تفسير سفر إرميا ٩ للقمص أنطونيوس فكري

تفسير إرميا – الأصحاح التاسع

 

الآيات 2،1:

– يا ليت راسي ماء وعيني ينبوع دموع فابكي نهارا وليلا قتلى بنت شعبي. يا ليت لي في البرية مبيت مسافرين فاترك شعبي وانطلق من عندهم لأنهم جميعا زناة جماعة خائنين.

يتضح فيهما حب النبي لأورشليم ولشعبه وكلامه الحزين هو من قلبه. يا ليت رأسى ماء = ذابت من الحزن. وعينى ينبوع = وفي العبرية كلمة عين وينبوع كلمة واحدة كما في العربية، كأنه يريد أن يقول، أنه في أرض الحزن هذه فلتكن عيوننا للدموع فقط وليس للنظر. وهو مستعد أن يبكى على شعبه حتى يتوبوا. وإن كانت قلوبنا ينبوع خطايا فلتكن عيوننا ينبوع دموع. وطوبى للحزانى الآن لأنهم يتعزون. ولكن النبي هنا يشعر بثقل حمله ومسئوليته، ففي (2) يتمنى لو ترك هذا الحمل الثقيل وهرب لفندق بعيد = مبيت مسافرين = يسكنه الناس ليلة واحدة، ويعظهم هذه الليلة ويسافرون غدًا فلا يصبح مسئولًا عن أحد، وما أحلى الراحة بعيدًا عن مسئولية الخدمة ولكن رجل الله لا يستطيع هذا الفرار، فإلى أين يهرب من أمام وجه الرب. والفرار من المواقف الصعبة هو فرار من العظمة. وإذا كان لا بُد من وجود خادم فاشل (الفشل ليس راجعًا لعدم أمانته بل لقساوة قلوبهم) فلماذا لا أكون أنا هذا الخادم الفاشل، ولماذا أترك الخدمة لغيرى لأنها صعبة. والصليب ما هو إلا رفض فلماذا لا أكون مرفوضًا. فالمسيح نفسه قد رفضوه.

النبي كان يبكى ويصلى من أجل شعبه فلماذا يريد أن يهرب ويتركهم إذ وجدهم زناة وخائنين ؟ هذا لأنه وجد فيهم عنادا ورفضا للتوبة، وهو لا يطيق أن يراهم هكذا.

 

الآيات 3-11:

– يمدون السنتهم كقسيهم للكذب لا للحق قووا في الأرض لانهم خرجوا من شر إلى شر واياي لم يعرفوا يقول الرب. احترزوا كل واحد من صاحبه وعلى كل اخ لا تتكلوا لأن كل اخ يعقب عقبا وكل صاحب يسعى في الوشاية. ويختل الإنسان صاحبه ولا يتكلمون بالحق علموا السنتهم التكلم بالكذب وتعبوا في الافتراء. مسكنك في وسط المكر بالمكر ابوا أن يعرفوني يقول الرب. لذلك هكذا قال رب الجنود هانذا انقيهم وامتحنهم لأني ماذا اعمل من أجل بنت شعبي. لسانهم سهم قتال يتكلم بالغش بفمه يكلم صاحبه بسلام وفي قلبه يضع له كمينا. افما اعاقبهم على هذه يقول الرب أم لا تنتقم نفسي من امة كهذه. على الجبال ارفع بكاء ومرثاة على مراعي البرية ندبا لانها احترقت فلا إنسان عابر ولا يسمع صوت الماشية من طير السماوات إلى البهائم هربت مضت. واجعل أورشليم رجما وماوى بنات اوى ومدن يهوذا اجعلها خرابا بلا ساكن.

يمدون السنتهم كقسيهم = يمد القوس أي يشد وتره استعدادًا لإطلاق السهم ليصيب آخر في مقتل. وهكذا هم يعوِّجوا ألسنتهم بالكذب ليصطادوا آخرين ويؤذونهم حتى لو كانوا أقاربهم. وهم قووا لا للحق = أي تقووا في شرهم بل هم ينمون من شر إلى شر ومن سيء لأسوأ، ينمون في الشر وفي السوء. وفي (5،4) يعقب عقبًا = يتعقبون بعضهم للأذية والشر. وفي (6) الله يحذر النبي من هذا الشعب الماكر الساكن في وسطه = مسكنك في وسط المكر. وفي (8) وصف لألسنتهم الغاشة.

