تفسير سفر إرميا ٣٨ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثامن والثلاثون

إرميا في الجب

يرى بعض الدارسين[598] أن كُلاً من الأصحاحين 37، 38 يحملان تفاصيل خاصة بنفس الحادثة، فإن أردنا القصة كاملة يُضم الأصحاحان معًا.

تبرز الأحداث الزمنية لهذا الأصحاح بعض الصعوبات بسبب التشابه بينها وبين ما ورد في (37: 11-21)، ففي كلتا الروايتين يُتهم إرميا بالخيانة ويُسجن (37: 15-20، 38: 6، 26). وكلا الأصحاحين يتحدثان عن مقابلة سرية مع الملك، وكلاهما ينتهيان بأن يوضع إرميا في دار السجن. لكن يوجد مع ذلك اختلاف في الروايتين تشمل الآتي:

أ. الأصحاح 37 يشير إلى القبض على إرميا (37: 11-15)؛ أما الأصحاح 38 فلم يُشر إلى ذلك.

ب. السجن المذكور في (37: 15-16) في بيت يوناثان الكاتب، أما في [6] فيُدعى جب ملكيا ابن الملك الذي في دار السجن. ربما هذا الاختلاف ليس بذي قيمة لأننا لا نعرف موقع بيت يوناثان الكاتب بالنسبة لدار السجن الذي كان بجوار القصر (32: 2)، فقد يكون ملاصقًا له.

ج. أصحاح 38 يروي لنا الإفراج عن إرميا من الجب في شيء من التفصيل، والدور الذي قام به عبد ملك الكوشي [7-13] الأمر الذي لم يُشر إليه الأصحاح 37.

د. جاء اللقاء السري الذي تم بين الملك والنبي إرميا في [14-26] بشيء من التفصيل أكثر مما جاء في [11-27]؛ وإن كانت النغمة واحدة.

هـ. يوضح الأصحاح 38 حقيقة أن صدقيا الملك كانت له سلطة كافية لمنع إعدام النبي بتهمة الخيانة.

مع هذا يرى كثير من الدارسين أن ما ورد في الأصحاحين هما تقريران عن حادثٍ واحدٍ، وهذا ليس بالأمر الغريب على إرميا؛ فقد أشار إلى العظة في الهيكل في الأصحاحين 7، 26؛ وإلى إفراج إرميا بواسطة البابليين في (38: 28؛ 39: 14) وأيضًا في (39: 11-12؛ 40: 1-6)[599].

  1. المطالبة بقتل إرميا[1-4].
  2. القاء إرميا في السجن[5-6].
  3. عبد ملك الكوشي ينقذ إرميا[7-13].
  4. لقاء سري مع الملك[14-16].
  5. نبوة عن رحمة مشروطة[17-23].
  6. صدقيا يخشي الرؤساء[24-27].
  7. بقاء إرميا في الحبس[28].
  8. المطالبة بقتل إرميا:

“وسمع شفطيا بن متان وجدليا بن فشحور ويوخل بن شلميا وفشحور بن ملكيا الكلام الذي كان إرميا يكلم به كل الشعب قائلاً:

هكذا قال الرب:

الذي يقيم في هذه المدينة يموت بالسيف والجوع والوبأ.

أما الذي يخرج إلى الكلدانيين فإنه يحيا وتكون له نفسه غنيمة فيحيا.

هكذا قال الرب:

هذه المدينة ستُدفع دفعًا ليد جيش ملك بابل فيأخذها.

فقال الرؤساء للملك ليقتل هذا الرجل،

لأنه بذلك يضعف أيادي رجال الحرب الباقين في هذه المدينة، وأيادي كل الشعب،

إذ يكلمهم بمثل هذا الكلام،

لأن هذا الرجل لا يطلب السلام لهذا الشعب بل الشر” [1-4].

اثنان من المذكورين في [1] سبق أن أرسلهما الملك صدقيا إلى إرميا: زار يوخل بن شلميا إرميا خلال الانسحاب المؤقت للكلدانيين (37: 3)، وفشحور بن ملكيا عندما بدأ نبوخذنصر حصاره لأورشليم عام 588  ق.م (21: 1).

