تفسير سفر القضاة ٩ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح التاسع

فتنة أبيمالك

كان جدعون رجل إيمان لكن بعد موته قام ابنه إنسانًا مفسدًا، قتل إخوته ليملك، مهيجًا أهل شكيم –أهل والدته – لقتل إخوته السبعين، فلم يدم ملكه سوى ثلاث سنوات انتهت بالغدر به وتأديب أهل شكيم على ما فعلوه.

  1. قتله إخوته                        [1-6].
  2. حديث يوثام مع شكيم             [7-21].
  3. غدر أهل شكيم بأبيمالك           [22-25].
  4. هزيمة جعل بن عابد              [26-41].
  5. أبيمالك يضرب شكيم              [42-49].
  6. قتل أبيمالك بامرأة                [50-57].
  7. قتله إخوته:

كان أبيمالك ابنًا لجدعون من سرية له من شكيم من قبيلة لها سطوتها ونفوذها، غالبًا ما كانت هذه القبيلة كنعانية، وكان أبيمالك إذ يشعر أنه لا يرث مع إخوته السبعين لأنه ابن سرية، لذلك كان مرتبطًا بعائلة أمه، وكانوا هم أيضًا يتعاطفون معه ضد إخوته.

ذهب أبيمالك إلى عائلة أمه ليثيرهم بأن إخوته السبعين يريدون أن يملكوا ويتسلطوا، مع أن أباهم جدعون رفض السلطة لنفسه أو لأولاده، لذلك سألهم أن يساندوه ليملك بمفرده خير من أن يملك السبعون معًا عليهم. هنا يظهر حب السلطة في حياة أبيمالك، الأمر الذي دفعه إلى قتل جميع إخوته (عدا يوثام الهارب) على حجر واحد، وقد قضى حياته القصيرة في ملكه مملوءة قلاقل انتهت بقتله. بمعنى آخر أن كان جدعون قد نجح في رسالته وبسببه استراحت الأرض أربعين عامًا وعاش هو ورجاله وكل الشعب مرفوعي الرأس أمام المديانيين إنما لأن قلب جدعون لا يحمل شوقًا نحو السلطة ولا حبًا للكرامة، أما أيام ابنه فكانت شريرة، تحطم هو وأهل بلده وكل الشعب بسبب حبه للسلطة. لهذا يقول القديس أغسطينوس: [ ليكن المشتغلون بحياة الخدمة في هذا العالم بعيدين كل البعد عن محبة الكرامة ومظهر القوة[92]].

إن كان أبيمالك قد أخطأ في حبه للتسلط، فإن الأفراميين ساكني شكيم أخطأوا إذ قبلوه ملكًا كطلب عائلته (الوثنية). لقد أجرم الملك والرعية، الأول في حبه للكرامة البشرية والآخرون في سوء اختيارهم. ما نقوله عن أبيمالك إنما نكرره في اختيار أي راع أو خادم في كرم الرب. وكما يقول القديس يوحنا ذهب الفم: [إن هؤلاء الذين ينتمون إلى المسيح يدمرون ملكوته أكثر من الأعداء والمقاومين له، وذلك باختيارهم غير المستحقين للخدمة… لا يكفي أن يعتذروا عمن اختاروه بعدم معرفتهم له، لأن عذرهم هذا يزيد من مسئوليتهم… أليسوا إن أرادوا شراء عبد، يقدمونه أولاً للطبيب لكي يفحصه، ويطلبون من البائع ضمانات، ويستعلمون عنه من جيرانه، وبعد هذا كله لا يتجاسرون على شرائه بل يطلبون فرصة ليكون العبد تحت الاختبار، ومع هذا فمن يقدم شخصًا إلى وظيفة عظيمة كهذه يقدم شهادته وتزكيته باستهتار دون اعتناء أو تدقيق، إنما لمجرد لتلبية رغبة البعض؟!… فمن إذًا يتوسط لنا في ذلك اليوم، إن كان الذين يدافعون عنا هم أنفسهم يكونون محتاجين إلى من يدافع عنهم؟![93]].

كانت مؤهلات أبيمالك “أنّا عظمكم ولحمكم” [2]، فتحولت الخدمة إلى مجاملات لحساب القرابة الدموية والعلاقات الشخصية، وكان منطق أهل شكيم (من إسرائيليين وكنعانيين) هكذا: “أخونا هو” [3]، أي من مدينتنا، لن يقاومنا، بل يسندنا حين يملك!

قدم أقرباء أبيمالك له سبعين شاقل فضة من بيت المال في هيكل بعل بريث أو بعل العهد، وهو مبلغ صغير للغاية بالنسبة لما اتسمت به بيوت المال التابعة للهياكل الوثنية في ذلك الوقت. أُعطى هذا المبلغ ليستأجر به رجالاً أشرارًا ينفذون خطة قتل إخوته. وبالفعل أستأجر الرجال وذهب بهم إلى “عُفرة” ليقتلهم جميعًا على حجر واحد، ولم ينج أحد سوى الأصغر “يوثام” إذ رأى هجوم الأعداء على إخوته فاختبأ.

قُتلوا في عُفرة التي تعني (غزالة) أو (ترابي)، قرية الطيبة[94]… عندئذ اجتمع أهل شكيم وكل سكان القلعة (ربما يقصد برج شكيم أو حصنها) وأقاموا أبيمالك ملكًا، وهذه هي المرة الأولى التي فيها نسمع عن وجود ملك بين بني إسرائيل، لكنه لم يكن ملكًا على كل الأسباط، إذ يبدو أن حدود مملكته هي شكيم وبعض البلاد المجاورة… لذا لم يحسب كملك لإسرائيل مثل شاول أو داود.

أُقيم ملكًا عند بلوطة النصب، وهي شجرة بلوط ربما كان الكنعانيون يعتبرونها مقدسة، عندها يقدمون العبادة الوثنية، أما الإسرائيليون فكانوا يعتزون بها، لأن أباهم يعقوب طمر الآلهة الغريبة والأقراط عندها (تك 35: 4) وتحتها أقام يشوع حجر الشهادة (يش 24: 26)، لهذا السبب دعيت بلوطة النصب حيث نصب تحتها حجر الشهادة. ويرى البعض أن هذه البلوطة اتخذت كعمود ينشرون عليه علمهم لذا دعيت بالنصب، أي العلم المنصوب.

  1. حديث يوثام مع شكيم:

“يهوثام” كلمة عبرية تعني (يهوه تام أو كامل).

إذ رأى يهوثام هجوم الأعداء على إخوته هرب، فجاء قوم يخبرونه بما فعل أبيمالك بهم وكيف اغتصب السلطة وأقام نفسه ملكًا على أهل شكيم، فذهب يوثام ووقف على جبل جرزيم ورفع صوته مناديًا أهل شكيم أن يسمعوا له، ثم أخذ يروي لهم مثل الأشجار والعوسج ليوبخهم على اختيار أبيمالك ملكًا، وقتلهم إخوته بلا ذنب.

نحن نعلم أن الوادي الذي فيه تقع شكيم (نابلس)، يقع بين جبل الجرزيم وعيبال، على الأول وقف نصف الأسباط ينطقون بالبركات وعلى الثاني النصف الآخر ينطقون باللعنات (يش 8: 33-35). وقف يوثام على الجبل يتكلم كما على منبر، وفي وسط الصحراء يدوي الصوت، فيمكن سماعه في شكيم بل وعلى الجبل المقابل عيبال. تكلم من جبل البركة لا جبل اللعنة حتى يقبلوا السماع له حتى النهاية، إذ بدأ بالمثل بطريقة غامضة ومشوقة حتى يجتذبهم للاستماع والتفكير وختمه بالنتيجة المؤلمة حتى إذا ما ثاروا عليه يستطيع أن يهرب في إحدى مغائر الجبل وكهوفه الكثيرة فلا يعرفون له أثر.

قال يوثام “مرة ذهبت الأشجار لتمسح عليها ملكًا” [8]. إنها قصة خيالية يظهر فيها الأشجار تتحرك معًا، وتفكر وتطلب أن تقيم لها ملكًا، وهو بهذا يجتذبهم للاستماع خلال التمثيل الخيالي، ومن ناحية أخرى يستطيع أن يعلن ما في داخله من مرارة نفس دون تجريح بأسماء معينة.

فقالت للزيتونة: أملكي علينا. فقالت لها الزيتونة: أأترك دهني الذي به يكرمون بيّ الله والناس وأذهب لكيّ أملك على الأشجار؟!” [8-9]. ما هذه الزيتونة إلاَّ الكنيسة الحية أو بمعنى أدق المؤمن المرتبط بالكنيسة والمغروس فيها كزيتونة خضراء، وكما يقول المرتل: “أما أنا فمثل زيتونة خضراء في بيت الله” (مز 52: 8)، ويقول النبي: “زيتونة خضراء ذات ثمر جميل الصورة دعا الرب إسمكِ” (إر 11: 16). فالمؤمن المثمر بالروح إذ هو ممتلئ في الداخل لا يسعى نحو السلطة، وحتى حينما يُطلب ليملك يشتهي إن أمكن أن يخدم الله والناس بزيت النعمة الداخلي ولا ينشغل بالمظاهر الخارجية مهما تكن كرامتها. إنه يقول مع الزيتونة صاحبة الثمر: “أأترك دهني (زيت الزيتون) الذي به يكرمون بيّ الله والناس وأذهب لأملك على الأشجار؟!”. فما يبهج قلبها أن تقدم زيتها في المنارة الذهبية لتحترق أمام مذبح الله، وتهب بزيتها شفاءً للناس (يستخدم كدواء) وشبعًا لهم (يستخدم في الطعام)، يُستهلك زيتها في بيت الله وفي حياة الناس أفضل من أن تنشغل بكرامات بين إخوتها الأشجار.

ثم قالت الأشجار للتينة تعالي أنت أملكي علينا. فقالت لها التينة: أأترك حلاوتي وثمري الطيب لكي أملك على الأشجار؟!” [10-11]. التينة أيضًا كالزيتونة تُشير إلى الكنيسة الحية التي تضم أعضاءها في داخلها كالبذر الرفيع تحتضنه بغلاف روح الحب والوحدة الحلو كقول القديس يوحنا الذهبي الفم[95]: [وكأن التينة تتمسك بالغلاف الحلو أي بروح الحب والوحدة لتقدم ثمرًا طيبًا لكل نفس عوض الانشغال بالكرامات الزمنية التي تمزق الوحدة وتنزع الحب عن الجماعة المقدسة.

فقالت الأشجار للكرمة تعالي أنت وأملكي علينا. فقالت لها الكرمة: أأترك مسطاري الذي يفرح الله والناس وأذهب لكي أملك على الأشجار؟!” [12-13]. إن كانت الزيتونة اشتهت أن تقدم زيتًا يحترق ويُستهلك لأجل الله والناس، والتينة تقدم روح الحب والوحدة من أجل شبع كل نفس، فالكرمة وهي تمثل الكنيسة بكونها بيت الصليب فيها يعصر العنب لينتج مسطارًا (خمرا جديدًا)، فهي تفرح بالصليب والألم لكي يُسر بها الله ويفرح الناس عوض طريق الكرامة المتسع والسهل. إنها تقبل الطريق الكرب والباب الضيق من أجل الرب وخلاص الناس (مت 7: 14). خلال الصليب (المعصرة) تنتج الكرمة خمرًا يستخدم كسكيب على الذبيحة اليومية (خر 29: 38-40) يُشير إلى فرح الله المرتبط بذبيحة المسيح، أو لتعزيتها الملتحمة بالضيقات من أجل الرب[96].

أخيرًا إذا جاءت الأشجار إلى العوسج تطلب ذات الأمر، “قال العوسج: إن كنتم بالحق تمسحونني عليكم ملكًا فتعالوا واحتموا تحت ظلي، وإلاَّ فتخرج نار من العوسج وتأكل أرز لبنان” [14-15]. العوسج نبات ذو أشواك يظهر عادة في المناطق الجافة لا يحتاج إلى مياه كثيرة. لقد طلب العوسج من الأشجار أن تحتمي تحت ظله مع أن الأشجار أكثر علوًا وضخامة من نبات العوسج الصغير الحجم، هذا وورقه وأشواكه حادة لا يستطيع أحد أن يستظل تحته، وإذ هو قليل الرطوبة يتعرض للحرق، بل ويسبب احتراقًا للأشجار التي بجواره. هكذا يشبه يوثام أبيمالك بالعوسج الشجيرات الجافة التي بلا نفع، بل بها أشواك مؤذية، وبسبب تعرضها للحريق تحطم الأشجار التي حولها.

يوبخ يوثام أهل شكيم لأنهم قتلوا إخوته الذين لا يطلبون السلطة بل هم كالزيتونة والتينة والكرمة يودون الخدمة والبذل، وأقاموا أبيمالك العوسج الذي يحترق بشره ويحترقون هم معه بعد أن تصيبهم أشواكه المؤذية.

قبل أن يهرب يوثام وبخهم لأنهم ردوا محبة جدعون وجهاده الأمين لأجلهم بقتل أبنائه، وفي سخرية مملوءة تحذيرًا ختم قوله: “فأفرحوا أنتم بأبيمالك وليفرح هو أيضًا بكم. وإلاَّ فتخرج نار من أبيمالك وتأكل أهل شكيم وسكان القلعة، وتخرج نار من أهل شكيم وسكان القلعة وتأكل أبيمالك” [19-20]. ظنوا في اختيارهم لمن هو من مدينتهم أنه قادر أن يسندهم، لكنهم لم يدركوا أن شره كالنار تخرج منه كما من العوسج لتحرقهم مع أنها كأشجار الأرز، وبسبب شرهم إذ اشتركوا معه في قتل إخوته السبعين وتمليك رجل فاسد عليهم تخرج نار لتأكله هو! كأن الاختيار السيئ للقيادة الروحية مهلكة للخادم والمخدومين معًا! إنه احتماء بالعوسج المملوء أشواكًا، يظن أنه قادر على حماية غيره، فإذ به يلتهب بنار الشر فيحترق ويحرق المحتمين فيه.

إذ قال يوثام هذا هرب إلى بئر وأقام هناك من وجه أبيمالك [21]. توجد أماكن كثيرة تحمل هذا الاسم، فالبعض يرى أنه ذهب إلى بئر سبع، والبعض يرى أنه ذهب إلى ما يسمى الآن “البيرة” تبعد عشرة أميال شمال أورشليم…. على أي الأحوال لم يكن ممكنًا ليوثام أن يهرب من أهل شكيم الذين ملّكوا “أبيمالك” عليهم، أي يهرب من الشر الذي يُرى في إبليس ملكًا عليه، إلاَّ بالاحتماء في البئر الحقيقية أي مياه المعمودية المقدسة، التي فيها سحق السيد المسيح إبليس تحت قدميه، واهبًا إيانا بروح القدوس روح البنوة، فنقبل الله الآب ملكًا علينا عوض أبيمالك (تعني أبي يملك).

  1. غدر أهل شكيم بأبيمالك:

مسح أهل شكيم أبيمالك ملكًا، لكنه لم يملك على إسرائيل وإنما على منطقة شكيم، فقد كرهه بقية الأسباط ربما لأجل قتله إخوته وأيضًا لأنه ابن سرية ولأنه كان مغتصبًا للسلطة ومحبًا لها. ولهذا قيل: “ترأس أبيمالك على إسرائيل ثلاث سنين”، ولم يقل: “مَلَك”، ولا نعرف كيف عاش هذه السنوات الثلاثة، لكن الرب أرسل روحًا رديًا بينه وبين أهل شكيم [23]، بمعنى أن الله ترك الطرفان يدركان شر بعضهما البعض، فصار فيهما روح البغضة والكراهية والغدر. وكأن الذين شددوا يديه لقتل إخوته صاروا لا يطيقونه؛ ربما شعروا أن من يقتل إخوته لأجل اغتصاب السلطة كيف يمكن أن يبذل لأجل آخرين؟!

فوضع له أهل شكيم كمينًا على رؤوس الجبال وكانوا يستلبون كل من عبر بهم في الطريق، فأُخبر أبيمالك” [25]. الذي دبرّ خطة لقتل إخوته، الآن يقف أقرباؤه ليدبروا خطة للخلاص منه، وكما قيل بإشعياء النبي: “ويل لك أيها المخرب وأنت لم تُخرب، وأيها الناهب ولم ينهبوك؛ حين تنتهي من التخريب تُخرب، وحين تفرغ من النهب ينهبونك” (إش 33: 1). الذين شددوا يديه ليقتل إخوته ليملك، الآن يبذلون الجهد ليقتلوه هو، فوضعوا رقباء أشرارًا على جبال الجرزيم وعيبال المحيطة بشكيم حتى يروا من يصلح لتدبير خطتهم نحوه، وكانوا يسلبون كل من يمر بالطريق، وربما ليثيروا قلاقل في المنطقة فيرتبك أبيمالك ويخرج ليرى الأمر بنفسه فيقتلوه.

  1. هزيمة جعل بن عابد:

رأى الكمين رجلاً يُدعى جعل بن عابد، اسمه عبري يعني “كراهية”، كان يكره أبيمالك ربما لخوفه أن الذي قتل إخوته لا يؤتمن الجانب؛ وكان معه إخوته ربما جماعة من اللصوص أو قطاع الطريق يعلمون تحت قيادته، ففرح به أهل شكيم إذ رأوا فيه أنه قادر على تحقيق خطتهم.

بدأ تحقيق الخطة بطقس ديني وثني إذ خرجوا إلى الحقل وقطفوا كرومهم وداسوا قسمًا من العنب في المعصرة كعادة تلك الأيام لعمل الخمر، ثم صنعوا تمجيدًا [27] أي تغنوا لآلهتهم وسبحوا لها أثناء قطف الكروم ودوسها في المعصرة، كعادة الأمم. لذلك إذ يؤدب الرب موآب قيل: “انتزع الفرح والابتهاج من البستان، لا يُغني في الكروم ولا يترنم، ولا يدوس دائس خمرًا في المعاصر؛ أبطلت الهتاف” (إش 16: 9).

إذ عصروا العنب بالترنم دخلوا بيت “بعل بريث” إلههم وأكلوا في الهيكل وشربوا، ولعنوا أبيمالك [27] بمعنى أنهم طلبوا من آلهتهم أن يتخلى عنه ويكون ملعونًا فيدبرون قتله ويغلبونه بسبب سقوطه تحت لعنة إلههم.

إذ رأى جعل بن عابد هذا الموقف الشعبي أخذته الغيرة وبدأ يستخف بأبيمالك وستهزئ به قائلاً: “من هو شكيم (أي أبيمالك الذي يملك على شكيم) حتى نخدمه؟! أما هو بن يربعل (أي ابن مقاتل البعل أو عدو الآلهة) وزبول وكيله؟! اخدموا رجال حمور أبي شكيم، فلماذا نخدمه نحن؟!” [28]. بمعنى أنه كان الأولى بالملك نسل حمور أي سلالة الملوك الشرعيين لا هذا الغريب ابن السرية. إن كان شكيم بن حمور قد اغتصب دينه ابنة يعقوب فقتله شمعون ولاوي مع رجال المدينة (تك 34)، فقد دخل إسرائيل في علاقة ودّ مع أهل شكيم، وكان لأهل شكيم سطوة وتقدير خاص. وجاء اسم “حمور” من “ذبيحة الحمار” التي كانت مظهرًا أساسيًا في ابرام المعاهدات عند الأموريين في القرن 18 ق.م.

سمع زبول رئيس مدينة شكيم ونائب أبيمالك ما قاله جعل بن عابد وعرف أنه يستعد لمقاتلة الملك، وإذ كان الملك يقطن خارج المدينة في ترمة [31] وغالبًا هي أرومة [41] ومعناها بالعبرية (ارتفاع). ظن البعض أنها “الأرمة” الحديثة وهي تبعد 6 أميال شمال شرقي شكيم. تظاهر زبول بالصداقة مع جعل وأرسل إلى الملك سرًا يخبره بما جرى، وسأله ألاَّ يدخل المدينة وإنما ينزل برجاله خفية ليلاً ويكمن في الحقل، وإذ يخرج جعل ورجاله في الصباح يحاربهم عند أبواب المدينة فلا تكون لجعل حصون يحتمون فيها. وإذ سمع الملك قسم رجاله إلى أربعة فرق ولما رأى جعل الرجال قادمين ليلاً قال لزبول: “هوذا شعب نازل عن رؤوس الجبال، فقال له زبول: إنك ترى ظل الجبال كأنه أناس” [36]. هكذا كان زبول يخدع جعل حتى يفسد خطته ضد أبيمالك ويعيقه عن الاستعداد للحرب معه. لكن إذ عاد فرأى إحدى الفرق نازلة من المرتفعات عن طريق بلوطة العائفين [37] أي بلوطة المشتغلين بالعيافة ومعرفة الغيب، عاد يؤكد لزبول أنهم فرقة قادمة للحرب، وإذ اقتربت جدًا وأدرك زبول أن جعلاً قد تورط في استخفاف قال له: “أين الآن فوك الذي قلت به من هو أبيمالك حتى نخدمه؟!” [38]. وكأنه يقول له: إنك رجل كلام تحمل قوتك في فيكَ لا بالعمل. فخرج جعل أمام أهل شكيم ليحارب أبيمالك، فانهزم جعل وهرب بعد أن سقط كثيرون من رجاله عند مدخل الباب، أي في موقع المعركة ذاتها عند باب مدينة شكيم… وإذ هرب جعل إلى المدينة طارده أبيمالك، إن لم يكن برجاله (رجال حرب) فبإثارة أهل شكيم والوشاية به بعد أن ظهر لهم جعل ضعيفًا وعاجزًا برجاله عن مقاومة أبيمالك.

الفساد كالنار تأكل بعضها البعض، إذ دب في أبيمالك وأهل شكيم لإقامة الأول ملكًا وانتفاع الآخرين بذلك، غدر أهل شكيم به مستخدمين وسيلة شريرة “جعل بن عابد رجاله اللصوص”، فهلكت الوسيلة وتأزم الموقف إذ عرف الملك ما بقلب أهل شكيم فأراد أن ينتقم حتى النهاية، لكنه وإن حطمهم لم يستطع الهروب من جريمة القتل التي ارتكبها ضد إخوته بصورة بشعة!

  1. أبيمالك يضرب شكيم:

إذ أدرك أهل شكيم فشل خطتهم حاولوا استرضاء أبيمالك فطردوا جعلاً ورجاله، وخرجوا إلى الحقل يخبرون أبيمالك بعملهم هذا، لكنه إذ عرف غدرهم قسّم رجاله إلى ثلاث فرق. اقتحم هو وفرقته مدخل باب المدينة وقامت الفرقتان بقتل كل من في الحقول… ثم دخل وقتل الشعب وهدمها وزرعها ملحًا. عبارة “زرعها ملحا” لا يعني أنه ألقي ملحًا في الأرضي الزراعية ليفسدها وإنما كناية كانت تستخدم للتعبير عن الخراب الذي يحل ببلد ليبقى زمانًا طويلاً بلا علاج.

سمع أهل البرج بما حدث في المدينة فلجأوا إلى صرح (حصن) بيت إيل بريث، يحتمون بالبرج كحصن مادي وبالآلهة الوثنية… لكن أبيمالك صعد برجاله إلى جبل صلمون؛ يرى البعض أنه جبل سليمان وهو جزء من جبل الجرزيم في جنوبه، ويرى آخرون أنه جبل السلامية أو جبل عيبال. وقد سمى “صلمون” بسبب الأشجار التي تظلله، لأن “صلمون” تعني (ظليل).

حمل الملك فأسًا وقطع غصن شجرة، ففعل رجاله مثله، ووضعوا الأغصان على الصرح وأحرقوه بمن فيه فمات جميع أهل شكيم نحو ألف رجل وامرأة [49]. وكأنه قد تحقق مثل يوثام حرفيًا، إذ خرج من العوسج نار والتهمت أشجار الأرز [15، 20].

  1. قتل أبيمالك بامرأة:

إذ قتل أبيمالك أهل شكيم وأهلك بالنار والدخان كل من كان بالحصن ذهب إلى تاباص واستولى عليها. وهي مدينة اسمها عبري معناه (بهاء) أو (ضياء)، قريبة من شكيم، تعرف الآن بطوباس، تبعد 10 أميال شمال شرقي شكيم (نابلس) على طريق “بيسان” أو (بيت شان)، لعل هذه المدينة إذ عرفت تحركات أهل شكيم في البداية قامت هي أيضًا بثورة ضده، إذ كان الكل يود الخلاص منه.

هرب الكل إلى البرج في وسط المدينة ليحتموا فيه، وإذ اقترب من الباب ليحرقه بالنار طرحت امرأة قطعة من حجري الرحى على رأسه فشجت جمجمته [53]. للحال دعا الغلام حامل عدته وطلب منه أن يخترط السيف ويقتله حتى لا يُقال عنه أنه قتلته امرأة…

إن كان العوسج في جفافه يكون علة حرق أشجار الأرز التي ملّكته عليه [15]، فإن العوسج نفسه يحترق أيضًا معها، فيهلك الملك الشرير أو الخادم أو الراعي الشرير مع شعبه!

لقد اختاروا أبيمالك لا لفضيلة فيه وإنما لقرابة الجسد لأهل شكيم فأهلكهم وهلك معهم، لذلك جاء في قوانين الرسل كما في مجمع إنطاكية: [الأسقفية لا تورث ولا يصح الوصية بها ولا الهبة بها لقريب أو غريب، لأن الكهنوت لا يورث[97]].

فاصل

سفر القضاة : 123456789101112131415161718192021

تفسير سفر القضاة: مقدمة123456789101112131415161718192021

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى