تفسير سفر يوئيل 1 – أ.بولين تدري
وصف الحادثة:
“قول الرب الذي صار إلى يوئيل بن فثوئيل. اسمعوا هذا أيها الشيوخ وأصغوا يا جميع سُكان الأرض. هل حدث هذا في أيامكم أو في أيام آبائكم. أخبروا بنيكم عنه وبنوكم بنيهم وبنوهم دوراً آخر. فضلة القمص أكلها الزحاف وفضلة الزحاف أكلها الغوغاء وفضلة الغوغاء أكلها الطيًار. اصحوا أيها السكارى وابكوا وولولوا يا جميع شاربى الخمر على العصير لأنه انقطع عنْ أفواهكم. إذ قد صعِدت على أرضى أمة قوية بلا عدد أسنانها أسنان الأسد ولها أضراس اللبوة. جعلت كرمتى خربة وتينتى مُتهشمة. قد قشرتها وطرحتها فإبيضت قُضبانَها” (1: 1- 7).
قوله “أيها الشيوخ” يعنى أن هذه الحادثة لمْ يحدُث مثيلها في الأجيال القديمة التي عاشها الشيوخ أو عاشها آباؤهم. وأيضاً قوله “يا جميع سُكان الأرض“، تعنى أنه لمْ تحدُث مثل هذه الحادثة في هذه الأيام في أي مكان مِن الأماكن. وكُل هذا يُبيٍن فظاعة الحادثة وشدة القصاص الذي حدث مِن الله.
وقوله: “أخبروا بنيكم عنه وبنوكم بنيهم وبنوهم دوراً آخر”، تعنى أنه مِن هول القصاص فإنه سيكون حديث الشعب في كُل الأجيال.
القصاص كان هجوم مِن الجراد في أطواره المُختلفة، وما بقى مِن طور منه قضى عليه الطور الذي يليه. وهذا الجراد سبًب قحط، إذ أتلف المحصولات كُلها.
تأمل:
** بداية القصاص بالقمص ثم الزحاف ثم الغوغاء ثم الطيار، فيه تدُرج في حدوث التجربة. وهذا يعنى أن الله يبدأ بصوت خفيف ليُنبه الإنسان إلى خطأه، وإن لمْ يتُب يضطر إلى أن يُرسل له صوت آخر أقوى وأشد.
** ومِن هذه الآيات نفهم أيضاً أن الله، الذي تخضع له كُل الأشياء، قادر أن يهدم ممالك بحشرة ضعيفة، حتى لو لمْ تكتمل في نموها، فقد جعل الجراد أسنانه مثل أسنان الأسد. وهكذا الإنسان المملوء كبرياء وذات مُتعالية، مُمكن تكسره نقطة ضعف صغيرة في حياته مُستعبد لها، لذلك يقول لنا الكتاب المقدس: “خذوا لنا الثعالب الثعالب الصغار المُفسدة الكروم لأن كرومنا قد أقعلت” (نش2: 15). والعكس صحيح، الخطية المُتملكة فينا جداً وسبًبت لنا حُزن شديد، قادر الله أن يرحمنا منها إن قدمنا توبة نقية في لحظة صدق، وساعتها نسمع الكتاب المقدس يقول لنا: “الصغير يصير ألفاً والحقير أمة قوية. أنا الرب في وقته أُسرع به” (أش60: 22)..
** دعوة السكارى أن ينوحوا ويولولوا، لأنهم أكثر المُتضررين، وهم المقصود بهم الأناس المُعتمدين على ملذات الجسد، أو الذين يستغلونها بطريقة خاطئة، وقد عبًر عنْ هذا الإحساس القديس أغسطينوس حينما قال: [عطاياك شغلتني عنْ محبتك]، فقد كان مُتعلماً جداً، وكان ذا ثراء، وله صداقات مُتعددة، وكُل هذا بدلاً منْ أن يكون وسيلة لحمد الله وتمجيده، جعله يبتعد إلى كورة بعيدة. وهذا هو نفس ما فعله الابن الضال حينما طلب ميراث أبوه وهو حي وبذره في عيش مُسرف بعيداً عنْ بيت الآب (لو15: 11- الخ)، ونحن نفعل نفس الشيء حينما نستعمل ما نملكه بطريقة خاطئة (المال، الملبس، الذكاء، الوضع الاجتماعي، المواهب عموماً…).
** الجراد لم يلتهم الثمار فقط، بل يقول “قد قشرتها”، أي أكلت حتى الورق الذي يحمى الثمار. وهكذا الضعفات والعثرات لا تقتلع الفضيلة منْ داخلنا فقط، بل تلتهم وسائط النعمة واحدة تلو الأخرى (التناول، الاعتراف، الصلاة، قراءة الإنجيل، محبة الأخوة، العطف على المحتاجين، الخدمة…)، فلا تُعطيها هذه الفرصة.
الكُل يتأذى:
“نوحى يا أرضى كعروس مؤتزرة بمِسح مِن أجل بعل صباها. إنقطعت التقدمة والسكيب عنْ بيت الرب. ناحت الكهنة خُدام الرب. تلف الحقل ناحت الأرض لأنه قد تلف القمح جف المسطار ذبل الزيت. خجل الفلاحون ولول الكرامون على الحنطة وعلى الشعير لأنه قد تلف حصيد الحقل. الجفنة يبست والتينة ذبلت. الرمانة والنحلة والتفاحة كل أشجار الحقل يبست إنه قد يبست البهجة مِن بنى البشر” (يؤ1: 8- 12).
“آه على اليوم لأن يوم الرب قريب. يأتى كخراب مِن القادر على كُل شيء. أما إنقطع الطعام تجاه عيوننا. الفرح والإبتهاج عنْ بيت إلهنا. عفًنت الحبوب تحت مدرها. خلت الأهراء. إنهدمت المخازن لأنه قد يبس القمح. كمْ تئن البهائم هامت قُطعان البقر لأن ليس لها مرعى حتى قطعان الغنم تفنى. إليك يا رب أصرخ لأن ناراً قد أكلت مراعى البرية ولهيباً أحرق جميع أشجار الحقل. حتى بهائم الصحراء تنظر إليك لأن جداول المياه قد جفت والنار أكلت مراعى البرية” (يؤ1: 15- 20).
إن تقصير الإنسان نحو الله يؤذى الخليقة كُلها، الناس والبهائم والأشجار والحقول. أليس هذا هو نفس ما حدث مع آدم حينما أخطأ، إذ صار قول الله له: “لأنك سمعت لقول إمرأتك وأكلت مِن الشجرة التي أوصيتك قائلاً لا تأكل منها. ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كُل أيام حياتك. وشوكاً وحسكاً تُنبت لك وتأكل عُشب الأرض. بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها” (تك3: 17-19). ويقول بولس الرسول: “لأن إنتظار الخليقة يتوقع إستعلان أبناء الله” (رو8: 19). فالخليقة كُلها تتأثر بمدى علاقة الإنسان بالله، لأن الله حينما خلق الإنسان جعله كاهناً للخليقة، أي مسئول عنها كُلها، إذا أخطأ تصير الأرض ملعونة بسببه، وإذا كان باراً تتبارك فيه جميع قبائل الأرض، كما حدث مع إبراهيم أب الآباء (تك12: 3). وأيضاً هذا كان موضوع حديث الرب مع إبراهيم بخصوص سدوم وعمورة، لأنه قال لو وجدت عشرة فقط بارين لن أُهلك المدينة (تك18: 16- الخ). ولنعلم أيضاً أن البهائم تعرف أن تصرخ للرب: “حتى بهائم الصحراء تنظر إليك” (يؤ1: 20).
“إنه قد يبست البهجة مِن بنى البشر”، الفرح زال مع زوال الخيرات المادية، فلنتعلم عدم الاتكال على الأمور الزائلة، بل لنتعلم أن يكون الرب هو سر فرحنا، فنجد أنفسنا نُرنم مع حبقوق النبي قائلين: “فمع أنه لا يُزهر التين ولا يكون حمل في الكروم يكذب عمل الزيتونة والحقول لا تصنع طعاماً ينقطع الغنم مِن الحظيرة ولا بقر في المذاود فإنى أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصى. الرب السيد قوتى ويجعل قدمى كالأيائل ويُمشينى على مُرتفعاتى” (حب3: 17- 19). ويقول المزمور أيضاً: “كثيرة هي نكبات الشرير. أما المتوكل على الرب فالرحمة تُحيط به. إفرحوا بالرب وإبتهجوا أيها الصديقون وإهتفوا يا جميع المستقيمى القلوب” (مز32: 10، 11).
التوبة هي الطريق الوحيد لإرضاء الرب
“تنطقوا ونوحوا أيها الكهنة. ولولوا يا خُدام المذبح. أدخلوا بيتوا بالمسوح يا خُدام إلهى لأنه قد إمتنع عنْ بيت إلهكم التقدمة والسكيب. قدسوا صوماً نادوا بإعتكاف إجمعوا الشيوخ جميع سُكان الأرض إلى بيت الرب إلهكم وأصرخوا إلى الرب” (يؤ1: 13، 14).
إن القحط أصاب بيت الرب أيضاً، إذ لم تعُد هناك تقدمات تُقدم. دعا يوئيل النبي الكهنة وخُدام المذبح إلى النوح، ورسم لنا طريقاً للتوبة:
** بالصوم والبكاء والنوح، في بيت الرب. الخُدًام هم أول المدعوين للبكاء والصوم ، لأنهم مسئولين عنْ ضعف الشعب وعنْ فتوره. وعليهم أن يذرفوا الدموع مِن أجل الشعب، حتى قبل أن يُخطئ، لكي يحفظ الرب شعبه في الفضيلة. وعليهم أن يُقدموا أصوام مِن أجل نهضة الشعب. هكذا فعل أرمياء النبي: “إن نفسي تبكى في أماكن مُستترة مِن أجل الكبرياء وتبكى عينى بُكاء وتذرف الدموع لأنه قد سُبى قطيع الرب” (أر13: 17)، ويقول أيضاً: “يا ليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلاً قتلى بنت شعبى” (أر9: 1). ويقول أيضاً بولس الرسول: “أنتم تعلمون مِن أول يوم دخلت آسيا كيف كُنت معكم كُل الزمان. أخدم الرب بكل تواضع ودموع كثيرة وبتجارب أصابتنى بمكائد اليهود….. لذلك إسهروا مُتذكرين أنى ثلاث سنين ليلاً ونهاراً لم أفتر أن عنْ أنْ أنذر بدموع كُل واحد” (أع20: 17، 18، 31)، ويقول أيضاً لأهل كورنثوس: “لأنى مِن حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة لا لكي تحزنوا بل لكي تعرفوا المحبة التي عندى ولا سيما مِن أجلكم” (2كو2: 4)، وحتى أعداء صليب المسيح يذكرهم بولس أيضاً: “لأن كثيرين يسيرون ممن كُنت أذكرهم لكم مراراً والآن أذكرهم أيضاً باكياً وهم أعداء صليب المسيح” (فى3: 18)، بل أكثر مِن هذا يقول: “منْ يضعف وأنا لا أضعف. منْ يعثر وأنا لا ألتهب” (2كو11: 29).
لهذا كُله دعا يوئيل النبي الكهنة لكي يبكوا ويتذللوا أمام الرب مِن أجل الشعب.
الخادم هو الأب في بيته، والأم مع أولادها وجيرانها، والصديق لصديقه، والعامل في مجال عمله، الخادم هو كُل منْ اختبر المسيح في حياته ويذكر العالم كُله بدموع لكي يحفظه الرب مِن التجارب.
** ويطلب أيضاً يوئيل النبي جميع الشعب للبكاء والنوح على خطاياهم ويرجعوا للرب. ونجد السيد المسيح يقول: “طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون” (لو6: 21)، ومدح المرأة الخاطئة التي بللت رجليه بدموعها، وغفر لها خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً (لو7: 36- 50).
وداود النبي يُعلمنا الصلاة بدموع، فيقول: “تعبت في تنهدى. أعوم في كُل ليلة سريرى بدموعى” (مز 6: 6)، ويقول أيضاً: “أبكيت بصوم نفسي” (مز69: 10)، ويطلب مِن الرب قائلاً: “إجعل أنت دموعى في زقٍ عندك” (مز56: 8).
وستجد الرب يقول لك: “حولى عنى عيناك لأنهما غلبتانى” (نش6: 5)، العيون المملوءة دموع تأسُر محبة الرب وتجعله ينظر إلينا بعين الرحمة. وساعتها تسمع صوت أشعياء يقول: “يمسح السيد الرب الدموع عنْ كُل الوجوه” (أش25: 8). لأن السيد الرب في سفر الرؤيا يقول للنفوس الذين أتوا مِن الضيقة العظيمة: “لن يجوعوا بعد ولن يعطشوا بعد…لأن الخروف الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية ويمسح الله كُل دمعة مِن عيونهم” (رؤ7: 16، 17).
** يحرص يوئيل النبي أن يدعو الكُل: “أدخلوا بيتوا بالمسوح…. إلى بيت الرب إلهكم وأصرخوا إلى الرب” (يؤ1: 13، 14).
فهو يؤكد على قضاء أوقات طويلة في الكنيسة والسهر فيها، لأن عينا الرب على بيته دائماً، فيقول سليمان الحكيم على بيت الرب: “لتكن عيناك مفتوحتين على هذا البيت ليلاً ونهاراً على الموضع الذي قلت إن اسمى يكون فيه لتسمع الصلاة التي يُصليها عبدك في هذا الموضع. واسمع تضرع عبدك وشعبك إسرائيل الذين يُصلون في هذا الموضع واسمع أنت في موضع سُكناك في السماء وإذا سمعت فإغفر” (1مل8: 29، 30).
“قدسوا صوماً”، إن يوئيل النبي يتكلم عنْ صوم جماعي، ولذلك نهتم بالأصوام الجماعية التي تُرتبها الكنيسة لأنها تؤكد على شركة المؤمنين معاً في الجسد الواحد، الذي هو يسوع المسيح، والروح الواحد، كما قال الكتاب: “فإننا نحن الكثيرين خبز واحد جسد واحد لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد” (1كو10: 17).
والصوم يكون مُقدس، أي مصحوباً بأعمال مُقدسة، مثل الصلاة والتسبيح وقراءة كلمة الله وحُسن مُعاملة الغير ومُصالحة الآخرين ورد الديون، وليس مجرد صوم بتغيير الطعام.
“أصرخوا إلى الرب”، الصراخ يكون للرب وليس لأي هدف آخر، كراحة الضمير مثلاً.
سفر يوئيل – أصحاح 1
تفاسير أخرى لسفر يوئيل أصحاح 1
مقدمة | تفسير سفر يوئيل أ. بولين تدري |
تفسير يوئيل 2 |
تفسير العهد القديم |