جاء التقرير هنا مطابقًا تمامًا لما ورد في (21: 9) الذي قدمه في بدء الحصار قبل القبض عليه، مؤكدًا موت الذين يقيمون في المدينة بالسيف والجوع والوبأ. وقد تكررت هذه الضربات الثلاث معًا في سفر إرميا (24: 12؛ 21: 7، 9؛ 24: 10؛ 27: 8، 13؛ 29: 17-18؛ 32: 24؛ 34: 17؛ 38: 2؛ 42: 17، 22؛ 44: 13).

يقصد بقوله: “يخرج إلى الكلدانيين” تسليم نفسه لهم.

صدر الحكم من الرؤساء على إرميا بالقتل [4] كخائنٍ للوطن، ولم يدركوا أن إرميا يحمل حبًّا حقيقيًا للشعب، ينبع عن أحشائه الملتهبة. وأن ما نطق به هو حكم صدر عليهم بسبب عصيانهم المستمر. فالأمر ليس في يديه بل في أيدي الملك والرؤساء والكهنة والشعب إن قدموا توبة تتغير كل الأحكام!

ما أسهل أن يلقي الرؤساء اللوم على إرميا، حاسبين أن بقتله تُحل المشاكل ويعود للبلد سلامه وأمانه!

  1. القاء إرميا في السجن:

“فقال الملك صدقيا ها هو بيدكم لأن الملك لا يقدر عليكم في شيء.

فأخذوا إرميا وألقوه في جب ملكيا ابن الملك الذي في دار السجن ودلوا إرميا بحبال.

ولم يكن في الجب ماء بل وحل فغاص إرميا في الوحل” [5-6].

ربما لم يصرح الملك بقتله ظنًا منه أنه طالما كان النبي على قيد الحياة فإن الله يمكن أن يرجئ عقاب يهوذا المتنبأ عنه في (37: 15)، أو يريد الملك قتله لكن ليس بيديه، إنما بأيدي الرؤساء، وهذا من شيمة الإنسان الضعيف الذي يشتهي الشيء، لكنه يدفع الآخرين إلى تنفيذه، لكي يبرر نفسه فيما بعد!

كان لمعظم البيوت في أورشليم آبار خاصة (2 مل 18: 31، أم 5: 15) لتخزين المياه المتجمعة من الأمطار أو من الينابيع، وكانت في العادة على شكل كمثري ذات فتحة صغيرة من أعلى حتى يمكن تغطيتها عند الضرورة لمنع الحوادث أو تلوث الماء. وبحلول عام 1200 ق.م كانت الآبار تقوى بالأسمنت، مثل خزان قمران.

اهتز صدقيا الملك أمام كلمات إرميا، الذي ربما كان يشعر بمخافة أمامه، إذ كان يخشاه. لكنه إذ كان ضعيف الشخصية سلمه إلى أيدي رجاله الأشرار قائلاً لهم: “ها هو بيدكم، لأن الملك لا يقدر عليكم في شيء” [5].

كان للرؤساء سلطة الحكم عليه ولكن حكم الإعدام لابد من موافقة الملك عليه. وقد أبدى هذا بوادر الضعف والاستسلام فلم يرتدعوا، إلاَّ أنه لم يسمح لهم بقتله رأسًا، لذلك ألقوه في الجب ليموت هناك جوعًا.

كلمات الملك نفسها [5] تكشف عن شخصيته الضعيفة أو عن مركزه الضعيف، فكانت السلطة الحقيقية في يد الرؤساء الذين كانوا يحركون الملك كدمية في أيديهم، لأن نبوخذنصر أقامه ملكًا بعد سبي يهوياكين، وربما كان غير مقبولٍ من أحدٍ في الأمة كملك حقيقي، بل ينتظر الكل عودة الملك المسبي يهوياكين.

لقد صدر الحكم بإلقائه في جب به وحل ليموت هناك. وقد فضَّل إرميا أن يموت في وحْل الجُب ولا تُدفن كلمة الله في وحل العصيان أو المجاملة على حساب الحق.

