخبر بها؟
لماذا بادت الأرض واحترقت كبرية بلا عابر؟
فقال الرب: على تركهم شريعتي التي جعلتها أمامهم،
ولم يسمعوا لصوتي
ولم يسلكوا بها” [12-13].
من يرفض كلمة الله النارية التي تحرق أشواك الخطية، وتلهب القلب بنيران الحب الإلهي، وتجعل منه خادمًا لله بنارٍ سماوية، تشتعل فيه نيران الشهوات، فتحوله إلى برية خربة!
الدعوة لإقامة مرثاة على صهيون [17-22].
لا يقف إرميا النبي وحده يُرثى هذا الشعب، وإنما يطلب الله منهم أن يدعو النادبات والحكيمات ليرفعن مرثاة ويذرفن الدموع عليهم:
“هكذا قال رب الجنود:
تأملوا وادعوا النادبات فيأتين،
وأرسلوا إلى الحكيمات فيُقبلن،
وُيسرعن ويرفعن علينا مرثاة،
فتذرف أعيننا دموعًا وتفيض أجفاننا ماءً” [17-18].
يقول رب الجنود: “تأملوا” [17]. لا طريق للتوبة بدون “التأمل“، أي وقفة النفس قليلاً لتراجع نفسها عن كل تصرفاتها الماضية. أما دعوة النادبات والحكيمات فتشير إلى دراسة كلمة الله مصدر التوبة والحكمة العلوية.
يريد الله كل إنسانٍ أن يأتي ويرثى صهيون ويبكي عليها. لعله يقول إن كانت عيوننا قد جفت وقلوبنا قد غلظت فلنلجأ إلى إخوتنا الروحيين ليسندوننا، نتعلم منهم حياة التوبة ونطلب صلواتهم عنّا. إن أمكننا أن ندعو كل الخليقة لكي تسندنا بالصلاة إلى الله الذي يعيننا بفيض نعمته.
v أيتها التلال نوحي، أيتها الجبال اندبي!
لندعو كل الخليقة لتشاركنا بالوجدان بسبب خطايانا… لنلجأ إلى الملك الذي هو من فوق. لندعوه فيعيننا.
فإن كنا لا نطلب عونًا من السماء لا تكون لنا تعزية نهائيًا فيما نحن قد سقطنا فيه.
القديس يوحنا الذهبي الفم[202]
حينما نعيش مع التائبين نتعلم التوبة، وحينما نطلب رثاء الغير علينا نرثي نحن لحالنا، ونتعلم ونعلم إخوتنا وأولادنا أيضًا البكاء على الخطية، إذ يقول:
“بل اسمعن أيتها النساء كلمة الرب، ولتقبل آذانكن كلمة فمه،
وعلمن بناتكن الرثاية، والمرأة صاحبتها الندب” [20].
أما علة الرثاء فهو إدراكنا أن الموت قد دخل إلى أعماقنا من خلال كوى الحواس، ليحطم قصورنا الداخلية المقامة لملكوت السموات.
“لأن الموت طلع إلى كوانا،
دخل قصورنا،
ليقطع الأطفال من خارج،
والشبان من الساحات” [21].
يجعل من الموت شخصًا يدخل إلينا، كما فعل إشعياء إذ جعل منه طرفًا يقيم معه الإنسان عهدًا “لأنكم قلتم قد عقدنا عهدًا مع الموت… ويمحي عهدكم مع الموت” (إش 28: 15، 18). يدخل الموت إلينا خلال الحواس (الكوى)، ويسيطر على القلب، أي في قصورنا التي هي مسكن ملك الملوك. يقتل الأطفال الذين يلعبون في الخارج، أي يبيد الأشواق المقدسة للشركة مع إلهنا، أو البدايات الطيبة للحياة الفاضلة في الرب التي لم تتأصل بعد فينا، كما يقتل الشبان من الساحات، أي يهلك حتى الأقوياء الذين كان يلزمهم أن يحاربوا روحيًا في الساحات.
في هذا يوبخهم على عبادتهم للإله بعل Baal الذي كان يكره النوافذ، لأنه حسب الأساطير الكنعانية دخل بعل عليان Aliyan Baal في معركة ضد Yamm، وإذ انتصر عليه أراد بناء قصر ضخم جدًا، فاقترح عليه المهندس أن يوجد به نافذة، فقاوم الفكرة أولاً ، لكنه عاد فقبلها. خلال هذه النافذة قفز إليه الإله موت Mott، إله الموت والعالم السفلي وسيد كل قوى التخريب، أخطر عدو للبعل عليان.
يصوّر الموت هنا أنه يصعد إلى النوافذ ويدخل القصور ويقتل الأطفال والشباب في الشوارع وميادين المدينة، وهو تصوير مقابل الخلاص الذي به تمتلئ الشوارع بالشيوخ، والأطفال يلعبون هناك (زك 8: 4-5).
يعود فيصور الموت في الحقول حيث الجثث تكون كبواقي الحيوانات التي لا تجد من يجمعها ليدفنها. وكأن الموتى قد ملأوا القصور المهدمة والشوارع والميادين والحقول.
يدخل الموت إلينا خلال الحواس (الكوى):
v لنا خمسة شبابيك: النظر، السمع، التذوق، الشم، اللمس…
إن نظرت إلى امرأة لأشتهيها، ارتكب الزنا في قلبي، فيدخل الموت من خلال شباك النظر الذي بي…
إن كان صوت قيثارة أو أرغن أو مزمار، يدخل الموت إلى النفس خلال حاسة السمع.
أيضًا أن لمست شيئًا ناعمًا، يكسر مقاومة جسدي يدخل الموت خلال اللمس، وهكذا على نفس الخط[203].
v فتح دانيال نوافذه على أورشليم (7: 10)، فهل تحفظ نوافذك مفتوحة فقط تجاه النور لكي يدخل منها وترى الرب؟! لا تفتح تلك النوافذ التي يقول عنها النبي: “الموت يدخل في نوافذنا” (9: 21)[204].
القديس جيروم
v لأنه ما هي الحاجة أن يُغلق باب قلبك أمام العريس؟
ليُفتح للمسيح، ويُغلق أمام الشيطان، كالقول: “إذا صعد عليك روح ذاك الذي له قوة لا تترك مكانك” (رؤ 3: 20).
احتفظ دانيال في عليته بنوافذه مفتوحة نحو أورشليم، إذ لم يستطع أن يبقى أسفل (دا 6: 10).
اترك نوافذك مفتوحة، لكي ترى مدينة الله.
لا تفتح تلك النوافذ التي قيل عنها: “الموت يأتي خلال نوافذك” (9: 21).
القديس جيروم[205]
v يحاربنا الشرير بمصادر في داخلنا، فيجلب علينا الموت من الكوى، كما يقول الكتاب المقدس، أي خلال الحواس.
القديس غريغوريوس النزينزى[206]
الله واهب الحكمة والمعرفة [23-24].
لئلا يظن الإنسان أن التوبة هي عمله الذاتي أو أنه بحكمته ومعرفته ينمو روحيًا أكد الرب:
“لا يفتخر الحكيم بحكمته،
ولا يفتخر الجبار بجبروته،
ولا يفتخر الغني بغناه،
بل بهذا يفتخرن المفتخر:
بأنه يفهم ويعرفني إني أنا الرب الصانع رحمة وقضاء وعدلاً في الأرض” [23-24].
جاء هذا الحديث إجابة على التساؤل الذي وُجه ضد كلمات إرميا النبي: ماذا ينقصنا ونحن نقتني الحكمة والقوة والغنى؟
في لغة مشابهة يتكلم النبي حزقيال عن أن الفضة والذهب التي يفتخر بها الإنسان لا تفيد شيئًا فيقول “يلقون فضتهم في الشوارع وذهبهم يكون لنجاسة لا تستطيع فضتهم وذهبهم إنقاذهم في يوم غضب الرب. لا يشبعون منهما أنفسهم ولا يملأون جوفهم لأنهما صارا معثرة إثمهم” (حز 7: 19).
يقتبس الرسول بولس هذه الآية ويطبقها في الرسالتين إلى أهل كورنثوس (1 كو 1: 31، 2 كو 10: 17). ففي الأولى يقارن بين صليب السيد المسيح والفلسفة أوالحكمة الإنسانية؛ فصليب المسيح هو قوة الله وحكمة الله للخلاص وقد صار ربنا يسوع المسيح لنا حكمة وبرًا وقداسة وفداء، بهذا يهدم الرسول أساس افتخارهم بالناس، فإنهم في غباوتهم يقولون أنا لبولس وأنا لأبُلّوس وأنا لصفا؛ وكأن مصدر خلاصهم وحياتهم الناس. وفي الرسالة الثانية يتألم الرسول مما سمعه عن أعمال المعلمين الكذبة المتعجرفين، فإن من يظن أنه أفصح من غيره يكون بهذا قد افتخر بنفسه ونسى الرب. لقد افتخر الأنبياء الكذبة بحكمتهم المخادعة، والقادة العسكريون بجبروتهم وقوتهم، وتصادموا مع إرميا النبي الناطق بالحق الإلهي، وحسبوا حكمة الله التي نطق بها جهالة.
هذه التسبحة تمجد حكمة الله وفهمه ومعرفته، الأمور التي يحسبها غير الروحيين غباوة وجهالة، متكلين على حكمتهم البشرية وخبرتهم الشخصية ومعرفتهم العقلية البحتة خارج دائرة الإيمان والإعلان الإلهي. لهذا ففي إرسالية السبعين رسولاً قيل: “تهلل يسوع بالروح وقال: أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء، وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب، لأن هكذا صارت المسرة أمامك” (لو 10: 21). ويقول الرسول بولس: “لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة… لأن جهالة الله أحكم من الناس… اختار الله جهال العالم ليخزى الحكماء” (1 كو 1: 21-27). هكذا إذ أساء الإنسان إلى الحكمة التي وهبه الله إياها ظن حكمة الله جهالة…
الدينونة بلا محاباة[25-26].
الله خالق الكل يدين الجميع بغير محاباة، إذ قيل:
“ها أيام يقول الرب وأعاقب كل مختون وأغلف،
مصر ويهوذا وأدوم وبني عمون وموآب وكل مقصوصي الشعر مستديرًا الساكنين في البرية،
لأن كل الأمم وكل بيت إسرائيل غلف القلوب” [25-26].
الخلفية وراء هذا النص هي العقيدة التي في ذهن اليهود أن ختان الجسد يفصل بين من يُنسب للحق ومن يُنسب للباطل. حقًا إن الختان هو علامة الدخول في عهد مع الله (تك 17: 9-14) وغيابه علامة العداوة لله (1 صم 17: 26، 36)، لكن هنا يُبرز أن ختان الجسد في ذاته لا يحمي الإنسان من غضب الله.
إن كان الكل قد سقط تحت الدينونة، الغلف حسب الجسد (الأمم)، والغلف حسب الروح أو القلب (اليهود)، لهذا يحتاج الكل إلى المخلص.
يقول العلامة أوريجينوس: [يقول حزقيال النبي: “… الغريب أغلف القلب وأغلف اللحم لا يدخل مقدسي” (حز 44: 9)… هنا اشارة إلى أنه مالم ُيختتن الإنسان في القلب والجسد لن يدخل هيكل الله[207]].
ذكر مصر في مقدمة القائمة لأن كثيرين من الشعب والقادة ظنوا أنها المنقذ من أشور أو بابل فيما بعد، هذا ومن جانب آخر فإن المصريين كانوا يمارسون الختان حسب الجسد، لكنه ليس ختان للرب بل للأوثان، فهل يستطيع الختان أن يخلصهم؟!
الدعوة هنا لقبول المخلص وممارسة التوبة عامة للجميع، لليهودي لأنه وإن كان مختون الجسد لكنه أغلف القلب [26]، وللأممي لأنه أغلف جسديًا وقلبيًا.
أراد الله من شعبه ألا يتمثل بشيء مع الشعوب الوثنية، فمن عادات بعض الشعوب يقص الرجال شعرهمويبقون جزءُا في شكل سطح مستدير وسط الرأس إرضاء لآلهتهم، لذلك دعاهم الوحي “مقصوصي الشعر مستديرًا“. كانت هذه العادة تشير إلى تكريس الإنسان لعبادة آلهة معينة وثنية، أما مكرسوا الرب أو النذيرون فلا يعلو موسى رأسهم. بدون الرأس يفقد الشعر جماله وقيمته. كأن كل نفس تعتزل مسيحها تكون كشعرة رأس سقطت عن مصدر حياتها لا تستحق إلا إلقاءها في سلة المهملات. أما بقاء شعر اللحية فيشير إلى كرامة الكهنوت، فالمسيحي إذ يدخل مياه المعمودية يصير كاهنًا روحيًا بالمفهوم العام، يليق أن يحافظ على شعر لحيته الروحية أي سلوكه بما يليق كابن لله وكاهنًا له.
من وحي إرميا 9
هب لي يارب دموعًا مقدسة!
v هب لي يا رب ينبوع دموع مقدسة،
فأرتفع على جبل شريعتك، في وسط البرية،
أكتشف خطايأي وخطايا إخوتي،
فأبكي نهارًا وليلاً!
v أبكي لساني الذي يحمل سُمًا معسولاً،
يتكلم بالسلام مخادعًا، وقلبي غير مقدس!
ضع يارب حارسًا لفمي وبابًا حصينًا لشفتي!
قدِّس كلماتي المنطوق بها والخفية!
فلا أدين أخًا، ولا أشي بأحدٍ!
v انطلق الموت إلى أورشليمي،
تسلق خلال الكوى،
قتل أطفالي وشباني!
حولها إلى برية قاحلة ومقبرة دنسة!
لم يعد يعبر بها إنسان،
ولا يرعى فيها حيوان،
ولا يطير في سمائها طير!
من ينقذني منه إلا أنت، يا واهب القيامة؟!
v قدس كوى نفسي، وحواس جسدي،
فلا يدخلها موت بعد،
ولا تصير أورشليمي رجمًا،
بل مقدسًا لك أيها القدوس!
v هب لي دموعًا مقدسة،
فأبكي بروح الرجاء!
أنتحب في يقين عمل نعمتك يا مخلص العالم!
تفسير إرميا 8 | تفسير سفر إرميا | تفسير العهد القديم |
تفسير إرميا 10 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر إرميا | تفاسير العهد القديم |