وفي (7) التجربة القادمة يسمح بها الله لينقيهم ويمتحنهم = ينقى المعدن الجيد من الشوائب التي علقت به. أما الذي تحول كله إلى زغل فسيحترق في نار التنقية، فالنار أي التجربة ستختبر أي تمتحن المعدن الجيد من الصدأ. وفي (10) بكاء النبي على الجبال التي كانت خضراء حيَّة لكنها الآن احترقت. وكانت هذه عادة جيوش ذلك الزمان أن يحرقوا كل شيء وراءهم. وتُأخَذْ القطعان غنيمة فلا يسمع صوت الماشية.  وفي (11) وصف محزن للخراب ولكن هذا نتيجة للخطية. ومن لم يعرف الله كواضع للناموس فيحترم ناموسه سيعرفه كديان للأرض كلها. وفي مقارنة بين آية (8،3) نجدهم في (3) يستخدمون لسانهم في الكذب وفي (8) هم ينفذون الشر الذي قالوه = سهم قَتَال.

بنات آوى = حيوانات أكبر من الثعلب وأصغر من الذئب، تعوي دائمًا ومتوحشة ومخادعة، هي رمز لإبليس وجنوده.

 

الآيات 12-16:

– من هو الإنسان الحكيم الذي يفهم هذه والذي كلمه فم الرب فيخبر بها لماذا بادت الأرض واحترقت كبرية بلا عابر. فقال الرب على تركهم شريعتي التي جعلتها امامهم ولم يسمعوا لصوتي ولم يسلكوا بها. بل سلكوا وراء عناد قلوبهم ووراء البعليم التي علمهم اياها اباؤهم. لذلك هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل هانذا اطعم هذا الشعب افسنتينا واسقيهم ماء العلقم. وابددهم في امم لم يعرفوها هم ولا اباؤهم واطلق وراءهم السيف حتى افنيهم.

كان العالم أيام إرمياء عالمًا مضطربًا بين مصر وأشور وبابل وضاعت يهوذا المملكة الصغيرة في الوسط. وهنا يشرح الله أن السبب ليست هذه الأسباب السياسية، بلعَلَى تَرْكِهِمْ شَرِيعَتِي . وفي (12) من هو الإنسان الحكيم الذي يفهم السبب = ولكن كيف يكون الإنسان حكيمًا؟ هو الذي كلمه فم الرب ولو وُجِدَ هذا الإنسان فعليه أن يخبر بها. ولقد وُجِدَ مثل هذا الإنسان وهو إرمياء ولكن لم يستمع لهُ أحد فبادت الأرض وإحترقتبسبب الخطية وتركهم شريعة الله (13)، (14) وفي (15) الإفسنتين = مر وسام أي أن الله سيلعن كل بركاتهم وفي (16) هذا ما سيصنعه جيش بابل.

 

الآيات 17-22:

– هكذا قال رب الجنود تاملوا وادعوا النادبات فياتين و ارسلوا إلى الحكيمات فيقبلن. ويسرعن ويرفعن علينا مرثاة فتذرف اعيننا دموعا وتفيض اجفاننا ماء. لأن صوت رثاية سمع من صهيون كيف اهلكنا خزينا جدًا لأننا تركنا الأرض لأنهم هدموا مساكننا. بل اسمعن ايتها النساء كلمة الرب ولتقبل اذانكن كلمة فمه وعلمن بناتكن الرثاية والمراة صاحبتها الندب. لأن الموت طلع إلى كوانا دخل قصورنا ليقطع الاطفال من خارج والشبان من الساحات. تكلم هكذا يقول الرب وتسقط جثة الإنسان كدمنة على وجه الحقل و كقبضة وراء الحاصد وليس من يجمع.

النادبات هن النائحات المحترفات. فالغمة القادمة محزنة جدًا وتدعو للرثاء ولكن علينا في كل حين أن نقدم توبة بدموع فدائمًا جزاء الخطية خراب. وأرسِلوا إلى الحكيمات = أي الذين يعلمونكم البكاء على الخطايا، فمن الحكمة أن نبكى على خطايانا ونقدم عنها توبة. وفي (19) سبب البكاء هو السبي = أي أنهم تركوا الأرض . وهم تركوا الأرض لأنهم تركوا الله أولًا فلنحذر لئلا تضيع أرضنا السماوية. ولأنهم هدموا مساكنهم = ومسكننا المؤقت الحالى هو جسدنا فلنحذر حتى لا يُهدَمْ بالخطايا. وفي (21) صورة للموت الجماعى إن لم نبكى على خطايانا كما في (20). وفي (22) حتى الموت فيه رُعْب فالإنسان يسقط كشىء نجس ولا يجد من يدفنه.

 

الآيات 23-26:

– هكذا قال الرب لا يفتخرن الحكيم بحكمته ولا يفتخر الجبار بجبروته ولا يفتخر الغني بغناه. بل بهذا ليفتخرن المفتخر بأنه يفهم و يعرفني أني أنا الرب الصانع رحمة وقضاء وعدلا في الأرض لأني بهذه اسر يقول الرب. ها أيام تاتي يقول الرب واعاقب كل مختون واغلف. مصر ويهوذا و ادوم وبني عمون ومواب وكل مقصوصي الشعر مستديرا الساكنين في البرية لأن كل الامم غلف وكل بيت إسرائيل غلف القلوب.

يحاول النبي هنا أن يخيفهم ويخرجهم من الملجأ الذي احتموا به وخدعوا أنفسهم به. فهم احتموا بأنهم سياسيين قادرين على التحالف مع دولة ضد دولة، وخداع دولة أخرى. وأنهم أقوياء ولهم ثروة بها يستطيعون تأمين مدينتهم. ولكن النبي يشرح لهم غباء كل هذا. فبدون أن يكون الله في وسطهم فلا فائدة. فالله أبطل حكمة ومشورة أخيتوفل. وداود الصغير قتل جليات الجبار. وثروتهم ستكون سببًا في هلاكهم لطمع العدو فيهم. وهم اعتمدوا على أنهم مختونين، إذن هناك عهد بينهم وبين الله بينما الكلدانيين فهم غير مختونين. وهنا الله يقول أن الكلدانيين غير مختونين بالجسد أما اليهود فغير مختونين بالقلوب، فإذا كان الختان يشير إلى استئصال الخطية فهم اكتفوا بالعلامة الخارجية دون توبة ولذلك فالله سيضرب الجميع الكلدانيين والمصريين (إشارة لمملكة الشر أي الشياطين) واليهود غلف القلوب الذين احتفظوا بالشر في قلوبهم علامة الشيطان. . ولنعلم أن المعمَّد المؤمن الخاطئ يتساوي مع غير المعمد. فالختان هو رمز المعمودية. ومن المحزن أن نرى في (26) يهوذا وقد أُحصيت مع الأمم فمن يتبع إبليس يشابهه. وهذه الأمم لم يكن لها ميراث وسط إسرائيل (تث3:23) ولكن الآن إسرائيل تشترك في ضرباتها. وكل مقصوصى الشعر = هم غالبًا بنى قيدار وحاصور (قارن مع 28:49-32) وهي عادة وثنية منع الله شعبه من تقليدهم فيها، فالوثنيون يعملون هذا إكرامًا لإلههم باخوس.

لأَنَّ كُلَّ الأُمَمِ غُلْفٌ = كثير من الأمم كانوا يختتنوا، وكانوا يختتنوا عند زواجهم، لذلك يسمى العريس بالختن. ولكن لم يكن الختان هنا كعلامة عهد مع الله. ويكون المقصود أن هذه الشعوب التي لم تكن في عهد مع الله، الله سيدينها فهو إله كل الخليقة. أما شعب اليهود فهؤلاء كانوا في عهد مع الله وعلامة هذا العهد هو الختان. لكن الله سيدينهم لأنهم لم يقطعوا الخطية من قلوبهم = وَكُلَّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ غُلْفُ الْقُلُوبِ .

“ويختن الرب الهك قلبك وقلب نسلك لكي تحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك لتحيا” (تث30: 6). وهذه الآية تشير أنهم من البدء فهموا أن الختان هو ختان القلب.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى