باركت طبيعتي فيك

 

إحدي بركات التجسد الإلهي ، هي مباركة الطبيعة البشرية : و أعني بهذا أن السيد المسيح ، لما لبس طبيعتنا ، بارك هذه الطبيعة. من وحي الميلادو لذلك نقول في القداس الإلهي ( الغريغوري ) ” و باركت طبيعتي فيك ” …
فالطبيعة البشرية – بتجسد السيد المسيح – لم تعد طبيعة فاسدة . و كما قال القديس أثناسيوس الرسولي : إن الإنسان خُلق علي صورة الله و مثاله . و لكنه فسد بالخطية ، و فقد صورته الإلهية . فجاء السيد المسيح يقدم للإنسان صورة الله مرة أخري في الطبيعة البشرية التي لبسها

عادت الىَّ صورة الله

بارك هذه الطبيعة ، لتعود كما كانت : صورة الله و مثاله.
و لذلك فإنه في هذه الطبيعة ذاتها، عالج كل الضعفات التي وقع فيها الإنسان الأول، كما عالج ضعفات الإنسان بصفة عامة.

واعطى طبيعتنا روح القوة
أخذ الطبيعة الضعيفة المهزومة ، و أعطاها روح القوة.
هذه الطبيعة الساقطة المغلوبة المهانة ، باركها الرب و أعطاها قوة لم تكن لها. و لذلك فالإنسان في المسيح يسوع لم يعد إنساناً ضعيفاً …
تصوروا إنساناً مثل بولس الرسول يقول ” أستطيع كل شئ في المسيح الذي يقويني ” ( في 4 : 13 ) . حقاً ، من يجرؤ أن يقول ” استطيع كل شئ ” ؟! يقولها من يناجي الرب بعبارة ” باركت طبيعتي فيك “.
لأن من يؤمن بعمل المسيح فيه ، يعرف أيضاً قول الكتاب ” كل شئ مستطاع للمؤمن ” ( مز 9 : 23 ).
و من بركات الرب التي بارك بها طبيعتنا ، أنها :


صارت هيكلاً للروح القدس

و هذه الطبيعة المباركة أمكن أن تكون هيكلاً للروح.
الروح القدس أصبح يحل في هذه الطبيعة البشرية ، بسر المسحة ، سر الميرون . و أصبحت أداة لينة طيعة في يد الروح القدس يعمل بها عجائب . و تظهر فيها ثمار الروح ( غل 5 : 22 ) . و اصبحت أيضاً مجالاً لمواهب الروح ( 1 كو 14 ) … و هكذا أصبح جسد الإنسان هو هيكل للروح القدس ( 1 كو 7 : 19 ).

و بارك الرب هذا الجسد أيضاً ، فأصبح له.
هذا الجسد الساقط ، الذي اشتهي الثمرة المحرمة و أكل منها ، و الذي كثرت شهواته فيما بعد ، و الذي ارتبط بالمادة و خضع لها … لما بارك السيد المسيح طبيعتنا البشرية ، لم يعد هذا الجسد فاسداً كما كان من قبل . بل إن القديس بولس الرسول يقول : “مجدوا الله في أجسادكم ، و في أرواحكم التي لله” ( 1 كو 6 : 20 ). أي أن هذا الجسد لما بُوركت طبيعتنا ، صار أداة لتمجيد الله، و صار لله .
و كيف تبارك هذا الجسد ؟ و متي ؟ تبارك لما لبس الرب جسداً ( يو 1 : 14 ) ، لما أخذ الجسد و اتحد به في طبيعة واحدة …
هناك فارق كبير بين العهد القديم و الجديد ، خذوا مثالاً له :
في العهد القديم كان من يمس جسد ميت يتنجس ( لا 21 : 1 ) ، ذلك لأنه يمس جسداً مات و هو تحت حكم الدينونة ، لم يتبرأ من خطيته بعد ، بل سيذهب إلي الجحيم …
أما في العهد الجديد ، لما بارك الرب طبيعتنا ، تغير الوضع تماماً . أصبحنا نلمس أجساد الذين انتقلوا ، فنتبارك بها.
لقد قدس الرب طبيعتنا بدمه الطاهر ، و حمل الخطايا التي كانت تنجس هذا الجسد … و هكذا أصبحنا نتبارك من عظام القديسين . و لم يعد لمس جسد الميت نجاسة كما كان الأمر في العهد القديم …
السيد المسيح لما بارك طبيعتنا ، و بارك الجسد إذ اتحد به ، أرانا أن الجسد يمكن أن يسلك بطريقة روحانية ، و أن الجسد يمكن أن يخدم الله كما تخدمه الروح ، و أن طبيعتنا البشرية كلها ، جسداً و روحاً و نفساً يمكن أن تكون مقدسة و طاهرة … إننا نتعب حينما تسيطر الخطية علي الجسد ، و تستخدمه لأغراضها .

فالعيب إذن في الخطية ، و ليس في الجسد …
و حتي لو خضع الجسد للخطية ، لا يكون العيب في الجسد ذاته كطبيعة ، إنما العيب هو في هذا الخضوع . أما الجسد فقد باركه الرب و قدسه . و من اهتمام الله بهذا الجسد ، انه سيقيمه في اليوم الأخير ، و سينعم عليه بأن يكون جسداً نورانياً روحانياً ، يتجلي في مجد …

ماذا فعل السيد المسيح أيضاً ، لما بارك طبيعتنا فيه ؟
لقد قدس الرب جميع غرائز الإنسان.
كل ما في الطبيعة البشرية أصبح طاهراً ” كل شئ طاهر للطاهرين “. قدس الرب الأكل لما أكل ، كما قدس الصوم لما صام . قدس الراحة و التعب . قدس النوم و الصحو ، لما مارس كل هذا…
السيد المسيح الوديع الهادئ ، الذي ” لا يخاصم و لا يصيح و لا يسمع أحد في الشوارع صوته ” ، قدس الوداعة و الإتضاع بوداعته و اتضاعه … و أيضاً قدس الغضب ، لما أمسك سوطاً و طرد الباعة من الهيكل …
و أرانا أن الغضب يمكن أن يكون مقدساً …
و ذلك إذا ما استخدم حسناً ، و من أجل الحق ، و في حدود معينة تجعله بعيداً عن الخطأ ، بل لازماً في بعض الأحيان .
و قدس الرب كل الأعمال البشرية التي مارسها . قدس الخدمة و الكرازة ، تماماً كما قدس الوحدة و التأمل . ذلك أنه سلك الأمرين معاً ، إذ كان يقضي الليل في الصلاة في الجبل في بستان جثسيماني . و في نفس الوقت كان يجول يصنع خيراً ، يطوف المدن و القري يكرز ببشارة الملكوت و يشفي كل مرض ( مت 4 : 23 ) .

الطبيعة التى تغلب الشيطان

في الطبيعة البشرية التي باركها المسيح ، أعطانا روح الغلبة . أعطانا أن نغلب العالم و نغلب الشيطان .
الطبيعة الأولي الساقطة أيام اَدم ، كانت تخاف الشياطين . و كان الشيطان رعباً للبشر ، و قد تعود أن يُسقطهم . و لذلك قيل عن الخطية إنها ” طرحت كثيرين جرحي و كل قتلاها أقوياء ” ( أم 7 : 26 ) . ذلك لأن الشيطان استهان بالطبيعة البشرية ، فلم يفلت من بين يديه أحد من البشر .
” الجميع زاغوا و فسدوا و أعوزهم مجد الله
” ليس من يعمل صلاحاً . ليس و لا واحد ” (مز 14 : 3 ).

و استمر الحال هكذا ، و الشيطان مسيطر . حتي صار لقب الشيطان هو ” رئيس هذا العالم ” ( يو 16 : 11 ) . و كان الشيطان يفتخر بإسقاط بني البشر ، حتي أنه وقف متحدياً في قصة أيوب الصديق ، و قال عنه للرب مرتين ” ولكن ابسط الأن يديك … فإنه في وجهك يجدف عليك” ( أي 1 : 11 ، 2 : 5) .

كان الشيطان يفتخر بأنه اسقط الكل ، أو يستطيع أن يسقطهم …! إلي أن لبس المسيح طبيعتنا البشرية ، و استطاع فيها أن يقول ” من منكم يبكتني علي خطية ؟! ” ( يو 8 : 46 ) . و استطاع أيضاً أن يقول : ” رئيس هذا العالم يأتي ، و ليس له في شئ ” ( يو 14 : 30 ) . و لأول مرة يجد الشيطان نفسه مهزوماً . ليس فقط حينما قال الرب عنه ” رأيت الشيطان ساقطاً مثل البرق من السماء ” ( لو 10 : 18 ) . و إنما أيضاً أحس الشيطان بالضعف و الفشل في التجربة علي الجبل ( مت 4 ) .

هزمه كإبن للإنسان ، نائباً عن طبيعة الإنسان.
في كل المواضع التي انهزم فيها الإنسان الأول ، إنتصر المسيح علي الشيطان. و رأي الشيطان أمامه طبيعة أخري يقف عاجزاً أمامها … و كان سهلاً علي الشيطان في كل حروبه مع السيد المسيح ، أن يقبل إنهزامه أمام إبن الله … أما أن ينهزم أمام ” إبن الإنسان ” ، فكان هذا أمراً يغيظ الشيطان و يتعبه .

و أصر السيد المسيح علي استخدام لقب ” إبن الإنسان ” ، علي اعتبار أنه جاء نائباً عن الإنسان ، ليس فقط في دفع ثمن خطية الإنسان ، إنما ايضاً بتقديم صورة طاهرة للإنسان ترضي قلب الله الآب ، كما ترمز تقدمة الدقيق في سفر اللاويين ( لا 2 ) …

الإنسان الطاهر المنتصر الذي يقول : باركت طبيعتي فيك.
أراد الرب أيضاً أن يشعرنا أن طبيعتنا يمكن أن تنتصر . و هكذا رفع الرب معنوياتنا ، و أعطانا الرجاء في حياة الغلبة . و قال لنا : ” في العالم سيكون لكم ضيق و لكن ثقوا أنا قد غلبت العالم ” ( يو 16 : 33 ) .

و لكن أي رجاء يعطينا ، أنك قد غلبت العالم ؟
نحن نعلم تماماً أنك قادر أن تغلب العالم ، فأنت القادر علي كل شئ . و لكن كنا نود أن نسمع منك عبارة ” ثقوا أنكم ستغلبون العالم ” … و لكن الرب يشرح لنا ما هو المقصود بقوله ” ثقوا أنا قد غلبت العالم ” … و كأنه يقول : أنا قد غلبته كإبن للإنسان . غلبته بهذه الطبيعة البشرية التي لبستها ، و أعطيت لهذه الطبيعة القدرة علي حياة الغلبة.
غلبت العالم بطبيعتكم ، كعربون لكي تغلب طبيعتكم العالم.
صار ممكناً منذ الآن أن الطبيعة البشرية تغلب العالم ، بعد أن غلبته أنا فيها…
حقاً يارب : باركت طبيعتي فيك … و أعطيتني أنا الإنسان الضعيف طبيعة جديدة قادرة أن تغلب العالم … طبيعة يقف أمامها الشيطان خائفاً منها ، بعد أن كانت خائفة منه . أصبح يخاف الطبيعة البشرية ليس في شخص المسيح فقط الذي اتحد بها لاهوته ، إنما أيضاً في أشخاصنا نحن البشر الذين بارك الرب طبيعتنا .
و لنتأمل هذه الطبيعة البشرية المباركة التي يخافها الشيطان …

طبيعة تنتصر على الموت

قال السيد المسيح لتلاميذه وهو يرسلهم للخدمة ” إكرزوا قائلين إنه قد اقترب ملكوت السموات ” . هذه حرب تُعلن ضد الشيطان ، و لكنها قد لا تخيفه. فماذا ايضاً ؟ قال لهم ” أقيموا موتي . أخرجوا شياطين ” ( مت 10 : 7 ، 8 ) . حقاً هنا يكمن الخوف للشيطان . و لكن هل هناك ارتباطا بين هاتين العبارتين : ” أقيموا موتي . أخرجوا شياطين ” أي ارتباطا بينهما ؟
واضح أن عبارة ” أخرجوا شياطين ” فيها سلطان علي الشيطان ، رجع بعدها التلاميذ فرحين يقولون للرب ” حتي الشياطين تخضع لنا بإسمك ” ( لو 10 : 17 ) .
و لكن السؤال الهام هنا هو : ماذا يخيف الشياطين في عبارة : أقيموا موتي ؟ الأمر واضح أيضاً : إن الموت هو التحطيم الذي استطاع به الشيطان أن يحطم الطبيعة البشرية . هو أجرة الخطية التي جلبها الشيطان . و لذلك نقول للآب في القداس الإلهي ” و الموت الذي دخل إلي العالم بحسد إبليس ، هدمته … ” . و الشيطان يظن أن هذا الموت هو نهاية للإنسان . و لكن عندما يري الإنسان يقوم ، يشعر أن عمله الشيطاني بلا نتيجة.
علي أن كثيرين قاموا من الموت، و رجعوا فماتوا مرة أخري مثل إبن أرملة صرفة صيدا، و إبن الشونمية، و مثل الذين أقامهم الرسل من الموت. و لكن إقامة الموتي هنا كانت مقدمة لعمل أعظم يحطم كل دولة الشيطان و هو :
قيامة السيد المسيح ، التي لا موت بعدها …
هذه القيامة كانت ترعب الشيطان لأنها تهدم كل عمله الذي تعب فيه من قبل . و قد وعدنا الرب أن نقوم من الأموات . و حقاً سنقوم في شبه مجد قيامته بجسد روحاني لا يموت . و بهذا الجسد نرث الحياة الأبدية … إذ بارك الرب طبيعتنا فيه.

طبيعتنا المائتة ، و هبها الرب ببركته عدم موت …
كما قال الرسول عن جسدنا المائت ” هذا الفاسد لا بد أن يلبس عدم فساد . و هذا المائت يلبس عدم موت ” ( 1 كو 15 : 53 ) . و هذا الموت الذي من أجله نصب الشيطان كل فخاخه و حبائله ، و كل مكره و حيله ، سوف نغني له و نقول : أين شوكتك يا موت ؟ أين غلبتك يا هاوية ؟ ( 1 كو 15 : 55 ) . و حينئذ تصير الكلمة المكتوبة : ابتلع الموت إلي غلبة ( 1 كو 15 : 54 ) . و شكراً لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح ، هذا الذي بارك طبيعتنا فيه ، و أعطانا نعمة الحياة و عدم الموت.

إذن كانت إقامة الموتي التي وُهبت للتلاميذ هي ” بروفة ” لتحطيم معنويات الشيطان. هي مقدمة و رمز للقيامة الخالدة التي لا موت بعدها. و ماذا تعني عبارة ” لا موت ” ؟ تعني لا خطية . لأن أجرة الخطية هي موت ( رو 6 : 23 ) . و نحن كنا أمواتاً بالخطايا . و عدم الموت بالنسبة إلينا ، معناه أن الله قد محا الخطية و لم يعد يذكرها ( أر 31 : 34 ) . و هذا أخوف ما يخافه الشيطان ، لأنه ضياع لكل ثمرة تعبه خلال عصور و أجيال طويلة …

إن عبارة ” إين شوكتك يا موت ؟ ! ” ، لا شك أنها تتعب الشيطان … يقول بولس الرسول ” إني متيقن أنه لا موت و لا حياة … تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ” ( رو 8 : 38 ، 39 ).

عبارة ” لا موت ” أصبحت ترعب الشيطان ، لأن كل عمل الشيطان هو أن يجلب حكم الموت علي الناس . أما في الطبيعة الجديدة التي أخذناها من الرب فإننا نقول : ليس موت لعبيدك ، بل هو انتقال …

حقاً إنك باركت طبيعتي فيك ، و لم يعد الموت يخيفنا ، إذ لم تعد له سيطرة علينا . شوكته قد انتهت ، بعد أن ألغاها السيد الرب بالقيامة . و كأننا حينما نسمع كلمة الموت ، ” نموت من الضحك ” قائلين له ” اين شوكتك يا موت ” . و إذ بارك الرب طبيعتنا فيه ، أصبحنا نسخر من الشيطان و دولته .

و ماذا أيضاً ؟

اصبحت لنا طبيعة جديدة

و كما قال الرسول ” إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة . الأشياء العتيقة قد مضت . هوذا الكل قد صار جديداً ” ( 2 كو 5: 17 ) . لقد خلعنا الإنسان العتيق مع أعماله و لبسنا الجديد ( كو 3 : 9 ) . و ما هو هذا الجديد الذي لبسناه يقول الرسول : لأن جميعكم إعتمدتم للمسيح ، قد لبستم المسيح ( غل 3 : 27 ) .
أي مجد هذا ؟ حقاً يارب ، لقد باركت طبيعتي فيك … أرجعتنا إلي صورتنا الإلهية ، و أصبح إنساننا الجديد هذا يتجدد حسب صورة خالقه ( كو 3 : 9 ). أصبحت طبيعتنا مؤهلة لأن يحل فيها الروح القدس ، و بحلوله نلبس قوة من الأعالي و كما قال الرب : ستنالون قوة متي حل الروح القدس عليكم ( أع 1 : 8 ) . وهذه القوة هي من سمات الطبيعة الجديدة ، و بها نستطيع أن نشهد للرب . و بها لا نخاف الخطية ، و لا نخاف الشياطين ، و لا نخاف الموت . لقد أصبحت الطبيعة البشرية شيئاً اَخر بعد أن باركها المسيح.

و لذلك نقرأ عن أشياء عجيبة في الأصحاح السادس من رومية : إنساننا العتيق قد صلب . دفن بالمعمودية ( رو 6 : 6 ، 4 ) . ” متنا عن الخطية ” ، ” ليبطل جسد الخطية ” ، ” كي لا نعود نستعبد أيضاً للخطية ” ، ” هكذا نسلك في جدة الحياة ” ( رو 6 : 2-6 ) . هذه هي الطبيعة الجديدة ، التي باركها المسيح فيه ، التي خلصها من كل أخطائها ، و غسلها في المعمودية ، لتبيض أكثر من الثلج ( مز 50 ) . لذلك حسناً بشر الملاك بالميلاد قائلاً ” ابشركم بفرح عظيم . إنه ولد لكم اليوم مخلص هو المسيح الرب ” ( لو 2 : 10 ، 11 ) .

ما هو هذا الخلاص الذي نلناه في التجسد الإلهي ؟

خلصنا من عقوبة الخطية ، من نتائجها ، من الموت ، من الدينونة … و لكن هل الخلاص من هذا فقط ؟! كلا بلا شك . لأنه لو خلصنا من عقوبة الخطية و ترك طبيعتنا كما هي فاسدة ، تسيطر عليها الخطية مرة أخري ، و بالخطية الموت ، لقنا ما الذي استفدناه . و لكن السيد الرب عمل معنا ما هو أعظم : فكما خلصنا من عقوبة الخطية ، خلصنا من فساد الطبيعة البشرية . خلصنا من الفساد . هذ هو الأهم . صلب إنساننا العتيق . أماته . لم يعد للشيطان سلطاناً علينا ، بل أعطانا سلطاناً علي جميع الشياطين ( مر 3 : 13 ، مت 10 : 1 ) . أصبحت طبيعتنا لها سلطان علي الأرواح النجسة . و أعطي هذا العربون للتلاميذ أولاً …

لبست طبيعتنا المسيح ( غل 3 : 27 ) فلبست القوة و القداسة . لبست المسيح في المعمودية . و المسيح غلب العالم . وهكذا لبست أنت هذه الغلبة التي في المسيح يسوع ، كما لبست البر الذي في المسيح يسوع ، و لبست القوة التي بها هزم الشيطان و هزم الموت … هذه هي البركة العظمي التي نالها طبيعتنا ، لما جددها الرب مرة أخري .
بارك المسيح طبيعتنا ، بأن خلصها من كل سقطاتها . كيف كان ذلك ؟
و ما هي السقطات التي خلصها منها الرب ؟
لقد أمسك السيد بكل نقاط الضعف ومواطن السقوط في هذه الطبيعة ، و هزم الشيطان فيها ، ووضع أنفه في الكبرياء ، و أراه هذه الطبيعة البشرية منتصرة في كل شئ ، و مستعيدة صورتها الإلهية.
بالطاعة الكاملة للآب ، خلص طبيعتنا من سقطة العصيان . سقطت الطبيعة البشرية في العصيان ، و خالفت الرب ، و تمادت في المخالفة إلي أقصي حد. فجاء المسيح بهذه الطبيعة ، و أعطاها أن تطيع حتي الموت موت الصليب ( في 2 : 8 ) ، و أن تقول لله الآب ” لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك ” ( لو 22 : 8 ) ، ” لا ما أريده أنا ، بل ما تريد أنت ” ( مز 14 : 26 ) ، و قال أيضاً ” لا أطلب مشيئتي ، بل مشيئة الآب الذي أرسلني ” ( يو 5 : 30 ) ، ” لأني قد نزلت من السماء ، ليس لأعمل مشيئتي ، بل مشيئة الذي أرسلني ” ( يو 6 : 38 ) . و قال أيضاً ” طعامي أن أعمل مشيئة الذي ارسلني و أتمم عمله ” ( يو 4 : 34 ).

و علمنا أن نقول للآب في صلواتنا : لتكن مشيئتك.
و هكذا قدم السيد المسيح صورة للطبيعة البشرية المطيعة لله ، الذي طعامها أن تفعل وصاياه ، و مشيئتها هي مشيئته . و بذلك صحح الخطأ القديم الذي شوه الطبيعة البشرية منذ اًدم و خلال كل العصور …

و في هذه الطبيعة التي باركها ، هزم الشيطان بطريقتين : هزمه بالضربة القاضية علي الصليب . و غلبه كذلك بالنقط ، بنجاح علي طول الخط ، خلال كل فترة تجسده علي الأرض . و لم يعطه مطلقاً أية فرصة . و أراه أن الطبيعة البشرية التي باركها ، يمكن أن تنتصر عليه .

هذا من جهة الشيطان . أما من جهة الله الآب ، فقد أرضاه في التجسد ، إذ قدم له الطبيعة البشرية طائعة له حتي المنتهي . فكان بذلك رائحة سرور للرب ، ليس فقط كذبيحة محرقة ، أو كذبيحة خطية ، فوق الصليب ، إنما أيضاً : كان أيضاً رائحة سرور للآب ، في حياته المقدسة . ناب عن البشرية في تقديم رائحة السرور هذه لله الآب ، في حياة طاهرة، كاملة في طهارتها و برها و قداستها و طاعتها …

و بهذا أوجد صلحاً بين الآب و البشرية . و كأنه يقول لله الآب : أنا أريد أن أصالحك مع هؤلاء . هم أغضبوك بعدم الطاعة . و أنا بالنيابة عنهم ساقدم لك هذه الطاعة كرائحة سرور أمامك . و بهذا حقق السيد المسيح ثلاثة أهداف بعمل واحد . و هذا العمل الواحد هو حياته المقدسة . و أما الأهداف الثلاثة فهي :
أ‌- حطم أسطورة الشيطان المنتصر ، إذ هزمه و أذل كبرياءه .
ب- أرضي قلب الآب بتقديم الطاعة الكاملة له من الطبيعة البشرية .
ج- رفع معنويات الإنسان . و كيف ذلك ؟

كما رفع داود معنويات الجيش كله ، بهزيمته لجليات .
كان كل أفراد الجيش خائفين من ذلك الجبار ، شاعرين بصغر نفس أمامه ، معترفين عملياً و فكرياً بأنهم عاجزون أمامه . فلما ضربه داود و هزمه ، إرتفعت معنويات الكل ، و أدركوا أن غير المستطاع عند الناس ، هو مستطاع عند الله ( مز 10 : 27 ) . و أدركوا أيضاً أن الله لا يتخلي عن أولاده ، و إنما يقودهم في موكب نصرته . و هكذا فعل المسيح في تجسده ، إذ رفع معنويات الطبيعة البشرية ، و أشعرها أن الإنتصار سهل و ممكن أمامها …

و ظهر الإنتصار واضحاً في التجربة علي الجبل …
إنتصار علي المادة و الأكل ، الأمر الذي وقع فيه أبوانا الأولان … و انتصار علي الكبرياء و محبة المناظر ، برفض منظر أن تحمله الملائكة ، و رفض الملك و السيادة ، و رفض استخدام سلطانه كإبن لله لتحويل الحجارة إلي خبز … و إذا بالطبيعة البشرية التي سقطت حينما أرادت أن تصير مثل الله ( تك 3 : 5 ) ، أصلح الرب مسارها ، حينما ” أخلي ذاته و أخذ شكل العبد ، و صار في الهيئة كإنسان ” ( في 2 : 7 ) .

و هكذا بارك الطبيعة بالإتضاع ، فخلصها من الكبرياء . خلصها من حب العظمة الذي وقع فيه الشيطان حينما قال ” اصير مثل العلي ” ( اش 14 : 14 ) ، و الذي أراد أن يوقع به الإنسان حينما قال لأبوينا الأولين ” تصيران مثل الله عارفين الخير و الشر ” ( تك 3 : 5 ) . و صار الإتضاع بركة ، من يعيش فيه ، يكون في صورة الله المتضع.

بارك طبيعنا بالرجاء

أعطاها نعمة الرجاء مهما كانت خطيتها . لأن الشيطان كان يحارب باليأس أيضاً ، كما أهلك به يهوذا الإسخريوطي … يهوذا هذا الذي ندم علي ما فعله ، و أرجع المال و قال ” أخطأت إذ أسلمت دماً بريئاً ” ( مت 27 : 4 ) ، عاد الشيطان فأسقطه في اليأس ، في خطيته قطع الرجاء ، فمضي و خنق نفسه ( مت 27 : 5 ) … كيف باك المسيح طبيعتنا ، و حصنها ضد اليأس :

باركها بالرجاء و عدم اليأس ، بقبوله اللص اليمين . قبل إليه هذا اللص ، الذي استمر في شروره إلي اَخر ساعات حياته ، إذ كان يعير الرب علي الصليب مع اللص الآخر كما يروي معلمنا مرقس الإنجيلي ( مز 15 : 32 ) . و لكن اللص اليمين عاد فاستجاب لعمل النعمة فيه ، و بكت اللص الآخر ، و استحق أن يسمع من الرب عبارة ” اليوم تكون معي في الفردوس ” ( لو 23 : 43 ) . و هكذا خلص اللص أخيراً ، و أصبح مثالاً لمباركة الطبيعة البشرية بعمل الرجاء فيها مهما كانت الظروف المحيطة.

فهل من مثال اَخر إلي جوار مثال اللص ؟ نعم هناك مثال : بطرس الذي أنكر المسيح ، كان مثالاً اَخر للرجاء . كان يمكن أن ييأس ، و بخاصة لو ركز علي قول الرب ” من ينكرني قدام الناس ، أنكره أنا أيضاً قدام أبي الذي في السموات ” ( مت 10 : 33 ) . و لكن الرب الذي قال هذا ، هو نفسه الذي قبل بطرس إليه ، بل أعاده إلي رتبة الرسولية بقوله له بعد القيامة ” إرع غنمي . إرع خرافي ” ( يو 21 : 15 ، 16 ).

حقاً إن الرجاء بركة عظيمة بوركت بها طبيعتنا.
فاليأس هو لعنة تورث الحزن ، و تورث الهلاك . أما نحن ففي بركة الرجاء ، نعيش حسب وصية الرسول ” فرحين في الرجاء ” ( رو 12 : 12 ).
و أولاد الله في هذه الطبيعة التي تباركت بنعمة الرجاء ، ينطبق عليهم قول أشعياء النبي ” و أما منتظرو الرب ، فيجددون قوة ، يرفعون أجنحة كالنسور . يركضون و لا يتعبون . يمشون و لا يعيون ” ( أش 40 : 31 ).
الله يعطي رجاء ، حتي لطبيعة العاقر التي لم تلد ( اش 54 : 1 ) 
إذن فلنعش في الرجاء ، و في انتظار ملكوت الله . و لا يقل أحد مهما كانت خطيئته : لا فائدة من إصلاحي . إن طبيعتي هكذا … !

لا تقل طبيعتى هكذا !

لا تيأس من طبيعتك . إنما سبح الرب بعبارة ” باركت طبيعتي فيك “.
لقد بارك الرب طبيعتك في نواح متعددة … باركها في المعمودية ، حينما صلب فيها الإنسان العتيق و وهبها جدة الحياة ( رو 6 ) . كما وهبها البنوة لله ( يو 3 : 3-5 ) . و باركها في المسحة المقدسة بحلول الروح القدس ، و باركها بالتطهير المستمر في سر التوبة . و باركها بالتناول من الأسرار المقدسة ، و بنعمة الثبات فيه ( يو 6 : 56 ) .

لقد باركها و قدسها ، و أعطاها المواهب و المواعيد .
بررها الله و قدسها ، لتكون مشابهة لصورة إبنه ، و مجدها أيضاً ( رو 8 : 29 ، 30 ) . و أهلها للمواهب . و ما أجمل أن نضع أمامنا صورة يوحنا المعمدان الذي وهو جنين إمتلأ من الروح القدس ( لو 1 : 15 ) . و ارتكض في بطن أمه للقاء المسيح ، و امتلأت أمه من الروح القدس ( لو 1 : 41 ) . و ماذا عن طبيعتك أيضاً في مباركة الرب لها ؟

و قدس الرب طبيعتنا في كل مراحل العمر : قدس الطفولة لما مر بهذه المرحلة . و قدس الفتوة و هو فتي . و قدس مرحلة الشباب و هو شاب ، و مرحلة الرجولة و هو رجل ز و قيل عنه أنه كان ينمو . و كان يتقدم … ( لو 2 : 52 ) . و هكذا قدم لنا مثالية في كل مرحلة من مراحل العمر تمر بها طبيعتنا .
و كذلك قدس طبيعتنا في كل الظروف .
قدس مواجهة العدو ، لما أتوه للقبض عليه ، فواجههم و قال لهم ” أنا هو ” ( يو 18 : 5 ،6 ) . و قدس البعد عن الشر بالهروب إلي مصر . قدس الإحتمال لما احتمل ظلم الأشرار . و قدس الجدل البناء لما جادل الكتبة و الفريسيين و الصدوقيين . قدس الصمت لما صمت ز و قدس الكلام لما تكلم . و غذا بطبيعتك البشرية يا أخي تتبارك في كل عمل . و ماذا أيضاً ؟

نالت طبيعتك نعمة البنوة

فالذين قبلوه أعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله ( يو 1 ك 12 ) . و القديس يوحنا الحبيب يتغني بهذا الأمر فيقول ” أنظروا أية محبة أعطانا الآب حتي ندعي أولاد الله ” ( 1 يو 3 ك 1 ).
و البنوة تصحبها أيضأً المواعيد ، و الميراث و البركات … و هذا موضوع طويل لست أري الوقت متسعاً له … و لكني أقول : كل هذه البركات هي من ثمار التجسد الإلهي . و من ثمار الفداء الذي كان هدف التجسد ايضاً . و في هذه البركات يقول لنا الرب ” لا أعود أسميكم بعد عبيداً بل احباء ” ( يو 15 : 15) . له المجد في محبته من الآن و إلي الأبد اَمين.

فاصل

زر الذهاب إلى الأعلى