كان يمكنه أن يهرب من هذا الوحْل إن تراجع عن نبواته وتخلّي عن كلمة الله ورسالته… لكنه رفض!

ألقوه ليموت جوعًا دون سفك دمه، ولم يدركوا أنهم يقتلون أنفسهم إذ حرموا أنفسهم من خبز الملائكة، كلمة الله. قَبِلَ أن يموت جسديًا بجوع من خبز العالم ولا يموت جوعًا من خبز الملائكة!

v     تُرك إرميا وحده يسبح الله؛ ألقوه في جب مملوء وحلاً، أما نفس هذا الرجل فكانت أثمن من كل الشعب.

أتريد أن تعرف ماذا يمكن لإنسان واحدٍ أن يفعل؟ كان يشوع بن نون وحده، بينما كان العالم كله مسكونًا. هناك كانت توجد جماهير بلا عدد أما هو فكان وحده بمفرده وأمر الشمس والقمر فتوقفا. أعطى إنسان أمرًا فاهتمت السماء! انصتت السماء إليه لأنه كان ينصت للرب…

ماذا يقول (ميا)؟ “جلست وحدي لأنك قد ملأتني غضبًا” (15: 17). كيف كنت وحدك في المدينة؟ أقول كنت وحدي لأنه لم يكن أحد معي يشاركني هدفي[600].

القديس جيروم

إذ أُلقى إرميا في الجب السفليّ تحولت حياته إلى صلاة، فصرخ إلى الله قائلاً:

“دعوت باسمك يارب من الجب الأسفل،

لصوتي سمعت،

لا تستر أذنك عن زفرتي عن صياحي،

دنوت يوم دعوتك،

قلت: لا تخف.

خاصمت يا سيد خصومات نفسي…

رأيت يارب ظلمي.

أقم دعواي…” (مرا 3: 55-59).

حين أُغلقت كل الأبواب في وجهه وجد أبواب الله مفتوحة. وجد أذني الرب تميل إليه وهو في الجب لتسمع صرخات قلبه الداخلية. يؤكد له الرب وعوده السابقة منذ لحظات دعوته: “لا تخف!”؛ ويشاركه آلامه، فيحسب الخصومات ضد إرميا كأنها خصومات ضد الله نفسه. يصير الله هو القاضي وهو المحامي الذي يقيم دعوى إرميا ضد مضطهديه.

إن كان هذا الأصحاح قد كشف عن دور عبد ملك الكوشي في خلاص إرميا، فإن مراثيه تكشف عن الذي قام بالدور الحقيقي هو الله سامع صلوات المظلومين… تحرك بالحب لينصت إلى أنينه، وحرَّك عبد ملك بالحنان ودبّر خلاص إرميا من الجب!

  1. عبد ملك الكوشي ينقذ إرميا:

“فلما سمع عبد ملك الكوشي رجل خصي وهو في بيت الملك أنهم جعلوا إرميا في الجب والملك جالس في باب بنيامين،

خرج عبد ملك من بيت الملك وكلم الملك قائلاً:

يا سيدي الملك قد أساء هؤلاء الرجال في كل ما فعلوا بإرميا النبي طرحوه في الجب،

فإنه يموت في مكانه بسبب الجوع،

لأنه ليس بعد خبز في المدينة.

فأمر الملك عبد ملك الكوشي قائلاً:

خذ معك من هنا ثلاثين رجلاً، وأطلع إرميا من الجب قبلما يموت.

فأخذ عبد ملك الرجال معه، ودخل إلى بيت الملك إلى أسفل المخزن،

وأخذ من هناك ثيابًا رثة وملابس بالية ودلاها إلى إرميا إلى الجب بحبال.

وقال عبد ملك الكوشي لإرميا ضع الثياب الرثة والملابس البالية تحت إبطيك تحت الحبال.

ففعل إرميا كذلك.

فجذبوا إرميا بالحبال وأطلعوه من الجب.

فأقام إرميا في دار السجن” [7-13].

كان هدف الرؤساء قتل النبي دون سفك دمه، بتركه يتعذب ويموت ببطئ في الجب.

ربما كان عبد ملك الكوشي خصيًّا، موظفًا في بيت نساء الملك، وربما كانت المخازن تحت يديه. ولعلَّ بعض النساء أشفقْن على إرميا النبي فاعتنين بأمره.

الرجل الغريب الجنس لم يقبل أن يرى إرميا في الوحل، فذهب إلى الملك وتحدث معه بصراحة… قائلاً له حقًا قد يموت إرميا في الجب، لكن بسبب هذا تموت المدينة كلها من الجوع [9].

العجيب في شخص عبد ملك أنه اتسم بالآتي:

أ. الشجاعة، فذهب إلى الملك وهو يعلم أن تكلفة هذا العمل هو هياج كل رجال الملك ضده، وربما تكون تكلفته حياته كلها.

ب. الإيمان: إن مات إرميا في الجب جوعًا ستموت المدينة كلها جوعًا، فإن ما فعلته المدينة بنبي الله يرتد عليها.

ج. تشغيل طاقات الآخرين لحساب ملكوت الله، فلم يعمل وحده بل أخذ ثلاثين رجلاً لرفع إرميا النبي بالحبال من الجب، مع أنه كان يمكن له وحده أو ربما معه شخص آخر أو أثنان للعمل، لكنه أراد أن يشرك الكثير في عمل الخير.

د. كان عجيبًا في رقته وحنانه، فكان يكفي لإرميا في الجب أن ُتلقى إليه الحبال ليمسك بها فإنه كاد أن يموت، لكن عبد ملك دلى ثيابًا بالية لكي يضعها النبي تحت أبطيه حتى لا يتجرح جسمه أو يشعر بألم! أحيانًا نطلب خلاص الآخرين لكن بعنف، فنتحدث معه بكلمات جارحة. ليتنا في خدمتنا للغير الاَّ نجرح مشاعر أحد.

إذ كان الوقت شتاءً لم يكن الجب مُحتملاً بسبب البرد القارص مع الوحل، مما يدفع بإرميا إلى الموت الأكيد!

وُجد عبد ملك الغريب الجنس يعمل بحب لحساب ملكوت الله، ففي كل جيلٍ نجد حتى في قصور الملوك والرؤساء أناسًا يعملون لمجد الله! بلا شك أن أمانة هذا الخصي الغريب الجنس كان لها أثرها على الملك الذي وثق فيه، واستمع إلى مشورته، وأعطاه سلطانًا لتحقيق خطته، دون مبالاة بما قد يحدث من الرؤساء أصحاب السلطة الذين حملوا عداوة مُرّة ضد إرميا. بأمانته شهد للحق وواجه بشجاعة ما لم يستطع غيره أن يفعله!

لعل عبد الملك هنا يشير إلى الأمم الذين يقبلون كلمة الله لخلاصهم فيشبعون من الخبز النازل من السماء، السيد المسيح؛ بينما أنزل بنو إسرائيل الكلمة النبوية إلى الجب ورفضوا المخلص وصاروا في مجاعة روحية. هذه كانت نبوة عن دخول الأمم إلى الإيمان، هؤلاء الذين رفضوا أن يدخل الناموس والأنبياء إلى وحل الحرف القاتل.

نزول إرميا إلى الجب يشير إلى الإنسان الذي ينزل بكلمة الله إلى وحل هذا العالم، فيحول حتى الكلمة التي لخلاص نفسه وتمتعها بالسماويات إلى وسيلة لطلب الزمنيات.

يقيم العلامة أوريجينوس مقارنة بين إرميا النبي الذي أُلقى في جب ملكي في دار السجن، حيث غاص في الوحل [6]، والقديس بطرس الذي صعد إلى السطح وهناك نظر رؤيا إلهية، فيقول بأن واجبنا كمؤمنين روحيين أن نصعد مع كلمة الله بالروح القدس لننال معرفة حقة ورؤى إلهية، ولا ندع كلمة الله أن تُلقى في الجب خلال أفكارنا الجسدانية وشهواتنا الشريرة. لقد أخذ عبد ملك ثلاثين رجلاً معه ورفعوا إرميا من الجب، بالقاء ثياب بالية إليه ليضعها تحت ابطيه مع الحبال [12]. من هو عبد ملك هذا إلا ربنا يسوع المسيح الذي صار عبدًا ليرفع أفكارنا وطبيعتنا من عمق الهاوية خلال الكنيسة (30 رجلاً) باتضاعه (الثياب البالية)؟! يليق بنا أن نقبل فقر ربنا يسوع المسيح لكي نُرفع إلى فوق ونرتدي الثياب السماوية الملوكية أبديًا. هكذا نجلس عن يمين الملك السماوي الذي نزل إلى الحفرة كي لا ننزل نحن إليها.

يرى العلامة أوريجينوس[601] أن هذه العبارات تطابق ما جاء في نشيد الأناشيد: “أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار كشقق سليمان” (نش 1: 5).

v     لست أظن أنه غير لائق أن نقول أن هذا الأجنبي الذي من جنس قاتم ignoble، الذي سحبه من جب الموت، هذا الذي ألقاه فيه رؤساء إسرائيل، يمثل شعب الأمم، الذين آمنوا بقيامة ذاك الذي مات، هذا الذي أسلمه هؤلاء الرؤساء للموت. بهذا الإيمان سحبوه مرة أخرى من الهاوية.

بل أظن أن هذا الأثيوبي ُيقال عنه أنه الخِصْيْ، لأنه خَصَى نفسه لأجل ملكوت السموات، بل لأن فيه ذاك الذي بلا بذار للشر (مت 19: 12).

هو أيضًا عبد الملك، لأن العبد الحكيم يحكم على سادة جهلاء، فإن كلمة “عبد ملك” تعني “عبدًا للملوك”[602](أم 17: 2).

هذا هو سبب أن الرب الذي ترك شعب إسرائيل بسبب خطاياهم، يتحدث إلى الأثيوبي مخبرًا إيَّاه: “هأنذا جالب كلامي على هذه المدينة للشر لا للخير… ولكنني أنقذك في ذلك اليوم… فلا ُتسلَّم ليد الناس… بل إنما أنديك نجاة” (39: 17-18).

أما السبب الذي لأجله خلص، فهو أنه سحب النبي من الجب، أي أنه بإيمانه في قيامة المسيح من الأموات بطريقة عُبر عنها أنه سحبه من الجب[603].

العلامة أوريجينوس

لم يكن عبد الملك محتاجًا إلى ثلاثين رجلاً لرفع إرميا من الجب حتى ظن البعض أن الرقم الأصلي هو ثلاثة رجال، لكن بعض الدارسين يرون أنهم كانوا ثلاثين لا لرفعه وإنما لإنجاح مهمة عبد ملك، لئلا يحاول البعض من قبل بعض الرؤساء إفساد مهمته.

إذ تصرف عبد ملك بلطفٍ لإنقاذ النبي من الموت، وعده النبي بالخلاص من الخراب المقبل على أورشليم (39: 15-18). الله لا ينسى تعب المحبة من أجله ومن أجل خدامه، لذلك أنقذ عبد ملك الكوشي في يوم المدينة ولم يُسلم ليد أعدائه (39: 15- 18). كان أجنبيًا عن رعوية إسرائيل حسب الجسد، لكنه ابن إبراهيم حسب الإيمان الحيّ العامل بالمحبة.

وجد إرميا عطفًا من رجل غريب في وقت كاد أن يرفضه الكل!

  1. لقاء سري مع الملك:

يروى لنا اللقاء الأخير والوداعي بين الملك وإرميا، كان فيه النبي صريحًا كل الصراحة. قدَّم كل ما في قلبه وما أعلنه له الرب، فقد أدرك أنه لن يرى الملك بعد… تحدث بصراحة كاملة حتى لا يُدان أمام الله!

“فأرسل الملك صدقيا وأخذ إرميا النبي إليه إلى المدخل الثالث الذي في بيت الرب،

وقال الملك لإرميا:

أنا أسألك عن أمر.

لا تخفِ عني شيئًا.

فقال إرميا لصدقيا: إذا أخبرتك أفما تقتلني قتلاً؟

وإذا أشرت عليك فلا تسمع لي؟

فحلف الملك صدقيا لإرميا سرًا قائلاً حيّ هو الرب الذي صنع لنا هذه النفس إني لا أقتلك ولا أدفعك ليد هؤلاء الرجال الذين يطلبون نفسك” [14-16].

بقوله: “أفما تقتلني قتلاً؟” لا يعني أن الملك نفسه يقتله، إنما يتخلى عنه حتى يقتله أعداءه كما سبق إن ألقوه في الجب، وربما قصد ألاّ يتركه يُلقى في الجب مرة أخرى.

المدخل الثالث” لم يذكر إلا هنا، ربما هو مدخل الملك (2 مل 16: 18)، وهو مدخل سرى يسمح لدخول الملك اليائس في سرية ليستشير النبي المرزول من الملك وشعبه طويلاً.

عاد الملك صدقيا فأرسل إلى النبي قائلاً له: “أنا أسألك عن أمرٍ. لا تخفِ عني شيئًا…[14]. ربما لأنه لم يكن مستريحًا في أعماقه لمشورة رجاله، فكان يود أن يسمع من رجل الله. ولعله ظن أنه صنع خيرًا بإرميا وأخرجه من الجب فيغير إرميا كلماته. كان يود أن يسمع النبي يتنبأ ليس حسب كلمات الرب بل حسب هواه الشخصي ليهدأ ضميره.

واضح من تصرفات صدقيا في أكثر من موقف ضعف شخصيته واهتزازها أمام رجال الدولة، إذ كان يدرك دور إرميا كنبي حقيقي، لكنه كان يصدر أوامره أحيانًا بالتخفيف كما سمح أن يُعطى رغيف خبز كل يوم من سوق الخبازين طالما في المدينة خبز… كما كان يستشيره سرًا، لكنه لم يطلقه ولا أعلن براءته. كانت تنقصه الشجاعة لذلك سلم إرميا بين يدي رجاله، إذ قيل: “ها هو بيدكم لأن الملك لا يقدر عليكم في شيء” [5].

لا نعرف أيضًا ما الباعث هنا لأن يرسل الملك في طلب إرميا. لعلَّه أدرك أن النهاية وشيكة فأراد أن يسمع نصيحة النبي لينجو من الخطر. ولا يخفي أن الملك خشي التسليم وخاف من أعدائه من اليهود الذين كانوا قد غادروا المدينة من قبل، وحرَّضوا ملك بابل عليه.

يؤكد إرميا النبي للملك أنه يليق به ألاّ يخاف الناس، أي رجال الدولة، بل يخاف الله، فلا يعصي كلمته، بهذا ينقذ حياته، وينقذ أورشليم من حرقها بالنار.

لقد رسم إرميا النبي صورة مثيرة عن نتائج عصيان الكلمة الإلهية، وذلك خلال رؤيا أظهرها الله له، فقد شاهد بروح النبوة نساء القصر والأبناء يُقادون وهم ينشدون مرثاة مُرَّة تُعلن عن شعورهم بالخداع الذي مارسه الأصدقاء، متطلعين إلى الملك أنه قد غاص في الوحْل. تتناسب هذه المرثاة مع وضع إرميا الذي أُلقي في جب ليغوص في الوحْل حتى يموت [7]. لم يمت إرميا في الوحْل، إنما دفع الأنبياء الكذبة الملك في وحْل كذبهم فغاص في خداعهم. لقد أرسل الله عبد ملك الغريب الجنس لينقذ إرميا، أما الملك فلم يجد من ينقذه من وحْله!

  1. نبوة عن رحمة مشروطة:

“فقال إرميا لصدقيا: هكذا قال الرب إله الجنود إله إسرائيل.

إن كنت تخرج خروجًا إلى رؤساء ملك بابل تحيا نفسك ولا تُحرق هذه المدينة بالنار، بل تحيا أنت وبيتك.

ولكن إن كنت لا تخرج إلى رؤساء ملك بابل،

تدفع هذه المدينة ليد الكلدانيين فيحرقونها بالنار وأنت لا تفلت من يدهم.

فقال صدقيا الملك لإرميا: إني أخاف من اليهود الذين قد سقطوا للكلدانيين لئلا يدفعوني ليدهم فيزدروا بي.

فقال إرميا: لا يدفعونك.

اسمع لصوت الرب في ما أكلمك أنا به، فيحسن إليك، وتحيا نفسك.

وإن كنت تأبى الخروج، فهذه هي الكلمة التي أراني الرب إياها.

ها كل النساء اللواتي بقين في بيت ملك يهوذا يخرجن إلى رؤساء ملك بابل وهن يقلن قد خدعك وقدر عليك مسالموك.

غاصت في الحمأة رجلاك وارتدتا إلى الوراء.

ويخرجون كل نسائك وبنيك إلى الكلدانيين وأنت لا تفلت من يدهم،

لأنك أنت تُمسك بيد ملك بابل، وهذه المدينة تحرق بالنار” [17-23].

كان إرميا صريحًا كل الصراحة، فتحدث مع الملك بكلمات الرب، كما كان عجيبًا في حبه للغير، حتى للملك الذي دخل به إلى السجن فإنه يطلب له أن يخلص من الموت.

بما أن إرميا قد عرف أن الملك لا يقبل نصيحته، فإنه كلمة “اسمع” يكون معناها هنا “إذا سمعت”.

قدم له سبع نبوات خطيرة إذا لم يسمع لصوت الرب ويخرج إلى رؤساء ملك بابل، وقد تحققت هذه النبوات حرفيًا:

أ . تسليم المدينة في أيدي رؤساء ملك بابل [17-18].

ب. يحرقون المدينة بالنار [18، 23].

ج. لن يفلت الملك من أيديهم.

د . يخرج كل نساء الملك إلى الرؤساء [22].

هـ. يقدم النساء مرثاة على الملك، قائلاًت: لقد خدعك أصدقاؤك [23]. وردت هذه المرثاة في عوبيديا 7: “طردكَ إلى التُخم كل معاهديك، خدعك وغلب عليك مسالموك؟ أهل خبزك وضعوا شركًا تحتك؛ لا فهم فيه”.

في الشرق  يشعر الإنسان بخجلٍ شديدٍ عندما يصدر التوبيخ من امرأة، كم بالأكثر إن صدر هذا نحو ملك، خاصة وإن كانت النساء هن نساء قصره.

و. يُرسل نساء الملك وبنوه إلى الكلدانيين.

ز. يهرب الملك لكن يلقي ملك بابل القبض عليه.

تتم هذه النبوات الخطيرة  في حياة كل إنسانٍ يرفض كلمة الرب ويعمل حسب مشيئته البشرية:

v     تُسلم مدينة قلبه إلى أيدي رؤساء ملك بلبل، أي تسقط تحت خطايا كثيرة تفقده حريته الداخلية، وتسلبه سلامه الحقيقي، فيعيش مستعبدًا في مذلةٍ وعارٍ.

v     تحرق المدينة أورشليم الداخلية بنار الشهوات عوض أن تلتهب بنار الروح القدس وتشتعل بالحب الإلهي.

v     لن يفلت الملك من أيديهم بل يسقط أسيرًا فيُنزع عنه سلطانه الملوكي. هكذا تفقد الخطية سلطان الإنسان، وتحرمه من الملوكية ليعيش في ضعف.

v     أما نساؤه أي طاقات جسده وغرائزه وأحاسيسه ومشاعره فتخرج إلى الرؤساء؛ أي تُمتص في الشر، وتتحد مع الفساد عوض تقديسها لحساب الرب.

v     المرثاة التي تقدمها النساء تشير إلى شهادة أعماق الإنسان نفسه ضده، فبعد سقوطه في الفساد، يشعر بالخيبة والضياع، لكنه يفقد حرية الإرادة والقدرة على التصحيح.

v     إرسال النساء والبنون إلى الكلدانيين، تعني حرمان الإنسان من أرض الموعد والتمتع ببيت الرب الروحي ليحيا كما في السبي.

v     هروب الملك صدقيا وقبض ملك بابل عليه يشير إلى فشل المحاولات البشرية للخلاص دون الالتجاء إلى الطاعة لكلمة الله والتمسك بالنعمة الإلهية.

