كتاب قصة الإنسان - القمص متى المسكين

سقوط الشيطان

يوضح لنا القديس يهوذا الرسول عصياناً جماعياً حدث من الشيطان وجنوده فيا قبل خلقة الإنسان: « والملائكة الذين لم يحفظوا رئاستهم، بل تركوا مسكنهم ، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام.» (يه 6)

ومعروف أن الشيطان كان يسمى فيما مضى «حامل النور» أو «نجمة الصبح» Lucifer، هكذا يسميه إشعياء في نبوته ورؤياه التي رأى فيها الشيطان ساقطاً من السماء سقوط النجم المرتطم بالأرض ، وهو في الحقيقة يصف المعركة التي أشار إليها دانيال النبي في (دا 10: 13) : «كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح ، كيف قطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم ، وأنت قلت في قلبك أصعد إلى السموات، أرفع كرسيي فوق كواكب الله وأجلس على جبل الإجتماع [ عرشي ] في أقاصي الشمال. أصعد فوق مرتفعات السحاب، أصير مثل العلي، لكنك انحدرت إلى أرض الموت ، إلى أسافل العالم السفلي . » (إش 14: 12-15 ترجمة دقيقة)

فواضح من كلام إشعياء النبي أنه يتحدث عن صاحب قوة مخرّبة عاتية تكبرت على الله وتعظمت، وشقت عصا الطاعة، فأسقط من السماء عنوةً بعد أن كان زاهراً كنجم مضيء!

من أجل هذا فإن المسيح يُدعى النور الحقيقي ، لأن الشيطان أصبح حامل النور المزيف، فهو يستطيع أن يتراءى كملاك ،نور، لكنه نور غير حقيقي كاذب مضلل بحذق ومكر وخداع، يتوهم الذي يسير وراءه أنه سائر في النور حتى يرديه الهلاك .

فكما ترعد السماء وتبرق، ويصير البرق قوة صاعقة مخرّبة، هكذا رآه المسيح : «رأيت الشيطان ساقطاً من السماء مثل البرق.» ( لو 10: 18)

سقوط الشيطان أحدث تخريباً على الأرض كلها:

هذا كله يوضح أن عصيان الشيطان قديماً أحدث انشقاقاً وتخريباً على الأرض: «وكانت الأرض خربة » ( ومن غير المعقول أن يخلق الله – أول ما يخلق – أرضاً خربة. فالتخريب هنا يشير إلى عملية عدائية شريرة ) ، «وخالية» في عصور ما قبل الخليقة، «لأن إبليس من البدء يخطىء» ( 1يو 3: 8) (كلمة «من البدء » تفيد ما قبل الزمن)، وصارت له مملكة مقاومة لله ، بدأ يظهر لنا عملها بظهور آدم الذي حذره الله عندما وضعه في جنة عدن قائلاً له أن يحرسها !! واستمر الشيطان في حربه مع الملائكة بلا هوادة لعرقلة أعمال الله وخططه : « ورئيس مملكة فارس ( الشيطان) وقف مقابلي واحداً وعشرين يوماً . وهوذا ميخائيل واحد من الرؤساء الأولين جاء لإعانتي ، وأنا أبقيت (مُنعت) هناك عند ملوك فارس (جنود وأعوان الشيطان)» (دا 10: 13)، «… والآن أرجع وأحارب رئيس فارس.» (دا 10: 20) 

 هذا الأمر يوضحه لنا بولس الرسول بقوله : « … . البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا ضد مكائد إبليس ؛ فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم ، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات من أجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير. وبعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا . » (أف 6: 10-13)

وهكذا يتحقق أمامنا أن وراء تاريخ الخلاص منذ آدم حتى اليوم صراع هائل وحروب مروعة ضد قوات الشيطان، سواء من المسيح قبل التجسد أو جميع الملائكة المقدسين أو رجال الله الأتقياء في كل العصور القديم منها والجديد، أحياناً نلمحها بسهولة وعلانية، وأحياناً نجدها تحت التيار تتلاطم بعنف، لا يظهر منها سوى الأمواج العاتية التي بلغت أوجها أمامنا عند الصليب.

وهكذا لم يُعط لنا أن نعرف عن أسرار صراع القوات الروحية المقدسة ضد مملكة الشيطان، إلا اليسير جداً، إذ جعلت ضمن أسرار الله : «السرائر للرب إلهنا ، والمعلنات لنا ولبنينا إلى الأبد.» (تث 29: 29)

الشيطان مبدأ الخطية ومصدرها: ولكن الذي ينبغي جداً أن نلتفت إليه، أن الشيطان كقوة مخربة يقف وراء كل الشرور والمصائب التي أصابت الإنسان هذه الحقيقة لا يمكن التقليل من شأنها أو تجاهلها، فإن الإنجيل كله – بل مجيء المسيح وكرازته وتعاليمه حتى الصلب والموت ـ قائم أساساً على مجابهة هذه القوة .

صحيح أن الشيطان سقط من السماء، ولكن ذلك هو مجرد إخلاء من سلطانه ومكانه في السماء، ليعمل على الأرض كقول سفر الرؤيا. وهو وإن كان قد هزم في حروب سماوية ومجابهات مع ملائكة وقديسين وظفر به المسيح على الصليب، إلا أنه لا يزال، بما تبقى له من ذكاء ودهاء وخداع ومكر وغش ـــ «لأننا لا نجهل أفكاره» (2کو 2: 11)- يستطيع وهو بلا قوة أن يُسقط في فخاخه أقوى القديسين إذا انحرفوا عن المسيح !! « (الأسقف) غير حديث الإيمان لئلا يتصلف فيسقط في دينونة إبليس، ويجب أيضاً أن تكون له شهادة حسنة من الذين هم من خارج، لئلا يسقط في تعيير وفخ إبليس» (1تى 3: 6و7) . ومن عصيان هذه الأجناد السماوية الشريرة مع الشيطان رئيسهم، واستقلالهم، كقوة هائلة ذات مملكة ورئاسات وسلاطين وأجناد ، ووقوفهم من الله موقف الخصم المعاند ، يتضح لنا بكل جلاء أن الخطيئة كعنصر فعال في العالم، إنما أوجدت بواسطة الشيطان قبل خلقة آدم : «إن كان الله لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا ، بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء » ( 2بط 2: 4 ) . فالخطيئة لم تنشأ في الإنسان بواسطة الإنسان، لكنها أُقيمت عليه كفعل هو أصلاً من صنع الشيطان مخالف لطبيعة الإنسان، لكن الإنسان قبله من الشيطان بدافع حريته في الإختيار رغم أن الله حذره من العاقبة !

هذا هو مبدأ الخطية ومصدرها ! ….

قدرة الإنسان على التوبة سهل للغاية في البداية:

والآن نوضح أكثر أن قدرة الإنسان على التوبة والتخلص من سلطان الخطية سهل للغاية في البداية حينما يستيقظ الضمير.

هذا يكون دائماً في البداية، ولكن حين يستسلم الإنسان تماماً للخطيئة، يبتدىء يحس أنه غير قادر على الخروج منها . فإذا ابتدأ يقاوم، يواجه الشيطان نفسه فيحس وكأنه قد ابتلعه ويكتشف أكثر فأكثر أنه مدفوع بقوة تفوقه لعمل الشر، وأنه لا يملك إرادته ، وهذا هو الوهم والكذب الذي يقنع به الشيطان فريسته حتى يكف عن محاولات التوبة والتخلص من الخطية. 

وهذا يكشف عن حذر الشيطان الفائق في كيفية الدخول في البداية، ثم استخدام الكذب والخداع مع الإنسان ليتملك عليه . هكذا وبهذا الأسلوب المخادع يستطيع الشيطان أن يؤثر في الإرادة والفكر والغريزة معاً إلى الدرجة التي يبدو فيها للإنسان الطبيعي أنه من المستحيل أن يتخلص من الخطيئة، أية خطيئة، لأنها تصبح وكأنها جزء مكون لطبيعة الإنسان.

 لهذا أصبح لا يوجد أي إمكانية في العالم ولا أي عبقرية تستطيع أن تحدد حجم الخطيئة وانتشارها في القوى الطبيعية للإنسان أو أن تحدد جذورها وتفرعاتها وآثارها التي تبدو أنها مدمّرة فعلاً. فقط يبقى للإنسان قوة ليست منه ، بل هي من نفخة الله الضمير» الذي يمكن أن يستيقظ من حين إلى حين، ليرى بعينيه مدى الدمار الذي يحيط به، وهذا يشير إلى أن كل قوة الخطيئة، والشيطان معها ، لا تستطيع أبداً أن تمحو تماماً صورة الله من الإنسان، هذه الصورة النبيلة التي يمثلها الضمير.

هو الضمير ممثل للعنصر الإلهي في الإنسان : و يلاحظ أن الضمير، وهو الممثل للعنصر الإلهي في الإنسان ، قد يرضخ ، الآخر لفعل الخطيئة أيضاً مرغماً ، إذا كانت قياساته الأدبية والروحية التي تربى عليها ضعيفة، أو بسبب اهتزازه أمام شدة المؤثر أو المفاجأة الشيطانية المدبرة، هنا رضوخ الضمير يكون خطراً جداً على الإنسان، لأن ذلك يُدخله بإرادته في حالة عبودية مقيّدة للخطية والشيطان : «من ينقذني من جسد هذا الموت . » (رو 7: 24)

كما يهمنا أن ننتبه إلى أن أصل الخطيئة فعلاً ليس بدون محرّك ، أي أن الشيطان هو القوة المشخّصة المحرّكة للخطيئة، لدرجة أنه قد نهمل الشيطان في تسلسل أفكارنا ، فنقول إن الخطيئة غرتني أو غلبتني ، أو استعبدتني ، ولكن الحقيقة أن الشيطان هو الذي يختبىء وراء الفعل.

مدخلان للشيطان لإسقاط الإنسان:

كذلك يلزم أن ننتبه إلى أن المدخلين اللذين يدخل منها الشيطان هما الفكر والغريزة : الفكر ـ عن طريق الحوار الحر والمندس فيه التشكيك في الله كالسم، والغريزة ـــ بأن يلهبها فوق ما رسمت له وفوق أصولها وحدودها الطبيعية، لتخضع لعمل خارج عن اللياقة والوصية .

هكذا عند توصيف الخطيئة، لا يصح أن نجردها من صانعها الأصلي، كما يلزم مواجهتها في كل من مدخليها : الفكر، والغريزة.

علماً بأن طبيعة الخطيئة كفعل، لا وجود لها خارج الإنسان، ولا جوهر لها ، فجـوهـرهـا هـو العـدم !! فهي من صُنع الشيطان ولكن بالإنسان توجد ، وتتشخص وتعيش وتتفرّخ . كذلك فإن عملها لا يمكن حصره داخل الإنسان، فهي تشمل الكيان الطبيعي والشخصي للإنسان برُمَّته ، وإنما على درجات ؛ وهي قد تزيد إلى الدرجة التي فيها تحرق الإنسان، وتحترق معه، لأن الخطيئة فعل مصغر للموت.

وخطيئة الجسد غير خطيئة النفس، فالجسد تتمركز خطاياه في خروج الشهوة فـيـه عـن نـدائـهـا الطبيعي وغايتها المقدسة وأهم أنواعها هي شهوة البطن، وشهوة الزنا، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة أي البذخ وحب الراحة . أما خطيئة النفس فتتمركز في القوة الغضبية ، وحركة العداوة، والحسد، والضجر، وتزكية الذات، أي الإفتخار والعظمة.

والعجيب حقاً أن أخطر هذه المصادر المولّد للخطية هو شهوة الزنا، فإذا تتبعنا أي خطيئة نجدها امتداداً متلاحقاً من شهوة الزنا ، إما مباشرةً أو بطريق غير مباشر. فإذا أقمعت شهوة الزنا تماماً، كفّ الجسد بل وكفَّت النفس عن الإنفعال المولد للخطيئة.

الخطيئة فعل ممتد متصل بالشيطان مصدرها ومبدأها:

لذلك، فالخطأ الشنيع الذي نقع فيه، سواء بإرادتنا أم مغلوبين على أنفسنا، أنـنـا عـنـدمـا نخطىء نتوهم أن الخطيئة مجرد فعل خطأ ، أو مجرد خطيئة محدودة ، أي مجرد حـدث محصـور وقع وانتهى، ولا نـعـبـاً لا بسر الحركة التي كانت وراءه ولا الخطيئة الأم المتسلسل منها هذا الفعل بل ولا نهتم بما يؤول إليه كنتيجة حتمية، علماً بأن الخطيئة حينما نكملها بإرادتنا نكون قد سمحنا بتكميل مسلسل ذي صلة رسمية بيننا وبين الشيطان، يدخل بمقتضاها ليخرب بتأثير ممتد وعميق في اللاشعور والأعصاب، والذاكرة والعاطفة، ويخط في التكوين البيولوجي الحيوي للإنسان خطوطاً قد تصل إلى التأثير الوراثي، وبتراكمها تأتى الشيخوخة والإضمحلال والموت .

والخطيئة ليست فعلاً تاماً منحصراً يبدأ و ينتهي في فترته الزمنية وحسب، بل هي فعل ذو امتداد غير منظور، لأن الخطيئة تولّد خطيئة، إما مماثلة لها أو مترتبة عليها. فالذي يحقد يظل يحقد، وقد يتطور أمره إلى العداء، والعداء إلى تعد، وهكذا. وإذا تكررت الخطيئة ولدت في السلوك نوعاً من العادة، وبالتكرار المتواتر تصبح الخطيئة لوناً من ألوان أنشطة الطبيعة ربما لا يحسها الإنسان . فالذي يعتاد الكذب بعد مدة طويلة لا يحس أنه يكذب ؛ والذي يسرق كذلك ؛ فللخطيئة قدرة على التسلل إلى النشاط الطبيعي في الإنسان وهي تتداخل في الغرائز لتلوثها بلونها الأسود . هذا كله يحسه الإنسان إثر يقظة الضمير بعامل من عوامل الرحمة الإلهية، وبالدعوة إلى الخلاص والفكاك من العدو الذي يكون قد احتل النفس وخرب فيها بأقصى ما يستطيع . وهكذا نكتشف أن الخطيئة مشخّصة بالشيطان، الذي يولّدها في الإنسان ويحركها، هي عدو حقيقي للإنسان يعمل على اضمحلال قدراته ومواهبه، ويحاربه في كافة المجالات دون أن يشعر هو بأي حـ حرب، كإنسان فقد قوة الإبصار تماماً :

«فأقول هذا وأشهد في الرب أن لا تسلكوا فيما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضاً ( بدون الناموس) ببطل أذهانهم ؛ إذ هم مظلمو الفكر ومتجنّبون عن حياة الله لسبب الجهل الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم، الذين إذ هم قد فقدوا الحس أسلموا نفوسهم للدعارة ليعملوا كل نجاسة في الطمع . » (أف 4: 17-19)

فالخطيئة، في تشخيصها النفساني والعقلي والروحي، هي أكثر من كونها جهلاً : «فالله الآن يأمر جميع الناس (بما فيهم أنا وأنت ) في كل مكان أن يتوبوا متغاضياً عن أزمنة الجهل» (أع 17: 30) ، « … فرئيس الكهنة فقط ، مرة في السنة، ليس بلا دم يقدمه عن نفسه وعن جهالات الشعب » (عب 9: 7)؛ كذلك فإن الخطيئة هي أكثر من كونها انهزاماً وزلّة وعشرة : » فأقول ألعلهم عثروا لكي يسقطوا ، حاشا ، بل بزلتهم صار الخلاص للأمم لإغارتهم » ( رو 11: 11) ؛ وهي أكثر من سقوط في أعمال مميتة أو في الموت ذاته : « وأنتم إذ كنتم أمواتاً بـالذنوب والخطايا (أحياكم). » (أف 2: 1)

إنما الخطيئة بالدرجة الأولى، هي تحريض مستتر من الشيطان بقوة ودهاء لعصيان الله نفسه مع سبق إصرار وهكذا انتقل الشيطان من دائرة آدم إلى كل بني آدم، يكرر الغواية والضلال لعصيان الله بنفس القياس : «لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاة…» (رو 5: 19)، وكان هذا قمة انتصار الشيطان. والخطيئة أيضاً هي تعد صارخ على أمر واضح صريح من الله : «لأنه إن كانت الكلمة التي تكلم بها ملائكة ( الناموس) قد صارت ثابتة، وكل تعد ومعصية نال مجازاة عادلة …» (عب 2: 2) ، و … كل من يفعل الخطيئة، يفعل التعدي أيضاً ، والخطيئة هي التعدي . » ( 1يو 3: 4)

بالناموس معرفة الخطية :

وهذا يكشف أن الناموس وضع ليكون هو الحد الإلهي الذي وضعه الله للشعب كحد من نار كل من يتعداه يحترق به، وذلك لكي تظهر الخطيئة أنها قاتلة. فالذي حدث هو أن الناموس كان كمرآة يرى فيها الإنسان خطاياه، ومعها تحذير الموت لو تم التعدي. كان ذلك كله، ليس فقط لمحاصرة الخطيئة، بل أيضاً لمحاصرة الشيطان وسد منافذه التي يفتحها على الإنسان. وليكن في علمنا تماماً، أنه بدون هذه الحدود التي وضعها الناموس، أي وصايا الله في العهد القديم، كيف يعرف الإنسان أنه أخطأ ؟ ومن ذا يزجره و يرعبه إن هو أخطأ؟ «لأن بالناموس معرفة الخطيئة » (رو 3: 20) ؛ «إذ حيث ليس ناموس ، ليس أيضاً تعد.» (رو 4: 15)

كما أن الناموس كان بالنسبة للإنسان مرآة أخرى يرى فيها أصابع الشيطان كيف تدفعه إلى التعدي ثم الموت !! «لأن الخطيئة لا تُحسب إن لم يكن ناموس» (رو 5: 13). من هنا يظهر الناموس كضابط وفاضح لغواية الشيطان وضلالته، إنما بصورة غير مباشرة، هذا ما يقرره بولس الرسول : ( ولكن الخطيئة وهي متخذة فرصة بالوصية ( الناموس) أنشأت في كل شهوة … فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا ، بل الخطيئة الساكنة في… فإن كنت ما لست أريده إياه أفعل، فلست بعد أفعله أنا بل الخطية الساكنة في . » (رو 7: 8 و 17 و 20) 

هنا بولس الرسول يشخّص الخطيئة كأنها عدو له عقل وتفكير، ودهاء وسلطان، متصل اتصالاً مريباً بالغرائز البشرية .

وفي موضع آخر، يصف بولس الرسول الخطيئة كأن لها قوانين ونواميس تعمل بها ضد قوانين ونواميس العقل والمنطق والضمير هكذا : « لكني أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ، و يسبيني إلى ناموس الخطيئة الكائن في أعضائي » (رو 7: 23) . إلى هذا الحد استطاع بولس الرسول أن يضع يده على طبيعة الخطيئة وناموسها الذي إذا سكن الأعضاء تملكها ، وصار كأنه عدو ساكن داخل الإنسان يحارب عقله وفكره الحر ومنطقه المعتدل ، و يغلبه ويسلبه إرادته ويسبيه و يخضعه لمشيئة الخطيئة ولذتها العاملة في الأعضاء.

ناموس الذهن هو الضمير الحر:

واضح هنا أن ناموس الذهن، وهو غير ناموس موسى أيضاً بل منبثق منه ، و يقصد به بولس الرسول الضمير الحر، صوت الله في الإنسان، الذي لا يزال يفرز الخطيئة و يقاومها ولكن في ضعف وانغلاب ، لكن الضمير يشهد على نفسه أنه صوت الله الحافظ لناموس الله ، كونه يستطيع أن يرى الخطيئة في غيره و يدينها.

فطالما يستطيع الإنسان أن يدين غيره فيما يخطىء فيه ، فهذه علامة أكيدة أنه مدرك لناموس الله ، وأنه بمقتضاه يقع تحت الدينونة عينها مهما تغاضى عن الخطيئة التي فيه، والتي ارتضى أن يعايشها : أفتظن هذا أيها الإنسان الذي تدين الذين يفعلون مثل هذه وأنت تفعلها ، أنك تنجو من دينونة الله ؟ ) (رو 2: 3)

هنا الضمير واضح أنه يشهد الله ، حتى ولو كان غير قادر أن يدين نفسه، فالذي يشاهد خطيئة غيره ويحكم عليها أنها خطيئة ، يشهد الله على نفسه هذه ه هي خلقة الإنسان، فهو شاهد لله حتى ولو لم يشهد على نفسه، لأن الله وضع رؤيته في الإنسان بصورة مستترة، فالله ظاهر للإنسان وإنما في الضمير بطريق غير مباشر وفي المنظورات من خارج، وعليه أن يترجم هذه الشهادة لنفسه، وعلى نفسه : «إذ معرفة الله ظاهرة فيهم، لأن الله أظهرها لهم، لأن أموره غير المنظورة تُرى، منذ خلق العالم، مدركة بالمصنوعات، قدرته السرمدية ولاهوته» (رو 1: 19 و 20). وهكذا أظهر الله ذاته للإنسان في داخله وفي خارجه ! في داخله بالضمير، وفي خارجه بالخليقة التي تنطق بقدرته السرمدية ولاهوته ! فأي عذر للإنسان إذا هو خرج عن طاعة الله ؟ الداخل يشهد ضده، والخارج يشهد عليه !!

على هذا الأساس يعتمـد يوحنا الرسول في رسالته، معتبراً أن شهادة الضمير تصريح للدخول إلى الله الحي للصلاة والسؤال والطلبة المستجابة: «أيها الأحباء، إن لم تَلُمْنَا قلوبنا ، فلنا ثقة من نحو الله ، ومهما سألنا ننال منه لأننا نحفظ وصاياه، ونعمل الأعمال المرضية أمامه.» ( 1يو 3: 21 و22)

لذلك، كان اهتمام الله الأول بالنسبة للإنسان الذي وقع تحت سلطان الشيطان، ودخلت الخطيئة طبيعته، ونال حكم الموت الروحي الذي اعتبره الإنسان بطول المدة كأنه قدره مع أنه عقوبة قابلة لإعادة النظر وقابلة للعفو. لذلك، فإن أول شيء عمله الله لإصلاح ميزان ضمير الإنسان أن وضع له قانوناً فاصلاً بين الخطيئة والبر، وهو الناموس، وكان عمل الناموس الأساسي أن يعرف الإنسان بالخطيئة أنها خاطئة جداً، وإلا إذا لم يكن الإنسان يعرف شناعة الخطيئة فكيف يطلب الخلاص أو يفهم الفداء أو يطلب بر الله ؟؟ كذلك كان عمل الناموس هو تقريب الإنسان إلى الله ، وغرس بغضة الخطيئة في نفسه وتسليحه ضد سلطان الشيطان، وذلك عن طريق المعرفة. فاهتم الناموس بأن يضع أعمالاً في في حكم الخطيئة، فإذا تعدى الإنسان الوصية نال عقوبة الموت رجماً، تماماً كإعادة تجربة آدم وحواء … وهكذا بدأ الإنسان يدرك من جديد أن مخالفة أوامر الله عقوبتها الموت بيد الإنسان نفسه.

لذلك، أجمل بولس الرسول فائدة الناموس هكذا «بالناموس معرفة الخطية» . فلولا الناموس، ما كان قد عرف الإنسان ما هي الخطيئة، وبالتالي ما كان قد عرف لزوم التوبة وطلب البر والتقوى : «فماذا نقول هل الناموس خطية، حاشا ، بل لم أعرف الخطية إلا بالناموس ؛ فإنني لم أعرف الشهوة (أنها خطيئة) لولم يقل الناموس لا تشته» (رو 7: 7). وهكذا أيقظ الناموس الوعي البشري بالخطيئة، التي هي السبب في موت الإنسان وحرمانه من الحياة الأبدية مع الله.

و يلاحظ القارىء أن المدة بين الوعد بالبركة لكل الأمم ، [ أي عودة الإنسان عامة إلى الله ، تلك التي أعطيت لإبراهيم ولكن ليس له شخصياً بل لنسله (مفرد )] حتى مجيء الناموس، هي 430 سنة، كان الله يعد له فيها شعباً من نسل إبراهيم هذبه بالآلام، وجعل إنقاذه من العبودية ملازماً لإعطائه الناموس، إشارة قوية بليغة أن لا عودة إلى الحرية الروحية إلا بإطاعة قانون الله ( الناموس ) . ثم ظل الشعب محاصراً بالناموس محجوباً عن باقي أمم العالم مدة 1500 سنة، لكي تتأصل عينة من الإنسان (شعب الله – إسرائيل) في التأدب بأدب القانون الإلهي ( الناموس)، ويتخلق بأخلاق شعب يصلح أن يستقبل الله في وسطه (عمانوئيل ) .

المسيح غاية الناموس :

وهكذا جعل الله الناموس بمثابة المعلم والمؤدّب الذي عليه أن يبلغنا إلى المسيح : «إذن كان الناموس مؤدَّبنا إلى المسيح، لكي نتبرر بالإيمان» (غل 3: 24). وهكذا استطاع الناموس في مدة 1500 سنة ، أن يعطينا عينة بشرية مثل إبراهيم، ولكن على مستوى عام كشعب وكأنما الناموس كان عملاً إضافياً خارجاً عن المنهج، لأن إبراهيم كان على مستوى الناموس بل وأعلى، في الروح والبساطة والإيمان ويقول الكتاب إن الناموس «زيادة»، أو «قد زيد» (غل 3: 19). زيد على ماذا؟ زيد على الوعد الذي كان لإبراهيم . لماذا ؟ يقول الكتاب أن ذلك كان بسبب كثرة التعديات ، أي بسبب ضعف الحساسية الروحية وعدم الوعي بخطورة الخطيئة. أي أن وظيفة الناموس الأولى هي أن يضخم مفهوم الخطيئة وأثرها بعقوبة لا ترحم كانعلى فم شاهدين أو ثلاثة شهود يُقتل بدون رأفة » (تث 17: 6 ؛ عب 10: 28) ، أو بمعنى آخر جعل كراهية الخطيئة في أنف الإنسان ليل نهار بلا استثناء. لماذا ، لماذا ؟؟ لكي يطلب الإنسان الخلاص، و يسعى وراء فاد : ( لكن الكتاب أغلق على الكل تحت الخطيئة بالناموس)، ليعطى الموعد من إيمان للذين يؤمنون . ولكن قبلما جاء الإيمان (بالمسيح) كنا محروسين يسوع محاصرين) تحت الناموس، مغلقاً علينا إلى الإيمان العتيد أن يُعلن . » (غل 3: 22 و 23).

أي أن الناموس كان مؤدّباً ومعلماً قاسياً ، وكأنما حاصر الإنسان في سجن هو سجن الخطيئة، حتى عافت نفسه الخطيئة. لذلك فهو معلم وقتي : « لكن بعد ما جاء الإيمان (بالمسيح) لسنا بعد تحت مؤدّب ، لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع . » (غل 3: 25 و 26).

أي أن غاية الناموس هي المسيح ، لذلك كان الناموس بكل دقائقه ـ سواء التعليمية أو الطقسية – يشير بالروح و بالرمز و بالكلمة والفعل إلى المسيح، منتقلاً من الخطيئة إلى كيفية الخلاص منها : «وأما الناموس فدخل لكي تكثر الخطيئة ( شناعة وخطورة)، ولكن حيث كثرت ( خطورة) الخطيئة، ازدادت ( القناعة بضرورة) النعمة جداً، حتى كما ملكت الخطيئة في الموت ، هكذا تملك النعمة بالبر للحياة الأبدية بيسوع المسيح ربنا . » (رو 5: 20 و 21)

ولكن بنظرة واحدة إلى إيمان إبراهيم، نتيقن أن الناموس لم يستطع أن يضيف على إيمان الإنسان بالله ولا قيد شعرة عما كان لإبراهيم : «أيها الإخوة، بحسب الإنسان أقول ليس أحد يُبطل عهداً قد تمكن – ولو من إنسان أو يزيد عليه . وأمـا المـواعـيـد فـقـيـلـت في إبراهيم وفي نسله لا يقول « وفي الأنسال» كأنه عن كثيرين، بل كأنه عن واحد وفي نسلك الذي هو المسيح. وإنما أقول هذا إن الناموس الذي صار بعد أربعمئة وثلاثين سنة ، لا ينسخ عهداً قد سبق فتمكن من الله نحو المسيح حتى يُبطل الموعد ، لأنه إن كانت الوراثة من الناموس، فلم تكن أيضاً من موعد ، ولكن الله وهبها لإبراهيم بموعد . » ( غل 3: 15-18)

وهنا يسأل سائل : فلماذا الناموس؟ هنا أيضاً نعود لنقول إن إيمان إبراهيم كان يعوزه توضيح خطورة الخطيئة وتحديد أوصافها وكشف فعلها القاتل والمفسد للضمير، بل والقادر على إضعاف الإيمان وإبطاله !! كما أن إيمان إبراهيم يعد حقيقة بالفادي ولكن لم يرسخ في الضمير شدة الحاجة إليه. لقد أشار إلى الجلجثة من بعيد، لكنه لم يوضح كونها الحل الوحيد والرجاء الذي عليه يتوقف إعطاء الإنسان حياة جديدة . فالناموس يقف عند الفصل بين الخطيئة والبر، لكنه لا يستطيع أن يبرر الخاطيء أو أن يرفع الخطيئة وعقوبتها الأصلية، أي الموت بمعنى الهلاك الذي هو الإنفصال عن الله . كما أظهر الناموس بكل وضوح وبشهادة الأجيال أن: «الجميع زاغوا وفسدوا معاً، ليس من يعمل صلاحاً ليس ولا واحد… الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله » (رو3: 12 و 23) . وهكذا جاءت في النهاية شهادة بولس الرسول ـ وهو الفريسي الحافظ لكل قواعد الناموس – هكذا : « بأعمال الناموس لا يتبرر كل ذي جسد ، لأن بالناموس معرفة الخطيئة.» (رو3: 20 ؛ غل 2: 16)

إذن، بعد أن أدى الناموس دوره، واستنفذ كل طاقته في تهذيب الإنسان : «إذن، قد كان الناموس مؤدَّبنا إلى المسيح، لكي نتبرر بالإيمان» (غل 3: 24) ، أصبح واضحاً أن الحاجة إلى الخلاص ليست هي أكثر من معرفة الخطيئة وأكثر حتى من مغفرة الخطايا فحسب، بل الحاجة الحقيقية إلى من يرفع قوة الخطية من الطبيعة البشرية التي تعمل في الإنسان منذ آدم ؛ أو بالحري إلى مَنْ يُبطل قوة الشيطان ويُبيد سلطانه، ويحرر إرادة الإنسان وفكره وحواسه وغرائزه، بما يكفل له حياة سعيدة مع الله بلا ضمير منفعل بالخطيئة، ثم يلغي سلطان الموت القهري كفعل هلاك صدر ضد الطبيعة البشرية ككل، (لأن الخطيئة ـ وبالتالي الموت ـ تسربت من آدم إلى كل أولاده)، و يعيد للإنسان حق الحياة الأبدية مع الله ، تلك التي فقدها بالتعدي ، أي يعيد إليه جمال وجلال بهاء الصورة الأولى ــ ذات الضمير غير المثقل بالخطيئة ــ التي خُلق عليها ، والتي هي فخره :
– «لأن فخرنا هو هذا شهادة ضميرنا أننا في بساطة وإخلاص الله ، لا في حكمة جسدية، بل في نعمة الله تصرفنا في العالم» (2كو 1: 12)؛
– «فكم بالحري يكون دم المسيح ، الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب، يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي.» (عب 9: 14)

الخلاص بالمسيح عبر الناموس :

لكننا في النهاية، وبالرؤية الواقعية، نجد أن الوعد لإبراهيم بالإيمان، كان لا يمكن أن يتحقق في المسيح إلا عبر الناموس !! لأنه ماذا ينتفع الخاطىء من وعد إبراهيم، وهو واقع تحت لعنة الخطيئة ؟ ولكن وفي نفس الوقت، يقف في الأهمية القصوى للخاطيء، بركة إبراهيم بعد رفع لعنة الناموس . والمسيح لما جاء، جاء ليحقق الوعد الإلهي لإبراهيم، الذي قبله ،بالإيمان، ولكن بعد أن حمل المسيح عنا ما كان يحجز البركة، أي لعنة الناموس، وذلك في جسده على الصليب. وهكذا حصلنا على بركة إبراهيم بعد أن رفعت لعنة الخطيئة وحكم الموت. وواضح جداً، أن بدون لعنة الخشبة ( الصليب) وحكم الموت على الجلجثة ــ التي تفكنا نهائياً من الناموس ـــ ما كنا قد حصلنا على بركة إبراهيم ، أو بالحري على شركة الإيمان بالله في المسيح يسوع .

وهذا يفسر لنا أكثر كلمة « أن الناموس قد زيد » ، فالزيادة هنا تعني إضافة أساسية وهامة على الوعد، وإلا قصر الوعد عن تحقيق نفسه !! فإبراهيم يعطي لنا من خبرته مع ابنه إسحق معنى القيامة والحباة، لكن لا ننسى أنها حياة من بعد موت كحكم حتمي ؛ فإسحق لو لم يقدَّم للموت تماماً وطواعية ، منه ومن أبيه ، لما حسب إيمان، ولما قام ووهب الحياة. وهكذا حتى في الوعد لإبراهيم بالإيمان للحياة بالله ولـنـوال البركة، كانت اللعنة هكذا مضمرة في السكين، أي الصليب والموت، أي أن الناموس كان مضمراً في بركة إبراهيم!!

ولكي يرسخ في ذهن القارىء ما هي خطورة الناموس، باعتباره حاملاً معيار الخطيئة ولعنها وعقوبتها بالموت نسمع الرب نفسه كيف يضع الخلاص من الخطيئة من جهة الأهمية، قبل البحث عن البركة والحياة، هكذا : « لقد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مر1: 15) ؛ وهكذا يضع المسيح تقييم الخطيئة بالتوبة أولاً، قبل تقييم الحياة الأبدية بالبشارة المفرحة ( الإنجيل).

لذلك فإن الناموس يعتبر السياج الإلهي الذي حاصر إسرائيل من الذوبان في الأمم الأخرى وعباداتهم الشيطانية، وحمى شعب إسرائيل كلجام باسم يهوه العظيم المخوف ـــ دون جميع شعوب الأرض – محتفظاً له بالبركة، أي بركة إبراهيم ، من داخل أعماله، كحصن منيع احتجز له البركة، من داخل قيوده الروحية والـنـامـوسـيـة والطقسية الشديدة جداً، التي هذبته فكرياً وأخلاقياً، وأعدته للتوبة الحقيقية لقبول البركة بلا مانع – بعد رفع لعنة الخطيئة ــ بواسطة الخلاص المجاني بالإيمان الأعظم، الإيمان بالفداء الذي أكمله الابن الوحيد المحبوب عن كل العالم، بكل الشعوب والأمم . وبذلك نجح الله في استخدام شعب إسرائيل، كنسل إبراهيم، أن يوصل أسم الله العظيم وبركة إبراهيم، لجميع الشعوب حسب الوعد، بدون ناموس، بعد أن استوفى هذا الشعب في نفسه كل تأديبات الناموس الذي أكمله المسيح كلمةً كلمةً وحرفاً حرفاً ، عن شعب إسرائيل، ثم عن العالم أجمع :

«… أنكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيح، أجنبيين عن رعوية إسرائيل وغرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لكم و بلا إله في العالم . ولكن الآن في المسيح يسوع؛ أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين صرتم قريبين بدم المسيح؛ لأنه هو سلامنا الذي جعل الإثنين واحداً ونقض حائط السياج المتوسط ، أي العداوة، مبطلاً في جسده ناموس الوصايا في فرائض، لكي يخلق الإثنين في نفسه إنساناً واحداً جديداً صانعاً سلاماً، ويصالح الإثنين في جسد واحد مع الله بالصليب، قاتلاً العداوة به.» (أف 2: 12-16)

واضح ، إذن، أن ناموس موسى . لم يُعط أصلاً ولا ضمناً للأمم وشعوب العالم، بل أعطي كتهذيب خاص جداً للشعب الذي أفرزه الله ليعد بواسطته عودة العالم ومصالحة العالم لنفسه ، لا بموسى بعد، ولكن بالإيمان بيسوع المسيح : « يخبر يعقوب بكلمته وإسـرائـيل بفرائضه وأحكامه . لم يصنع هكذا بكل الأمم ، وأحكامه لم يوضحها لهم » (مز 147: 19 و 20) . كذلك يشرح بولس الرسول هذا العبور فوق الناموس دون إغفاله : ( وأما الآن فقد ظهر بر الله بدون الناموس ، مشهوداً له من الناموس والأنبياء ؛ بر الله بالإيمان بيسوع المسيح ، إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون ؛ لأنه لا فرق، إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله » (رو 3: 21-23). وبذلك يتحتم أن ننظر نحن إلى الناموس الذي أعطي لإسرائيل كهدية عظمى، قطفنا نحن ثمرتها وبركتها، دون أن ندفع أية غرامة أو عقوبة أو لعنة، في جانبها السلبي الذي تحمله شعب إسرائيل والمسيح بالكامل. «ما جئت لأنقض بل لأكمل » ( مت 5: 17) ،« … قد أكمل ، ونكس رأسه وأسلم الروح.» (يو 19: 30).

ويلاحظ، كما تقدم القول، أن عمومية عمل الخطيئة وانتشارها في الطبيعة البشرية، لم تقف عند . آدم بل تسربت إلى كل بني آدم ، لا من خلال وراثة حقيقية، بل من خلال حرية الإرادة التي يولد بها الإنسان، كل إنسان، مع إرادة ضعيفة مستعبدة للشيطان، وحكم موت روحي أبدي ، لا كموت جسد بل كهلاك أبدي وهو الحرمان من الحياة الأبدية مع الله .

لذلك فإبطال الخطيئة هو عمل يستهدف الطبيعة البشرية ككل، لا يمكن أن يتم على مستوى فردي أو جزئي، مثل غفران الخطيئة الذي هو مجرد رفع عقوبة التعدي المباشر عن عمل ما ضد الناموس . فداود لما أخطأ، واجهه النبي ناثان بتوبيخ الله : «… فقال داود (في الحال معترفاً ) لناثان : قد أخطأت إلى الرب . فقال ناثان لداود: الرب قد نقل عنك خطيتك ؛ لا تموت ( رجماً بحسب الناموس کزان)» (2صم 12: 13)، فغفران الخطيئة سهل، فيوحنا المعمدان أيضاً كان يعمد ويمنح غفران الخطايا لكل من كان يعترف لديه بخطاياه تائباً ( وكان هذا مجرد إعداد لمعمودية الروح القدس لخلقة جديدة للإنسان)، أما رفع حكم الهلاك الأبدي بعد الموت، أي قطع نصيب الإنسان من الحياة الأبدية مع الله ، فهو شيء يفوق الموت الجسدي، و يتجاوز مجرد غفران خطيئة ما، كفعل تعد يستحق الرجم حسب الناموس ! بل إنه يتعلق برفع قوة عمل الخطيئة في الكيان البشري، وبفك الإنسان الأسير من سلطان الشيطان بالموت وإعطاء قيامة جديدة للإنسان . 

كذلك فإن ارتباط الإنسان بالشيطان، لم يعد حالة فردية بعد سقوط آدم، بل هو ارتباط استعباد وأسر للطبيعة البشرية ككل، وبالأخص لإرادتها ، وكأنما ارتبط الإنسان بالشيطان بعقد خطيئة، وصار يعمل الخطيئة بصورة توافقية مع الشيطان، يصعب بل يستحيل إخراج الإنسان من تحت سلطانها بإرادته وحده. إن آدم كان حراً في اختياره طاعة الله أو التعدي عليها بإرادته ، ولكنه بعد اختياره مشورة الشيطان واستخدامه حرية إرادته في كسر الوصية، فقد كثيراً من حريته ، وأصبح كأنه مُساق إلى الخطيئة، وإنه يصعب و يستحيل عليه مقاومة كل الخطايا كل الوقت، بل إن حرية الحكم بين الخطأ والصواب أصابها خلل، بسبب اعتياد الإنسان للخطأ. كان الإنسان قبل الخطيئة طائعاً ، لكنه بعد الإعتياد عليها أصبح مساقاً لها ، لأنها ربضت في أعضائه وطوعتها لمشيئتها.

إن الخطيئة هي التي طردت آدم من الجنة، من أمام وجه الله ، وهي التي جعلته يـرتـعـب لسماع صوت الله ويختبىء من وجهه ، هكذا أصبحت الخطيئة حاجزاً بين الإنسان والله ؛ وبـعـد حكم الله بالموت الذي جاء من واقع الأمر ــ لأن الإنسان اختبأ من الله مصدر حياته وسعادته ـ أصبح الإنسان لا يقوى على العودة إلى الله ، ولا يملك الحق في الرجوع إلى مكان سعادته، أو حتى في النظر إلى الله : «الإنسان لا يراني و يعيش.» (خر 33: 20)

إن حال الإنسان، كل إنسان أخذ هذا الوضع الموروث، وترسخ فيه بالممارسة، إذ صار الإنسان في عداوة مع الله ، عداوة من صنع يديه .

لا رجاء للإنسان إلا في فادٍ قادر على خلقته من جديد :

وبعد تجربة ضعف الناموس واختبار فشل خدمة جميع الأنبياء، أصبح لا رجاء للإنسان إلا في فاد ووسيط، يكمل كل ما نص عليه الناموس واستحال على الإنسان تطبيقه، ثم يكمل كل حكم الله على الإنسان لتبرئة ذمته ككل، و يكون قادراً على إبطال سلطان الخطيئة والشيطان بالنسبة للإنسان، أي تحرير الإنسان من شخرة الخطيئة واستعباد الشيطان، واستعادة حرية إرادته وتفكيره وغرائزه ؛ ثم إعطاء الإنسان طبيعة جديدة لها صورة خالقها من جديد في البر وقداسة الحق، لا سلطان للخطيئة أو لحكم الموت عليها ، ولا للشيطان أو العالم أو الأشياء الحاضرة التي فيه، أي طبيعة تستمد حريتها وسعادتها ، بل عملها ومشيئتها، بل إرادتها، من الله ، وتـعـيــش مـتـحـدة به: «تمموا خلاصكم بخوف ورعدة، لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة» في 2: 12 و13). هذه هي فرصة الإنسان الوحيدة للخلاص، أن الله نفسه يعمل في الإنسان، حتى ترتفع إرادته وأعماله إلى مستوى إرادة الله وعمله، أي أن نحيا به أو أن يحيا هو فينا!!

على أن آدم لم يخرج من الفردوس بلا رجاء، أو بدون وعد لمثل هذا الخلاص، بل وللإنتقام أيضاً من الذي أسقطه!

ففي محاكمة الله للحية، أعطى الله أول شعاع للخلاص الذي أعده عبر ألوف السنين القادمة. فلعنة الحية القديمة ، صاحبها وعد بقيام بذرة (نسل) من حواء يسحق رأس الحية، أي يبيدها، إبادة، هذه هي البشارة التي سمعتها أذن آدم وهو في ملء حزنه.

والدليل على أن آدم فهم هذا الوعد أنه سمّى امرأته قبل خروجه من الفردوس حواء» أي «حياة» حسب الأصل العبري Schavva ، وأم كل حي. وهكذا بقي الإنسان على شموخه وعزته بالرغم من الحزن والذلة التي أصابته . إن رجاء الإنسان في الله جعله يرجو الحياة و يتشبث بها حتى في عتمة الحزن وظلال الموت !! والعجيب أن آدم لم يلم حواء بل أعطاها هذا الإسم اعتزازاً بها وتمجيداً لها : « وأما المرأة فهي مجد الرجل » (1كو 11: 7) ، وكأنما آدم يتحدى الموت عندما سمى امرأته «حياة» أو «حواء » ، وصار له هذا الإسم عزاء وتذكاراً لوعد الله أن من نسلها يخرج من يحطم رأس الشيطان!! و يلغي عار سقطته!!

والعجيب أننا حينما نقرأ سفر الرؤيا، نجد أن نصيب الأشرار سيكون مع نصيب الشيطان (رؤ 20: 15) ، وهكذا نفهم لماذا جاء وعد الله في محاكمة الحية بالجمع ( في نسل الحية)، وهذا أيضاً يوضحه المسيح في مهاجمته للأشرار؛ «يا أولاد الأفاعي، كيف تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرار؟» (مت 12: 34) ؛ أما السحق والإبادة، فيتركز بصورة مفردة على رأس الحية، الذي هو الشيطان .

كذلك نلمح من خطة الخلاص التي وضع الله أساسها في الفردوس بعد السقوط، أن المخلص سيأتى من نسل المرأة ، ولم يقل الله «من نسل آدم»، تلميحاً قوياً إلى أن المخلص لن يأتى من زرع ،رجل، بـل مـبـاشـرة مـن «عذراء» (مت 1: 18). بل و يكشف الله من ثنايا وعده بقيام المخلص والمنتقم ، أنه قبل أن يسحق رأس الحية سوف تسحق أو تلدغ هي عقبه ، إفصاحاً عن الآلام التي سيعانيها المخلص قبل أن يبلغ نصرته النهائية وسحقه لرأس الشيطان، إشارة إلى الآلام والأمجاد التي بعدها، التي تنتظر المخلص. وهكذا يجمع الله في وعده صورة ناطقة لمجيء المسيح الأول، لرفع الخطيئة بالصليب، ولمجيئه الثاني في مجده، للإنهاء على وجود الشيطان نهائياً. وبذلك تكمل ملامح الوعد بمجيء المسيا، قبل خروج آدم وحواء من الفردوس.

الشيطان كما وصفه الكتاب قبل السقوط

كتب القمص متى المسكين

النبوات التى جاءت عن المسيا

كتاب قصة الإنسان
المكتبة المسيحية

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى