تفسير المزمور 64 للقمص تادرس يعقوب ملطي

تعزيات في وسط الضيق

في المزمور السابق نرى المرتل وقد عطش إلى الله، مشتاقًا أن يراه، ويُكرِّس كل طاقاته لحسابه؛ ويود أن يلتصق به، غير أن الأعداء يبذلون كل الجهد ليطلبوا نفسه. أما هنا فعلى العكس يتطلع المرتل حوله، فيجد جمهورًا من الأعداء يقاومونه ويتآمرون عليه سرًا، فيصرخ من أعماق قلبه إلى الله القادر أن يحطم الشر. ينتهي المزمور بإعلان حماية الله له، وتمتعه بالفرح والبهجة.

يمثل هذا المزمور مرثاة شخصية، يقدمها المؤمن وهو في وسط الضيق. لقد وقف كواحدٍ وحيد وسط جمهورٍ من الأشرار وفاعلي الإثم. لقد تدربوا على وضع مؤامرات، وتحولت ألسنتهم إلى سيوف قاتلة، وكلامهم إلى سهام مُرَّة. يحسبون أنفسهم أنهم مخفيون عن الأنظار، ويحبكون اختراعاتهم، ولم يدركوا أن إله الصديق يرى ما لا ينظره أحد، قدير يبطل الخطط الشريرة.

إن كانت هذه المرثاة تُعبر عن عمق الألم الذي تعانيه النفس بسبب الأعداء، فهو تسبحة شكر لله المحافظ على مؤمنيه؛ مُحطَّم الشر ومعين مستقيمي القلوب.

أقسامه

العنوان

لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ

1. فاعلو الإثم

اِسْتَمِعْ يَا اللهُ صَوْتِي فِي شَكْوَايَ.

مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ احْفَظْ حَيَاتِي [1].

يرى القديس أغسطينوس أنها صرخة ربنا يسوع المتألم في أحداث صلبه، كما هو متألم خلال جسده الكنيسة، التي تعاني من الآلام عبر كل العصور.

إنها صرخة كل مؤمن يُصلَب مع سيده، ويحتمل الآلام لأجله. ليس من مؤمنٍ حقيقي لا يسقط تحت الآلام.

*    ليته لا يقول أحد: نحن لسنا في وقت محنة الآلام. فإنكم تسمعون هذه الحقيقة، كيف أنه في تلك الأزمنة كانت الكنيسة كلها معًا كمن تُضرَب، أما الآن فإنها تُجرَّب خلال الأفراد. حقًا إن الشيطان مربوط، فلا يفعل قدر ما يستطيع، ولا يفعل حسبما يريد، مع هذا يُسمَح له أن يجرَّب قدر ما يتلاءم مع تقدُّم البشر. فإنه ليس مناسبًا لنا ألا نُجرَّب، ولا أن نسأل الله كي لا نُجرَّب، وإنما نسأله ألا ندخل في تجربة (مت 6: 13).

القديس أغسطينوس

يرى القديس أغسطينوس أن هذه الصرخة يقدمها الشهداء عند اضطهادهم. وقد جاء في ابن سيراخ: “هل توكل أحد على الرب فخزي…؟ أو هل دعاه فازدراه؟” (سي 2: 10). هذه الصرخة لا تهدف إلى الخلاص من الاستشهاد، إنما الخلاص من الخوف من الاستشهاد.

يقول القديس أغسطينوس: [هذه الصلاة هي صوت الشهداء، “خلِّص نفسي من الخوف من العدو”، لا لكي لا يقتلني العدو، وإنما لكي لا أخاف العدو وهو يقتلني… إنني أريد ألا أخاف ذاك الذي يقتل الجسد، بل أخاف من له سلطان أن يقتل كلًا من الجسد والنفس في نار جهنم. فإنني لست أريد أن أتحرر من الخوف، وإنما من خوف العدو وذلك خلال خوف الرب بكوني خادمًا.]

حقًا إن تاريخ الكنيسة مشحون بالضيقات والتجارب، فلا يظن الأشرار أن لهم سلطانًا على كنيسة الله، وإنما يضطهدون حسبما يسمح لهم السيد المسيح. بهذا لا يخشى المؤمن التجارب والمحن.

*    استجب يا الله تضرعي، ونجني من خوف العدو، أي أيدني فلا أخاف من الأعداء.

نقول أيضًا إن الخوف نوعان: خوف الله وخوف الناس. أما مخافة الرب فهي محبة، وأما الخوف من الناس فهو عدو. يطلب النبي إزالة الخوف من الناس، مثل شاول وأمثاله، لأنه خوف عدو مضر للنفس. لذلك يقول: نج نفسي. عن هذا الخوف يقول إشعياء النبي: “لا تخافوا خوفه، ولا ترهبوا. قدسوا رب الجنود فهو خوفكم، وهو رهبتكم، ويكون لكم تقديسًا” (راجع إش 8: 12-13).

الأب أنثيموس الأورشليمي

اسْتُرْنِي مِنْ مُؤَامَرَةِ الأَشْرَارِ،

مِنْ جُمْهُورِ فَاعِلِي الإِثْمِ [2].

لقد تجمهر المتآمرون الأشرار على ربنا يسوع المسيح. هكذا نحن كجسد المسيح نقبل الآلام الجسدية والمؤامرات التي تُدبر ضدنا، إذ تتحول الآلام إلى أمجاد في يوم الرب العظيم، أما نفوسنا فمحفوظة هنا تحت الحماية الإلهية.

*    يطلب النبي حفظه من الأشرار، الذين بمؤامراتهم يفسدون المعتقدات السليمة، والذين يمارسون العنف والظلم.

الأب أنثيموس الأورشليمي

الَّذِينَ صَقَلُوا أَلْسِنَتَهُمْ كَالسَّيْفِ.

فَوَّقُوا سَهْمَهُمْ كَلاَمًا مُرًّا [3].

يشبه ألسنه الأشرار بالسيف الحاد والقوس الذي يوجه الرماح للقتل.

كثيرًا ما أشارت المزامير إلى ألسنة الأشرار التي تتحول إلى سهام ورماح وسيوف بسبب الحقد والدهاء (مز 55: 21؛ 57: 4؛ 59: 7). لقد عانى داود المرتل من هذه السهام القاتلة بكونه رمزًا لابن داود الذي بلا لوم، وقد دُبرت مؤامرات لصلبه والخلاص منه.

لِيَرْمُوا الْكَامِلَ فِي الْمُخْتَفَي بَغْتَةً.

يَرْمُونَهُ وَلاَ يَخْشُونَ [4].

*    سلموه للوالي بيلاطس، حتى يظهروا كمن هم أبرياء من قتله. أصدر بيلاطس حكمه ضده، وأمر بصلبه، بطريقة صار قاتلًا له. وأنتم يا أيها اليهود قتلتموه. بسيف اللسان، فقد شحذتهم ألسنتكم. متى قتلتموه، إلا عندما صرختم: “اصلبه، اصلبه” (لو 23: 21)؟

القديس أغسطينوس

يعلق القديس أغسطينوس على ما ورد في العهد الجديد أن المسيح صُلب في وقت الساعة السادسة (يو 19: 14)، وأيضًا في وقت الساعة الثالثة (مر 15: 25)، كيف؟

لقد ارتفع على الصليب في وقت الساعة السادسة، وفي نفس الوقت صُلب حينما صرخت الجموع: “اصلبه، اصلبه” في وقت الساعة الثالثة.

صلبه اليهود بألسنتهم وقتلوه كما بسهام كلماتهم، ونُفذ الصلب جسديًا في وقت الساعة السادسة.

يحارب الأشرار الصديق خفية، لذلك يشبه المرتل مؤامراتهم بالسهام. وكما يقول القديس أغسطينوس إن الذين يحاربون بالسهام يختفون، ويصوبون سهامهم خفية وبسرعة.

*    “بغتة يرمونه ولا يخشونه” [4] يا لقسوة القلب، يريدون قتل ذاك الذي أقام الموتى! “بغتة“، أي بمكرٍ، كما لو كان الأمر غير متوقع، كمن لا يُرون. فقد ظهر الرب كأنه غير عالمٍ بما يحدث.

القديس أغسطينوس

يُشَدِّدُونَ أَنْفُسَهُمْ لأَمْرٍ رَدِيءٍ.

يَتَحَادَثُونَ بِطَمْرِ فِخَاخٍ.

قَالُوا: مَنْ يَرَاهُمْ؟ [5]

تشاور الأشرار معًا، ودبروا مؤامراتهم خفية، ظانين أنهم يطمرون فخاخهم ليسقط فيها البار، دون أن يراهم أحد.

ينطبق هذا على محاكمة السيد المسيح، وكما يقول القديس أغسطينوس: [ارتعب الوالي لأنه يحكم على بارٍ، أما هم فلم يرتعبوا، لأنهم سلموه للقضاء. صاحب السلطان ارتعب، والوحشية لا ترتعب. أراد هو أن يغسل يديه، وأما هم فدنسوا ألسنتهم، لماذا؟ “يشددون أنفسهم لأمرٍ رديءٍ“: “اصلبه، اصلبه”. التكرار هنا هو تثبيت الأمر الرديء. لننظر كيف حدث هذا… قالوا: “ليس لنا ملك إلا قيصر” (يو 19: 15)… “إنه مستوجب الموت”… “دمه علينا وعلى أولادنا” (مت 27: 25).]

يَخْتَرِعُونَ إِثْمًا تَمَّمُوا اخْتِرَاعًا مُحْكَمًا.

وَدَاخِلُ الإِنْسَانِ وَقَلْبُهُ عَمِيقٌ [6].

ما هي الاختراعات المُحْكَمة التي خططها الأشرار؟ “لنَدَعْ تلميذه يخونه، وليس نحن. ليقتله الوالي وليس نحن، لنفعل كل شيء، ونبدو كأننا لم نفعل شيئًا”.

وداخل الإنسان وقلبه عميق“، لقد ظنوا أن الله لا يراهم، والحقيقة أنهم هم لم يروا حقيقة يسوع المسيح. لقد صار إنسانًا حقيقيًا، لكنه بقي الله الكلمة. رأوه إنسانًا مجردًا، يقدرون على قتله، ولم يدركوا سرّ تجسده، واتساع قلبه لكل البشرية.

2. التدخل الإلهي

فَيَرْمِيهِمِ اللهُ بِسَهْمٍ.

بَغْتَةً كَانَتْ ضَرْبَتُهُمْ [7].

يحمل الأشرار مظاهر المحبة في غشٍ وخداع، لكن الخيانة تختفي في أعماق قلوبهم. أما الله فمن الأعالي يفحص أعماق قلوبهم.

كيف ينطبق هذا على السيد المسيح المصلوب. لقد أراد الأشرار أن يقتلوه فجأة بمكرٍ، ولكن ما حدث أن سهامهم ارتدت إليهم فقتلهم. وقد عبَّر القديس أغسطينوس عن ذلك بقوله: [لم يقتل الموت الرب، بل الرب قتل الموت. أما هم فقتلهم الإثم، لأنهم لم يريدوا أن يقتلوا الإثم، لأنهم لم يريدوا أن يقتلوا الإثم.]

*    ماذا حلّ بهم…؟ انظروا ماذا يحلّ بالنفس الشريرة. إنها تفارق نور الحق، وإذ هي لا ترى الله تظن أن الله لا يراها.

القديس أغسطينوس

وَيُوقِعُونَ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

يُنْغِضُ الرَّأْسَ كُلُّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [8].

يرى القديس أثناسيوس الرسولي أن مقاومة الأشرار للرسل بالرغم مما تحمله من خداع وتهديدات، لكنها كنبل الأطفال.

*    “ويوقعون ألسنتهم على أنفسهم“. دعوهم يشحذون ألسنتهم مثل سيف، دعوهم يشددون أنفسهم لأمر رديء، فإنهم يُوقعون ألسنتهم على أنفسهم. هل يمكن أن يقوى هذا ضد الله؟ يقول: “يرقد الإثم على نفسه” (مز 27: 12 Vulgate)… انظروا الرب الذي قُتل يقوم… ماذا تظنون في ذاك الذي لم يهبط من الصليب، ومن القبر قام؟ ما هو فحوى ما فعلوه؟

القديس أغسطينوس

وَيَخْشَى كُلُّ إِنْسَانٍ وَيُخْبِرُ بِفِعْلِ اللهِ،

وَبِعَمَلِهِ يَفْطَنُونَ [9].

*    “ويخشى كل إنسان، ويخبر بفعل الله، وبعمله يفطنون” [9]… هؤلاء الذين أرادوا منه أن ينزل عن الصليب لم يفطنوا؛ ولكنه عندما قام، وتمجَّد بصعوده إلى السماء فطنوا إلى أعمال الله.

القديس أغسطينوس

يَفْرَحُ الصِّدِّيقُ بِالرَّبِّ وَيَحْتَمِي بِه،ِ

وَيَبْتَهِجُ كُلُّ الْمُسْتَقِيمِي الْقُلُوبِ [10].

*    كان التلاميذ حزانى عند صلب الرب، غلبهم الحزن، وفي أسف تركوه، لقد فقدوا الرجاء. لقد قام، وعندما ظهر لهم وجدهم حزانى. لقد أُمسك بعيني رَجُليْن كانا يسيران في الطريق، حتى لم يعرفاه، ووجدهما يتأوهان ويئنان. اُمسك عنهما إلى أن يشرح لهما الكتب المقدسة، مظهرًا لهما إن ما حدث كان يجب حدوثه (لو 24: 16 إلخ). لقد أظهر لهم في الكتب المقدسة أنه كان يجب أن يقوم في اليوم الثالث… ليتنا إذن نفرح في الرب لا في أنفسنا. لأن صلاحنا ليس من عندنا، بل هو جعلنا هكذا. هو نفسه صلاحنا، الذي يجعلنا مبتهجين.

ليته لا يفرح أحد بنفسه، لا يتكل أحد على ذاته، ولا ييأس أحد من نفسه… “يبتهج كل المستقيمي القلوب”، ويُدان ملتوو القلوب… يوجد الآن أمران أمامك، فاختر حيث لا يزال يوجد زمن… إن صرت ملتوي القلب تأتي إلى الدينونة.

القديس أغسطينوس

من وحي مز 64

لأحتمي بك وأتهلل!

 

*    إن كانوا هكذا قد فعلوا بك،

أيها العود الرطب،

فماذا يفعلون بي أنا الجاف؟

دبروا مؤامرات خفية،

وصقلوا ألسنتهم كسيوفٍ قاتلة.

صوَّبوا سهامهم نحو واهب الحياة!

ظنوا أنهم يغتابون حياتك خلسة!

أصروا على مقاومتك والخلاص منك،

ظنوا أنه ليس من يراهم، ولا من يعاقبهم.

في غباوة لم يعرفوا أنك رب المجد، مخلص العالم.

*    لتحملني فيك فلا أخشى إنسانًا،

ولا أضطرب من الموت.

أصير شريكًا حيث أُصلبُ معك،

وأتمتع بقوة قيامتك!

*    سهامهم ترتد عليهم بغتة.

وما نطقوا به ضدك، صار شاهدًا عليهم.

ارتعبوا وارتبكوا، إذ سمعوا عن قيامتك.

أما المؤمنون بك، فابتهَجوا وتهللوا.

لك المجد يا من دخلت طريق الصليب،

لتعطي للألم عذوبة،

وتحملنا معك إلى قوة قيامتك.

وتُصعد قلوبنا بك إلى سماواتك.

زر الذهاب إلى الأعلى