  1. صدقيا يخشى الرؤساء:

“فقال صدقيا لإرميا: لا يعلم أحد بهذا الكلام فلا تموت.

وإذا سمع الرؤساء أني كلمتك وأتوا إليك وقالوا لك أخبرنا بماذا كلمت الملك لا تخفِ عنا فلا نقتلك وماذا قال الملك.

فقل لهم إني ألقيت تضرعي أمام الملك حتى لا يردني إلى بيت يوناثان لأموت هناك.

فأتى كل الرؤساء إلى إرميا وسألوه فأخبرهم حسب كل هذا الكلام الذي أوصاه به الملك فسكتوا عنه لأن الأمر لم يسمع” [24-27].

سمع الرؤساء عن هذا اللقاء السري الذي تمّ بين الملك وإرميا النبي، وعرفوا جانبًا واحدًا من الحديث وهو الجانب الذي لا يهمهم، أما الأمور الخطيرة فقد أُخفيت عنهم.

لسنا ندري لماذا خاف الملك من إشاعة هذا الكلام بين الناس. ولعله خاف أن يعرف الناس شيئًا عن قلق نفسه وميله للاستسلام. ص 155، 156

  1. بقاء إرميا في الحبس:

“فأقام إرميا في دار السجن إلى اليوم الذي أُخذت فيه أورشليم” [28].

سمح الله لإرميا أن يبقى في دار السجن حتى سقوط أورشليم، ربما لكي لا يرى بعينيه انهيار مدينته المحبوبة جدًا لديه، بينما عاد الملك صدقيا إلى قصره يحمل في جعبته صورة حيّة عمّا كان يجب عليه أن يفعله، لكن لم تسعفه جرأته لفعل شيء ما. بمعنى آخر كان إرميا ملقيًّا في السجن لكنه يحمل روح الحق بشجاعة، بينما دخل الملك قصره يترقّب لحظات هلاكه وهلاك شعبه وبلده!

 


 

من وحي إرميا 38

أطلقني من الجب السفلي

v     نطق إرميا بكلمة الحق أمام الكل،

 فأنزلوه في جب سفليّ!

 أرادوا أن يطمروا كلماته في الوحْل،

 ويكتموا فمه الناري فلا ينطق بكلمة!

 ويخلصوا من حياته التي تبكتهم!

v     ظنوا أنهم يقتلونه بالجوع دون سفك دمه،

 ولم يدركوا أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان،

 بل بكل كلمة تخرج من فم الله!

 ألقوه ليموت جوعًا من خبز العالم،

 وإذا بهم يموتون جوعًا من خبز الحياة!

 حرموا أنفسهم من كلمة الرب،

 من خبز الملائكة واهب الحياة!

v     نعم! تحوَّل قلبي إلى جب سفليّ،

 نزلتُ بكلمتك كما إلى وحلّ هذا العالم،

 ولم أرد أن ترتفع بأعماقي إلى نور سمواتك العليا!

v     لم ترسل لي عبد ملك الكوشي ليرفعني،

 بل صرت عبدًا لتهبني بنوتك العجيبة نعمة مجانية!

 لم تلقِ بحبال مادية لأمسك بها،

 بل ألقيت عليّ بحبال حبك الإلهي لتقتنصني!

 لم تترفق بي بثيابٍ بالية أضعها تحت إبطي،

 بل سكنت فيّ ووهبتني روحك القدوس،

 تقدم لي شركة الطبيعة الإلهية!

 نعم! ارتديت طبيعتي كثيابٍ بالية،

 فنزعت عنها فسادها وقدستها لحسابي!

v     لأمانته ألقوا إرميا في جب الضيق،

 لكن الجب قذفه إلى النور،

 بينما ألقت الخطية بالملك ورجاله إلى جب الذلٍ والعارٍ مع الهلاك!

v   هب لي ألاّ أخاف من الجب الذي يلقيني فيه الناس،

 بل أحذر الجب الذي تحدرني إليه إرادتي الشريرة وخطاياي!

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى